أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي مع فيصل وعمّار في ( موناسنزيّا )















المزيد.....


المتنبي مع فيصل وعمّار في ( موناسنزيّا )


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2054 - 2007 / 9 / 30 - 09:00
المحور: الادب والفن
    



- 21 -

أخذنا قطار الأنفاق رقم 4 متجهين إلى مكتبة ودار أرشيف موناسنزيا الحكومية MONACENSIA ملبين دعوة مديرة المكتبة السيدة تفوريك TWOREK لحضور أمسية أدبية فنية يشارك فيها بعض الكتاب والشعراء من أقطار مختلفة من الذين إختاروا ميونيخ ( أو أختيرت لهم ) أو أضطروا إليها ملجأ ومقاماً. فيهم الروسي والألباني والأوكراييني والسيلاني والإيراني وبربري من الجزائر غيّر إسمه العربي إلى اللغة الأمازيغية. وآخر من شيللي. قرأنا هذه التفصيلات في الدعوة ألتي وُجهت لنا.
وصلنا المكتبة حوالي الساعة السابعة والنصف فإستقبلتنا المديرة بحرارة وود. قدمتُ لها أبا الطيب شاعراً معروفا من العراق فرحّبت به أحر ترحيب وإقترحت أن يدخل في برنامج الأمسية ليقرأ شيئاً من أشعاره. إعتذرالمتنبي فألحّت السيدة تفوريك قائلة إنها تود كثيرا أن يُقدم شيء من الشعر العربي وأن يدخل شاعر عربي في هذه التشكيلة الأممية ... حسب تعبيرها. شجعته أن يستجيب ويشارك. تردد كثيراً بحجة أنه لم يقرأ منذ فترة طويلة أي شعر. ثم إنه لفرط التدخين فقد قدراته على الإلقاء الفني الجيد. وأضاف، ما جدوى أن أقرأ أشعاري باللغة العربية التي لا يفهمها أحد من الحضور. أمسكت المديرة الشقراء الأنيقة الفارعة الطول بذراع المتنبي ملامسة كتفه بجزء من صدرها طالبة بضراعة منه أن يتجاوب وأن يستجيب. قالت اللغة ليست مشكلة، الدكتور هامان موجود الآن بين المدعوين وسأطلب منه أن يقوم بترجمة ما ستقرأ ترجمة فورية إلى العربية. سيجلس معك وإلى جنبك مترجماً ومبدداً لوحشتك. وسيعزف السيدان ( عمّار ) و( فيصل ) ما يناسب أشعارك من أنغامٍ وألحانِ أغانٍ عراقية تعودنا على سماع البعض منها في مناسبات سابقة. ماذا تريد أكثر؟
ثم أضافت : رجاء رجاء لا تخيب أملي ولا تدع هذه الفرصة الثمينة أن تفلت مني ومنك ومن حضور هذه الأمسية. أخذته من ذراعه إلى حيث نُصبت في قاعة للإستقبال كبيرة موائد ملأى بقناني النبيذ الفاخر الفرنسي والإيطالي والإسباني والألماني والبلغاري وكؤوس البللور (الشعشعاني ) ففوجيء بحشد كبير من المدعوين منهمكين في أحاديث ساخنة شتى وكؤوس النبيذ أو عصير البرتقال في أيديهم. تغير بغتة مزاج الشاعر وعاوده الحنين إلى قول الشعر وإلى أن يشغلَ الناس كما كان أبدا وأن يملأ جو الحفل بشخصه وبشعره وثقل ماضيه شاعراً ومقاتلا وقتيلا. لا بد أن يفرض على هذا المساء وهذا الجمهور النشوان كثافة حضوره الروحي الخاص. سيعادل الجميع إسماً وتأريخاً ووزناً، شعراءَ ومستمعين، نساءً ورجالاً. ثم قادته إلى شرفة واسعة تطل على حديقة غناء تتخفى ألوان الأضواء فيها خجولة بين غصون أشجارها وتهذي نافورات المياه بغمغمات شبيهة بأصوات تراتيل كنائس سريان وكلدان وآراميي بغداد والموصل، وجرس حزن حمائم أبي العلاء المعري ( بنات الهديل ) وغموض سجع وسحر شياطين ربّات الشعر زمن الجاهلية الأولى. لم يصدق الشاعرعينيه. تعلق بذراع السيدة معلناً موافقته على إقتراحها شرط أن تجلس هي إلى يمينه ويجلس المترجم إلى شماله. وافقت السيدة مديرة الدار.
في الثامنة تماما إلتأم الحضور في القاعة الكبيرة المخصصة لمثل هذه المناسبات. رحّبت المديرة ( صاحبة المتنبي ) بالحضور في كلمة تضمنت بإيجاز طبيعة مهمات مكتبتها وما قدمت من منجزات في حقل الأدب والفن على مدى الأعوام الخمسة المنصرمة. أعلنت برنامج الأمسية الذي سبق وأن وزعته بالبريد على الأدباء وأصدقاء المكتبة ومن يعنيهم أمرالثقافة. ثم أعلنت المفاجأة الكبرى وهي حضور أبي الطيب المتنبي في قاعة الإحتفال وموافقته أن يلقي شيئا من أشعاره رغم بلوغه سن التقاعد وضعف حنجرته التي خدشها النيكوتين وصروف الزمان الرديء ورمال معسكر( رفحا ). صفق الحضور وقوفاً دون أن يعرفوا من هو المتنبي. صفقوا طويلاً. أُخِذوا على ما يبدو بحماس وصدق نبرة إعجاب السيدة تفوريك بالشاعرالضيف وحرارة عبارات الترحيب به. وقف مع الواقفين وصفق لنفسه معهم كما تقتضي الأصول. هكذا، وبكل بساطة يتغلب أحيانا إحساس الإنسان المنقول إليه من سواه على كل ملكاته العقلية وقدراته الطبيعية الأخرى. ينسى نفسه فيتحرك بشكل آلي كأي ماكنة. يتثائب مع المتثائبين وينعق مع الناعقين.
كذلك تعوي الذئاب والثعالب إذا ما ذئبٌ أوإبنُ آوى عوى. الإنسان حيوان ناطق !
توالى على منصة القراءة خلف مكبر الصوت عدد من الشعراء والكتاب. قرأوا فإختصروا. حتى السيد ( سعيد ) الإيراني الأصل ورئيس إتحاد الكتاب الألمان قرأ هو الآخر نتفا قصيرة من بعض قصصه التي كتبها ونشرها في كتب باللغة الألمانية. تلت ذلك فترة إستراحة قصيرة للتدخين خارج القاعة أو لزيارة ( بيوت الراحة ) أو لتناول المزيد من كؤوس النبيذ.
يتقبّلُ الناس ويتذوقون الشعر بنفسية أصفى حين يكون مزاجه كافورا أو نبيذاً. لاحظ صاحبي خارطة لبغداد معلقة على جدار أحد أروقة مبنى المكتبة فكاد أن يُغمى عليه سرورا. توقف عن الكلام أو بالأحرى خانه لسانه فأخرج من جيبه سجارة وشرع يسحب دخانها إلى عالم رئتيه المعتم أصلا بكل ما تبقى لديه من قوة وقدرة جسدية. هكذا يتفاعل بعض الناس مع مفاجآت الحياة. تركته يتأمل كالوثني بغداد فرأى صورته في مركزها في قلب ساحة التحرير. هذا هو جسر الجمهورية وهذا هو نصب الحرية للنحات جواد سليم وهذه عمارة مرجان تنتصب شامخة رغم تقلب الزمن. وهنا كانت حديقة غازي وسينما غازي زمان العهد الملكي. وهنا كان يأكل اللبن الزبادي وكاسات المحلبي واقفا كباقي الزبائن من الدكاكين التي كانت تصطف هناك متجاورة حائطا لحائط مثل بيوتنا القديمة. كان طبيعيا أن يسأل عن سر ما يرى. قلت يسأل عن سر ما يرى وليس عن ( سُرَّ من
رأى ). قلت له إنَّ إدارة المكتبة قد أعدت لك هذه المفاجأة التكريمية تشرفا بزيارتك وقبولك أن تساهم في فعاليات هذه الأمسية. قال ومن أين أتوا بصورتي ؟ أخذوا لك صورة بأجهزتهم السرية المخفية. هناك كاميرات للمراقبة مثبتة في كل زاوية وركن. قال مستنكرا وبنبرة غضب حتى هنا تلاحقني الأجهزة السرية ؟! قلت لستَ وحدك في هذا المكان. ثم لا علاقة للمكتبة بهذه الأجهزة. جهات أخرى مسؤولة عن هذا الأمر. جهات أخرى تراقب كل نأمة ونفس وكل شاردة وواردة لا هنا حسبُ وإنما في كل بقعة من بقاع العالم. قال عجيب ! حتى بغداد تحت المراقبة ؟ نعم، يراقبونها ليلا ونهارا ومن شتى خطوط الطول والعرض وزوايا السماء وسمتها. تحت وفوق نطاق قوة الجذب الأرضي. من كردستان حتى حقول مجنون. ومن زاخو إلى الفاو. ومن أعالي الفرات في دياربكر ونصيبين وسد أتاتورك حتى صحارى معسكر رفحا. إبتسم الرجل ساخرا جاذبا أقصى ما يستطيع من دخان سجارته مرددا لا حول ولا قوة إلا بالله.
أُعلِن عن إستئناف الحفل ثانية لإكمال بقية الفقرات فإستقبلتنا المديرة لدى مدخل القاعة وأخذت المتنبي من ذراعه لتجلسه وسطاً بينها وبين المترجم الدكتور هامان. كان ما زال مرتبكا غير واثق من نفسه. يتعثر ويتلعثم ويمشي مطأطيء الرأس. قدّمت عبر مكبر الصوت الشاعر المتنبي قائلة (( يشرفني أن أقدم لكم في هذه الأمسية شاعراً يسميه قومه ماليء الدنيا وشاغل الناس )). إنه أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين الجعفى الكوفي ثم الكندي. وقف الحاضرون مرة ثانية وسط تصفيق حاد متواصل فقام ومن معه يشاركون المصفقين تصفيقا. ولما طال زمن التصفيق جلس المتنبي فجلست المديرة وجلس المترجم ثم جلس الحضور. عدلت السيدة تفوريك من وضع المايكروفون أمام المتنبي. ساد القاعةَ صمتٌ مهيب يناسب مقام الشاعر الضيف. أجال ببصره متفحصا الوجوه التي لم يرَ مثلها في حياته قط، لا في حلب الشهباء ولا في فسطاط مصر ولا في شيراز. مرّتْ على مخيلته صور الإعرابيات والبدويات يوم قال (( مَن الجآذرُ في زي الأعاريبِ / حُمْر الحِلى والمطايا والجلابيبِ ؟ حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ / وفي البداوةِ حُسنٌ غير مجلوبِ )). هز رأسه وهو يقرأ هذين البيتين هزات خفيفة كأنما كان يدوزنها على إيقاع خفاف أرجل بعير ماش في بيداء سماوة بني كلاب. مال برأسه يسارا حيث يجلس المترجم وهمس في أذنه شيئا لم يسمعه غيره. تغيرت سحنة الدكتورهامان فهمس بدوره في أذن تفوريك فشحب وجهها وقطّبت ما بين حاجبيها ثم سمعتها من خلال المايكروفون الذي كان موصولا بالتيارالكهربائي قائلة للمترجم : غير معقول، غير ممكن، كارثة. لقد قدّمناه إلى جمهور الحضور ووضعنا على الجدران خارطة بغداد وفي وسطها صورته. ثم قد رحّب به الجمهور ترحيبا عز نظيره. ماذا سنقول لهذا الحضور؟ ساعدني. جِدْ لي حلا رجاء. تكلم المترجم معتذرا نيابة عن المتنبي. قال إن ضيفنا أخبره إنه توقف عن قول الشعر بعد أن أُغتيل في وطنه العراق. وإنه بعد مقتله أحال نفسه على التقاعد إحتجاجاً على قتل وتصفية وإغتيال الشعراء وآخرهم محمد البريكان، إبن الزبير والبصرة ثم العراق. إنها صرخة مدوية عسى أن يسمعها من يسمع. واصل الترجمان كلامه قائلا : وبالإتفاق مع ضيفنا الكبير وشاعرالعرب الأكبر سأقرأ وأترجم لكم – سيداتي وسادتي- بعضاً من أشعاره وسأختار منها ما قاله في الغزل وفي وصف الطبيعة وفي العتب على الزمن المشاكس. ضجّت القاعة بالتصفيق ونهض من بين الحاضرين عراقيٌّ صارخا عاش شاعرالعرب الأكبر. عاش شاعر البدو والحضر. عاش المناضل الكبير أبو الطيب المتنبي. تحيا الكوفة والسماوة وحلب. يسقط كافور الإخشيدي والعملاء والإستعمار والرجعية. يسقط الحاتمي والمهلبي وعزة الدوري ومعز الدولة البويهي. تحيا سبأ ومأرب وكندة. تحيا بابل وحمورابي. يا يا يا يعيش يسقط يسقط. طز في المهلبي.

أشارت السيدة تفوريك لعمّار وفيصل أن يتداركا الموقف وأن يملآ الفجوة بصداح موسيقى آلتيهما. أخذ عمّار زمام المبادرة فسارع إلى النفخ في آلته سداسية الصوت ( السكسافون ) بلحن شجي سوداوي الطابع ذكّرني بسكسافون المغني الأمريكي فرانك سيناترا في فيلم ( من الآن وإلى الأبد). ثم تلاه فيصل موقِّعا على عوده بعض الأغاني العراقية. طلبت منه أن يغني أغنية ( مروا بنا من تمشون ) للغزالي فغناها مشكورا وأجاد.
إستمر الحفل حتى الساعة الحادية عشرة مساء. تفرّق السامر. ودّعتْ السيدة المديرة أبا الطيب مقبّلةً خديه وطالبة منه أن يعيد النظر في موقفه من قراءة أشعاره وإنها ستنظّم له أمسية خاصة به وستدعو إليها خيرة شعراء ألمانيا موتى وأحياء، فضلا عن شعراء العربية محمود درويش وسميح القاسم وقاسم حداد ونزار قباني والبياتي وأبي تمام. إنتبه المتنبي لدى ذكر أبي تمام، إذ له منه عقدة أرّقته طوال سني حياته. ثم أردفت قائلة وإنْ وافقتَ سأجزيك الجزاء الأوفى. خابرني أو إبعث لي فاكس. قال سأفكر في الأمر. شكرها وإنصرفنا.
في طريق عودتنا إلى بيوتنا أضرب صاحبي عن الكلام. لم أشأ من جهتي أن ألومه أو أعاتبه أو أن أستفسرعن سبب إمتناعه عن إنشاد شعره. قلت سأخرجه من إضرابه وسأغريه بخوض موضوع يهوى الخوض في تفاصيله. قلت له هل تحب أن نكمل السهرة في بيتي معا لنشاهد الفيلم الخاص بأوبرا كارمن وربما نناقش أمورا أخرى ما سبق وأن ناقشناها ؟ أخرج سجارة من جيبه وطفق يعب من أدخنتها كما يمتص طفل رضيع صدر أمه. دخل في بئر عميق من ظلامة التفكير ثم رفع رأسه على حين غرة فقال مبتسما : وهو كذلك، سنسهر الليلةَ مع الكاولية كارمن. سحرتني هذه الغجرية. ما زالت لدي بعض الإستفسارات حول القضاء الذي ألمَّ بمقتل من سقط صريعا ومن لم يُقتل.
فضّلتُ أن أعرض على ضيفي في بيتي الإنتاج البريطاني الخاص بأوبرا كارمن الذي صور منقولا نقلا حيا لأحد عروض هذه الأوبرا في واحد من مسارح لندن حيث قاد أوركسترا العزف المايستروالمعروف " زوبن ميهتا" الذي يتكلم الهندية والإنجليزية والألمانية. إنتبه ضيفي بعد العرض مباشرةً أنَّ لغة ممثلي الفيلم - المسرحية لا تشبه الألمانية. قلت له إنهم يتكلمون الفرنسية لأن واضع موسيقاها رجل فرنسي يدعى " بيزيه ". قال لكن " كارمن " فتاة غجرية إسبانية وكذلك خوسيه ومصارع الثيران وعاملات مصنع السجاير. قلت هذا صحيح، القصة إسبانية وأحداثها وقعت في مدينة إشبيلية لكنها تُرجمت لواضع الموسيقى الفرنسي فصاغ موسيقاه من روح لغة ما ترجم له إلى لسانه. الموسيقى ليس لها لسان ولذلك تسمى اللغة العالمية. إنها تخاطب نفوس البشر. سوف تحبها وتنسجم معها كأنك غجري إسباني يفهم الفرنسية. ثم لا تنس إنَّ الشعر إيقاع موسيقي وأنت من أنت في عالم الشعر.
كان شديد الإنسجام مع ما يرى أمامه. لم يطلب طعاما أو شراباً. كان مسحورا غائبا عن وعيه. نسي التدخين ولم يسمح لي أن أعلق على بعض مشاهد المسرحية شرحا لبعض تفاصيلها. كان متكئا بكامل ظهره على الأريكة العريضة مغمض العينين حتى خيل إليَّ مرةً أن الرجل قد غط في سبات دون شهيق وزفير وصفارات إنذار. ما كان مهتما إلا بمتابعة سماع الموسيقى، أما أحداث وتفصيلات القصة فقد شاهدناها معاً على خشبة المسرح الألماني .
إنتهى الفيلم الممسرح مع خيوط الفجر الأولى حيث بان في الأفق الشفق الأصفر الوردي آخذا بالإصطباغ التدريجي باللون الأحمر القاني، لون زهور شجرة الرمان في بساتين الطفولة. قال سأنام هنا على هذه الأريكة. لا أحتاج إلا إلى بطانية واحدة أو لحاف عادي غير سميك، لحاف صيفي. بعد بضعة سويعات سأناقش معك ظروف مقتل الضابط وكارمن ومصارع الثيران. فالموضوع يحيرني ويشغل تفكيري.

نهض المتنبي من نومه حوالي الساعة الحادية عشرة وكان الفطور جاهزاً. سأل وهو يتجه نحو الحمام هل أن الشاي جاهز؟ كل شيء جاهز يا أبا الطيب. تحمّم وتعال نتناول فطورنا. أتعبتنا الليلة الماضية.

سأل ونحن على مائدة الطعام ما تفسير أن يقتل العسكريُّ خوسيه كارمن وضابطه ثم يسقط مصارع شهير قتيلا أمام ثور ويظل هو، خوسيه، حيّاً يرزق ؟ قلت له ما هو تفسيرك لهذا الأمر؟ إرتشف رشفة قوية عميقة من كأس شايه قائلا : في الحياة ما يسمى بالقدرالأعمى. صحيح إنه أعمى لكن تتحكم في هذا الأعمى جملة ضوابط تشبه من وجوه كثيرة القوانين الصارمة. إنها توجهه حينا ويوجها هو ويتحكم في مسارها حينا آخر. يتبادلان الأدوار في الخفاء. لكن من الذي يحركهم ؟ من يرسم لهم الطريق؟
من يحدد الإتجاهات ؟ تسلسل الأحداث يا أبا الطيب. للمصادفات قوانين لا نراها. لها منطقها الخاص. قال وضّحْ قليلا. قلت إنَّ بقاء الجندي خوسيه حيّاً مقابل سقوط ثلاثة قتلى ليس محض مصادفةٍ ... مصادفة عمياء. كلا. للأقدارعيون قوية مفتوحة ترى ما لا يرى البشر. الحدث حين يقع يرسم طريق ما يلي من أحداث. فكرة القصة كما أراها تترسم خطى فلسفة مفادها إنَّ الغجر عموما وإن كارمن خاصة مخلوقون لنوع غريب من عشق الحرية الطبيعية. تهوى كارمن من تهوى وتبغض من تبغض.لا قوة في الأرض تجبرها أن تغير رأيها أو أن تخون قلبها. جسدها وروحها متحدان.
الغجر لا يعرفون الإنفصام ولا التردد. أنت كنت في أشعارك تؤكد على إزدواجية النفس - الجسم. الغجر لا يعرفون هذا الإزدواج وهذه الثنائية. متوحدون داخل أجسادهم. وهذا كما إخال سر قوة شخصياتهم. ملخص القول إنَّ كارمن سقطت ضحية طبيعتها الخاصة. لم تبالِ بالموت ثمناً
لإصرارها على التخلي عن خوسيه والإنصراف لمصارع الثيران الذي أحبت بكل جوارحها. هان الموت أمام القرار.
طلب ضيفي المزيد من الشاي لتتميم فطوره. جاء الشاي سريعاً. بدأ يأكل برغبة أقوى مازجا الكل بالكل. البيض المقلي مع مربى المشمش حيناً، والزبدة مع الجبنة والعسل حينا آخر. إنفتحت معدة صاحبي على حديث كارمن وكان يبدو عليه إنه يصدق ما أقول بشكل مطلق. أعجبه منطقي.
واصلت الحديث قائلا إن المجند العسكري خوسيه قد يكون هو الآخر متحدرا من أصول أندلسية غجرية، أي إنه يحمل في دمه ذات خصائص كارمن. قال وربما تجري في عروقه دماء عربية. قلت ذلك محتمل. كنا يوما هناك، أحسنتَ أبا الطيب. تذكّرني بأمور تفوتني خاصة في ساعات تناول الطعام. لقد عزَّ على هذا العسكري أن تهجره كارمن وتعشق سواه بعد أن فرّط بالفتاة التي رشحتها أمه له خطيبةً. قال تقصد ميكائيلا ؟ نعم، ميكائيلا. قال بصراحة … إنها لم تعجبني. إنها لا شيء بالمقارنة مع كارمن. قلت يبدو أنَّ في عروقك دماء أندلسية يا أبا الطيب! قال البدوي مثلي كالغجري حسب وصفك. طبيعي جداً وعنود جداً ومكابر جدّاً. قتلتني ذات السجايا التي قتلت كارمن. الشبه بيننا كبير. لنا نفس الجبلّة والطبيعة. أنا غجري ترحّلتُ كما يترحلون وتقلبتُ كما تقلّبتْ في هواها السيدة كارمن. تراجع قليلا عن مائدة الطعام فأشعل سجارة وقال تفضل أكمل حديث العسكر والغجر ثم أنشد (( الخيل والليل والأهواء والغجر )). هل هي قصيدة جديدة يا أبا الطيب ؟ قال كلا، خربطات أو أضغاث أحلام متخوم بالمربى وعسل الملكات وأجبان قبرص / القسم اليوناني . نعم أحب العسكري خوسيه كارمن وأرادها أن تحبه كما أحبها. أراد إقامة معادلة التوازن الطبيعي بين حواء وآدم. تركته وشرعت تجامل الضابط الأعلى رتبة منه في السلم العسكري. لم يهُنْ الأمرعلى خوسيه. لا سُلّمَ عسكرياً أعلى في دنيا الحب وبالنسبة لمن يحب. حين أهان الضابطُ خوسيه لم يتردد في قتله. لقد قتل فيه مجمل المؤسسة العسكرية، المافوق والمادون كما يقول العسكر في العراق. الضبط العسكري شيء والحب شيء آخر. لكلٍ زمانه وأحكامه فلماذا يخلط الضابط الأمور وهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؟ نجوم الأكتاف لا تمنح حامليها إمتيازات فوق العادة خارج أسوار الثكنات العسكرية. بلى , إمتيازاتهم في ثكناتهم وليس خارجها. ليس كل الناس عساكراً. المدنيون يكرهون اللون الخاكي. قال المتنبي هذا كلام جميل أعرفه لكني أصغيت له ولك إكراما لعيون المرحومة الشهيدة أسمهان. ضحكت وصححت قائلا كارمن، كارمن وليست أسمهان. أسمهان ماتت غرقاً في حادث سقوط سيارتها في ترعة ماء جارٍ. قال عفواً، كنت أقصد الشهيدة كارمن. ألم يقلْ نزار قباني (( قد مات شهيداً من مات على دين المحبوب )). بلى والله قد قال. ولا أراه قد قال ما قال إلا في صاحبتنا كارمن. لو والله قمت كعيسى المسيح من موتي حياً لقلت في كارمن شعراً أفضل مما قال نزار.
حين إنفتح المتنبي على الحديث الذي أساغَ رميت الكرة في ملعبه فطلبت منه أن يفسر سبب عجز العسكري خوسيه في أن يقتل مصارع الثيران أسكميللو أثناء العراك الذي نشب بينهما. كان خوسيه يحمل سكيناً وكان المصارع أعزلاً. قال سأحيل سؤالك إلى المصارع الأمريكي ( عدنان القيسي / عراقي سابقا ). قلت لا مزاح في سؤالي يا أبا الطيب. قال وأنا كذلك لا أمزح، علام المزاح ؟ المصارع يعرف حيل المصارع. كلاهما دجّال. المصارعون دجالون. الناس لا يمزحون في أمورالموت والعراك. قلت بل أُصرُّ على سؤالي. قال طيب سأجيبك عن سؤالك إنْ أغرقتني بالمزيد من الشاي ذي الوزن الثقيل. قلت صرت أبا الطيب تتكلم بالأوزان الثقيلة. قال لِمَ لا، أفلم يكن القيسي من الوزن الثقيل ؟ قلت سيأتيك الشاي كما أحببت بل ومن وزن ثقيل الثقيل.
مع الشاي الثقيل قال المتنبي إنَّ هذه المسألة لتستحق التفكير حقا. لِمَ لمْ يستطع الجندي المهووس حباً والمفعم بالعنجهية العسكرية وما يحمل من سلاح يدوي ... لماذا عجز عن قتل مصارع ثيران أعزل ؟ المسألة تحتاج إلى ( صفنة ) جدية وطويلة. الساعة الآن قاربت الواحدة بعد الظهر ولديَّ مهمات بيتية عليَّ أن أقضيها. سنواصل نقاش هذا الحديث في فرصة أخرى. أعطني وقتاً. طيب يا أبا الطيب. معك حق. سنلتقي أخريات الأسبوع القادم . أنا أيضا لدي ما يشغلني طيلة هذا الأسبوع. خابر من الشارع إنْ إستجدَّ أمر طاريء أو حصل لك - لا سمح الله - مكروه.
صحبته حتى موقف الحافلة التي ستأخذه إلى منزله. بقيت أنتظر حتى غابت الحافلة عن ناظري وغاب المتنبي معها في جوفها وفي جوف فراغ الغيب المُغيّب.



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنبي بين المركز الأولمبي في ميونيخ وستوكهولم
- المتنبي في المسرح الألماني في ميونيخ
- المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية
- المتنبي وثياب الإمبراطور
- روم المِعرّي
- إبن رائق الموصلي
- المتنبي في إيطاليا
- المتنبي وأدونيس
- السامري / أصل ومعنى الكلمة
- الجواهري وقفص العظام
- المتنبي وأبي العلاء المِعرّي - 15 -
- دموع المتنبي / إلى الأستاذ ناثر العذاري
- المتنبي ومحمود درويش
- رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / إلى الأستاذ فاروق سلّ ...
- رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / الجزء الثاني . إلى ال ...
- المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى
- قصيدة [ مرحىً غيلان ] لبدر شاكر السياب
- [ المسيح بعد الصلب ] / قصيدة لبدر شاكر السياب
- المتنبي وفاتك المجنون
- المتنبي بين البدويات وحَضَريات ميونيخ


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي مع فيصل وعمّار في ( موناسنزيّا )