دولة تحت الإنشاء
" القناة " و " القاعدة " و " المؤسسة " .. ثلاثية قطر الجديدة
الانطباع الأول الذى يتولد لديك فور ان تطأ قدميك ارض قطر هو انها "دولة تحت الإنشاء" .
كل شئ يتم إنشاؤه من الصفر .. الطرق .. المباني .. البنية التحتية .. الإدارات .. الشركات ... الخ .
ومن حركة الإنشاءات الحالية يتولد لديك انطباع ثان بان هذه البلاد عانت فى الماضى من ركود استمر قرونا طويلة .
وبعد هذا الانطباع الأولى تكتشف ان المسألة ليست مجرد طفرة فى "المقاولات" وانما تحول جذري فى حياة هذا البلد الذى ظل عصوراً متصلة مسرحاً لمعاناة الإنسان المحاصر بين أمواج البحر ورمال الصحراء الجرداء قبل اكتشاف النفط والغاز ، ثم استمر بعد اكتشافهما رهينة فى قبضة التخلف الموروث والجمود والتزمت ، فضلاً عن الضغوط المحلية والإقليمية المصاحبة للنشأة " الحديثة " لهذه الدولة الصغيرة ، والتى لا يزيد عدد سكانها عن تعداد أحد أجزاء حى شبرا القاهرى .
ويبدو ان إطاحة الأمير الحالى بوالده أمير قطر السابق لم يكن مجرد "انقلاب قصر" ، بل انه كان جزءاً من تحول شامل يستهدف إسناد وظيفة "كبيرة" لهذه الدولة " الصغيرة " .
" دولــة " الــجزيــرة
وكانت نشأة قناة " الجزيرة " التليفزيونية على الأراضي القطرية هى البداية الملفتة للنظر لهذا التحول الكبير ، وبينما استمر العرب يضربون أخماساً فى أسداس حول الهوية الحقيقية لهذه القناة والدور الخفي المنوط بها والانتماءات السياسية لصناع القرار فيها واصلت " الجزيرة " انطلاقها بسرعة الصاروخ حتى أصبحت أحد أهم القنوات التليفزيونية فى العالم ، مسجلة بذلك أول هدف من أهداف التحول القطرى الذى بدأ بانقلاب الابن على أبيه، وكان هذا الهدف –باختصار– هو ان تكون قطر مركزاً لاعلام عربي من نوع جديد .
" قــاعــدة " .. لكــن ليـس لـبن لادن
والى جانب الجزيرة .. جاء التحول الثانى الأكثر إثارة فى تاريخ تلك الإمارة الصحراوية التى طالما ظلت منزوية فى اسفل ذيل العالم العربى دون تأثير يذكر ، وكان هذا التحول المثير هو إقامة اكبر قاعدة عسكرية أمريكية على الأراضي القطرية .
وبديهي ان هذه القاعدة العسكرية الأمريكية العملاقة لا تمثل فقط أحد اوجه العلاقة الخاصة جداً بين الدوحة ( فى ثوبها الجديد ) وبين واشنطن ( التى سقطت كالتفاحة فى أيدي المحافظين الجدد ) ، وانما هى أكثر من ذلك أحد أهم المرتكزات الأمريكية لتطبيق سياساتها الإمبراطورية فى المنطقة واعادة رسم خرائطها بالصورة التى تحقق لها الهيمنة المطلقة وتحقق لحليفتها إسرائيل القيادة الإقليمية بلا منازع وبدون مشاكل .
وبين " الجزيرة " الإعلامية " و " القاعدة " العسكرية الأمريكية بدأت تتبلور ملامح " مشروع إصلاحي" قطرى متعدد الأبعاد .
وبعد ان كان مجرد ظهور المرأة فى عداد المحظورات ، لعبت زوجة الأمير، الشيخة موزة ، دوراً كبيراً فى هذا المشروع . بل ان البعض يمضى ابعد من ذلك ليقول أنها هى التى تلعب الدور المحرك .
حتى أن بعض الخبثاء فى الإعلام الغربى أطلقوا على قطر فى العهد الجديد تسمية طريفة هى banana republic فى تلميح إلى اسم الشيخة "موزة" ودورها المتعاظم وغير التقليدى ، مع التلميح أيضاً إلى صغر حجم قطر كدولة أو "كشبه دولة".
والشيخة موزة شخصية فريدة بالفعل ، رشيقة القوام ، واثقة الخطو ، شامخة الرأس ، فصيحة اللسان بالعربية والإنجليزية ، يشع من عينيها ذكاء ممزوج بمسحة من الحزن الغامض .
وادى التكنــولــوجـيــا
وإلى جانب الأدوار المألوفة من "السيدات الأوائل" ، تترأس الشيخة موزة مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.
ومع أن هذه المؤسسة واحدة من المؤسسات الخاصة غير الهادفة للربح فان الواضح أنها تحتل مكانة خاصة فى مشروع التحول القطرى الذى أشرنا إليه . فهى تعتزم تقديم تسهيلات تعليمية على كافة المستويات فى مجالات العلوم والإنسانيات . وتهدف المدينة التعليمية – التى حضرنا افتتاحها – إلى توفير منطقة حرة تحتوى على معاهد ومرافق تعليمية متميزة لدولة قطر والمنطقة ، ومن المتوقع أن تصبح المدينة الجامعية لمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع مركزا للتفوق فى التعليم بالمنطقة من خلال إقامة علاقات عضوية مع عدد من الجامعات الأمريكية المهمة ومن خلال هذه العلاقات ستتم دراسة الفنون والأزياء من خلال فرع جامعة فرجينيا كومنولث ، والطب فى كلية "وايل كورنيل" والهندسة فى جامعة "تكساس" .. ثم 0 وهذا هو الأكثر اثارة وخطورة – البحث وتحليل السياسات فى مؤسسة "راند".
وإلى جانب ذلك يتم التخطيط لاقامة قاعدة علمية وتكنولوجية تم رصد مليار دولار لها بالفعل ، وتم حشد عدد من كبار العلماء لعضوية مجلس الإدارة ، منهم العالم المصرى أحمد زويل .
لغـــز صــاحـــب نـوبـــل
وهذا يجعلنا نفتح قوساً لجملة اعتراضية بخصوص مشاركة زويل فى هذا المشروع العلمى فى قطر بينما طوى النسيان المشروع الذى كان مفترضاً ان يتم بقيادته فى مصر . وقد سألناه عن ذلك ونقل الزميل سامى فهمى أجابته عبر صفحات "الأهالى" حيث قال بتأثر شديد وبكلمات مملوءة بالمرارة "أشعر بالضيق والألم عندما أجد مصر بكل عظمتها وتاريخها ومكانتها ، ولا يوجد بها اهتمام حقيقى بالعلم والبحث العلمى والتكنولوجيا المتقدمة" وكادت دموعه تسقط وهو يستطرد قائلاً أن "المشروع" تمت إحالته إلى الدكتور عاطف عبيد بعد أن تمكنت البيروقراطية من إحباط محاولات اقامته على أرض مصر . وقال زويل أن "المدينة التعليمية" التى أنشأتها مؤسسة قطر هى نفس الفكرة التى طرحها على الرئيس مبارك وطلب الرئيس تنفيذها.
وتشاء المصادفات أن أعود من قطر لأسافر مباشرة إلى الاسكندرية للمشاركة فى المؤتمر السنوى لجماعة الإدارة العليا . وفى اليوم الأول للمؤتمر تحدث الدكتور مفيد شهاب طويلاً عن هموم التعليم العالى والبحث العلمى، وعندما سأله الدكتور عمرو عبد الحميد موسى عن مصير المشروع التكنولوجى الذى كانت الحكومة قد أوكلته إلى زويل كانت إجابة مفيد شهاب : اسألوا زويل !!
كعـكــة " عـلميـة "
ونغلق قوس هذا الجملة الاعتراضية بكل ما تتضمنه من مفارقات ومآسى تستحق المحاسبة لنعود إلى هذا الذى يجرى على أراضى قطر ، لنرى وراءه استيعاباً للتطورات الدولية والاقليمية ومحاولة جدية للاستفادة منها ، حيث أظهرت الدراسات أن عدد العرب الذاهبين إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه قد انخفض بنسبة 40% منذ أحداث 11 سبتمبر .. ومن هذه الزاوية يبدو أن قطر تحاول الحصول على قطاع كبير من هذه الكعكة . وربما هذا هو ما يمكن ان نستشفه من تصريحات أمير قطر لدى افتتاحه المدينة التعليمية التى قال فيها "اليوم نحتفل بحدث يفوق فى أهميته أى مشروع صناعى او اقتصادى مهما كان حجمه".
اى أن وراء هذا التحرك ادراكاً قطرياً للمتغيرات الدولية والاقليمية ومحاولة "للتخصص" فى أنشطة لا ينافسها فيها أحد . أو ان هناك رغبة امريكية فى منح قطر دوراً اقليميا فى الوقت الراهن اكبر من حجمها الصغير مدعوماً بالوجود العسكرى الأمريكي المباشر .
فبعد أن سرقت الأضواء الإعلامية بإنشاء قناة الجزيرة ، لم تجد أنه من الملائم لها ان تنافس البحرين كمركز للخدمات المصرفية والمالية ، أو تنافس دبى فى الأدوار التى تقوم بها بنجاح ، فاخترعت لنفسها هذا الوجه التعليمي والتكنولوجي الذى يبدو أنه سيكون استثماراً مهماً فى المستقبل القريب ، خاصة وأن هذا الدور الذى تدعمه واشنطن لاسباب كثيرة سيضمن تواجداً للجامعات الأمريكية ، وليس المهم هو تدريس الطب والهندسة .. الأهم – بالنسبة لواشنطن – هو إيجاد موطئ قدم لمؤسسة "راند" التى تعد أحد أهم المراكز البحثية التى يعتمد عليها البيت الأبيض والبنتاجون فى رسم سياساتها.
والخلاصة .. أن ما يجرى على أراضى قطر ليس مجرد افتتاح مؤسسة للتربية والعلوم .. أنه أخطر من ذلك بكثير.
ومع ذلك فان الكثيرين مازلوا نائمين فى العسل يجترون نفس الجمل القديمة سابقة التجهيز ، ويرددون نفس تبريرات الكسل والفشل واللادور ، بينما يتحرك العالم بقوة وينقلب رأساً على عقب.
فهل نفيق ؟!