أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي يزور المتحف البريطاني في لندن















المزيد.....


المتنبي يزور المتحف البريطاني في لندن


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2021 - 2007 / 8 / 28 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


- 25 -
لندن
( في المُتحف البريطاني )

دخلنا المتحف البريطاني الذي يرمزون اليه بحرفي
B. M.

ففوجئنا بلافتة تقول
Pay one Pound , if you can
الأمر الذي لا سابقة له في تأريخ هذا المُتحف العريق . لقد كان دخوله دوما ً مجانا فما الذي طرأ فبدل أعرافه السابقة ؟ وضع بريطانيا السيء يا أبا الطيب . البطالة والتضخم والكساد العالمي وزيادة نفقات التسلح ونفقات الحروب الباهظة التكاليف ونفقات الشؤون السرية وسواها من المهمات الدولية المتشعبة . إنتبه صاحبي الى أن طلب الباون الواحد , وهو طلب زهيد , جاء بصيغة فعل الأمر ( إدفع باونا ) بدون كلمة( رجاء ً )
Please
التي يحرص الإنجليزعلى قولها دائما ً وتحت كافة الظروف.
لم نتوقف طويلا لدى تماثيل ملوك آشور والثيران المجنحة ولا في قسم تماثيل مصر القديمة وأذرع الغرانيت الضخمة ، لأن أبا الطيب كان مشوقا ً لرؤية الجناح السومري ثم القسم الخاص بلوحات صيد الأسود الآشورية . أصرَّ المتنبي أن ألتقط له العديد من الصور أمام القيثارة السومرية ورأس الفتاة السومرية المحلى بزينات الذهب الخالص والأحجار الكريمة . ما كان يصدق عينيه أبداً . سمعته يكثر من ترديد ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . حاول التدخين فذكرته أن التدخين في المتحف ممنوع . لقد زحزحته أخيراً من مكانه الذي تسمّّر فيه مغريا إياه بالذهاب الى الجناح الخاص بلوحات صيد الأسود الآشورية . جرجرَ قدميه بصعوبة بالغة وهو يردد ( لا حول ولا قوة الا بالله ) . سألته لماذا الحوقلة يا أبا الطيب . قال هذا تأريخنا العريق . هكذا كنا وهكذا أصبحنا . كان لنا قبل خمسة آلاف عام موسيقى وغناء وطرب وآلات طرب وصناعة ذهب وتعدين معادن وذوق فني رفيع المستوى . كانت لنا ( تكنولوجيا ) متطورة وأدب وملاحم أشهرها ملحمة جلجامش التي تعرف . تأخرنا كثيرا للأسف الشديد .
نسي المتنبي همومه حين وجد نفسه في القسم الخاص بلوحات مطاردة الأسود وقتلها بالرماح وسهام قسي ِّ الملك الآشوري وفرسانه ومرافقيه . طلب مني التقاط المزيد من الصور له أمام هذه اللوحات رغم عتمة المكان المصممة خصيصا ً لحفظ اللوحات من تأثير الضوء الضار . فالألواح أصلا من طين وليست من حجر صلد . لقد أدهشته دقة رسوم الخيول التي تجر عربات الصيد ثم روعة تناسب أعضاء أجساد الأسود ودقة الوضع المتوتر الخاص لحظة إطلاق السهم بإتجاه اللبوءة أو غرس الرمح في فم الأسد الذي يهاجم عربة الملك من الخلف . تلكم أمور يحار في تفسيرها المرء ... قال المتنبي معلِقا ً . من أين أتى لهم كل هذا الكمال الفني النادر ؟ ولماذا كل هذا الإهتمام بصيد الأسود وليس بباقي الحيوانات
خاصة وأن شعارهم هو الثور المجنح وليس الأسد . فالأسد رمز بابل التي دمروها والثور ليس كالأسد كما تعلم . إنتهزت فرصة كلامه عن الأسود فسألته ماذا قالت الشعراء في الأسود . بعد هنيهة تفكير قال إن َّ خيرَ من قال شعراً في الأسد هو الشاعر البحتري . قلت له وماذا قال البحتري ؟ في قصيدته التي وصف بها مصارعة وزير الخليفة المتوكل ( الفتح بن خاقان ) لأحد الأسود ... وصف لحظة المقابلة بينهما أبدع وأتم وصف لا يأتيه إلا شاعرٌ عبقري ٌّ . إتجهت اليه بكل ما في َّ من قدرة على الإنتباه حاثا أياه على الإستمرار في الكلام . قلت له إقرأ الوصف . قال البحتري :

فأحجمَ لمّا لم يجدْ فيكَ مطمعا ً
وأقدمَ لما لمْ يجدْ عنكَ مهربا

لا حظ هندسة البيت صدراً وعجزاً . لاحظ طباق الفعلين الرباعيين ( أحجم ) و
( أقدم ) ثم مواجهة المطمع بالمهرب وهما نقيضان . لاحظ مرة ثانية سحر التضاد في إتجاه الحركة الفضائي ما بين الإحجام ( التقهقر الى الخلف ) والإقدام
( الإندفاع الى الأمام ) . هذا التناقض في الإتجاه الفيزيائي للحركة لمما يبهر قاريء هذا البيت ، بل ويهزه هزا . إنه قمة الإبداع في شعر البحتري . قلت له لكنْ لك في الأسد لشعراً رائعاً ووصفا ً لم يسبقك اليه أحدٌ من الشعراء لا قديماً ولا حديثا . قال تقصد القصيدة التي مدحت بها
( بدر بن عمار ) أمير طبرية ؟ نعم يا أبا الطيب . قال وما تحفظ منها ؟ أنشدته على الفور :

وردٌ إذا وردَ البحيرة َ شاربا
وردَ الفراتَ زئيرُهُ والنيلا

في وحدةِ الرهبانِ إلا أنه
لا يعرفُ التحريمَ والتحليلا

يطأ ُ الثرى مترفقا ً من تيههِ
فكأنه ُ آس ٍ يجس ُّ عليلا

ويرد ُّ عُفرته ُ إلى يافوخه
حتى تصيرَ لرأسهِ إكليلا

ما زالَ يجمعُ نفسَه ُ في زَورهِ
حتى حسبتَ العرضَ منه الطولا

قاطعني قائلا أحسنت في ذكرك هذا البيت الأخير . ففيه حققت ما قد حقق البحتري قبلي من إبداع . هذا البيت صنو في الصياغة الشعرية لبيت البحتري الذي يأخذ بالألباب. قلت له أوافقك مائة بالمائة يا أبا الطيب . لا يغلبنك شاعر مهما بلغ شأوه. لقد رسمت في هذا البيت صورة يعز نظيرها في دنيا الشعر إذ صورت حال جسد الأسد في لحظة إستعداده للوثوب على متحديه دفاعاً عن نفسه . يتساوى العرض والطول في تلكم اللحظة الحرجة حتى لكأنَّ الأسدَ بإختصاره لطول جسمه إنما يختزل الزمن متعجلا وقوع النتيجة الحاسمة إذ ليس لديه الكثير من الوقت للإنتظار ، إما قاتل أو مقتول . إنه يجمع سني عمره في نقطة واحدة لا غير ،انها فلسفة تركيز الزمن في لحظة واحدة يأتي بعدها الإنفجار المدمّر الذي يحرر طاقة المادة المخزونة في الذرة أو على قاعدة صرخة شمشون الجبار
( عليَّ وعلى أعدائي يا ربُ ) . همَّ أبو الطيب أن يقول شيئا لكنه أحجم ولم يقله .
ما كان الرجل ليريد أن يغادر هذا المكان من المُتحف البريطاني لولا إلحاحي في أن نتناول شيئا من الطعام في أحد مطاعم لندن . جررته جراً نحو مطعم إغريقي قريب لنأكل فيه الدونر كباب الذي يهوى . بعد الطعام والقهوة المرّة إقترح أن نقطع شارع أكسفورد مشيا على الأقدام ما دام النهار هو آخر نهار تبقى لنا في عاصمة الإمبراطورية البريطانية .
كان الشارع كعادته شديد الزحام يعج بالبشر من مختلف الألوان والملل والنحل . سألته أيحب أن يبتاع من هذا الشارع شيئا يحتفظ به للذكرى ؟ قال كلا . سأنسى سريعا ذكريات لندن حين أعود الى مكان إقامتي في المانيا . الذكريات تؤلمني وتشجيني . الأفضل لي أن أنساها وأن أشغل النفس بسواها . قلت له وماذا عن لقائنا بالصديق الشاعر عزيز السماوي . قال ذلكم أمر آخر . لا ولن أنسى دعوته في بيته ولا الطعام الفاخر الذي أعدته لنا السيدة أم مخلص . قلت له وماذا عن أسود آشور وجداريات مطاردتها وجمال الخيول الأصيلة ودقة نقشها واللبوءة القتيلة بأكثر من سهم مطروحة على ظهرها كأنها تشكو مقتلها الى رب السماء ؟ قال لا تذكرني بهذا الأمر . إنه فوق ما يحتمل البشر . كيف تجتمع قساوة الإنسان وأعلى درجات الفن ، كيف ؟ قلت له وماذا عن أمسية ديوان الكوفة الأدبية ؟ قال إتفقت وصديقي محمد مكية أن نكون على إتصال وثيق عن طريق التلفون أو الفاكس أو الرسائل وأن يدعوني كلما أنتظم حفل أو مهرجان ثقافي في ديوانه . قلت له حتى لو لم تقرأ شيئا ؟ قال قد تفهّم الرجلُ ظروفي وطبيعة قراري . وإذا عُرفَ السبب زال العجب والعتب . قلت له وهل حققت زيارتك هذه كل أمانيك أو جُل َّ ما كنت تتوقع منها رغم قصرها ؟ قال ما زال في نفسي أمر لم أحققه . ما هو يا أبا الطيب ؟ قال لم أتمتع بسفرة في زورق على نهر التايمس . لا بأس عليك أبا محسد . سنقوم بذلك في السفرة القادمة . تنهّد الرجل متسائلا بكل هدوء كأنما كان يكلم نفسه : ومتى سيكون ذلك ؟ قريبا جداً يا عزيزي . المهم تهيئة وإنضاج الظروف المناسبة . ضحك صاحبي بمرارة ساخرة قائلا أراك تتكلم بمنطق رجال السياسة والتاكتيك والستراتيج . قلت له لا شأن لي بالسياسة ولا التكتكة ولا السترجة . تقاعدنا يا أبا الطيب كما تقاعدت أنت عن الشعر . لا العمر يسمح ولا الصحة . ولقد أصبح كلانا زاهداً في بيتك الشعري الذي قلت فيه

أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغهُ من نفسه الزمن

أخذ من سيجارته نفساً عميقا ً ثم قال هامسا ً

بم َ التعللُ لا أهلٌ ولا وطن
ولا نديم ٌ ولا كأس ٌ ولا سكنُ

حين أنهينا شارع أكسفورد مشيا ً على الأقدام وجد أبو الطيب نفسه وجها ً لوجه
أمام البوابة المسماة
Marble Arch

توقف فجأة ودخل في لحظات تفكير
عميق . لم يحرك قدميه ولم يشأ أن ينطق أي حرف . وقف ذاهلا غائبا عني وعن عالمه . ما بك يا أبا الطيب ؟ لا شيءَ لا شيءَ . أتركني للحظة ٍ وشأني . تركته في غيبوبة الوجود أرقب حاله التي ألفتها منذ زمن بعيد . سرح ببصره بعيداً وهو ينفث من أعماق صدره سحب الدخان الكثيفة . لم يأبه بتطفل المارة وما كان أصلا حاسا ً بوجودهم . حين أنهى سيجارته شرع يكلم نفسه قائلا : يجلس هناك اللورد الشاعر بايرون ، يجلس في تلك الزاوية من حدائق الهايد بارك مع قلمه وأوراقه وكلبه . لعله يروم أن يكتب شيئا ً لم يعرفه ناسُ زمانه . يحتلُّ ركنا يقع بين قصر القتيلة ( دايانا ) وشارع شقة السيد محمد الفايد . كان بايرون ثائرا ومغضوبا في بلده عليه . كانت دايانا أميرة أما السيد آل فايد فانه مليونير معروف
صاحب مخازن هارودز الشهيرة . ما الذي جمع ما بين هؤلاء الثلاثة ؟ قلت كان الرجل يتكلم مع نفسه بصوت مسموع فأجبته إنها الحياة التي جمعت معا هؤلاء الثلاثة يا عزيزي أبا الطيب . إلتفت الي َّ مقطباً ما بين حاجبيه قائلا : ماذا تقصد ؟ قلت إن بايرون رجل إنجليزي ودايانا سيدة إنجليزية والهايد بارك يتوسط العاصمة البريطانية وقصر الملكة ليس عن هذا المكان ببعيد و ... فقاطعني قائلا أما السيد محمد آل فايد فان وزارة الداخلية البريطانية ترفض منحه جواز سفربريطاني كما تقول الصحف!! لم ينفعه ماله . فليرم ِ به في أعماق نهر
التايمس .
قلت ألهذا تود القيام بسفرة نهرية خلال هذا النهر ؟ قال كلا . أموال الفايد شيء ورغباتي شيء آخر لا علاقة لها بالمال ولا بالبشر . قلت هيا إذا ً فلنسرع الخطى
سنتناول طعام العشاء في أحد المطاعم العربية في شارع
Edgware Road

وسيسعد أبو الطيب برؤية سياح الخليج وعوائلهم وأطفالهم يجوبون هذا الشارع مرحين مسرورين ليلا ونهاراً . وسيرى مقهى خاصا يقدم النارجيلة لمن يود التمتع بها . إبتسم الرجل بصدق وعفوية ثم قال أتباع ُ بقلاوة جيدة في مخازن هذا الشارع ؟ قلت أجل ، ولكنها ليست بقلاوة بيروت وبلاد الشام . بقلاوة لندن تصنع في لندن والفارق كبير يا أبا الطيب . سمعته يردد مع نفسه ( وفي المُدامة معنىً ليس في العنبِ ). قال ساخراً : لا أترك لندن ما دامت فيها بقلاوة. سأعوّد نفسي على نوعيتها التي لا تضاهي نوعيات بقلاوة بيروت ودمشق وحلب . قلت له وهل سمعت ببقلاوة ( حداد ) و ( نعّوش ) ؟ قال رحم الله أيام ذاك الزمان . لم يبقَ في بغدادَ لا حداد ولا نعوش ولا شربت الحاج زبالة في شارع الرشيد قريباً من مقهى حسن عجمي ولا شربت جبار أبو الشربت في بداية شارع أبي نؤاس في بغداد . أضفت قائلا لعلمك يا أبا الطيب ، لقد ذكر الشاعر والقاص عبد الهادي سعدون الحاج زبالة وجبار أبو الشربت في مجموعته القصصية التي أعطاها عنوان
" إنتحالات عائلة " ( أزمنة للنشر والتوزيع , عمان, الطبعة الأولى 2002 ) . قال ومن يكون هذا السعدون ؟ قلت إنه ناشر وشاعر يدرس ويعمل في العاصمة الإسبانية مدريد. قال هل له صلة قربى بالمرحوم دون كيخوت ؟ قلت كلا . لا أقرباء له في مدريد . ثم إنه رجل عصري واقعي لا يقاتل طواحين الهواء إنما يقاتل بقلمه وعلى صفحات مجلته " ألواح " طواغيت زمانه التي تعرف وأعرف . يعمل هذا الشاب المكافح أغلب ساعات الليل عاصر برتقال أو نادلا في أحد بارات مدريد الليلية كي يستطيع أن يواصل دراسته الجامعية العليا وأن يواجه متطلبات حياته الأخرى . انه مكافح من الدرجة الأولى يا أبا الطيب ومثال ممتاز لقوة ارادة الحياة الخيرة المتطلعة أبدا الى السماوات العلى . هز الرجل رأسه موافقا ثم قال أريد أن أقرأ قصص وأشعار عبد الهادي . القصص نعم ، تستطيع أن تقرأها وأن تفهمها ، أما أشعار الرجل فعصية على فهمك يا عزيزي . إنه يكتب قصيدة النثر التي لا عهدَ لك بها . وقد داعب في بعض شعره مرة المطرب داخل حسن ، هل تعرف هذا المطرب ؟ قال كلا ، بل أعرف سعدي الحلي . على أية حال ـ قال ـ سأستمتع إذا ً بما يكتب عبد الهادي سعدون من قصص وسأترك سوريالية شعره الى أمثالك من جيل القطب الواحد والعولمة وقصائد النثر العابرة للقارات والأزمنة .
ونحن نقترب من مدخل فندقنا قال المتنبي : على ذكر دون كيخوت ... أليس لعبد الهادي رفيق مثل سانشا بانشا ؟ قلت بلى ورب الكعبة . له صديق حميم هو الروائي الفذ السيد محسن الرملي . قال لا حول ولا قوة الا بالله !! لا دون كيخوت في الحياة إلا وله سانشا بانشا . إعترضت منبها أبا الطيب أنَّ عبد الهادي ليس كدون كيخوت وإنه لا يقاتل طواحين الهواء . قال إفهمْ يا رجل قصدي جيداً . الذي يقاتل طواغيت الزمان بقلمه فقط كمن يقاتل طواحين الهواء بسيفه الخشبي . قلم الخشب كسيف الخشب ، كلاهما خشب في خشب . قلت متضاحكا وماذا عن شربت جبار أبو الشربت ؟ قال سواء بسواء ... كشربت الحاج زبالة في حيدرخانة شارع الرشيد في بغداد ... أصباغ جميلة وكثير من السكر وهشيم الثلج . طيف زبيب في الحيدرخانة والكثير من قشور الرمان في بداية شارع أبي نؤاس على دجلة الخير وأم الطواحين ... عفوا .. أم البساتين .

نهضت مبكراً صباحا ً فحلقت ذقني وتحممت وأرتديت ملابسي على عجل لألتقي بصاحبي حوالي الساعة الثامنة لتناول طعام الفطور في مطعم الفندق كما تعودنا صباحات الأيام القليلة السالفة . اليوم نغادر لندن الساعة الثانية بعد الظهر عائدين الى مكان إقامتنا في مدينة ميونيخ الألمانية . طال أنتظاري فشرعت بتناول فطور مختصر إذ إنتابني شيء من القلق . هل أصابت صاحبي وعكة صحية جرّاءَ ما تناولنا مساء أمس من طعام في المطعم العربي ؟ كلا . لو كان ذلك صحيحا لأصابني ما قد أصاب صاحبي من مكروه ... مغص في المعدة أو إسهال مثلا . هل غط صاحبي في نوم عميق ؟ جائز . إذا ً سأذهب اليه في حجرته لأستجلي الأمر أو لأوقظه من سباته . طرقت باب حجرته مرارا ... طرقا خفيفا باديء الأمر ثم ازداد الطرق حدة . لا جواب . بقيت الباب مغلقة . ماذا حل بصاحبي
لا جواب . بقيت الباب مغلقة . ماذا حل بصاحبي
؟ هل أسأل إدارة الفندق عن الأمر ؟ كلا . سأحاول أن أفتح باب الحجرة . فتحت الباب وما كان موصدا فذهلت أني لم أجد أبا الطيب . أين ترى غاب الرجل ؟
ماذا حل به ؟ هل نقلوه ليلا الى المستشفى ؟ أخذت أحد المصاعد نازلا الى إدارة الفندق مستفسرا عمّا حل بالرجل صاحبي . فوجئت أنْ لا علمَ لإدارة الفندق بالأمر . صعد أحد المسؤولين معي الى حجرة صاحبي وشرع يبحث عنه في دولاب الملابس وتحت الفراش وفي الحمام وفي بيت الراحة فلم نعثر له على أثر . أين إختفى الرجل ؟ وأين حقيبة ملابسه المتواضعة ؟ إتصل المدير بشرطة لندن ينقل لهم الخبر المشؤوم ... إختفاء الشاعر أبي الطيب المتنبي . كنا في الفندق مساء أمس معا حتى لآخر لحظة قبيل النوم . إتفقنا أن نجهز حقائبنا وأن نلتقي الساعة الثامنة على طعام الفطور . ماذا حل بالرجل ؟ أعطيت إفادتي للشرطة مفصلة وكان أكثر أسئلتهم مركزا على وقائع اليوم السابق ولا سيما الساعات الأخيرة التي
قضيناها معا سواء في شارع أكسفورد أو في شارع
Edgware Road
وفي أي مطعم تناولنا عشاءنا الأخير وماذا أكلنا ومن قدم لنا الخدمات في المطعم وغيرها الكثير من الأسئلة . طلبوا مني البقاء في لندن وإلغاء موعد سفري الى ألمانيا لدواعي إتمام التحقيق . أقنعتهم أن ذلك غير ممكن نظرا لإرتباطي ببعض المواعيد الهامة . تركت معهم رقم هاتفي وعنواني كاملا في ميونيخ وقلت لهم إني على إستعداد للعودة الى لندن إنْ أقتضت الحاجة . شكروني وإنصرفوا قائلين أخبرنا على الفور بما يستجد من أمور لها علاقة بحادث إختفاء الشاعر الشهير أبي الطيب المتنبي .
ما كنت أرى في سماء لندن إلا الظلمة والإحباط . أخذتني سيارة التاكسي الى محطة فكتوريا لأستقل الباص الذاهب الى مطار هيثرو . ظلام في ظلام. أين صاحبي أبو محسد ؟ ماذا سأقول لأصدقائنا في ميونيخ ؟ كيف سأخبر الشرطة الألمانية عن اختفائه في بلد آخر وقد سافرنا الى لندن معا ؟ وهل تساوي ميونيخ شيئا بدون شاعري العظيم أبي الطيب ؟؟ من سيملأ فراغ هذا الرجل في حياتي الباقية ؟؟

وصلت منزلي في ميونيخ لأجد أمامي رسالة بالفاكس يقول المتنبيء فيها
عزيزي وصديقي الوفي /
لا تبتئس بعدي ولا تحزنْ ولا تهنْ . ليبقَ رأسك مرفوعا فوق كتفيك عاليا . واصلْ القراءة والكتابة كعادتك ليلا ونهارا كي تنسى أوجاعك ولربما تنساني . ستعوضك الحياة بمن هو أفضل مني .
أعتذر اليك أني قررت البقاء في لندن منذ أن شاهدنا معا في المتحف البريطاني ألواح حملات ملوك آشور لصيد الأسود . شيء ما غامض ، جد َّ غامض ، شدني الى ذلكم التأريخ السحيق . تخيلت نفسي أقف مع الملك الآشوري خلف خيول عربته الملكية حاملا رمحا ً وقوسا ً وسهاما ً . تماما كما كنت أقاتل الروم كتفا لكتف مع سيف الدولة الحمداني. مشهد القتال يستهويني ويستفز طبعي حتى لو كان قتالا بين إنسان وأسد . لعن الله بني أسد الذين كما تعرف قد إغتالوني وسبوا عيالي وخدمي وحشمي وعبيدي ونهبوا ما حملت معي من بلاد فارس من نفيس الهدايا والمتاع .
أجلْ ، صديقي ... سأبقى هنا ما دام المتحف البريطاني قائما ً ففيه ملاحم أجدادنا وتأريخنا جميعا مُذْ سومر وأكد وبابل وآشور . أجد نفسي فيهم وواحداً منهم . هم جذور تأريخي وأسس كياني ثم إنني ألم ُّ قليلا بلغة الإنجليز الذين فتحوا عام 1917 عاصمة الرشيد بغداد وأستعمرونا ثم أستوردوا ملوكا لنا . فهم ليسوا غرباء علي َّ والناس كما تعلم على دين ملوكهم والمقهور ظلُ قاهرهِ . وعليه أرى نفسي أقرب أليهم من الجرمان أصحاب ( الهر هتلي ) والبارباروسة. فلقد قضيت في بلدهم قرابة عام دون أن أستطيع أن أتلفظ كلمة واحدة بشكل سليم . اللغة ، عزيزي هي جذورك في أرضك وأساس بيتك.
أما لِمَ لمْ أخبرك بقراري في حينه وكيف غادرت الفندق ومتى ... فذلكم أمر سأكتب تفاصيله لك في الوقت المناسب . سأبعث لك عنوان أقامتي في بريطانيا العظمى لتزورني بين الحين والآخر . سأكون مسرورا بزياراتك غاية السرور ولسوف تستغني عن فنادق لندن الغالية وسراديبها وحماماتها الضيقة . ثم إنَّ في لندن كما تعلم كثرة من الشعراء والأدباء وعلى رأسهم صديقي السابق وراويتي المستر علي بن حمزة البصري الذي هرب متبرئا مني في ساعة الشدة لأسقط قتيل سيوف أعدائي في دير العاقول في ظاهر النعمانية.

التوقيع
( صديقك أبو الطيب المتنبي )



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنبي يُقيم ويعمل في لندن
- المتنبي في لندن / مع الشاعر عزيز السماوي
- المتنبي في أوربا / مع كارمن ودولة الخروف الأسود
- حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا
- تصحيح معلومة خاطئة / إلى الأستاذ سلام عبود ... حول قصص جلال ...
- مقبرة الغرباء / رثاء الجواهري
- آليات الإبداع في الشعر / المتنبي نموذجاً
- الأوزون ... درع الأرض الهش
- رسالة لعدنان الظاهر من محمد علي محيي الدين
- التلوث والبيئة / الزئبق
- ليزا والقاص جلال نعيم حسن
- عامر الصافي والمناضل القتيل الحاج بشير
- البايولوجيا الإشعاعية ومخاطر الإشعاع / لمناسبة إسقاط القنبلة ...
- مشاكل ومخاطر محطات توليد الطاقة
- لوركا والبياتي / في ذكرى رحيل الشاعر
- شعراء ثلاثة : أديب وحسين وعبد الهادي
- المتنبي في أمريكا
- المتنبي في موسكو
- وشم عقارب ... ديوان شعر للشاعرة ورود الموسوي
- ألكترا تقتل أباها


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي يزور المتحف البريطاني في لندن