أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - ظاهرة النهب والسلب والفرهود في مدينة بغداد بعد سقوط نظام الحكم في العراق....القسم الثاني















المزيد.....


ظاهرة النهب والسلب والفرهود في مدينة بغداد بعد سقوط نظام الحكم في العراق....القسم الثاني


قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)


الحوار المتمدن-العدد: 2018 - 2007 / 8 / 25 - 09:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التزاما بوعدنا للقراء والباحثين الاجتماعيين الكرام ، في أدناه القسم الثاني من الموضوع أعلاه
المنشور في مجلة النبأ العدد 76 عام 2003 ، وهو نفسه المنشور في كتابنا ( بانوراما نفسية ) المطبوع
في عمان /2007

ظاهرة السلب والنهب في بغداد بعد سقوط النظام تشــكل مشكلة اجتماعيـة وتربويـة وأخلاقيـة وأمنيـة خطيرة ستواجهها السـلطة التي ستتولى الحكــم في العــراق. فالقائمون بها منتشرون الآن بين الناس وأنهـم أو معظمهم من فئات معدمـة تقع في قاعدة الهرم الاقتصادي للمجتمع العــراقي، إلى قمته أو قريباً من القمـة. وبــدءاً ليس من الصحيح عــزو هذه الظاهرة إلى سـبب أو فئــة من الأســباب كما حــاول بعض السياسيين والإعلاميين، أنما هــي ناجمة عن فئــات ســببيه متعددة المصــادر ومتباينة في درجــة حـدتها، تفاعلت في ما بينها فانفجرت كالقنبلة الموقوتة بزمنها الــذي حانت لحظتــه.
فتـــوى الشـــارع
تقوم (فتوى الشارع) في رأينا على معيار (الحلال والحرام)، ويكون هذا المعيار محكوماً بقانون في الظروف العادية، فيما يكون محكوماً بالوعي الشخصي الذاتي والضمير الأخلاقي للفرد، في الظروف التي ينعدم فيها القانون.
فالشخص الملتزم دينياً لا يرتكب الحرام (السرقة مثلاً) حتى في حالة انعدام القانون، بمعنى أنه لا يمتنع عن فعل السرقة خوفاً من عقوبة يرتبها عليه القانون، أنما لأنه يرى في هذا الفعل عيباً وسلوكاً غير أخلاقي وجريمــة يعاقبــه الله عليها، فيما يكون معيار (الحلال والحرام) لدى الخارج على القانون ضعيفاً، ولهذا فأنه يرتكب السرقة والنهب، حتى في الظروف التي يسود فيها القانون النظام.
والذي حدث أن تمركز القوات الأمريكية في عدد من المواقع داخل بغداد، وبعضها قريب من الأحياء الشعبية، أعطى الإشارة للناس بأن النظام السياسي في العراق قد انتهى، ولهذا بدأت أعمال النهب والفرهود في الثامن من نيسان وليس في التاسع منه. وبوصفي شاهد عيان، فأن بدايات النهب والفرهود قام بها أفراد قليلون، ثم اخذوا يتكاثرون تدريجياً حتى صاروا جموعاً. والتحليل النفسي لذلك أن الذين يبدءون هذه الأعمال، هم من الذين يكون لديهم معيار (الحلال والحرام) ضعيفاً، ذلك أن الناس يتوزعون على نقاط في بعد هذا المعيار الممتد بين طرفين (قويا وصلبا) و (معدوماً أو هشاً أو ضعيفا)، وهذا يعني أن القلة من الناس (لا يحللون ولا يحرمون) ومنهم اللصوص، والقلة من الناس لا يقتربون من الحرام ومنهم رجال الدين، فيما غالبية الناس يتجمعون حول نقطة في الوسط، بدأ أعمال النهب والفرهود الأفراد الذين لديهم معيار (الحلال والحرام) معدوماً أو هشاً أو ضعيفاً. وتوزع سلوك جمهور المتفرجين على وفق ضعف أو قوة هذا المعيار، وكان المترددون في وضع محرج مع أنفسهم (ينهبون أم لا ينهبون؟!).
ولأن (المنهوبات) كانت مغرية، من أكياس من الدنانير ودفاتر من الدولارات تنقل الفرد من الحضيض إلى القمة. إلى مواد وأجهزة ثمينة… فأن المترددين وجدوا لها تخريجاً فيما نصطلح على تسميته (فتوى الشارع)، بأن داورها الواحد فيهم في ذهنه على النحو الآتي: (مادام الناس كلهم، هكذا بصيغة التعميم، يقومون بهذا العمل، فهذا يعني أن العمل ليس حراماً)، وعملت (فتوى الشارع) هذه بالعدوى النفسية التي من خصائصها أنها تنتشر بشكل سريع في السلوك الجمعي، وتكون محملة بتبريرات صريحة أو ضمنيه تبدو لمن يصاب بها مقنعة تماماً، فعند ما سألت أحدهم: (لماذا تأخذ هذه الأشياء؟) أجابني بأنها (حصته من النفط) بمعنى أن ما يأخذه ليس إلا تعويضاً عن حق كان مغتصباً… ولسنين! استنتاج: تعمل (فتوى الشارع) على سحب المترددين من المتفرجين إلى الاشتراك مع القائمين بأعمال النهب والفرهود في السلوك الجمعي، وتنتقل بينهم بعدوى نفسية محملة بتبريرات تبيح أخذ الملكية العامة، وتضعف الشعور لديهم أو تلغيه بأن هذا الفعل حرام.
ثقافة العنف
ولد معظم أبناء الجيل الثاني (1974 وما بعدها) ي حرب وعاش في حرب، ثم حصار ثم حرب، ورأى بعيونه ضحايا الحرب ونعوشهم، وكان يشاهد خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، برنامجا تلفزيونيا اسمه:
(صور من المعركة) تعرض فيه جثث القتلى حتى تلك الممزقة إلى أشلاء، والمتفحمة، وأسرابا من الجنود تحسبهم أيقاضا وهم ميتون بالمواد الكيماوية والغازات السامة، وبدل أن يتثقف أطفال عقد الثمانينات (الذين هم الآن شباب الألفية الثالثة) بمشاهدة برامجهم التربوية والترفيهية المخصصة لهم، ويستمتعون بأفلام كارتون، فأنهم تثقفوا بالعنف، حتى لأصبح لدى كثيرين منهم وكأنه سلوكا عاديا، أو صار مطلوبا، ونجم عن ذلك أن (قيمة الحياة) تراجعت لديهم، وبالضرورة تراجعت ليهم قيمة الملكية العامة واحترام النظام أيضا.
استنتاج
بوصفي شاهد عيان لما حدث من أعمال نهب وسلب وفرهود في مدينة بغداد فأنني أستطيع أن أقرر بأن ما يقرب من 90% من الذين قاموا بهذه الأعمال هم من الجيل الثاني المولود في زمن النظام، وأحد الأسباب الرئيسة لقيامهم بذلك يعود إلى تخلخل مصادر تشكيل المنظومات القيمية لديهم، وما أحدثته الحروب التي عاشوها من تغير في سلم القيم فصعدت في الصدارة القيم المتعلقة بالحاجة إلى البقاء المصحوبة بالقلق من المستقبل، ولأن من طبيعة هاتين الحاجتين أنهما تسببان توترا لدى الفرد، فأنهما تدفعانه إلى أن يتصرف بطرائق غير عقلانية لخفض هذا التوتر، ومنها نهب الممتلكات العامة، لاسيما في ظرف ينهار فيه نظام حكم بكامله.
القوات الأمريكية.. (خذها.. أنها لك يا علي بابا!)
طرفان أساسيان يتحملان ما حصل من أعمال نهب وفرهود في العراق، لاسيما ما حدث في بغداد، هما: النظام السابق وأمريكا، وقد أشرنا إلى أهم المؤشرات بخصوص الأسباب المتعلقة بالنظام غير أن تصرف القوات الأمريكية كان له دور فاعل في شيوع هذه الأعمال، فقد بات معروفاً أن القوات الأمريكية عندما دخلت بغداد توجهت إلى حماية مؤسستين هما: القصر الجمهوري ووزارة النفط، وتركت المؤسسات الأخرى دون حماية، ولهذا جملة أسباب أهمها:
1- أنها (أمريكا) أرادت أن تقدم للعالم في لحظات الزمن الحاسم، أدلة مادية عبر القنوات الفضائية بأن النظام في العراق قد أنهار.
2- أن تقدم (أمريكا) للعالم أيضاً ما يدعم ادعاءاتها بأن النظام كان يحتكر الثروة ويبذرها، فيما ترك الناس في أغنى بلد نفطي، فقراء ينهبون الكراسي وحتى المهملات التي لا قيمة لها.
3- إعطاء صورة عن الشعب العراقي توحي للعالم بأنه متخلف و (غوغائي) تولد القناعة لديه (أي العالم) بأن الأمر يستدعي بقاء القوات الأمريكية فيه، ولوقت طويل إذا ما أريد تحويله إلى أنموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط.
وبوصفي شاهد عيان، فأن الجنود الأمريكيين كانوا في الأيام الأولى التي تلت الثامن من نيسان 2003، يشجعون الناهبين على القيام بنهب ممتلكات المؤسسات العامة، أما ضمنياً بالسكوت أو غض الطرف، أو بشكل صريح بأن يومئوا لهم بأيديهم للدخول، أو بأن يقولوا لهم:
(Come on Ali Baba.. take it its yours) هيا علي بابا.. خذها فأنها لك وللحقيقة، فأنني سألت عدداً من الجنود الأمريكيين عـن الفكرة التي يحملونها بخصوص (علي بابا) فتبين أنهم لم يعرفوا قصته الحقيقية، التي تشبه قصة (روبن هود) في الأدب الإنكليزي، ولا يعرفون عنها شيئاً، باستثناء جندي واحد قال لي بالنص: (I know him as a person). وأفادوا بأنهم التقطوها من أفواه العراقيين، وتداولوها ليفهموا فيما بعد أن (علي بابا) تعني (اللص) أو (الحرامي)، وأنه ليس صحيحاً ما أشيع بأن الأمريكيين كانوا يقصدون بذلك وصف الشعب العراقي بأنه (حرامي)، وهي إساءة بالغة من مغرضين، بعضهم من العرب للأسف الشديد.
الأعلام.. والقنوات الفضائية
معلوم أن الإعلام يقوم على مبدأ الإثارة.. أي السعي وراء الحدث الذي فيه إثارة، والذي حصل أن القنوات الفضائية سارعت وأخذت تتسابق في بث الصور الحية لحالات النهب والفرهود، وفي مقدمتها: الجزيرة، أبو ظبي، والعالم، وقنوات أجنبية CNN وBBC. وقامت الإذاعات العربية، بالتركيز على تغطية أعمال النهب والفرهود.
لقد عمل هذا النقل المضخم لأعمال النهب والفرهود، في بغداد العاصمة بشكل خاص، على إشاعة العدوى بين الناس، فقد وقعت القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية تحت تأثير مفاجآت الحدث والتسابق الإعلامي فيما بينها، فأبعدها هذا التأثير عن أمرين: النقل الموضوعي للحدث بالتركيز على أن القائمين به نفر محدود بمواصفات معينة، وليس بالصيغة التي أوحى نقل الخبر بأنها تشمل عامة الناس، وإغفالها إبراز الحالات الإيجابية لغالبية الشعب العراقي الذي لم يشارك في هذه الأعمال، والذين قاوموا مرتكبي أعمال النهب والفرهود، ولم تركز على ذلك إلا في الأيام الأخيرة، وبعد أن جاءت النار على كل الحطب.
تأخـر الـرادع الدينـي
وقف رجال الدين من البداية ضد القوات الأمريكية، ووصفوها بأنها غازية ومحتلة، وحرموا التعاون معها، ولما انفلت الأمر وعمت الفوضى، لم يعمد رجال الدين إلى إصدار الفتاوى بتحريم أعمال النهب والفرهود إلا في وقت متأخر ما عادلها فيه من مستجيب في بغداد بشكل خاص، إلا في منطقة واحدة هي مدينة (الثورة) وبنطاق محدود، وبعد أن شاع بين الناس وعبر القنوات الفضائية، أن أهالي هذه المدينة هم الذين بدءوا أعمال النهب والفرهود في بغداد، وربما كانت هي المدينة الأكبر في بغداد التي غصت جوامعها بإعادة المواد المسروقة إليها تلبية لنداءات رجال الدين فيها، وهي حالة تدعم ادعاءات الطرفين!
من هم القائمون بأعمال النهب والفرهود؟
يمكن تصنيف القائمين بأعمال النهب والفرهود التي وقعت في بغداد لحظة انهيار النظام العراقي السابق، بالآتي:
1- المجرمون واللصوص:
قام النظام العراقي في الأشهر التي سبقت دخول القوات الأمريكية إلى العراق بإطلاق سراح جميع السجناء، وظهر المسؤولون آنذاك على شاشة التلفاز يتباهون بأن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي فيه السجون الآن خالية تماماً.. وأشارت الصحف إلى أن عدد الذين خرجوا من هذه السجون كان بالمئات، فضلاً عن الذين خرجوا من السجون، ممن حكموا بعد العفو، والموقوفين في مراكز الشرطة، أثناء الأحداث، فارتفع العدد إلى الآلاف كما أشارت صحف أخرى، وبالتأكيد أن هذه الإعداد الكبيرة من المجرمين توزعت بحسب منشئهم الجغرافي على مناطق متعددة من الأحياء الشعبية، ولأن هؤلاء، أو غالبيتهم المطلقة، اعتادوا على الجريمة، وأن ضميرهم الأخلاقي متهرئ ولا يحللون ولا يحرمون.. ولأسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية، فأنهم وجدوا لحظة انهيار النظام، فرصة العمر الذهبية في أخذ غنائم ما كانوا يتوقعون أن يحصلوا عليها حتى في أحلامهم.. وبأيسر السبل وأسهلها، ونعتقد أن هؤلاء المجرمين واللصوص الذي انظموا إليهم أو شاركوا معهم، هم الذين قدحوا زناد أعمال النهب والفرهود، وأنهم عملوا على زيادة انتشارها بتكرار هم لها يومياً.
كما أن سيكولوجية هؤلاء المجرمين تفيد بأن معظمهم يكون مشحوناً بالعداء ضد المجتمع والملكية العامة، ولدى الكثيرين منهم استعداد وراثي (جيني) للجريمة، وهم بطبيعتهم، مغامرون، ومجازفون، يستمتعون بارتكاب الجريمة، ويرون في استعراضهم لها أمام الناس نوعاً من البطولة الشخصية.
2- الفقراء والمحرومون:
وبوصفي شاهد عيان، فأن الذين شاركوا في عمليات النهب والفرهود، كان معظمهم جاء من الأحياء الفقيرة، وكان السبب الرئيس لقيامهم بذلك أنهم فقراء وجياع ومحرومون فعلاً. فبعد أن أحرقت موارد نفط العراق في حربين مدمرتين، دخل العراقيون في حرب اقتصادية كانت هي الأقسى والأطول في حصار امتد لثلاث عشرة سنة والمفارقة، أن الحصار الذي صاغه مجلس الأمن الدولي ليكون عقاباً للنظام على اجتياحه الكويت، تحول إلى أن يجعل النظام أٌقوى وأغنى وأكثر شرهاً، والشعب أضعف وأفقر وأكثر شقاء.
وكما المحنا، فأن النظام عمد منذ منتصف السبعينات إلى إعادة توزيع الثروة وبدأها بأن وضع اليد على المحال التجارية في أكبر منطقة تجارية في بغداد، هي (الشورجة) التي كان يسيطر عليها التجار الشيعة، وعمد إلى إجراء مزايدة علنية لها حصرها تقريباً بين أشخاص من صلاح الدين ومن الموالين للنظام، واستولى قادة الحزب والمسؤولون في النظام على أفضل الأراضي وحولوها إلى مزارع خاصة.
باختصار، احتكر المسؤولون في النظام الثروة وعاشوا في عالم خرافي، وتركوا معظم الناس يتضورون جوعاً في عالم من المآسي جلبها النظام لهم، ومن يكون حاله هكذا، في وضع حاد التناقض وظرف كهذا، فأن نهب الممتلكات الخاصة والعامة المرتبطة بالنظام، يكون وسيلة مشروعة يرى فيها الفقراء أنهم يستردون حقاً كان النظام هو البادئ بسلبه ونهبه، ومرة أخرى، فأن هذا لا يعني أن جميع الفقراء شاركوا بعمليات النهب والفرهود، بل أن غالبيتهم لم تشارك، ولا يعني أن الأغنياء لم يشاركوا، فبعض منهم شارك فعلاً، ولكن ليس بنهب كراسي ودواليب، أنما ما خف وزنه وغلى ثمنه.
3- العسكريون من الجنود:
تعرض الجندي العراقي إلى إهانة قاسية مست شرفه العسكري وأذلته بالانهيار المريع للجيش العراقي في حرب الخليج الثانية، وما نجم عنه من حالات تمرد هي في الحقيقة محاولات لرد اعتبار من قيادة غير مؤهلة عسكرياً، وقيادة سياسية ورطته بما اســمته (تحرير الكويت) تبين له فيما بعد أنه غزو أحمق.
وعندما ادخل في الحرب الأخيرة، كان معظم الجنود غير مؤمنين بها، ليس فقط كونها غير متكافئة، بل أنهم رأوا فيها (لعبة) جديدة، وأنهم ضحاياها كما كانوا في حرب إيران وحرب الكويت، ولهذا كان الجندي العراقي يتمنى الخلاص من الجيش، الذي كان الانتماء له في زمن أبيه وجده يعد شرفاً رفيعاً.
فضلاً عن ذلك، فأن الجندي العراقي كان يعاني الإذلال والتمييز حتى داخل مؤسسته العسكرية عندما يقارن بينه وبين الجندي في الحرس الجمهوري مثلاً، وأن النظام أفسده أخلاقيا بأن أشاع الرشوة بين الجنود وأمرائهم، وجوعه اقتصادياً، فيما كان قادته الكبار وبعض صغار البعثيين من الاستخبارات العسكرية والحلقات الأخرى المرتبطة بقيادات النظام ينعمون بالخير الوفير.
وقبل انهيار النظام في التاسع من نيسان، كان الجيش النظامي قد انهار معظمه من الداخل، ولهذا ترك الجنود وكثير من الضباط، ساحات القتال وكان معظمهم أخذ معـه (دشاديش) أو لبس (البجامات) تحت ملابسه العسكرية، وكأنهم كانوا يتوقعون الهزيمة، واختلطوا بالناس ليضيعوا بينهم.
وكان بعض الجنود من غير المنضبطين، ومن الذين يغلون حقداً ضد النظام ولديهم خبرة سابقة في غزو الكويت، شارك في عمليات النهب والفرهود لأسباب اقتصادية ونفسيه بالدرجة الأولى.
4- عناصر مخربه:
يمكن تصنيف هذه العناصر على النحو الآتي:
أ- العناصر الموالية للنظام: من خبرة سابقة بسقوط أربع عشرة محافظة بعد الهزيمة المنكرة للنظام في غزوه الكويت عام (1991)، وما حل بأعضاء حزب البعث في هذه المحافظات، وبعد أن تأكد أن النظام الذي انهار في التاسع من نيسان أصبح حقيقة واقعة قامت عناصر من حزب البعث بتدمير مقراتهم ونهب ما فيها، حفاظاً على سلامتهم من جهة، وتأميناً اقتصاديا لمستقبل اسود أدخلهم النظام فيه.
ويشاع بين الناس أن العناصر المرتبطة بالمؤسسات الأمنية للنظام (المخابرات، الأمن العامة، الأمن الخاص…) وهي عناصر متدربة وتعرف الأمور على حقيقتها، أدركت أنها ستكون هي الأكثر تضرراً فسارعت إلى التدمير (لحماية نفسها من انتقام محتمل) ونهب ما كانت تحسبه أن ممتلكات النظام هي حق لهم.
ب- أياد عربية.. وأجنبية: وأشيع بين الناس أيضاً عن أن عدداً من العرب، دخلوا العراق وقاموا أو شجعوا على أعمال النهب والتدمير، وأشيع أيضاً أن عدداً من الإسرائيليين دخلوا مع قوات الائتلاف، أو قبيل دخولها عن طريق الشمال.. وأنهم لكرهٍ خاص للعراقيين ولحضارتهم وتاريخهم، وانتقاماً للسبي البابلي لليهود، قاموا أو شجعوا على أعمال النهب والتدمير.
حــرائق بغـــداد
وبوصفي شاهد عيان فأن الحرائق في بغداد بدأت في (12 نيسان 2003)، ففي هذا اليوم شهدت العاصمة بغداد يوماً اسوداً في تاريخها، فبعد أن تم نهب المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية وقصور وبيوت رموز النظام، جرى إشعال الحرائق فيها.
لقد شهدت في هذا اليوم (12 نيسان 2003) اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، والركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل (وهي واجهة حضارية من إبداعات الفن العراقي المعماري)، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ومبنى وزارة الإعلام وجميعها قريبة من الحي الذي اسكن فيه وكنت أرى الحرائق أينما أدرت وجهي في سماء بغداد. باختصار: كانت بغداد تحترق في هذا اليوم والأيام التي تلته، في عملية كانت تبدو لنا عبثية وغير منظمة، ثم اتضحت بعد ذلك بأنها منظمة، وساد الاعتقاد بأنها منظمة وفق تخطيط معين والسؤال الذي يهم المعنيين بالدراسات النفسية هو:
لماذا يتوجه السلوك الجمعي في الحشد إلى إشعال الحرائق في المباني العامة بعد نهب محتوياتها؟
ان الإجابة بخصوص ما حدث من حرائق في بغداد لا تقتصر على الأسباب النفسية لجموع الغوغاء، بل تداخلت معها أسباب سياسية، يمكن أجمالها بالآتي:
1- الإتلاف.. ومحو الأدلة
تمتلك المؤسسات ذات الطبيعة الخاصة المرتبطة بقيادات النظام (المخابرات، الأمن…) ومقرات الاجهزة الحزبية، المنتشرة في جميع أحياء بغداد، وثائق وتقارير ومستندات وأوراق… يمكن أن تستخدم أدلة تدين هذا المسؤول أو ذاك.
ولهذا السبب، ولتجربة سابقة تعود إلى عام (1991) وما جرى للبعثيين في أربع عشرة محافظة بعد هزيمة النظام في حرب الكويت، فأنه يعزى إلى عدد من العاملين في أجهزة المخابرات والأمن وتشكيلات حزب البعث والمتضررين من سقوط النظام، القيام بإشعال هذه الحرائق، كي لا يبقوا أثراً لأي دليل يمكن أن يستخدم ضدهم.
وهنالك سبب نفسي لدى المتضررين من سقوط النظام، هو أنهم يرون بأن المؤسسات الحكومية وما في بغداد من عمارات جميلة تخص الدولة، إنما هي تعود كلها للنظام، وعليهم أن يسلموها رماداً لمن أطاح بهذا النظام ومن سيخلفه.
2- أصحاب الحيف… والسحر الرمزي
عندما يريد الساحر تدمير شخص معين، فأنه يضع دمية على غرار عدوه، ويدمرها بالطريقة التي يختارها، طعناً بالسكين أو غرقاً أو حرقاً.. وكأنــه بهذه الطريقة السحرية (القائمة على المحاكاة) يدمر عدوه الحقيقي.
وقد يطلب (الساحر) من الزوجة التي تريد قتل زوجها أن تأتيه بخصلة من شعر رأسه، ويقوم بحرقها في طقس معين، ويعد الزوجة بأن مصير زوجها سيشوى بالنار.. وهذا هو السحر الرمزي الذي يقوم على (مبدأ): أن إنزال الأذى بالرمز البديل هو إنزال لنفس الأذى بالمقصود فعلاً، لقد تبين فيما بعد أن النظام كان بمنتهى القسوة في تعامله مع الناس، وأكثرها إيلاما، اكتشاف القبور الجماعية، زد على ذلك الذين أضطهدهم النظام اقتصادياً واعتبارياً ونفسياً.
ويمكن أن نستنتج بأن بعض الذين شاركوا في أعمال الحرق للمباني والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، هم من هذه الفئات المنكوبة (زائداً المراهقين المنفلتين الذي يستمتعون بأعمال العبث). وإنهم مارسوا بذلك تفريغاً نفسياً في سلوك جمعي قريب من الطقس السحري، يوحدهم في لا شعورهم الجمعي هدف أن لا يبقوا أثراً لمن كان يظلمهم، فوجدوا في النار ابلغ وسيلة تشفي غليلهم، فعملية الحرق لا تعني فقط إفناء الشيء من الوجود، بل وتعني، في فعلها النفسي، أن صاحب هذا الشيء يتقلى أمامهم في النار!
ختــامـاً: أن هذا تحليل سيكولوجي عام لما حصل في بغداد من أعمال نهب وفرهود لدى سقوط النظام في التاسع من نيسان، وهو بالتأكيد لا يستوعب حجم ظاهرة آلمت العراقيين بمرارة فأحزنتهم وأدمت قلوبهم، وستبقى في ذاكرتهم يروون لأحفادهم ما حل ببغدادهم الحبيبة، فضلا عن أن المغرضين استغلوها ليعطوا صورة سلبية عن الشعب العراقي، وهي صورة مغايرة للواقع، ولما هو معروف عنه من أصالة القيم والتزام بتعاليم الدين والأخلاق.
ولتحليل اشمل وأعمق، فأن الأمر يتطلب قيام طلبة الماجستير في أقسام علم النفس والاجتماع لدراسة هذه الظاهرة التي نأمل أن تكون خاتمة السوء لتاريخ طويل من النهب والفرهود عاشته بغداد، ذلك أنني على يقين بأن التاسع من نيسان 2003 يؤشر نهاية مسلسل حكم الطغاة في العراق.



#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)       Qassim_Hussein_Salih#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقفون الكبار ... وتضخّم الأنا
- ظاهرة النهب والسلب والفرهود في مدينة بغداد بعد سقوط النظام
- ظاهرة النهب والسلب في مدينة بغداد بعد سقوط نظام الحكم في الع ...
- الفصام ( الشيزوفرينيا )( 4 4 )
- سيكولوجيا البحث عن الخلاص ..بزيارة الأئمة والأولياء القسم ال ...
- سيكولوجيا البحث عن الخلاص ..بزيارة الأئمة والأولياء...القسم ...
- الفصام ( الشيزوفرينيا ) ( 3 4 )
- الفصام ( الشيزوفرينيا )( 2 4 )
- الفصام ( الشيزوفرينيا )( 1 4 )
- سيكولوجيا فوز الفريق العراقي
- المجتمع العراقي.. والكارثة الخفية
- تصنيف الأكتئاب وعلاجه
- أنا أنافق ..إذن أنا موجود!
- التوحّد- القسم الثاني -د
- التوحّد- القسم الاول
- لماذا يحصل هذا للعراق والعراقيين ؟!
- أستاذ ( مجنون ) يحصل على جائزة نوبل !
- العراقيون ..وسيكولوجية الاحتماء
- الرهاب ( الخوف المرضي )
- الاضطرابات النفسية الجسمية ( السيكوسوماتك )


المزيد.....




- -التعاون الإسلامي- يعلق على فيتو أمريكا و-فشل- مجلس الأمن تج ...
- خريطة لموقع مدينة أصفهان الإيرانية بعد الهجوم الإسرائيلي
- باكستان تنتقد قرار مجلس الأمن الدولي حول فلسطين والفيتو الأم ...
- السفارة الروسية تصدر بيانا حول الوضع في إيران
- إيران تتعرض لهجوم بالمسّيرات يُرَجح أن إسرائيل نفذته ردًا عل ...
- أضواء الشفق القطبي تتلألأ في سماء بركان آيسلندا الثائر
- وزراء خارجية مجموعة الـ 7 يناقشون الضربة الإسرائيلية على إير ...
- -خطر وبائي-.. اكتشاف سلالة متحورة من جدري القرود
- مدفيديف لا يستبعد أن يكون الغرب قد قرر -تحييد- زيلينسكي
- -دولاراتنا تفجر دولاراتنا الأخرى-.. ماسك يعلق بسخرية على اله ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - قاسم حسين صالح - ظاهرة النهب والسلب والفرهود في مدينة بغداد بعد سقوط نظام الحكم في العراق....القسم الثاني