أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منير العبيدي - السعدية و العولمة و حرية النشر الجزء الثاني















المزيد.....


السعدية و العولمة و حرية النشر الجزء الثاني


منير العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2017 - 2007 / 8 / 24 - 05:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كان النشر في الصحف في كل الدول العربية ، التي لم تشهد تجربة ديمقراطية على الاطلاق ، بيد الساسة سواء كانوا في السلطة أم لم يكونوا فالصحافة هي اما صحافة حكومية أو صحافة احزاب ترضى عنها الحكومة أو منظمات تابعة للحكومة أو لهذا الحزب أو ذاك و بذا كان النشر بيد الساسة على و جه الحصر . و هذا السلاح استخدم اما للابتزاز أو للترويض ، أي ترويض المثقف ، أو للاقصاء . و يتم ذلك باقصاء اسماء معينه من قائمة المسموح لهم بالنشر بغض النظر عن موضوع المادة ، فالمشاكسون و غير المداحين ، و الناقدون و الذي لا يستجيبون لرؤية السلطة حكومية كانت أم حزبية لا يتمتعون بحق النشر .
و لكن الزمان تغير بظهور شبكات الانترنت و الصحف الألكترونية . ففي الإقتصاد و في مجال النفط على وجه التحديد توجد مصطلحات مثل سوق البائعين و سوق المشترين . سوق البائعين تعني أن البائع هو الذي يقرر السوق بسبب كثرة الطلب و قلة العرض و العكس صحيح . و اليوم بحلول عالم الانترنت انتهى الى الأبد سوق الناشر و بدء سوق الكاتب . فالعشرات من مواقع الانترنت ترغب في الحصول على كتاب ، و الكتاب أو كل من يستطيع الكتابة حتى لو لم يتمكن منها تماما بامكانه ان ينشر في هذا الموقع الألكتروني أو ذاك ، بل بات بمستطاع المرء بمبلغ بسيط أن يؤسس له موقعا الكترونيا و ان ينشر كتاباته أو لوحاته ... الخ ، و جردت الصحيفة الألكترونية الصحف التقليدية التي تطبع على الورق من احتكارها للنشر ، و انزلتها من عرشها و بذا جردت السياسي الشمولي من احدى وسائل النفوذ حيث كان قبلها يتحكم بالنشر جاعلا من نشر موضوع لشخص ما امتيازا له و مكافأة على حسن السلوك .
و لكن زوال مسببات الشيء لا تعني اوتوماتيكيا ان البعض سوف يدرك هذا التغيير و مغزاه و عواقبه فورا ، فقوة العادة أو الفكر تستمر حتى بزوال اسبابه . و لذا لا زال البعض يعتقد أن عليه أن يحرم هذا الكاتب او ذاك من النشر في الصحيفة او المجلة من النشر ضانا بذلك انه يعاقبه ، في الوقت الذي يشكل هذا الحرمان عقوبة للصحيفة نفسها بخسرانها احد الكتاب و لجوءه الى النشر في مجال آخر .
هذا ما أراه سببا في عدم ايصال الموضوع الذي كتبته عن الشاعر ابراهيم البهرزي الى الثقافة الجديدة من قبل معتمدها ، و هذا التصرف ، أي عدم ايصال الموضوع ليس عملا منافيا للديمقراطية و حرية النشر فحسب بل هو خيانة للأمانة ، فالمندوب او متعمد المجلة او الصحيفة اشبه ما يكون بالوسيط المسؤول عن ايصال المادة الى الجهة المعنون اليها و إذا ما أخل بذلك فإنه خان الأمانة .
أدناه الموضوع الذي لم يصل الى الثقافة الجديدة و عدا الفقرة الثانية أعتبارا من نهاية هذه الفقرة حيث انها لم تكن قد ارسلت في الموضوع الأصلى و أضيفت اليه بسبب عدم نشره ، عدا ذلك ارجو من القارئ أن يشاركني في المحاولة لمعرفة ما هو الضار و المؤذي في الموضوع ؟
الموضوع
في مجموعته الشعرية صفير الجوال آخر الليل
ابراهيم البهرزي
التوق الى الحرية المستحيلة
إبراهيم البهرزي من الشعراء الموجــودين بقوة على السـاحة الادبية منذ ثلاثة عقود من الزمــن وبالرغـــــم من إن لديـه سبع مخطوطات شـعرية وروايـــة، والعديــد من القصــائد الا أن مجموعته الشـــعرية هذه( صفــير الجوال آخر الليل ) والنصـــوص المنشورة فـــي الصــــحف العراقية والعربية، هي المجموعة الشـعرية الاولى المطـــــبوعة والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالاشتراك مع منشورات ( ضفاف ) في النمسا . يقول إبـــراهيم أنـــه فقد مصير أربع مجموعات معدة للنشر إثنان منها في دار الشؤون الثقافية في بغـــــداد وأخريتـان مع شـــاكر نوري فــــي باريس والقاص صـلاح صلاح في عمان ، وهو يذكر ذلـك في تقديمه لنفسه ، عـــلى الصفحات الاخيرة لمجموعته الشـعرية هذه ، لغرض ( التوثيق والامانة التاريخية) !!
ولكن ابراهيم البهرزي الذي يقول بأنه : ( يؤجل الموت بحيل الشياطين ، لكي يحظى بحياة تخربها الملائكة ) لم يروِ لنا حدثاً آخر قامت به ( الملائكة) بسبب وقوعه بعد صدور مجموعته الشعرية هو : أن مجلة شهرية ثقافية عراقية يسارية امتنعت عن نشر موضوع عنه أعيد إرساله إليها مرات ، ولم تقم بالالتزام بما ألزمت نفسها به : إخبار المرسل عن النشر أو عدمه خلال شهر !! لقد تنّكر لإبراهيم أولئك الذين من أجلهم تنكرت له سلطة غاشمة طيلة ما يزيد عن ربع قرن ، فهو الذي يرى في قصيدته " ها أنت أيها الفاجعة " أن : ( ما توهمناه دليلا في عصبية العواصف / ينحدر ببوصلته على كرسي نقّال الى الخرائب ) ، وهو الذي يرى أن الحقيقة مثله تماماً : ( غرابٌ أبيض / تنبذه الأسراب المشابهة ولا يؤالف اليمام ) وسنرى في ما سيلي فيما إذا كانت تبرمات إبراهيم البهرزي ومراراته وشعوره الملازم بالغبن ، والتي تتخلل قصائده هنا وهناك ، والمرصودة من متابعيه وأصدقائه والنقاد على حد سواء ، هي وهمٌ أم حقيقةٌ كرستها الشللية و الولاءات الزائفة والنفاق الذي توّج الحياة الثقافية والسياسية ، ووسمها بميسمه :

يزعمون
أنني ما قاتلت بقسوةٍ
سُرّاق الزهور المنزلية ،
من أقاتل :
الحدائقي؟
بائع الزهور ؟
البرد والجفاف ؟

يزعمون
أنني لم أغادر محاجر الطاعون ..
هذا مرضي
غير معدٍ
ولا أتنقل فيه زوراً وزيارات ،
مثل قابيل المستوحد
مع جثةٍ عزيزةٍ
وغرابٍ حقود

* * * *
ابراهيم البهرزي مثال قل نظيره من الناس ، شعراء كانوا أو غير شعراء ، من فاقدي الحرية والمتطلعين اليها بلهفة ، أولئك الذين حرموا من الحرية بقدر شغفهم بها . مثال صارخ على ذلك النوع من الناس الذين عزز الشعر حساسيتهم دافعا إياها إلى ابعد مدياتها ، جاعلا من نفسه ـ أي الشعر ـ ألازمة والحل مهما كان قصيرا خاطفا وغير مشبع . وبالرغم من ولعه حد الهوس بالمكان ـ بهرزـ التي تسمّى هو باسمها ، والتي تَطبّعَ الكثيرُ من شعره بطابعها وكانت مصدرا مهما لصوره الشعرية والتي سنجدها في إحدى قصائده ( يتيمةً ) ، إلا أن مفهوم الحرية لديه قد ارتبط بالقدرة على مغادرة المكان ، أنه يرغب كما سنرى لاحقا أن يؤمن هذه الامكانية نظريا على الاقل ، فهو نفسه سيفند لاحقاً فكرة البحث عن الحرية في مكان آخر ، فالفرق كبير بين فقدان الحرية نتيجة إستلاب قسرى متسلط وبين عدم الرغبة في إستخدام الحرية المتاحة، انه يرغب في أن يؤمن لنفسة القدرة على المغادرة كما تفعل الطيور، ففي قصيدته الطيورّي يخاطب إبراهيم الطيور متسائلا باستنكار:

اذا كنا خرجنا من ترائب وأصلاب
غرقى في ماء دافق
من ذا خلع أجنحتنا وأطلقك أيتها الطيور؟

ولكنه قبل ان يتمادى في إلقاء اللوم على خطأ بايولوجي يلتفت الى نفسه :

من يمنعني عن الطيران
غير يدي التي تمسك الاشياء الثقيلة
وقدمي التي تدوس على فضائل الموتى؟ّّ!
واحمّل بالامانات
كبعير ابله

حين نلتفت الى الوراء ، كما فعل هو، ناظرين الى ما أنقضى من العمر باحثين في ماضينا الشخصي وماضينا الجمعي سوف نطرح على انفسنا السؤال التالي : " هل نحن أحرار حقا؟، ومن المسؤول في أن نكون ناقصي أو معدومي الحرية ؟ ماهي مسؤولياتنا في أن نكون أحراراً ؟ وهل يستطيع أحد ما حقا أن يسلبنا الحرية الا بالقدر الذي نرغب نحن فيه ؟ " ، سنلجأ ، إن كنا جادين ومنصفين وباحثين بجد عن الحقيقة ، الى تشخيص مسؤوليتنا في أن نكون مستلبين مهزومين وفاقدي الارادة ذلك لأننا :

نختزل نزوة الصعود
بنزوة معاكسة
لان أيادينا
لا تجيد غير التلويح للطيور
كسولة
كسولة جدا عن محاولة الطيران

فأولئك الذين لم يطيروا لا يجيدون غير التلويح للطيور وأياديهم كسولة حتى عن المحاولة ونزوة الصعود مستبدلة بنزوة النزول .
الحرية هي ممارسة ذاتية خارج أي ظرف . و إن إلقاء اللوم على كل شئّ إلا الذات وترقب حصول المعجزة ، بطريقة ما ، في وقت ما ، هو أحد أمراضنا المزمنة .
الحرية هي مصنوعاتنا ، ولن يقوم بصناعة حريته الا ذاك الذي يعتقد ويؤمن بجدوى هذه الصناعة ، وهي صناعة خطيرة ،لا يقدم عليها الا ذاك الذي لا يوغل في الحسابات والمخاوف ، ذلك الذي لا يبحث عن حل فردي لحريته والذي لا يوهم نفسه بأن هروبيته ومغادرته الى مكان ما ، هناك حيث يجد الحرية جاهزة ، هو الحل الامثل... قبل قرن ونيف رأى ماركس ، المولع بتحرير الانسان ، أن " الحرية هي ادراك الضرورة" وقد تطلع الى الشروط التى تقود الى ملكوت الحرية .. كان ماركس يسعى مسعى فلسفيا ابعد مدى من تساؤلاتنا ومن مراراتنا الذاتية ، ولكن السؤال مع ذلك يبقى مطروحا : اليس معرفة المرء بالاسباب السالبة لحريته هي الخطوة الاولى للحصول عليها ؟؟ هل يكون الطيران ممكنا بدون معرفة قانون الجاذبية تلك التي اعطاها ابراهيم اكثر من مغزى ؟ (ياعذاب ثقال الجسوم في جاذبية ظالمة) .. اما الطيور التي تبطل مفعول الجاذبية برفيف اجنحتها ، فانها تخلق حريتها بجهد فيزياوي محض دون الحاجة لمعرفتها بالضرورات. وابراهيم الذي لم تسعفه أية اجنحة للطيران ، حتى ولا أجنحة الشعر ، يقسم مخاطبا ( بان سامي رامز):

بزوجتي وأطفالي الخمسة
سأعلن الطيران
عن الارض التي أثقلتني كثيرا
الى السـماء التي رهّفتك كثير


لكن إبراهيم لن يحلّق الا في فضاء الشعر بالرغم من القسم، وبسبب القسم وهو الذي أعلن قبل أن يقسم:

أنا والطيور
تقاطعان
يحملان برفقٍ
جسد الكتابة الصليبية

كانت المغادرة ، مغادرة المكان ، هي الحرية المفترضة التي سرعان ما تتبخر ، ليحل محلها الحنين المعذِب للمكان ، فأولئك الذين لم يحصلوا على الحرية في أوطانهم سوف لن يكون بوسعهم أن يحصلوا عليها في مكان آخر . فهذا المولع بفردوس المكان يغبط الطيور ليس لانها قادرة على المغادرة بل بالعكس لانها قادرة على العودة ، فالحرية ليست في كل الاحوال طريقاً وحيد الاتجاه .. فعود منير بشير ( بخمسة شرايين أقلها الندم هو الذي يدل على قبور العراقيين الضوّاعة ببخورها في مقابر الغرباء الواثقة من قوة صلبانها ).. وحيث رماد جثمان فائق حسن ( الذي حملته خيول الحنين من تحت قوس النصر باتجاه ساحة الطيران لم يصل طريبيل ) . ففائق حسن المقتول في باريس حنيناً( لازال العرفاء السمجون تحت جداريته يأكلون البيض المسلوق والبطاطا ويضرطون بعرامة).
ويطرح ابراهيم على نوري جعفر ، في قصيدته ( مراثٍ بغدادية ) ،الاسئلة نفسها التي يطرحها على نفسه مفنداً وهم البحث عن الحرية خارج الوطن : ( ماذا في الصحراء الكبرى ؟ في ليبيا ؟ في مفازات الطوارق ؟ في أبجديات الأمازيغ؟ في ( كسكسي ) المهاجرين ....غير أن تموت بعيدا؟! ).. ها هي ذي اذن ، وفي نفس السياق ، تمزقات عبد الوهاب البياتي الذي عاش وترعرع بباب الشيخ ببغداد حيث يطوف الفقراء حول قبر الشيخ عبد القادر ويصيحون : ( يا عبد القادر إن كانت في صحنك جُلّ طفولته ولم تشفع كل كراماتك للشيخوخة ... متى تستذكر رحلتك من كيلان لبغداد وتدرك شهقة كل مهاجر؟ ) هي نفسها تمزقات غائب طعمة فرمان الذي يرى ابراهيم أنه : ( منذ غياب البهجة عن بغداد ـ موجوداً كان يراقب أحوال الرقّ الملتجئين الى رقّ ) وهي أخيرا تمزقات ابراهيم نفسه ، حيث ما ننتمي اليه تم تمزيقه بصورة منهجية لمسح ذاكرتنا وحقننا بذاكرة جديدة ، فخيول فائق حسن : (تفر من شناشيل كاسفة، آسفة لاقتلاع أنيسها الوحيد الجسر الحديدي الانكليزي ، وموت القطار الاخير الذي الذي يصفر في برية المدينة).
كان إبراهيم يدرك انه محاصر بين المكان الذي لا يرغب بمغادرته ، ولكنه لا يمتلك القوة لحمايته من منتهكي الذاكرة ، وبين المغادرة التي لا تمثل سوى الحرية / الوهم
كان إبراهيم يدرك الخلل في المهرب المفترض الى الحرية /الوهم . ولكن الحرية المفترضة هي كوة ضوء في اللاوعي وملاذ سرعان ما يتبدد بإعادة حسابات عقلانية تتسلل بين الفينة والاخرى ، كوة ضوء في الجدار الصلب للعسف الذي بدا أزلياً و غير قابل للقهر ومهربٌ وملاذ لم تبرره تجارب كل الباحثين عن الحرية خارج حدود الوطن . ولكنه حلمٌ ضروري بقدر لا واقعيته ، انه يشبه خيبة أمل غير المؤمنين بعدم وجود الجنة. والحال إننا قد دأبنا منذ زمن طويل على البحث عن الحرية في المكان غير الصحيح ، وهنا بالذات يكمن سر حرماننا المزمن منها وخوفنا حتى من قدومها المحتمل.
.. يضرب ابراهيم حجري التضاد ، التضاد الكامن في التطلع الى رفيف الاجنحة باعتبارها رمزا للحرية من جهة ، وعدم الجدوى الملازم للمغادرة والتغرب من جهة أخرى ، كما دلت تجارب الآخرين حيث لا مكان يتسع للحرية ولا يتسع حتى للطيور، موقدا بشرارته نار الشعر الساخط الذي يحطم ما حوله لبناء فردوسه الشعري ، حيث فيه يجد الحرية الحقيقية ، ولكنه يجد أنه حتى عزلته الأثيرة في بهرز قد انتهكت حين يمر في بساتينها :

أعرابي سفيه
يحرث الذكريات
بمحاريث القحاب والقوة

هذا السفيه هو نفسه الذي فرّخ العرفاءَ السمجين الذين يأكلون البيض المسلوق والبطاطا تحت جدارية فائق حسن والذين ( يفرغون جيوب الجنود المهازيل و طفولاتهم من آخر لون وحيد أبقت عليه الحروب ).

* * * *

أثارَ الغزوُ الهمجي لمراكز الحضارة حفيظةَ إبراهيم الشعرية . فالقادمون الجدد ،مستحدثو النعمة ،قد أنتهكوا المدينة والمراكز الحضرية ، حاملين معهم سلوكا وذوقا منحطا ، فالطبقة الوسطى والمدينيون ، الذين بات من المستحيل كسب ودهم تحت أية يافطة للمداهنة ، تم اقصاؤهم بفظاظة ، وأحياناً بدموية ، من المسرح الاجتماعي . كانت مراكز البداوة ، فيما سبق ترشح ببطئ الى المدينة ما تستطيع المدينة هضمه واعادة تأهيله ، ولكن الغزو الاجتماعي واسع النطاق و المخطط بعناية قد أغرق المدينة ومسح معالمها ، كان ثمن الحروب على الجيران وعلى الداخل السماح للمولعين بهذه الحروب ، كبطولة بدوية ، و كرد للجميل ، باستباحة المدينة ومسح ملامحها :

طافحون من مجرى التركات الهُمل
يقطفون جنة الانهار البائدة
و يرتكبون المباهج على مقبرة الابرياء الخضلة
جُوَفٌ يمتلئون بعصير الارواح المصهورة كمدا
وينعمون بمغنانم الحروب المتبرعمة من سماد الجثث

هذا هو الازدراء الجميل !

إنه السخط النبيل للمراقب اليقض المفعم بالمسؤلية إزاء مصائر أشياءنا الجميلة ، المكان والانسان، والآيلة الى الخراب بفعل مخطط تدميري ، وهو المحرك الذي لا يكل لشعر ابراهيم الذي لا يمتلك سوى قوة الكلمة ، حيث لا حول له سواها ، ازاء الراقصين على جثة الوطن . يوغل ابراهيم في ابراز الجمال الكامن في المكان والانسان وفي طفولته التي يرثيها لانها غادرته وتركته وحيداّ ناضجاً مدركاّ هول مأساته ، كان المطر يغسل قلبه تماما وبعد كل شتاء في الربيع المحموم ( أجدني طفلا في السادسة بقلب متعب يذهب لمدرسة الازهار بحقيبة ممزقة تتناثر منها رسائل الغرام ) ، وهو اذ يوغل في الجمال فانه يؤجج السخط على أعدائه مستدعيا لغة مفعمة بالقوة قادرة على كنس المستهلك واليومي والمبتذل رافعا إياها الى مصاف الموسيقى ، موسيقى النار .
هذا الغضب هو الذي دفع بلغة ابراهيم الى هذه المديات القصية والذي يصل احيانا الى حد السخط على الذات . ولانه عاش عبدا بما لا يطاق ، فانه كما يقول : يريد من الله ، جنازة تليق بالملوك.
هذا الساخط الشفيف يفصح في أماكن اخرى عن العواطف النبيلة وخصوصا في قصيدته (بهرز اليتيمة )
حيث :
سرعان ما سيقتحم الربيع
بستاناً خجولاً
يورد الجوري وجنته
فيختفر بسعف النخيل الغيور

* * * *

حمل ابراهيم الضمير معه في حله وترحاله ، في رحلاته التي لم يغادر فيها المكان ، لم تشفع له شاعريته وبقي منسيا أومُتناسى ، كان الضمير الذي يركس به معزوفا عنه من الاصدقاء والاعداء في عزلته ، والذي يحمله على ظهره سلاحا فاسدا ، كما عبّر هو ، إمعاناً في الاستياء من الذات ، هو نفسه الذي أضفى الالق على شعره ، فالتمعت لغته متوهجة السطوع ، ففي قصيدته " مكتبة مؤيد سامي * " ، ( وهي المكتبة الوحيدة في العالم التي تنبت في وسطها نخلة تخترق السقف) يجد ابراهيم (الضمير)، الى جوار كتب اخرى ،" كتابا " في المكتبة لكنه دون الكتب الاخرى ليس أنيقاً ، وهو :

جدَّ صغير حتى إن النملة
تعبره بطريق القوت على مهلٍ
متنشقة عبق العرق العُريان
هو ليس ثقيلاً كأضابير التاريخ
بل الساقط من أعلى الرف
على دمعة عين كتمت وردتها

(* حين كان هذا الموضوع قيد الاعداد تناهت الينا الاخبار عن إغتيال المثقف الرائع ، والانسان الوديع صديق الكتب مؤيد سامي امام انظار زوجته وأطفاله امام داره في بهرز.)

* * * *
ولد إبراهيم البهرزي وترعرع في بهرز في محافظة ديالى ولايزال مقيما هناك ، وتركت البيئة آثاراً لا تمّحي على شعره ، تقع بهرز عند إنعطاف فاتن لنهر ديالى محاطة بحشد من غابات النخيل التي تغطي مساحة كبيرة من بساتين الحمضيات وتتخلل بساتينها ودورها العشرات من السواقي ، وفّر جمال المكان وهدوئه جواً من العزلة المتأملة عززه نمط الانتاج شبه البطريركي للاغلبية الساحقة من سكانها و التي تعتمد في معيشتها على الملكية الصغيرة عاليةِ الانتاجية وفق معيار المكان و الزمان ،أواسط القرن الماضي ، كان الدخل المعقول والكدح القليل الذي تحتاجه البساتين قد لعب دورا في تكوين طبقة من المالكين الصغار الواعين والمتعلمين والذين ساهموا والجيل الذي أعقبهم من الابناء والاحفاد بنشاط في الحياة الفكرية والسياسية . كان جمال المكان وشيوع الملكية الصغيرة والتوزيع شبه العادل للدخل قد أوجد القاعدة لنوع من السلم الاجتماعي وروح التسامح والإلفة قبل أن ينتهك كل هذا بفظاظةٍ شموليةٍ دخلت في كل مسامات حياتنا. في هذا الجو نشأ إبراهيم ، وفي هذا المكان كان رقيباً يقظاً للتحولات الارتدادية ، التلوث البيئي والتلوث الاخلاقي وإنتهاك الغزاة الفظ لقدسية المكان ـ بإعتباره منجماً لاينضب لابراهيم و للعديد من الرسامين والادباء والكتاب ـ وكان رقيبا لسيادة البرغماتية البدائية المنحطة على مفاصل الحياة ، حينذاك كدت أبكي وأنا صغير حين قطعت من الجذور شجرة زهرة القهوة الفاتنة ، لتفسح المجال لشجرة منتجة ، وحين غدا جمال المال متفوقا على كل جمال آخر.
لم يكن نعي الماضي ونعي المكان المنتَهك ناتجا عن النوستالجيا أوالحنين للماضي، كان مايجري على مرأى من إبراهيم إرتداد مأساوي كارثي جديربالرثاء والسخط .

المباهج التي صنعت صبوتي :
رفقة في البساتين
عشاق يسترشدون بنهار المدامة
صوب النشيد وفخر النساء
انقضت هكذا
بيدٍ لوحت

في حوار معه أجراه عدنان حسين احمد قال إبراهيم البهرزي عن بهرز : " حين أحدثك (عنها) ينبغي أن أتحدث عن شبق زهر البرتقال في نُوّارات البراءة و الخمرة والوداد الرفاقي ، عن أريحية المقاهي الضجيعة تحت يوكالبتوس ( خريسان ) القديم ، عن المطر الحنون المتشقلب على مراوح النخيل ، عن الرياح الموسوسة التي تدّوم بالطفولة الى أعالي الله ، عن مسارج النفط بفتائل التمر المشعشعة في أكواخ البساتين المعتزلة ، عن القُبل الاولى المهراقة تحت نزيز العنب ، عن الوجوه البُنيّة المنحدرة لشواطئ ( المنتريس ) بوفير الخمر وهدير الاغاني الناحبة ، عن الطيور الطائرة والقناطر البعيدة ، عن ماريجوانا القداح الخجول ، عن زهور الخُزامى السكرى على أسيجة المنازل العالية ، عن سطوة الفلس السحرية في زمان العيد والأراجيح ودواليب الهواء ، عن الجدل الفوّار كأقراص المعدة في كأس العرق الأبيض ، عن التطواف الليلي على دراجة هوائية في أزقة المناديل النسوية الملّوحة ، عن رائحة الرز المحروق وعروق الكباب البيتي في عشايا النفير الى مقاهي الحج المسائي ، عن بيداغوجيا الخمر التي لا تضع القرنفلة الزرقاء إلا في الجيب العلوي لسترة المعلم ، عن الندم يعض كابن عرس أليف في مزغل الحنجرة ، عن ابتسامة من خلف الباب ، وليمونة ريّانة لأجل مزّة الليل ، عن موتي القريب في بستان كريّم الداوود تحت شجرة العناب الوحيدة التي رسمت بها قصيدة ( انتصار حميد ناجي ) في المنفى الهولندي المتفردس ، عن الدم الشاخب على عشبة مقبرة ( أبي محمد ) من توابيت أجمل القتلى ".
ولكن يا عزيزي إبراهيم ان أجمل قتلانا لم يكن لهم لا توابيت لا وقبور !




#منير_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السعدية ، و العولمة و بيان أسباب عدم نشر موضوع البهرزي في ال ...
- الى شيوعيي ديالى الأعزاء .. لا تخسروا ابراهيم البهرزي كما خس ...
- كيف تمكن البعض من تطوير ماركس خلال سبعة أيام بدون معلم ؟
- ملاحظات على برنامج الحزب الشيوعي الجزء الثالث
- ملاحظات على برنامج الحزب الشيوعي الجزء الثاني
- ملاحظات على برنامج الحزب الشيوعي الجزء الاول
- قراءة نقدية في روايتين لصبري هاشم
- العقد الابداعي و النقد
- جدي وحركة التحرر الوطني
- الايام الثقافية العراقية في برلين و تأسيس رابطة فنانين تشكيل ...
- النظرية هي دين القرن العشرين الجزء الثاني
- النظرية هي دين القرن العشرين
- دور القائد : السكرتير الاول في الحزب
- أي بلد هذا الذي ليس فيه نخيل
- عوني كرومي الصورة الاخيرة
- الطبقة العاملة في القرن الواحد والعشرين ...
- في الذكرى الثانية والسبعين لتأسيسه في التحضير لمؤتمره الثامن ...
- حزب مجيد يمثل وحدة الشعب العراقي
- لقطات نسائية
- المثقفون والسّاسَة الشموليون


المزيد.....




- -التعاون الإسلامي- يعلق على فيتو أمريكا و-فشل- مجلس الأمن تج ...
- خريطة لموقع مدينة أصفهان الإيرانية بعد الهجوم الإسرائيلي
- باكستان تنتقد قرار مجلس الأمن الدولي حول فلسطين والفيتو الأم ...
- السفارة الروسية تصدر بيانا حول الوضع في إيران
- إيران تتعرض لهجوم بالمسّيرات يُرَجح أن إسرائيل نفذته ردًا عل ...
- أضواء الشفق القطبي تتلألأ في سماء بركان آيسلندا الثائر
- وزراء خارجية مجموعة الـ 7 يناقشون الضربة الإسرائيلية على إير ...
- -خطر وبائي-.. اكتشاف سلالة متحورة من جدري القرود
- مدفيديف لا يستبعد أن يكون الغرب قد قرر -تحييد- زيلينسكي
- -دولاراتنا تفجر دولاراتنا الأخرى-.. ماسك يعلق بسخرية على اله ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منير العبيدي - السعدية و العولمة و حرية النشر الجزء الثاني