أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا















المزيد.....


حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2017 - 2007 / 8 / 24 - 05:10
المحور: الادب والفن
    


الحلقة
19
Deutsches Theater

ألتقينا على تمام السادسة عصرا أمام المسرح الألماني
حيث جاءت فرقة أسبانية من الغجر كي ترقص وتغني على ألحان أوبرا " كارمن " للموسيقار الفرنسي " بيزيه " . فضلا عن عروض موسيقية راقصة تمثل مقاطع من الرواية الشهيرة ( دون كيخوت ) للروائي الأسباني المعروف " سرفانتس " . يتخلل هذه العروض باقات منوعة من رقصة ( الفلامنكو ) الواسعة الشهرة .
قبل العرض طلب المتنبيء مني أن أشرح له موجزا ما ستقدم الفرقة الأسبانية من عروض . حين سمع اسم ( كارمن ) قال يعجبني هذا الأسم كثيرا . قلت لكن كارمن فتاة غجرية لعوب . ورطت الجندي ( خوسيه ) . فترك خطيبته راكضا وراءها . ثم ورطت الضابط المسؤول عنه . قتل المجند خوسيه ضابطه غيرة منه عليها . طرد من الخدمة فأصبح مثلك عاطلا عن العمل . ثم تركت الأثنين ووقعت في غرام مصارع ثيران " اسكميللو ". قال ذلكم أمر طبيعي . فالغجر أقوام متوحشة ... حسب تعبير أبن خلدون . ومصارعة الثيران عملية قتل وحشية . وعليه لا أجد أية غرابة ان مالت غجرية الى مصارع ثيران مثلها وحشي الطبع والأعداد والمهنة . شبيه الشيء منجذب اليه . عاد أبو الطيب فسأل وما كان مصيرها ومصير من أحبت في نهاية المطاف ؟؟ قلت الموت البربري . قال ماذا تقصد؟؟ قتل خوسيه كارمن قريبا من أسوار حلبة مصارعة الثيران الخارجية اذ كانت تنتظر خروج حبيبها المصارع منتصرا على خصمه الثور المسكين . قال وهل خرج المصارع منتصرا في معركته مع الثور ؟؟ لا يا أبا الطيب . سقط صريعا أمام خصمه البهيمة . قال لا حول ولا قوة الا بالله . توافق غريب . وكيف تفسر موت الأثنين في يوم واحد لا بل في غضون بضعة دقائق ؟؟ ذهبت كارمن الى حلبة المصارعة كي تكون قريبة جدا مما سيجري تحت هاجس غريب ينبئها أن من تهوى سيهوي قتيلا في هذه المعركة . أما المصارع الذي فتنها فقد كان قلقا عليها دائم التفكير بها وبعلاقة الحب التي جمعتهما وبأحتمال أن ينالها أذى من غريمه خوسيه . لم يستطع التركيز بالشكل المطلوب ففقد السيطرة أمام خصمه المثخن بالجراح وبذل صيحات الأستهزاء منه والسخرية به .

حان وقت العروض فدخلنا قبيل الساعة السابعة المسرح وأتخذنا أماكننا في المقاعد التي حجزنا . لم يبق لبدء العروض الا دقيقة واحدة .
رفعت الستارة فصدحت موسيقى افتتاحية أوبرا كارمن المعروفة ثم ظهرت كارمن الغجرية بشعرها الفاحم الأسود وجيب ثوبها المفتوح الى منتصف صدرها . غنت أمام معمل للتبوغ وصنع السجائر . وغنت معها جوقتها ثم ظهر الأطفال يهزجون .أختفت كارمن لتظهر الفتاة الريفية ( ميكائيلا ) التي أرسلتها أم المجند خوسيه كي تتعرف عليه حاملة له من والدته رسالة وبعض النقود . وفي الرسالة توصيه أمه أن حاملة رسالتها هي المرشحة أن تكون زوجا له . ما كان ساعتها خوسيه موجودا فأضطرت ميكائيلا أن تنتظر قدومه الى الثكنة العسكرية القريبة من مصنع السجائر . كان الجنود الآخرون يتحرشون بها ويغازلونها كعادة كل الجنود وفي كل مكان . جاء أخيرا خوسيه الى نوبة خفارته فألتقى ميكائيلا وأستلم منها ما أرسلت أمه معها له . طار فرحا بأخبار أمه وبالنقود وبالزوجة المرشحة. لكن الأفراح لا تدوم في الحياة . الحزن هو الوجه الآخر للفرح. كانت كارمن على الطرف الآخر من الخط . كانت تراقب خوسيه الوسيم وخطيبته الطارئة التي برزت على مسرح الأحداث بشكل فجائي. حضرت كرسالة مسجلة تمشي على قدمين دونما طوابع بريد , ورسولا حاملا رسالة . صيد كارمن اذن في خطر . وكارمن وجدت نفسها بغتة تواجه غريما جديا . الأنسان حريص على ما منع . خوسيه مكتوب لكارمن . اذن لا بد من التخلص من الغريم الغريب الطاريء . نصبت كارمن الحبال لايقاع خوسيه . كانت تغني وتوحي اليه أنه رجلها المفضل الأوحد. رمت اليه وردة حمراء فجن بها ولم يدر أنها ستكون نذير شؤم .
غادرت كارمن خشبة المسرح وسط تصفيق حار مستمر, فجاءت الى المسرح ثانية وثالثة
لترد تحية أعجاب الجمهور بأحسن منها . كانت تقبل يديها وتنشرها بأتجاه الحاضرين وقوفا . أوتنحني حتى منتصف الجسد .
ظهرت فرقة الفلامنكو ترقص وتغني وتصفق صفقات أيقاع الفلامنكو الخاصة . النساء بملابس جذابة الألوان تتسع كثيرا كلما اقتربت من الأرض . غرسن في سود شعورهن الورد الأحمر. الرجال مع آلاتهم الموسيقية مشدودة الى صدورهم . كانوا جميعا يتبادلون الغناء دوريا نساء ورجالا. كان المتنبيء لا يصدق عينيه . حين يصفق الجمهور يبالغ في التصفيق حتى بعد أن ينتهي . يظل وحده يصفق واقفا . كنت أطلب منه أن يجلس وأن لا يبالغ بالتصفيق . كان جوابه أنه لم ير في حياته شيئا كهذا الذي يرى في المسرح الألماني . كان شديد التلهف لرؤية كارمن ثانية . لقد سحرته الغجرية فخيل أليه أن قد وقع في حبها . كان يلحف بالسؤال متى تظهر مرة أخرى ؟؟ قلت اصبر أبا الطيب قليلا. ستأتي بعد قليل . كان يردد ( صبرا جميلا وعلى الله المستعان ) .
انسحبت مجموعة الفلامنكو فظهرت كارمن لتنفذ الجزء الأخير من الأوبرا . مصرعها بطعنة خنجر كان يخفيه خوسيه بين ملابسه ساعة كانت تنتظر خروج " أسكميللو " منتصرا على خصمه الثور . بعد مصرع كارمن بقليل ظهر أسكميللو قتيلا محمولا على نقالة الموتى . مر به حاملو جثته حيث كانت كارمن مطروحة على الأرض وسط بركة من دمائها . سقط العاشقان قتيلين في زمن واحد . هو حيث كان يمارس مهنة حياته , وهي حيث كانت تنتظر خروجه منتصرا متوجا بأكاليل النصر والزهو , والكثير من المال.
بعد أستراحة قصيرة رفعت الستارة على منظر طاحونة الهواء الشهيرة التى أرتبط أسم " دون كيخوت " بها , كتلك الطواحين التي رأيت منتشرة في هولندا طولا وعرضا. سألني صاحبي وهو يقول ( يا ساتر !! ) ما هذا ؟؟ هذه طاحونة دون كيخوت . قال وما سيطحن لنا هذا ( الكخوت ) في هذا المساء ؟؟ لا شيء . سوف لا يطحن شيئأ . قال أذن لماذا نصبوها أمامنا كالشيطان الرجيم على الشانو ( يقصد خشبة المسرح ) ؟؟ إنتظر قليلا وسترى لماذا نصبوها . ألا تطيق صبرا يا رجل ؟؟ أكثر من ترديد ( صبرا جميلا ) . ظهرت الفرقة الخاصة بهذه الفقرة بملابس مغايرة لما رأينا في الفصول السابقة . البعض يرقص والآخر يغني وآخرون مصطفون خلف الراقصين يصفقون التصفيقة المشهورة . النساء ترقص منفذات دورات مغلقة كأجمل فراشات حقول الربيع الأسباني فتخلب الألباب . ثم كانت المفاجأة بظهور راقص طويل القامة نحيلها يتقلد سيف خشب يتدلى حتى يتماس مع أرض المسرح . ذهل المتنبي متسائلا من هذا البهلول ؟؟ هذا هو دون كيخوت ... أجبت . قال ألم يجدوا شخصا آخر أفضل من هذا الكخّوت ؟؟ قلت هذا هو الشخص المناسب للدور الذي رسمه مؤلف الرواية ( الهر سرفانتس ) . رقص الكخّوت فأذهل الجميع برشاقته وخفته وحسن أدائه وغنى مقاطع قصيرة باللغة الأسبانية ثم فاجأ الحضور بأن أشهر سيفه وتسلق العجلة الخشبية الضخمة ملوحا بسيفه في كل أتجاه كمن يقاتل عدوا حقيقيا . في هذه اللحظات زاد حماس الراقصات والمغنين وأرتفعت أصواتهم قليلا حتى مست حرارة الأداء المذهل شغاف قلب أبي الطيب . سمعته يقول بصوت خفيض ( أحسنت . والله أحسنت ) . أعجبه الكخوت أخيرا . قال أشرح لي القصة بعد أنتهاء العروض . قلت حسنا , سأفعل . ثم كانت المفاجأة الأخرى : ظهور شخص قصير بدين على المسرح يمتطي ظهر حمار ضئيل . غص القوم بالضحك وأشتعلت قاعة المسرح بالتصفيق. سأل المتنبي من هذا ؟؟ هذا ( سانجا بانجا ) رفيق وصديق وخادم دون كيخوت . قال يذكرني بأنيكدو صاحب جلجامش . قلت أنكيدو كان الند لجلجامش
وهذا هو الضد لدون كيخوت . ضده حتى بما يركب واسطة للتنقل . ذاك يركب حصانا هزيلا وهذا يركب حمارا مثله بدينا .
أنتهت العروض الساحرة فغادرنا المسرح الألماني حوالي الساعة العاشرة والنصف مساء وكان المتنبي غائبا عني وعن نفسه وعن كل العالم . تركته سارحا كيما يستمتع بما رأى . ليته يقول شعرا في كارمن التي أحب وفيما رأى أمامه من رقص وطرب إنتهى بمأساة دموية مروِّعة راح ضحيتها بطلا الأوبرا : كارمن ومصارع الثيران وكان قد سقط قتيلا قبلهما أحد ضباط خوسيه . الكل فارق مسرح الحياة ما خلا الجندي السابق خوسيه . وهذا بدوره خسر ميكائيلا وخسر وظيفته مجندا وخسر كارمن .
كان المساء رخيا دافئا والشارع هادئا تغمره الأضواء الساطعة لكن صاحبي أضرب عن الكلام . أسأل فلا يجيب . كان ما زال واقعا تحت تأثير سحركارمن صوتا وقواما وتمثيلا . كان تأثيرها في النفوس عميقا حقيقيا فلم ألُم ْ صاحبي . أحب المتنبي الغجرية كارمن .
أمام سكنه قلت له سأراك غدا وسنناقش مشكلتك مع [ كارمن ]. أعدَّ جوابا لسؤالي : كيف لم تذكر أو تكتب شعرا في الغجر وقد كتب لهم وفيهم كبار كتاب العالم ؟؟

- 20 -

زرته في بيته في الثانية عشرة منتصف نهار ساخن الحرارة قليلا . استقبلني نشطا نظيفا حليقا عارضا أن أشرب معه شايا قبل أن نتجه الى طرف المدينة الآخر SCHWABING . المسمّى
. شربت قدح شاي واحد اذ شرب صاحبي قدحين . تركنا شقته آخذين أحد قطارات تحت الأرض ،
، المتجهة صوب ( شفابينغ ) . وصلنا هدفنا U Bahn 6
فأنتبه المتنبي أن هذا الطرف يمثل عالما آخر متميزا قليلا عما ألفه في وسط المدينة . لاحظ المقاهي الأنيقة تملأ الأرصفة ومحلات بيع الملابس والأحذية والمطاعم ودور السينما متصلة ببعضها . المنطقة حيوية دائما , ليلا ونهارا . يقع أحد أطراف الحديقة الأنجليزية وراءها تماما . والمنطقة الجامعية ليست بعيدة عنها . قال صاحبي الى أين تمضي بي ؟؟ قلت سنرتاد مقهى تسمى ( مقهى الواقف ) أو الوقوف. قال وفي البصرة سوق يسمى ( سوق الواجف ... أي الواقف أيضا ) . قلت ذلك سوق وأنما هذه مقهى . نشرب فيها قهوتنا وقوفا , ليس فيها كراس أو محلات للجلوس . قال ولماذا أخترت لنا هذه المقهى دون سواها , وأنا كما تعلم لا أطيق الصبر على الوقوف . قلت ( كبر ... الكبر يا أبا الطيب ) . قال لا فُضَّ فوك , الكبر . جئنا هذه المقهى لكي نلتقي بصديقنا مترجم أشعاري . قال تقصد دكتور هامان ( عفوا ... ماهان ) ؟؟ أجل . انه يرتاد هذه المقهى بين فترة وأخرى ويلتقي فيها بالبعض من أصدقائه. لقد عود نفسه عليها ويجد فيها راحة رغم الوقوف شاربا وآكلا . قال أظن أن هذه المقهى أنسب ( أرخص ) من سواها ؟؟ قلت أجل . لا فض فوك . أرخص لأنك تشرب واقفا . أنت تجلب ما تود أن تشرب من البائعة . تهلل وجه صاحبي ثم قال : حتى هنا تخدمنا النساء وقوفا ؟؟
لم نلبث في مقهى ( الواقف ) سوى بضعة دقائق حتى أطل صديقنا هامان كعادته باسما يحمل تحت أبطه حقيبة من الجلد البني صغيرة يضع فيها نقوده وبعض الأوراق . عرفته على صاحبي على أنه ( أبو جاسم السماوي ) . أتى بقدح قهوة ومعه قطعة كيك ثم قال سيأتي بعد قليل الدكتور عبد الرحمن , وسنزور جميعا صديقنا حسين زيدون في بيته . عاد لتوه من المغرب حاملا كعادته الكثير من أفلام الفيديو حول الكثير من المدن المغربية . وسيضع أمامنا كعادته على المائدة كل ما في ثلاجته من طعام وشراب . سيحبه أبو جاسم لأنه شخصية فريدة في بابها , أنه يشبه دون كيخوت . أراد المتنبي أن يعلق لكني عاجلته بلكزة خفيفة من مرفقي ففهم مرامي وأحجم عن الكلام . أراد أن يقول شاهدنا مساء أمس هذا الكخّوت أو ( الكرخوت !! ) على خشبة المسرح الألماني .
لم نطل المكوث في مقهى ( الواجف ) فأعتذرنا من هامان لأن أمامنا - قلت له - الكثير الذي ما زال ينتظر الأنجاز . رجوته أن يبلغ حسين وعبد الرحمن سلامي وتحياتي الحارة . في طريق عودتنا مشيا خلال شارع

LEOPOLD STRASSE

تحت شمس آواخر شهر مايس متجهين صوب مركز المدينة فتحت موضوع كارمن ودون كيخوت كما وعدت . أراد أن يتهرب من الموضوع فأدار الحديث حول هامان وصحبه متسائلا لِم ْ لم ْ نلتحق به وبجماعته الآخرين . قال إنها فرصة قد تكون جيدة للتعرف على بعض الناس الأخيار في هذا البلد . قلت له لا تنسَ ما قد قلت يوما ... وقبل أن أنهي ما أردت أن أقول سارع قائلا : وما الخيل الا كالصديق قليلة ٌ... , أحسنتَ , لا فض فوك . أقتربنا من المبنى الهائل لمكتبة بافاريا الحكومية فقلت له هذه هي المكتبة التي أردت يوما أن أريك , لكنك فضلت البقاء في مقهى الشباب اليافع وطلبة الجامعة التي سحرتك وأفقدتك صوابك . قال لكل مقام مقال . فضلت آنذاك البقاء في المقهى أما أليوم فأني أريد التعرف على مكتبة بافاريا وما فيها من مخطوطات وكتب ومجلات باللغة العربية . دخلنا المكتبة الضخمة وأتجهنا نحو المصعد الكهربائي ليقلنا الى الطابق الثالث حيث القسم الذي نريد . لم ير المتنبي مكتبة كهذه في حياته لا في العراق ولا في ليبيا ولا في ( مخيم رفحا ) الصحراوي . لفت الهدوء المطلق أنتباهه وطريقة تنظيم الكتب على الرفوف وعدد أجهزة الكومبيوتر التي تخزن أسماء وأرقام الكتب فيها لتيسير الحصول عليها . نظام نظام ! أخذ صاحبي يردد مع نفسه . جلسنا بالقرب من رفوف الصحف والمجلات العربية فأختار وأخترت بعضا منها . جلسنا نقلب الصفحات ونقرأ عناوين الصحف محاولين الألمام السريع بكل ما فيها . كان صاحبي بشكل خاص مهتما أن يعرف أكثر ما يمكن من أخبار البلاد العربية وبأسرع وقت . قلب الكثير وقرأ الكثير حتى شعر بألم في عينيه . ليس مع الرجل نظارات طبية . ثم الكبر , الكبر . سألني عن جريدة ( الزمان ) التي تصدر في لندن . قلت أنها لا تصل الى هذه المكتبة . قال لا وجود هنا للزمان وهذه الرفوف ملأى بالجرائد السعودية والسورية والأيرانية وأخرى بلغات لا أفقه منها شيئا . قلت له علمي علمك . محرومون منها . قال لا حول ولا قوة الا بالله .
لقد شدت المكتبة أنتباه المتنبي وأعادت اليه رغبته القديمة في القراءة وأعادة تثقيف نفسه . قال سوف لن أفارق هذه المكتبة . ثم سأل هل في الأمكان أستعارة بعض الكتب التي رأى معي على شاشات أجهزة الكومبيوتر ولا سيما ديوان أشعاره . قلت ذلك ممكن ولكن يلزمك أستحصال هوية خاصة بشروط غير متوفرة فيك الآن . أنتظر حتى يمر عليك عام في هذه المدينة إقامة ً دائمة ً . بعد ذلك سنأتي لطلب هذه الهوية . سيطلبون منك صورة صغيرة لهذه المناسبة فهيئها . قال ليس الآن . بعد عام . غادرنا المكتبة في الساعة الخامسة وأتجهنا نحو ( مارين بلاتس ) . ذكرت صاحبي أن أمامنا جولة جادة أخرى تخص حبيبته الغجرية كارمن . قال لا تذكرني يا صاح بها . لقد وقعت في غرامها حقا . أريد أن أنساها . قلت لا بأس أبا الطيب عليك . ستنساها وتنسى هواك اذا ما أوقعت نفسك في هوى سواها. تضاحك مرددا شعر نزار قباني الذي سمعه قبل أيام مني (( مثلما تطرد الغيوم الغيوما // الغرام الجديد ينفي القديما )) . قال ساخرا : بفضل الله وفضلك سأحاول ... فعسى أن يحالفني حظي أو بختك فأنسى .
وصلنا ساحة مارين بلاتس فكانت كما هي دائما مكتظة بالبشر . وجدنا لحسن حظنا كرسيين خاليين فجلسنا نمتع الطرف مبتهجين بما حولنا وبالجو الذي شرع في الأعتدال مع مجيء ساعات المساء . أخرج من جيبه سجائره وأبتدأ التدخين . ما كان يشعر بالتعب ولا بالجوع . بعد وقت قصير أعتدل مزاجه وقويت معنوياته فقال هيا أخبرني عن كارمن وعن دون كيخوت , ما خطبهما ؟؟ قلت قبل أن أفيض في الحديث عنهما أود أن تخبرني لِمَ لم تتطرق الى ذكر الغجر في أشعارك ؟؟ لقد ذكرهم بالأعجاب الكاتب الروسي العظيم تولستوي . وكتب الشاعر الأسباني لوركا عنهم شعرا كثيرا ممجدا شجاعتهم وعشقهم للحرية . كما كتب عنهم كتاب آخرون . ولدينا في العراق الحبيب مغنية معروفة تسمى
وحيدة خليل التي غنت ( على من تعتب يا قلب تعتب على من ) وأخرى تدعى حمدية صالح . أضاف و سعدي الحلي الذي غنى ( تناشدني عليك الناس وأتحير شجاوبه ) . قلت كلا . سعدي من بابل وليس غجريا . أنه قريب حمورابي ونبوخذنصر ثم آكل الأفاعي الفردوسية وماضغ الزجاج الهبش الحلي . فكر المتنبي طويلا وبالغ في أبتلاع دخان سجائره . لم يجد جوابا لسؤالي مناسبا . لم يفكر فيه قبلا . ما مر يوما باله . ألححت عليه في أن يقدم جوابا ولججت . رمى عقب سيجارته على الأرض وتظاهر بالدخول في سبات عميق . أعرف أن الرجل يجيد التمثيل في الوقت الذي يشاء . لا غرابة فأنه في الأصل شاعر . كان ما زال في يقظته صاحيا لم يلج ملكوت الكرى . غياب الشخير أكبر فاضح لمراوغة المتنبي وانه لم يمارس بعد سلطانه الطاغي عليه . تركته يتمتع بهذا الضرب من الحرية . حرية الهروب من إلتزاماته أمام الأصدقاء ومن هم بحكم الأصدقاء . لم يطل هروب المتنبي كثيرا . تثاءب ثم فتح عينيه وتساءل أين نحن ؟؟ قلت ما زلنا حيث كنا وكانوا . قال من ؟؟ الغجر . إبتسم ابتسامة غامضة المعنى وعقب قائلا : حسنا سأجيب على سؤالك . أنفرجت أساريري وقلت مشجعا هيا أجب فالوقت يمضي سريعا وما يمضي لا يعود . أجب فلقد أنفتحت أخيرا أبواب السماء . قال لم ألتق غجرا في حياتي لا في الكوفة ولا في بادية سماوة بني كلاب ولا في بلاد الشام ولا في مصر . ما كانت كلمة ( غجر ) معروفة يومذاك . كانت جوارينا والقيان يمارسن الغناء والعزف لذا لم نعرف ظاهرة الغجر . والكلمة - لعلمك - ليست عربية . قد تكون فارسية الأصل أو تركية أو ربما هندية . قلت له ان في بلاد فارس قبيلة معروفة تدعى ( قاجار ) , فلعل ( غجر ) هي معرب ( قاجار ). قال ذلكم جد محتمل خاصة وأن الشعوب تبدل بعض الحروف ببعض . ففي هذه الحالة أنقلب حرف القاف الى حرف الغين . ابدال حرف بحرف . ولقد مارست القلب والأبدال في بعض أشعاري التي تعرف . قلت أجل . لقد قلت مرة ( طاسم ) بدل ( طامس ) وقلت ( غلت ) بدل ( غلط ) . قال وتعرف كيف ينقلب حرفا القاف والجيم في مصر . قلت أنها ظاهرة شائعة ومنتشرة من نجد الى يمن ... فعلق على الفور قائلا : ومن مصر لتطوان .
أعلنت ساعة برج بناية مارين بلاتس السابعة مساء فقال صاحبي هل سنواصل الحديث هنا في هذا المكان الرائع أم نواصله في بيتي أو في بيتك ؟؟ قلت بل هنا . فلليل هنا مزاج متميز ومذاق خاص . سنخوض هنا في الحديث عن دون كيخوت . أما ( القاجارية ) كارمن وأوبرا كارمن فلسوف أريك في بيتي يوما أفلام فيديو خاصة . لدي منها ثلاثة مختلفة الأنتاج والمنشأ . سترى كارمن تغني أمامك قرابة الثلاث ساعات . ستمثل وتغني الأوبرا كاملة . الفيلم يا أبا الطيب غير المسرح . قال وما خطب الكخّوت ؟؟ قلت تقصد دون كيخوت ؟؟ قال نعم. قلت كنت رأيت الرواية مرة على المسرح تمثيلا فأعجبتني شخصية الرجل . ثم رأيت الرواية في فيلم روسي نادر الأخراج . ولقد قرأت عنه حديثا مقالة طريفة كتبها الأديب الروائي ( محسن الرملي ) في مجلة ( ألواح / العدد 12 للسنة 2002) الصادرة في مدريد, أرسلها لي مشكورا الصديق الدكتور الفنان كاظم شمهود خبير الحفر البارز والعميق على المعادن . ورأيت في زيارة لمدريد أنصابا كبيرة في وسط المدينة تمثل دون كيخوت على ظهر حصانه الهزيل وخلفه صديقه البدين سانجا بانجا على ظهر حماره . قال ألم تقرأ الرواية ؟؟ قلت كلا . للأسف لم تقع في يدي ترجمة لها الى العربية ولم أبحث عنها في لغات أخرى . قال قصرت . قلت أعرف ذلك . قال وما قال عنه الروائي محسن الرملي ؟؟ قلت ان السيد محسن يعمل ويدرس في مدريد . وان دون كيخوت أسباني الأصل والنشأة . وكان يعرف العرب والمسلمين بشكل جيد حتى أنه وضع في روايته جملة على لسان فتاة عربية أسماها ثريا . نص الجملة هو (( الله ومريم أمه يكون في حفظك يا سيدتي )) . قال وما الطريف في الأمر ؟؟ الطريف - كما كتب محسن الرملي - أن دون كيخوت كتب كلمة ( الله ) بلفظها العربي الأسلامي . قال بارك الله فيه . قال وماذا بعد عن هذا الدون كيخوت ؟؟ ترجم محسن بعض ما جاء في الرواية على لسان دون كيخوت الذي قال (( ان رجال الدين بكل سلام وكسل يكتفون بأن يطلبوا من السماء الخير للأرض, أما نحن الجنود والفرسان فأننا نقوم بتنفيذ ذلك الذي يطلبونه. أننا وزراء الرب في الأرض )). ويضيف محسن (( فينبه غارودي - كاتب ومفكر فرنسي - الى أن هذا هو تماما شعار المرابطين في الأندلس والذي أستقوه من القرآن , من كون أن الأنسان خليفة الله في الأرض, وهذا ما يتطابق أيضا مع ما جاء في القرآن من تفضيل للأنسان على الملائكة المكتفية بالتسبيح وأمره لها بالسجود للأنسان )). شرد المتنبي عن حضوره مرددا مع نفسه (( أننا وزراء الرب في الأرض . نحن الجنود والفرسان نقوم بتنفيذ ذلك الذي يطلبونه . أننا وزراء الرب على الأرض )) . ثم أتبع نجواه الخافتة بقراءة الأية (( وأذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا الا أبليس أبى / سورة طه )) . ثم (( فسجد الملائكة كلهم أجمعون. الا أبليس أستكبر وكان من الكافرين/ سورة ص )) . ثم رفع صوته قليلا ليقرأ (( واذ قال ربك للملائكة أني جاعل
في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لا تعلمون / سورة البقرة )) . خمد صوته برهة ليرتفع قليلا ثم ليقول إننا معشر الشعراء حقا إننا وزراء الرب على الأرض . منا السفراء والوزراء والفرسان . قلت كلكم ؟؟ قال ولا سيما اللاجئون والمشردون والمنفيون قسرا رغم آنافهم . إننا السفراء والوزراء وفينا الأنبياء والملوك . قام فجأة قائلا إنما نحن الفرسان ثم أنشد بصوت جهوري (( الخيل والليل والبيداء تعرفني ... )) . قلت كفى أبا الطيب , كفى . هيد . أجلس . لا أحد يعرفك هنا في أوربا . ثم قد ولى زمن الفروسية والفرسان وزمن السيف والرمح . قال فما الذي تبقى اذن ؟؟ قلت القرطاس والقلم ثم قنبلة الذرة والنيوترون وسم الثاليوم وغاز الخردل والأعصاب والبريد الألكتروني وفضائية الجزيرة وفيصل القاسم وجميل عازار و ... و... الخ. قال لا أفهم هذا الكلام . هذه رطانة معقدة لا أفهم منها شيئا . قلت أحسب أنك فهمت الآن الفارس دون كيخوت . قال لم أفهمه بما فيه الكفاية . قلت بأختصار شديد كان الرجل طيبا الى حد السذاجة . يحب البشرية كأي نبي . وكان يقاتل بسيف خشبي طواحين الهواء احتجاجا على ما في الحياة من مظالم وعسف . يحارب الطواحين لأنه كان عاجزا عن قتال من هم أهل للقتل والقتال . ما كان يملك مالا ولا سلاحا ولا جيوشا جرارة ولا أجهزة مخابرات وأستخ ( بارات ) ولا أجهزة أمن وأمن الأمن وأمن أمن الأمن . قتال الطواحين ثورة رمزية مزدوجة : هي صرخة بوجه الأنحراف عن الطبيعة السوية , ونداء واضح صريح لبني البشر أن يرفضوا الظلم الواقع عليهم وأن يهبوا وأن يثوروا من أجل الحرية والأنعتاق وتحطيم قيود الذل والعبودية . الذي لا يستطيع رفع السلاح ضد الحاكم المتعسف علنا وصراحة عليه أن يحتج بلسانه ( وهذا هو أضعف الأيمان في نظري ) . عليه أن يعبر عن رفضه لما هو واقع عليه ولو بالصورة الكاريكاتيرية الساخرة ( قتال الطواحين ) و بالوسائل الأخرى المتاحة لديه حتى لو أستخدم سيفا من خشب وركب حصانا هزيلا ليس لديه ما يطعمه. تكلموا أيها الناس. أحتجوا . أصرخوا . صرخ أبو ذر قبلكم فاضحا الأنحراف وقبل النفي الى صحراء الربذة. أبو ذر واحد منك فيكم وليس أستثناء ناشزا . وسائل القتال كثيرة . أختاروا ما يناسبكم منها . لا تتأخروا فالزمن يجري سريعا . الزمن لا يلتفت الى الخلف ولا يجري ماء في نهر مرتين . تعلموا من دون كيخوت ولا تخنعوا ولا تذلوا ولا تقبلوا هوانا فأن (( من يهن يسهل الهوان عليه )). سألني صاحبي بعد أن مل خطبتي الطويلة كم الساعة الآن ؟؟ الحادية عشرة قبل منتصف الليل . قال بقيت لدي بعض الأمور أود لو تنورني بشأنها . ما هي يا أبا الطيب ؟؟ قال وهو يقوم سنناقشها غدا أو بعد غد . أشعر بالتعب وقد حان وقت الإيواء الى الفراش . سنلتقي غدا . قلت كلا. بل سنلتقي بعد غد. سيزورني غدا ً صديق ليعيرني بعض كتبه ولأقول له رأيي في آخر ما نشر من أشعار. قال وأين نشر صديقك هذه الأشعار ؟؟ في مجلة تصدر في الأردن , تحررها نخبة من أدباء الشتات في عمان . قال اذن سنلتقي بعد غد فأعد لنا برنامجا طموحا . قلت وهو كذلك



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تصحيح معلومة خاطئة / إلى الأستاذ سلام عبود ... حول قصص جلال ...
- مقبرة الغرباء / رثاء الجواهري
- آليات الإبداع في الشعر / المتنبي نموذجاً
- الأوزون ... درع الأرض الهش
- رسالة لعدنان الظاهر من محمد علي محيي الدين
- التلوث والبيئة / الزئبق
- ليزا والقاص جلال نعيم حسن
- عامر الصافي والمناضل القتيل الحاج بشير
- البايولوجيا الإشعاعية ومخاطر الإشعاع / لمناسبة إسقاط القنبلة ...
- مشاكل ومخاطر محطات توليد الطاقة
- لوركا والبياتي / في ذكرى رحيل الشاعر
- شعراء ثلاثة : أديب وحسين وعبد الهادي
- المتنبي في أمريكا
- المتنبي في موسكو
- وشم عقارب ... ديوان شعر للشاعرة ورود الموسوي
- ألكترا تقتل أباها
- ليس دفاعاً عن سعدي يوسف / سعدي والإحتلال وعزرا باوند
- المتنبي و ( شوكار ) جارية شجرة الدرّ رومانس المتنبي
- بيان إلى المثقفين العراقيين كافة ً ...
- إلى الدكتور قاسم حسين صالح / حول مجلس عمان


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا