« إن يكن مبتغاكم أن تنزلوا طاغية عن عرشه ، فاعملوا أولا على تحطيم ذلك العرش الذي أقمتموه له في قلوبكم »
- جبران خليل جبران-
يقول فيديريكو غارسيا لوركا ( 1898 – 1936) في قصيدة:
«لقد أوصدت نافذة القمر،
لا أريد سماع الصراخ ،
لكن خلال جدران الرماد لا اسمع سوي الصراخ .
الملائكة الذين يصدحون بالأغاني لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين،
وقلة من الكلاب تطرب،
فيداي تعزفان ألف لحن ،
لكن الصراخ كلب كبير،
صراخ ملاك هائل ،
فالصراخ يجرح الرياح بالرماح ،
وليس ثمة سوى الصراخ ما يتناهى إلى الأسماع .»
لقد استشهد لوركا الشاعر الغرناطي الإنسان ، والمناضل الشريف قبل بلوغه الأربعين على يد جلاوزة النظام الفرانكوي الحاكم في بلاده ، لذا فإدراك وفهم معاني قصائد لوركا، و تبين صورها يتطلب الاطلاع جيدا على أوضاع إسبانيا المأساوية في تلك الفترة التي عاشها لوركا .
ففي القصيدة أعلاه يصور الشاعر البيئة التي يعيش فيها حقولا لعذاب و تعذيب رهيبة ، ولا يصل منها الأسماع، رغم انه قد أوصد نافذة القمر، سوى صراخ الآلام والأنين عبر الأسوار الرمادية والسوداء للمدينة . أي لا يمكنه تجنب السماع فتلك الأصوات من الشدة بمكان بحيث باتت تخترق الجدران العصية على الاختراق . و لعل الملائكة رمز الشعراء المنشدين أو مطربين يصدحون، فلوركا لا ينكر وجودهم ، و ربما هم عادة أفراد يطربون الطغاة و يكيلون لهم ما يمكنهم من المديح لآثامهم و يطربونهم و يرقصون على أشلاء مواطنيهم إرضاء لهم .
ثمة أناس على تلك الشاكلة كان لهم وجود أيضا في موطن لوركا . فالكلاب النباحة أيضا قليلة العدد و قد نست النباح لان الصراخ والأنين قد طغيا عليه . فالنباح و العواء يرمزان لوجود حياة ما في القفر المتصور في تلك الديار .
يقول الشاعر انه يمكنني عزف و إنشاد ألف نغمة سعيدة و أستطيع أن أتحول شاعرا للغزل و الأفراح لكن يا لقلة حيلتي فالأنين كلب ضخم الجثة أفقدَ عويله و نباحه عودي رونقه و قد خيّم على هذه الديار . انه ملاك كبير أيضا يحمل رسالة الموت و اليأس إلى هذه الأمة . و لعله بالعكس تماما فالشاعر يصور هنا الصراخ والأنين بملاك لأنه يؤمن انهما يتحولان يوما إلى أصوات ثورة و رؤوس رماح تمزق العواصف السوداء العابرة ، و ستتحول الصرخات إلى أنشودة نصر للمظلومين .
هذه القصيدة تذكرني بقصائد أخرى منها تائية الشاعر المعارض من العصر العباسي دعبل الخز اعي و الذي يسمع صرخات المظلومين .أنينهم في مجتمعه المحكوم باستبداد العباسيين وكم يتألم لمأساتهم، فيصورها في قصيدته الرائعة -:
تجاوبن بالأرنان والزفرات نوائح عجم اللفظ و النقطات
ألم تر للأيام ما جر جورها على الناس من نقص وطول شتات
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
وما الناس إلا غاصب و مكذب و مضطغن ذو احنة و ترات
و خزعل الدعابي لاقى في حياته كثيرا من الاضطهاد والمطاردة وكان يردد قوله دائما" حملت خشبتي على كتفي ثلاثين سنة لا أجد من يصلبني عليها" هكذا يتبين لنا أن دعبل مثله مثل لوركا لا يسمع سوى الصراخ و الأنين الأليمين بحيث يحولان دون سماعه نشدان العندليب و شدوه و إيقاعات قدوم الربيع وان الظلم و الاستبداد قد ملآ الأرض ظلاما دامسا . فهذان الشاعران يفصل بينهما ما يقرب من 12 قرنا ولكنهما متوائمان في احتجاجهما ضد الظلم و الطغيان كأنهما قد نسقا معا أو انهما الصوت والصدى و ما اقرب ترجمتيهما للحادثة التاريخية لزمانيهما إلى حادثه شعرية .
و لكنهما ذكراني بقصيده لنزار قباني وهي اقرب إلى تقرير سياسي منه إلى شعر حين يقول :
وخريطة الوطن الكبير فضيحة
فحواجز .. و مخافر.. وكلاب
و العالم العربي .. إما نعجة
مذبوحة .. أو حاكم قصاب
ولكن شاعرتا المرحوم قد غالط نفسه حين كان مقبولا عند الحكام القصابين و مدح أكثرهم دموية أي طاغية العراق – المقبور لاحقا- حين تمني أن يعود طفلا رضيعا فيفتديه بروحه لكي يعيش الطاغية أطول ما يمكن أو يبقي أبدا !!!كما هناك بعض كرسوا جل عمرهم يتصنعون الهروب من مستبد ليعيشوا في أحضان مستبدين آخرين ، و لا ينفك ينسجون أساطير حول تاريخهم و ماضيهم غير المشرف والتي ما عادت تنطلي حتى على طفل, و إنهم بأكاذيبهم ونفاقهم و شعريتهم و ملكتهم الوضيعتين و حتى التعاون و التآمر الجبان في الخفاء مع الطغاة ، قد قدموا أكبر خدمة لجلادي شعبهم وجعلوا من أنفسهم شركاء في الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء ،
و مظفر النواب مثال فاقع لهذه النماذج ولكن هيهات أن يخدعونا بدجلهم !
فمأساتنا أن عروش الطغاة قائمة في قلوب البعض وما اصدق جبران فيما قاله !
فاستشهادي بشعر لوركا ومقارنته بقصيدة دعبل يحمل مغزى آخر أيضا ألا و هو أن قصائد الأول مشحونة بروح التصوف الشرقي و الرقة الشعرية العربية ، فديوانه" تاماريت" الصادر 1936 تموج فيه أجواء عربية إسلامية و صوفية شرقية صريحة .. وربما الكثيرون قد شاهدوا صورة للوركا بالزي العربي .. وكم تشبه قصائده في وصف الحقول والبساتين قصائد شاعر الوصف الشهير ابن المعتز والى حد ما بعض الشعراء الكرد الكلاسيكيين مثل "وفائي" .
أتلمس في قصيده لوركا أعلاه حين يشف الأنين خلال الأشياء شيئا من السريالية حيث أن الخيال المتسامي تيار نهر دافق في شعره فحتى قصائده السياسية الهادفة ينشدها في سريالية رائعة دون أن ينجر إلى تقريرية و مباشرة تخدش جمالها .
حميد كشكولي
مالمو/ السويد