أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المدلاوي المنبهي - العطلة (1*)















المزيد.....



العطلة (1*)


محمد المدلاوي المنبهي

الحوار المتمدن-العدد: 2014 - 2007 / 8 / 21 - 05:59
المحور: الادب والفن
    


بعد قساوة فصل شتاء ميزه الجفافُ وما يترتب عنه من سوء الأحوال الصحية والمعنوية والنفسية، وبعد عشرة أشهر معدودة من الكد المهني والاجتماعي، هاأنذا أستقبل حرارة الصيف المفرطة، والمقترنة على كل حال، في الأذهان بفرصة استجماع الأنفاس قصد مواجهة موسم عمل مقبل. هاأنذا الآن أجد نفسي في هذا المصطاف الشاطئي الذي كان آخر عهد لي به بداية السبعينات. ما أن تمكنت من حجز غرفة بأحد الفنادق المتوسطة حتى بادرتُ مسرعا إلى التحرك بسيارتي العجوز في اتجاه الأفق الأزرق الذي تنبعث منه أنسام رطبة منعشة، وذلك من أجل إطلالة على الفضاء البحري قبل أن يحين وقت الغذاء.

ما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي سجينا في سيارتي في مختنق طويل وعريض تحاول شرطة المرور، في نوع من الهستيريا الصفيرية، تصريف غمر سيله الحديدي عن طريق تحويل السير في اتجاهات اعتباطية. أردت أن أعود لأتخلص من عبء السيارة وأتحركَ راجلا، فلم أتمكن من ذلك إلا بعد أن قمت بطواف اضطراري وبسعي إكراهي لمدة ساعة من الزمن وسط هدير المحركات، وسُحُب الدخان والنقع تحت أشعة الشمس المنعكسة من كل جانب وصوب من على زجاج السيارات المجاورة والبعيدة. كانت هذه الساعة من السياقة المتعثرة كافية لإنهاك أعصابي، ولإغراق كتلة جثتي في حموضة وملوحة العرق الممتزج بما ذاب فيه وتحلل من دخان المحركات وغبار الأرصفة التي تشكل ورشا مكشوفا بلا حدود من أشغال الحـَـفر عودَني عليها الصيف مهما كانت المدينة التي أحل بها. أرجأت الإطلالة على البحر إلى ما بعد الظهيرة، وفضلت أن أتخلص أولا من حموضتي، وأطّــهّــر من أدران هذا الطواف الجهنمي، الذي شكل الجولة الأولى من فصول عطلة هذه السنة، والعياذ بالله من الفتنة ولو كانت مجرد اضطراب في السير.

وجدت بعد ذلك أنه لم يكن المشي على الرصيف وعبر الطريق بأهون من التحرك بالسيارة: جحافل من المشاة في كل شبر وفي كل اتجاه نقفز عبر برازخ الأوراش، ومسالك عبور الطريق موكولة لاعتباطية أمزجة ذات تصورات بدوية.فيما يتعلق بالتحرك في الفضاء.
تمكنتُ في النهاية من بلوغ شريط الشط، فخلعت نعليّ لأمتع أخمص قدمي من دغدغة الرمال الساخنة. لكنني صدمت بهذا الديكور الجديد الذي لم أعهده في هذا الشاطئ في بداية السبعينات: إنه اختلاط أكوام البشر بأكياس البلاستيك السوداء في كثافة محشرية رهيبة؛ ثم هذه الوحدات من قوات التدخل السريع، التي كنت قد سمعت عنها وقرأت في الصحافة؛ لقد زادت بعدا آخرا لمشاهد القيامة التي أصبحت تطبع فضاء الشاطئ. تقدمت مع ذلك متسلقا كثيب الرمل الذي ما يزال يحجب عني منظر البحر وأفقه اللذين طال عهدي بهما. استويت على عرف مرتفع الكثبان فإذا ببعد سريالي آخر ينضاف إلى المشهد القيامي: حشر غفير من الرجال الملتحين، وهم في صفوف متراصة، وبأقمصة غريبة الطراز، لا هي من نوع "لفوقية" ولا هي من نوع "تشامير"، ولا هي "جلابة"، وتتراوح في اللون ما بين الأبيض، والأسود، والرمادي القاتم والترابي الغباري؛ ولاهي مسربلة ولا مشمرة ولكنها بتراء "كَـرطيطة" بالتعبير المغربي الذي ينحدر من لفظ "قِـرطيط" أي "مبتور". إنهم يؤدون صلاة العصر على بعد أمتار من ماء البحر الطهور ماؤه، الحل ميتته، وفي اتجاه زائغ شيئا ما عن القبلة حسب ما أعتقد بناء على معرفتي السابقة بجغرافية المنطقة من حيث خطوط الطول والعرض. لقد شكلوا أمام عيني رقعة بشرية متميزة - في الفضاء الرملي، وكذلك في الفضاء والزمن الرمزيين - عن بقية الكائنات التي تدب وتتحرك على الشاطئ في أزمنة رمزية أخرى مغايرة. امتزجت في نفسي مشاعر التقزز والنفور بمشاعر الجزع و الشعور بالغربة والاغتراب وأنا أتأمل ديكور هذا الهندام وهذه الكائنات الملتحية والمنضبطة انضباطا عسكريا ستالينيا، واقدامها حافية تحت العين الساهرة من بعيد، عين المعسكر الآخر، معسكر قوات التدخل السريع، وأمام الأعين الجاحظة المشدوهة، أعين بعض "الطـّـالعين ـ الهابطين" ممن ليسوا لا "شرفاء" ولا "مرابطين".

لم أستطع قمع وكبت شعور حاد بالتقزز والنفور لا يستند على أي أساس عقلاني وقد استبد بي إزاء بورتريهات إرسال اللحى، والتنطع بالتميز الناشز في الهندام. إنه شعور تولد لدي، فيما أعتقد في سن الطفولة، لما كنت تحت تأثير معلمي اللامع في قسم الشهادة الإبتدائية بدار الباشا الـﮔلاوي ببلدة الزعفران الحُـرّ والبرد القارس، تاليوين. لقد كان "سّي المحفوظ" رجلا تقيا عالما، وأنيقا في مظهره وهندامه، ولينا في مقاربته للغير وأثناء مقاربة الغير له. كنت أتأمل في إعجاب مظاهر أناقته، الفائضة جملةً عن نظافة وحسن كي جلبابه المغربي ذي اللون المنشرح الهادئ، وعن العناية التي كان يلف بها عمامته البيضاء المتوسطة الحجم، وعن حسن تسطير شكل لحيته المقصوصة بعناية وبشكل موفق يتناسب مع أبعاد مساحة وجهه وزاوايا فكيه وشكل ذقنه وباقي قسماته. كان خيـّرا، متسامحا، لا يعدم المُلحة، ولا تفارق النكتة أسلوبه في التبليغ بكلام هادئ الوتيرة، معتدل الصوت. كان بيداغوجيا ماهرا، بلـّغ لنا مقررات الفقه (أبواب اليمين، والندر، والصيد، والحلال والحرام من الأطعمة والأشربة، وأحكام الشرع الخمسة) ومقررات علم التوحيد (أقسام حُكم العقل، صفاته تعالى الواجبة والمستحيلة والجائزة، صفات الرسل، الإيمان، الإسلام) وذلك من خلال شرح مقتطفات من متن خريدة أحمد الدرديري التي قال عنها صاحبها:
تكفيك علماً إن تُردْ أن تكتفي * لأنها بزبدة الفــن تـَـــــفي

كما بلّغ لنا "سـّـي المحفوظـ" العلوم التجريبية (جسم الانسان، الطيور، الزواحف)، والحساب (القاعدة الثلاثية، السرعة والزمن، الأعداد العشرية، الكسور، القاسم المشترك الأصغر، العامل المشترك الأكبر، المساحات والأحجام) أروع تبليغ.
كنا نتحلق حول معلمنا سّي المحفوظ بعد صلاة العشاء، التي يؤمها بنا كما يؤم سائر الصلوات الخمس، طارحين عليه أسئلة وقضايا ونوازل في الفقه أو التوحيد أو حتى الإعراب، أسئلة ونوازل من بنات تصوراتنا، فكان يجيب في هدوء عن أغلبها ويقول "لا أدري" في شأن بعضها واعدا السائل بأنه سيبحث ويأتيه بالجواب في الغداة إن شاء الله. ومن بين ما كان يميز خطابه في القسم أثناء الإجابة عن القضايا والنوازل المطروحة عقب صلاة العشاء أنه كلما ذكر الفرق من خوارج أو معتزلة على وجه الخصوص إلا وعقب على ذلك بعبارة "لعنهم الله"؛ فيقول مثلا مستندا إلى فتاوى الشيخ ابن تيمية: "وأما المعتزلة، لعنهم الله، فيقولون بالأصلح، لا بالصالح فقط ... فـيوجبون على الله ـ سبحانه عما يصفون ـ أن يفعل بكل عبدٍ ما هو الأصلح له ". ولقد نشأت صورة المعتزلي والخارجي في ذهني مقترنة - بسبب ذلك الحكم واللعن وذلك التصنيف - بكل ما هو نقيض لصورة المعلم "سّي المحفوظ" في ذهني كذلك من حيث الصفات، والخصال، وما تخفي الصدور. وإذ كنت أميل إلى تثبيت المدركات في مخيلتي، مهما كانت محسوسة أو مجردة، وذلك عن طريق ربطها وقرنها بصور محسوسة لست أدري ما هو منطق اختيارها وبناء عناصرها، فإني قد تصورت الخوارج - الظالمين والمتعدين لحدود الله، كما يدل على ذلك بالنسبة لي اسمُهم، وكما تم تصويرهم في الخطاب الذي أثث مرجعياتي الذهنية والمخيالية - على هيئة جماعة من الرجال وهم واقفون متجهمون عبوسون كما لو أنهم شخوص لوحة من لوحات الرسام دي لاكروا ، لا نسوة معهم ولا صبية، تكاد تتشابه أوجههم بجامع حلـق الشوارب وإعفاء اللحى وإرسالها بكثافة الآجام. أرجح الآن أن تكون تلك الصورة الغرائبية، وذلك البورتري الاغزوطيقي عبارة عن تجريد وتعميم لصورة "سيدي زكريا، سيف الدين" مدرس مادة الحديث المعروف في صفوف هيئة التدريس بانتهازيته كما يحلو لبعض أعضاء هذه الهيئة أن يلمحوا إلى ذلك أمامنا، والمعروف في صفوف التلاميذ بالتحكـّمية، والتسلط، واستغلال النفوذ، والفرز بين التلاميذ حسب الصورة والمحيـّا أوالنسب وخصال أخرى، والذي يسخّـر المتزلفبن منهم لشتى الأغراض، من جلب للماء والحطب أيام الخميس، إلى خدمات المساعدة على الاستحمام، والذي يحقد أشد الحقد على غيرهم من التلاميذ الذين لا فائدة ولا وطر فيهم مهما كانت مكانتهم في الصف الدراسي. من ذلك أنه قد أخطأ يوما في صياغة هيئة الدليل العقلي القائم على مسألة من مسائل علم التوحيد كنا قد أحكمنا تحصيل جوانبها من خلال شرح متن خريدة أحمد الدرديري في حلقات سّي المحفوظ، فحدث أن خانتني عيناي وزلـّــتا نحو صاحبي في المقعد في إشارة غير بريئة مني إلى موطن الزلل في البرهنة، فكان من سوء حظي أن رمقت أشارتي عينُ "سيدي سيف الدين". اضطرب الشيخ ثم دار دورتين أمام السبورة، ما بين باب الحجرة والمكتب، وقد انقطع عنه حبل حديثه وأُرتج عليه. طاف علي فجأة ـ وأنا في الصف الأمامي ـ بصفعة عنيفة مباغثة نقضتُ على إثرها الوضوء نقضا بأحد النواقض المعروفة لدى الأطفال في مثل تلك الظروف!

كان "سيدي سيف الدين" لا يفوّت فرصة، مناسبة أو غير مناسبة حتى من الناحية البلاغية، دون أن يستشهد تعسـّفا بآية التحكيم: " فلا وربك لا يومنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، متبعا إياها في استطراد تعودناه منه بقصة أسباب النزول حسب حديث عروة: "اسقِ يا زبير ...". (2*).

ولقد دار الزمان دورته، فهذب "سيدي سيف الدين" لحيته، وتتدرج من مدرس وخطيب جمعة، عضو في جمعية خيرية لنشر العلم والتقوى وعمل الخير والإحسان، ومتقرّب من ممون مشاريعها الخيرية، التاجر الكبير الحاج عبّاد الذي كان يجمع في براعة بهلوانية ما بين الربح والإحسان، وبين الأحسان والربح، إلى أن أصبح سيدي سيف الدين مضاربا في العقارات الفلاحية، فبرلمانيا صاحب مزارع يُجري فيها السقي حسب ما يقضي به قانون الربح قبل الإحسان، وذلك بعد أن أنضبت مضخاتُه الضخمة والعميقة الخراطيم مياهَ آبار الجيران من صغار المزارعين. وأتذكر أني عبأت عزمي وعزيمتي، ووطّنتُ نفسي خلال العطلة المدرسية لذلك الصيف المشهود، وأنا طالب حينئذ، فقمت بحملة مضادة له جُبت خلالها المداشر على ظهر بغل، وذلك لصالح مرشح آخر منافس له أدركت اليوم أنه كان غبيا من الناحية السياسية، حتى إن عون السلطة، مقدم المجموعة القروية، المسمى "بوحبل المجّوط" قد وجه إليّ إنذارا شفويا مباشرا في شأن تلك الحملة المضادة لمرشح الورقة البيضاء ("ورقة سيدنا" كما كان يسمّيها)، إلا أنه لم يتجرأ عليّ هذه المرة لأني أصبحت الطالب الأول والوحيد الذي التحق حينئذ بالجامعة من بين كل قيادات الدائرة الترابية، ونظرا لسابقة تتمثل في أنني كنت قد شكوته يوما، وأنا تلميذ، إلى خليفة القائد الذي صادف الأمرُ أن كانت له معه حسابات تتعلق بمُكوس السوق الأسبوعية، فابتزّ الخليفةُ من العون القروي، بفضل تلك الشكوى، أضعافَ الخمسة دراهم التي كان المقدم قد طلب مني مقابل تسليمي شهادة لاستخراج نسخة من عقد الازدياد، وذلك على شكل دجاج وحليب وزبدة وخيرات أخرى.

تساءلت وأنا أسترجع كل هذه الذكريات، التي تناسلت وتشعـّبت انطلاقا من تداعيات ما خلـّفه في ذهني منظرُ هؤلاء القوم على الشاطئ: لماذا كل هذا التنطّع وتعدّي الحدود، حدودِ ما بين العادة والعبادة؟ فقد تعلمنا من خلال حلقات دروس معلمنا "سي المحفوظ"، وما يتخللها من مُلـَح وحـِكَم ميسـّرة، أن هناك فرقا ـ كما هو الشأن في أبسط الأمور كشأن ماء الطهارة مثلا ـ ما بين ما يصلح للعادة، وما يصلح للعبادة، وأن ليس كل ما يصلح لإحد هذين الوجهين من أوجه وأبعاد الوجود يصلح بالضرورة للوجه الأخر. فالماء الطبيعي الزلال يصلح للعادة وللعبادة؛ والماء المشوب بالزيت، أو باللبن، أو لنقل اليوم بــ"كوكاكولا"، أو "بيبسي كولا"، أو "مكة كولا"، أو "عرب كولا"، يصلح للعادة ولا يصلح للعبادة؛ والماء المشوب بصعيد طيب من تراب، أو صلصال، أو أملاح مما يهدد الأحشاء دون الجلد، ماءٌ يصلح للعبادة دون العادة كماء البحر لما في ملوحته العالية من تهلكة لأجهزة البدن؛ والماء المشوب بالبول أو بالخمرة لا يصلح لا للعبادة لما فيه من نجس، ولا للعادة لما فيه من إفساد للعقل أو البدن. أفليس إقحام الصلاة في هذه اللعبة الشاطئية المحفوفة بالأهواء من باب "الحدث" وتعدي الحدود؟ وقد كان معلوما لدي من خلال دروس "سي المحفوظ" أن الحدث كلّ الحدث هو "أن تزيد في الدين ما ليس فيه". ففيما عدا عالم العادة ومستجداتها المتطورة بحكم طبيعتها كوجه من أوجه عالم الطبيعة، أي في ما عدا مجال الدين والعبادة، تكون كل مستحدثة بدعةً، وكلُّ بدعة ضلالةً، وهذا ما يفتتح به المغاربة ختم البخاري.

***

لقد ذكرتني من جهة ثانية أجواء الترقب والقلق والتوتر التي ولـّدتها لدى الجمهور من رهط أيها الناس مشاهدُ عبادةٍ استعراضية، وتنطّعيةٍ، ومستفزّة، ومحرجة، ونشازٍ، في محيطٍ الأصلُ فيه ممارسةُ العادة وما يضبطها من قيم ورموز وأخلاق نسبية متحركة في حيز الإباحة، ذكرني كل ذلك بذلك الجو المرعب الذي كان يسود لدينا في القسم خلال حصة التربية الإسلامية في صف التحضيري، أي لسنوات من مشواري الدراسي الابتدائي قبل أن أخبر رعبَ "سيدي سيف الدين" بعد انتقالى من السلك الابتدائي. لقد طلب مني المعلم يوما وأنا في سنتي الأولى أن أنجز أمام السبورة صلاة للمغرب في ساعة الظُهر ! وذلك على سبيل التمرين والاختبار؛ فوقف إلى جانبي أمام التلاميذ بعصاه ملاحظا كما يفعل ضابط اختبارات رخص السياقة. وكلما أخطأت في عدد الركعات، أو السجدات، أو في الجهر، أو الهمس، أو النص، أو في علامات الخشوع (عدم الالتفات، الخ)، كان يصقرني بعصاه بعنف أينما اتفق من الجسم بما في ذلك الرأس، ثم يأمرني أن أعيد العملية من جديد. وبمقدار ما كنت أتلقى الضربات كنت أزيد اضطرابا فأنظر إليه توجسا وفزعا بدل أن أصطنع الخشوع (إغماض العينين مثلا)، فيتوتر أكثر فأكثر، ويضرب بعنف أكثر، وأنا أتعثر في تلاوة أمّ الكتاب أو سورة الفلق شاهقا بالبكاء، وركبتاي تصطكّان في جو رهيب إلى حد أن حمقاء المجموعة القروية المسماة "خدّوج بنت معيزو" المعروفة كذلك بــ"تاحبيركـّوت"، والتي كانت تتسكع من حين لآخر بجوار المدرسة بل وفي ساحتها أحيانا، قد هرعت إلى باب القسم، الذي لا يتوفر على دفة إغلاق، فأخذت تنهر المعلم: "خلّي عليك دّرّي، اسّي حمد! حشوما عليك! عار عليك ا-سـّي احمد !...". تقول هذا والتلاميذ يغالبون نوبات الضحك الحادة التي كانت تكاد تمزق أحشاءهم ممتزجة بأحاسيس الجزع والفزع إزاء ما يحصل لي، وما قد يكون بعد لحظة من نصيب أي واحد منهم ممن اتفق. أما المعلم، العاقل بعلمه، فلم يأبه لهذيان الحمقاء "بنت معيزو"، واستمر في مهمته التربوية، الساعية إلى ترسيخ الإيمان ومكارم الأخلاق بعصا الزيتون لدى ابن سبع سنوات، إلى أن لاحظ، من خلال ما يسيل مع ساقي الصبي، ما يفيد بأنه قد نقض الوضوء، وأن الاستمرار في الصلاة، التي يـُؤمَر بها لـسبعٍ ويـُضرب من أجلها لـعَشرٍ، لم يعد جائزا.

من حسن الحظ أن الصلاة لم تقترن في تجربتي دائما بأجواء الإكراه والرعب والفزع والتعبئة العسكرية. لقد تمكنت من ممارستها بعد تلك التجارب الفاشلة المؤسفة، دون تلقين، وذلك حينما كنت أشارك الكبار خلال أحد شهور رمضان في حلقات حملة محو الأمية بعد التراويح بالمسجد. وإذ حصل بعد ذلك أن وقع بين يدي بمحض الصدفة كتيّب بعنوان "المجموعة المباركة" يحتوي على أدعية واستغفارات ومقتطفات من قبيل أدعية دلائل الخيرات، وإذ كنت مبكرا في القدرة على فهم نصوص العربية الفصحى بفضل ازدواجية لغوية تامة مند الصغر ما بين وجه من أوجه الأمازيغية من جهة ووجه معقلي (نسبة إلى بني معقل) للعربية المغربة الدارجة، فإني فـُتنتُ في ذلك الكتيب بقصة شخصية عبد الله بن السلطان وبقيمة الاستغفار الذي كان يقرأ في كل ليلة من شهر رجب، والذي أنقذه من النار، حسب ذلك الكتيب، بل إن الملائكة قد سارت في جنازتة بكثرة جعلت النبي صلعم يمشي على أطراف أصابع قدميه حسب الرواية، والذي تحلقت حوله في الجنة "ألف حورية من الحور العين وبيد كل حورية منهن قدح مملوء من حوض الكوثر، وكل واحدة تقول: أنا أقوم وأسقيه"؛ وذلك بالرغم من أن عبد الله ابن السلطان "كان مشهورا بشرب الخمر والزنا والفسق والفجور وترك الصلاة والصوم، وكان في عهد رسول الله"؛ وإنما كان يكثر من تلاوة ذلك الاستغفار في شهر رجب، حسب الرواية دائما. حتى إنه "لما مات، لم يحضره من يغسله ولا يصلي عليه ولا يشيّع جنازته، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلعم وقال: "يا محمد! ربك يـقرؤك السلام، ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: قم وامش في جنازة عبد الله بن السلطان، وغسـّله وكفنه وصلّ عليه...". حينها، ومن خلال ذلك الكتيب الذي كان لي في الأنام خير جليس، اكتشفت عالم السكينة والتصوف وحلاوة الإيمان وأنا صبي، بدون حاجة إلى حصص التقوية في التربية الإسلامية بوسائل بيداغوجيا من النوع العضلي-الخشبي. كنت استغل طريق العودة من المدرسة مساء، حيث كنت أعبر أربعة مداشر، وحينما أبلغ المكان الخالي المسمى "الغويبة" (= تصغير "غابة") كنت أعمد إلى خلع "فيــستــة" كان قد اشتراها لي أبي في ركن الخلقان بالسوق الأسبوعية وكانت تقوم بالنسبة لي ـ نظرا لحجمي وقامتي ـ بمثابة معطف شتوي، فكنت افترشها قرب جذع زيتونةٍ برّيــةٍ من نوع الزبّوج، شحيحٌٍ ظلــُّها لكن مباركٌ نورها، ثم أنبري معتكفا على النوافل في خشوع حسب توجيهات أوراد "المجموعة المباركة"، وذلك بعيدا عن الأعين التي تزعزع الركوع، وتذهب الخشوع إذا لم تفسد الصلاة، خصوصا منها عين المعلم، أو "سيـّدي" كما عودنا أن نسميّه وهو يهش بعصا الزيتون ضد مجهول كما تهش قوات التدخل السريع اليوم بعصي البلاستيك وتتبادل النظرات شزرا مع جموع الملتحين الذين يتخذون من تمرينات وتسخينات الصلاة على حافة الموج ومدِّ البحر تحديا سورياليا لتلك القوات، والعياذ بالله من الفتنة، التي هي أشد من القتل، الذي لا يشكل بدوره إلا أحد أوجه ما تفضي إليه تلك الفتنة من أوجه الشر المستطير.

مشاعر السكينة تلك التي كانت تغمرني وأنا أصلي تحت الزيتونة البرية المباركة، الشحيحِ ظلـُّـها، تتلاشى وتصبح كالسراب حينما تصبح الصلاة شأنا إداريا شبه عسكري، كما حصل لي بعد ذلك، حينما أقمت في الداخلية لمدة ست سنوات، حيث كانت الصلاة شأنا إداريا من اختصاص الحارس العام وأعوانه من المخبرين والتي كان كل مبتدئ في تجريب التمرن على ممارسة السلطة يتخذ من الأمر بها، والنهر عن تركه، والحرص على استقامة صفوفها، والخطابة في شأن فضائلها، تمرينا أصبح كلاسيكيا. كما ذهب ما تبقى من تلك السكينة حينما أصبح ذلك النسك وسيلة وأداة من أدوات العمل الجمعوي، أو الطائفي المتداخل الغايات والأهداف بحكم طبيعته، كما هو شأن هذا الديكور النشاز الذي تتحرك عناصره أمام عيني الآن على شاطئ بحر الظلمات كما كان يسمى ذلك المحيطُ مند أن وقف عليه عقبة بن نافع بجواده الفاتح بشاطئ مدينة ماسة الأسطورية كما رووا، فأقسم، حسب ما أوردته المناقبيات الغزواتية قَـسـَمَ امتناعٍ لامتناع (وهو خامس أنواع اليمين! التي هي مجرد أربع حسب معلمواتنا في الفقه) وقبل أن يحيط علمُ الواقع بذلك البحر المحيط بعد أن مخرت عُبابَه بعثةُ كرسيوف كولومب، الذي كان ممن لا ينتظر حتى يوحى إليه باليقين لكي يغامر في ملحمة العلم بالواقع أو في مجرد مغامرة من بَـحثَ عن طرُق التوابل والحرير، فاكتشف مصادر الذهب والعبيد لفائدة عرش ملكة قشتالة وملك أراغون، اللذين كانا قد أنجزا على التو قسـَـمَي صنعة "الانصراف السريع" للموريسك ثم صنعة "القفل الحثيث" ضمن "صنائع" إفراغ الأندلس من آخر "نوباتها" مما أحصاه صاحب كتاب "الحايك" وما لم يحصه، والذي نشر - على هامش ذلك الاكتشاف العرضي للعالم الجديد - عقيدةَ الملكة إيزابيلا الكاثوليكية بين من يهمهم الأمر ممن لم تبلغهم دعوة المسيح من بدائيي العالم الجديد، فذبح الديك الهندي تقربا إلى الله وشكرا له على فتح العالم الجديد، وهو التقليد الذي لم ينسه جورج بوش الأب، قلب الأسد، ملك العالم الجديد الفاتح، حينما حرص على تناول طبق الديك الرومي (Turkey) احتفالا بعيد الشكر (Thanks giving) في قلب الديار المقدسة في نوفمير 1990

***

ولقد سمعت - كما أوردت ذلك بعضُ يوميات وأسبوعيات البرّ، في باب غرائب البحر لهذه السنة - بأنه، وإلى جانب هذه المستوطَـنة الشاطئية التي أنا الآن على مشارفها أرقب بدل أن أستحمّ، توجد محميةٌ أخرى من نفس النظام مخصصة لرباط الإناث، على بعد بضعة مآت من الأمتار. هناك من وراء المرتفع الرملي، نساء لا يصلين إلا فرادى لأسباب تتعلق ربما بشروط الإمامة وبمقتضيات العفة، ولكنهن يعوضن ذلك بدروس التقوية في الحلقات التكوينية، وتسهر على تأطيرهن منشطات، نشيطات، متوقدات ومهدارات، هنّ على اتصال دائم بأطر معسكر الذكور عن طريق الهواتف النقالة التي قيل إن صوت المرأة عبرها ليس عورة خلافا لما كان قد يراه الشاعر الكفيف، بشار بن برد، الماجن، لو كان فقيها من حيث الوظيفة، بما أنه قال يوما:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة * والأذن تعشق قبل العين أحيانا

. ولقد قيل ـ كما أوردت ذلك صحافة البرّ، مدعمَـةً بصور تستفز ذوي الدم الساخن ـ بأن الإناث يرتمين جماعات جماعات في مياه البحر بملاءاتهن الرفيعة، ثم يخرجن وقد التصق القماش الرفيع بأجسادهن مصورا أدنى جزئيات عوراتهن، من حلمات وأرداف واعجاز، ومبرزا كلّ ثنية رفيعة أو انحناءة منحوتة تسر الناظرين، أو كلّ أخدودٍ من أخاديد أعطاف فائضة خطلاء غضفاء بشعة تسوء الناظرين، ثم يعــدن إلى الرمال فيعلق بهن الرمل، فينقلب ما كان فاتنا إلى بشاعة ويزداد ما كان بشعا في بشاعته. لقد حصل فعلا أن شاهدت عدة مرات بعض البدويات الطارئات على المدينة وعلى شؤون العادة فيها، يقمن بمثل تلك الطقوس المجوسية عفويا وبشكل فردي فيما يشبه استحمامِ فرسِ النهر، فيشددن إليهن أعين محيطهن ما بين مفتون بما يصوره القماش، ومتقزز من غلظ الذوق وانعدام حس النظافة وآداب المحيط. أما أنا شخصيا، فلا منظر يضاهي عندي مثل تلك المشاهد من حيث السوريالية والبشاعة إلا تلك المشاهد التي احتفظت بها ذاكرتي منذ أن صحبتني الوالدة ذات يوم إلى حمام المجموعة القروية، وأنا ابن حوالي الثلاث سنوات، فجدت الإناث يتحركن في عتمة مقصورة الحمّام كالجنّـيات، وتتحرك معهن ضلالهن المسلطة على الجدران بفعل ضوء الشمع، وهن متجردات عاريات مما عدا كف اليد اليسرى يوضع على صميم رقعة البـُضع أثناء التحرك في جنبات مقصورة الحمام. أما العورة الخلفية فلا يبالين بمصيرها أثناء الانحناء. ولقد زاد من حرجي وسخطي على تلك التجربة الحمـّامية "الحمِـيمية" الأولى، ومن حيث لم تكن أيّ واحدة من ذلك القطيع من الجنـّيات تتوقع ذلك من طفل في مثل سنّي، أنّ معشر الإناث قد طوقنني، في صخب، بمداعباتهن المستفزة والمثيرة للتقزز عند صبي في مثل ذلك العمر، من قبيل: "هل تريد أن تتزوجني؟ لكن، أرني أمانتك أولا! ثم إن عليك أن تختتن قبل كل شيء؛ فأنت رجل؛ ...". كان مفرّي الوحيد هو أن انزويت منفردا في أقصى المقصورة ووجهي مطبق تقريبا على الجدار تجنبا للمشاهد البشعة.
إنها مشاهد عدت، مع ذلك بحكم منطق آلية إعادة إنتاج الثقافة، إلى التعايش مع مشاهدة أبشع منها بعد عدة سنوات من ذلك حينما أصبحت - وذلك من رموز بداية الرشد والرجولة - أرتاد نفس حمّام القرية مع الرجال والمراهقين هذه المرة، خلال أيام العطلة الصيفية بعد التخلص من عسكرتارية الحياة اليومية في الداخلية هناك بعيدا في عالم "الحضارة والزمن العصري" الذي كانت تمثله بالنسبة لمجموعتنا القروية عاصمةُ الجهة التي توجد بها داخليتـا الجهة الوحيدتان، وهي مع ذلك مدينة عتيقةٌ، سجينةٌ لأسوارها وتاريخها، وتروي بعض المناقبيات الشفهية بأن أحد الملوك الذي كان قد اتخذها عاصمةً له قال بشانها يوما، قبل أن يغادرها إلى غيرها: "أردناها للحَضَر، فأبت أن تكون إلاّ للنساء والبقر"، وتبِعاتُ هذا الموقف "الميزوجيني" "الكُـرهـــونثاوي" محمولةٌ على صاحب القول أو واضعه، لا على الراوي، بحكم قاعدة أن "حاكي الكفر ليس بكافر".
كنت أدخل نفس المقصورة، التي يتناوب عليها الإناث والذكور، بحيث إن لأولئك أيامَ الأسبوع نهارا، وللآخرين صباحَ الجمعة حتى ما قبيل الصلاة، إضافة إلى ليلة يوم السوق الأسبوعي. فكنت أجد أمامي حديقة حيوانات آدمية تتحرك أمام نفس ضوء الشمع الباهث عارية، وزوائدها الذكورية مدلاة بشكل مفرط البشاعة بفعل الحرارة ومفعول العرق والانعكاس الحادّ لضوء الشمع على كل ذلك مبرزا كل جزئيات الظلال بشكل هيتشكوكي بورنوغرافي سابق على ظهور اللفظ وعلى ظهور الحاجة الوظيفية إلى الاستعاضة عن تلبية مثل تلك العوائد الثقافية باللجوء إلى نقش الأقراص المدمجة انطلاقا من بعض المواقع الإليكترونية الناطقة في معظمها، بحكم غالبية الزبناء، بلغة الضاد التي أخذت تكتسب العالمية انطلاقا من مثل تلك المواقع. دخلت يوما فوجدت من بين المستحمين "مولاي الحسن الطالب"، وهو مستلقٍ الأرضية مُكـِبـّا على وجهه يستلذ فركات أحد الدلاّكين المتطوعين من فلاحي القرية مقابلَ دعوات "رحمة الوالدين". كان الفلاح المتمرس يعالج جثته الممتدّة كالفقمة كما تعالج كتلةُ عجين الحلوى بالمدلك؛ كان يفعل ذلك وهو ممتط صهوة الجثة كما يُمتطى بغل، وذلك جِلدا لجِلدٍ، وعُصعُصا على عَجُز، مفحـِّجا فخديه على جنبي خصر مترهّل، فائض الكشحين كبطن ضفدعة برية. أما المستفيد من المعالجة، المتلذذ لنوبات الفرك والدلك، فكان يكيل لمعالِجه ما يترتب على ذمته من مقابل جراء الأتعاب، وذلك بالدعاء الجاري والمستمر بــ"رحمة لوالدين" وبــ"غفران الدونـوب، كما كا يغــسل الصّابون التــّـوب" على حد تعبيره، وذلك بصوت مرتفع متقطع في تألم مازوشي يزيد ارتفاعا وتحتد نبرةََ تألـُّمه كلما كانت الدلكة متمكنة وموجِعة، خصوصا حينما يعمد ذلك الفلاح الدلاّك، فيما يشبه سجدة وثنية في معبد بابلي، إلى تقنية الضغط بمقدمة قُحف رأسه الحليق على واسط ظهر المدلوك المُكـِبّ على وجهه، وذلك في حركة بطئة دافعة نحو الأمام كالثور، متخذا من جبهته المدبوغة بلفح الشمس وغبار الحقول، ومن شوى قُحفه الحليق، مِفـرَكا حيـّـا يشتغل تحت الضغط العالي لكتلة جسمه ولتوتّر عضلاته الفلاحية.

كان "مولاي الحسن الطالب" رئيسا بحكم العرف لحفظة القرآن من أئمة المساجد وغيرهم من الورّاشيين، وإليه كان يُرجَع في أمر إحياء "السلكات"، والصدقات، والتأبينات. فكانت له في ذلك القطاع من الخدمات سلطةٌ زبونية يقرر من خلالها لائحة المدعوين من أئمة ووراشيين، ويكون وسيطا بينهم وبين إحسان المحسنين، رغم أنه لم يكن قطُّ، مع ذلك إماما ولا معلمَ أطفال. إذ لم يكن قد أكمل مشوار التكوين القروي العتيق كما كان متعارفا عليه (حفظ القرآن جملة على الأقل وإتقان رسمه)؛ فهو مجرد "مجروح جّـامع" كما يقولون. كان أعمى لا يبصر عَلـَما في رأسه نار؛ إلا أنه كان يجوب الطرقات، والأزقة، والمداشر، وفدادين أشجار الزيتون، عبرَ أشواك السدر، وأخاديد السواقي، ومصارف المياه، وتضاريس النتوءات، والحُفَر، والنعرجات، بسداد خُطىً منقطعِ النظير، وبسرعة وحذاقة قُندُس بيني سدا، خصوصا حينما يكون في مهمة دعوة إلى وليمة ورّاشية بمناسبة قران، أو وفاة، أو غيرهما من مناسبات السرّاء أو الضرّاء على حد سواء. كان بدينا بسبب مواظبته على الولائم بصفة عامة؛ ويقول البعض أن لكثرة تناول بسّوسة المعجون والمقويات على الخصوص دورا في ذلك، بالرغم من أن المعني بالأمر لم يكن متزوجا حتي يـُفهم حرصُه الدائم على وصفات تقوية الباءة. عـُرف بميله للدعابة ولما يسمى عندهم بــ"الإحماض" في الكلام، خصوصا مع العامة، وذلك بكثرة الحديث المازح والنكت المهووسة عن الغلمانيات؛ لكنه لم يضبط قط ضبطا شرعيا بالرغم من كل ما يقال وما ينسج من نكت حوله. وعلى كل حال فإن الفلاحين لا يكترثون كثيرا بمثل تلك الاحتمالات حينما يتعلق الأمر بالصبية؛ بل إن هناك شبه تواطؤ ضمني ترى من خلاله العقلية الفحولية في مثل تلك الاحتمالات صمام أمان بالنسبة لمن يحضر في الحي إذا غابوا ويحفظ إذا نسوا، ضد أي سقوط جد محتمل في كيدهن، بما أن كيدهن عظيم.
نطق الفلاح الدلاّك فور دخولي إلى مقصورة الحمّام ممازحا إياي بعد رد تحيتي قائلا: "وعليكم السلام؛ أفمن أجل ذلك أتيت؟ أفقد جئت من جديد لتتنطـّع علينا بتـُبـّـانك الرومي مستعرضا علينا عوائد المدن؟". عقــّب مولاي الحسن وهو مستلق دائما على بطنه كالفقمة قائلا: "أيوا، الله يحفظنا من لمتشبـّهين ب-ـنّــصارا؛ هادا أخير زّامان: سـّروال طـّـويل بلا حشمة في وسط سّوق؛ ولفوطة ولگارصون في وسط لحمّام!". ثم استطرد في حديث طويل عن السراويل الطويلة، وعن أن من مساوئها كونها تصوّر العورةَ الخلفيةَ تصويرا مستفزا بالنسبة للغير، وتقتل النفس الأماميةَ وتفشل الباءةَ بالنسبة لمن يرتديها، وفي ذلك ضرران اثنان إضافة إلى نقيصة ثالثة هي التشبّـه بالنصارى. وما لبث أن استسلم لاستفزاز المستحمّين المحبين لمزيد من اللغو الأقوى حموضة، فأفضى به الحديث عن العورة والباءة إلى "الإحماض" من جديد بأحاديث الغلمانيات دون كناية ولا تستر وراء ذريعة "لا حيا في دين" من خلال الوعظ.

تساءلت في النهاية بعد كل هذه العاصفة من المقارنات التي استبدت بذهني قائلا مع نفسي: ترى أيهما أعف وأقرب إلى الورع والتقوى، ذلك الجيل الذي كان ينظم أسبوعيا حلقات العري الجماعي السافر تحت ضوء الشموع مرتاحَ البال دينيا وأخلاقيا، وهو يعتبر ذلك السلوك أصلا وفطرة أولى غير مفروض من الخارج لا بمقتضى الغزو الثقافي ولا بمقتضى اتفاقية دولية، ويعتبر خلافَ ما اعتاده من صور وأشكال مروقا وبدعا وتشبــُّها بغير المسلمين، أم بعضُ هذا الجيل ممن هو راسخ ثقافيا في البداوة مهما كان عدد أجيال وفوده الجغرافي لى الحاضرة، والذي اكتشف صدفةً، من خلال هذه الحاضرة، لهوَ البر والبحر، على سبيل مستحدثات العادة مما تسرب إليها من ديار غير ديارها، فاتخذ من مكان اللهو والعادة فضاءً يخلط فيه ما بين الجد واللعب، وما بين السباحة والعبادة، وأخذ يصلي في الشاطئ بـقمصان تصوّر أدنى ثنايا العورة في العراء، وبلحىً تكون قد جرفت معها أثناء السباحة ما يكون قد صادف شباكها من شوائب البحر أهونُـها الرملُ وطحالبُ البحر وبراغيثه؟ أين هي الحدود في فضاء الذهنية الثقافية السائدة ما بين استحمام "مسلم" كان يعتبر التـُّبان في الحمام الجماعي بدعةً في الستينات، وسباحة "إسلامية" في الشواطئ في نهاية التسعينات، تجنـَّـد في إطارها الإناثُ للسباحة بثيابهن وخُمُرهن، ويُجنــَّد فيها الذكور في صفوف للصلاة بعيدا عن المسجد وتحديا لقوات عمومية في مشاهد تذكـّر بسيناريو صلاة الخوف كما كان يصورها لنا "سيدي زكرياء سيف الدين" من خلال بعض استطراداته الفقهية أثناء شرح بعض أحاديث الجهاد، وأتذكر منها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلاً قال : (يا رسول الله : دلني على عمل يعدل الجهاد . قال صلى الله عليه وسلم: لا أجده ...)، أو أثناء شرحه في مسجد الداخلية لبعض أبواب الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

أمام هذا الديكور السوريالي الحزين، بدأت أفكر في طريقة أخرى أقضي بها ما تبقي من العطلة قبل فوات الأوان، بعيدا عن عالم الفتنة هذا. أفعلي إذن أن أوليّ وجهي شطرَ المسابح التجارية أو مسابح الفنادق، ما دام التطهير والتخليق لم يطرح بعدُ في فضاءاتها في إطار خطة لــ"سياحة إسلامية"؟ أم أن على الراغب في قضاء عطلة مستحقة أن يحصل على تأشيرة خارجية بعيدا عن الثلاثة آلاف كيلومتر من شواطئ "مغربنا وطننا، روحي لفداه"؟ لا هذا ولا ذاك كان بإمكاني. فما العمل؟
وأنا أفكر في ما عسى أن أفعل، فإذا بالنادل ينبهني بلباقة إلى أنه قد حانت ساعة انصرافه، وأن علي أن أسدد ثمن المشروب. هكذا قطع عليّ حبلَ التداعيات الوسواسية التي ألقت بي في عالمها التقديري الافتراضي قراءةُ الجرائد وما نقلته من تغطيات عن حالة شواطئ البحر في هذه السنة وعما أصبحت صحافة البر تسميه "حرب الشواطئ". سلمته المبلغ وجمعت جرائدي ثم غادرت المقهى في اتجاه البيت، وأنا أفكر في كيفية قضاء العطلة هذه السنة، أفي الجبل أم في الشاطئ أم بين جدران منزل قد يكون هو أسلم حين تمور الأمور، وأتعوذ بالله من فتنة الأفكار السوداوية التي خلفتها في نفسي بعض التغطيات الصحفية التي قد لا تكون إلا تهويلا للأمور ومزايدات مغرضة كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين؛ إذ أن بعض الظن إثم.

----------------------------------
(1*) كُـتب هذا النص في خريف السنة الأولى قبل تخربب الطير الأبابيل للبرج في أقصى الأرض؛ وهي سنة كان قد شكل صيفُها أوجَ وجهٍ سوسيو-ثقافي خاص من أوجه العمل السياسي في مملكة المغرب الأقصى هو ما كان قد عُـرف في الصحافة الوطنية لهذه المملكة بــ"حرب الشواطئ". ولقد بُعِث بهذا النص مباشرة بعد كتابته إلى كثير الملاحق الثقافية ولكثير من المنابر الصحفية الوطنية فامتنعت عن نشره لأسباب ربما تتعلق بالنقد الأدبي وبنظرية الفن ما دام الجميع يستبعد النفاق والمحابيات والمداهنات السياسية في وسط صحفي وفكري يجمع على تبني لفظ الحداثة كمدخل إلى القاموس.

(2*) "حدثنا قتيبة بن سعيد‏.‏ حدثنا ليث‏.‏ وحدثنا محمد بن رمح‏.‏ أخبرنا الليث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير؛ أن عبدالله بن الزبير حدثه؛ أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة التي يسقون بها النخل‏.‏ فقال الأنصاري‏:‏ سرح الماء يمر‏.‏ فأبى عليهم‏.‏ فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير ‏"‏اسق‏ يا زبير‏!‏ ثم أرسل الماء إلى جارك‏"‏ فغضب الأنصاري‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أن كان ابن عمّتك. فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال ‏"‏يا زبير‏!‏ اسق‏.‏ ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر‏"‏‏.‏ فقال الزبير‏:‏ والله‏!‏ إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك ‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا‏ مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء : 65). أخرجه مسلم في كتاب الفضائل.



#محمد_المدلاوي_المنبهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قضية الصحراء: عودة إلى تطوير الخطاب والسياسة في المغرب (*1)
- أسئلة حول التنوع الثقافي واللغوي في وسائل الإعلام بالمغرب (* ...
- اللغة العبرانية في عشرية تدبير اللغات الأجنبية بالمغرب (*1)
- فصيلة الأسئلة المغيَّبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية ( ...
- أسئلة حول اللسانيات والبحث العلمي بالمغرب (حوار)
- هل من تعارض وطني بين إنصاف الأمازيغية وتأهيل العربية؟ (حوار)
- موقع اللغة الأمازيغية من التعدد اللغوي بالمغرب
- انطباعاتٌ عن طباع وطبوعٍ وإيقاعاتٍ من بايروت
- عن اللقاء حول مسألة الديموقراطية في المملكة المغربية


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المدلاوي المنبهي - العطلة (1*)