أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساطع راجي - توطين الفلسفة















المزيد.....


توطين الفلسفة


ساطع راجي

الحوار المتمدن-العدد: 2008 - 2007 / 8 / 15 - 11:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تقول الحكاية(أن المأمون خليفة المسلمين وأمير المؤمنين رأى في المنام أرسطو طاليس وكلمه في أمور وأعجب به فلما أستيقظ تعلقت همته بنقل الكتب اليونانية فكتب إلى ملك الروم يطلب منه كتبا لفلاسفة اليونان ، وكان ملوك اليونان لما انتصرت النصرانية في بلادها قد جمعوا كتب الحكمة (الفلسفة) من أيدي الناس وجعلوها في هيكل قديم وأغلقوا بابه . ففتح ملك الروم هذا الهيكل وأرسل خمسة أحمال من كتب الحكمة إلى المأمون ، بعد أن كان طول الزمن قد أفسد كثيراً من هذه الكتب بالرطوبة و العث ... وربما حدث ذلك في سنة 215هـ -830م عندما أنتصر المأمون على الروم وأخذ بدل المال كتباً(1)
قد يشكك محترفو البحث العلمي وفلسفة التأريخ في هذه الحكاية ودورها في توطين الفلسفة داخل منظومة الثقافة الإسلامية. ويرجحون الأطر المعرفية ، وسياقات النمو الحضاري والتطور الطبيعي للكيانات الاجتماعية ، وقد يقولون : أن الفلسفة نشاط عقلاني مركزي في المعرفة الإنسانية ولا يمكن نقله وفق تصور لاعقلاني يعتمد الحلم . لكنهم بذلك يكونون قد خالفوا اشتراطات البحث العلمي الذي يفترض ضرورة قراءة الحدث التاريخي المعرفي في حدود الآليات الحضارية في زمن حدوثه لا في زمن قراءته وتأويله .
والتأريخ يخبرنا أن آليات صنع القرار في المؤسسة السياسية للدولة العربية الإسلامية في بدايات القرن الثالث الهجري لم تكن آليات ممأسسة بعد بل يتأثر هذا القرار برغبات وأهواء الحاشية والزوجات والجواري والغلمان والأبناء والأصدقاء والأقارب ، ألا أن مصالح الحاكم وشخصيته كانت الأكثر تأثيراً في صنع القرار السياسي ، وللحلم تأثير ثنائي في السلوك سواء في كونه إيحاءا يمهد أو يوفر إجابات وحلول لأسئلة ومشاكل يواجهها الإنسان أو في كون هذا الحلم تعبيراً عن مكبوتات وانشغالات هذا الإنسان ،ودور الحلم في صنع القرار السياسي رسخه الموروث الدين. خاصة في حكاية يوسف ، ورؤيا الفرعون بالتحديد ، وإذا كان حلم ذلك الفرعون (الكافر) رمزياً بسبب الحجب الدنيوية والطاغوتية ، كما قد تقول القراءة الصوفية ، أو أن هذه الرمزية كانت تمهيداً ربانيا لعودة يوسف إلى مركز الأحداث ودخوله حلبة السلطة ، كما قد تقول قراءات أخرى ، فأن حلم المأمون كان صريحاً واضحاً كأنه الحقيقة ورأى فيه أرسطوطاليس وتعرف أليه وتداول معه و أعجب به بل أقتنع المأمون بضرورة اطلاع المسلمين على فلسفة هذا الحكيم وفلسفة بقية صحبه ، وتضامناً مع محترفي البحث العلمي وفلسفة التأريخ سنهمل صيغة : الحكاية/ الخرافة/ الحدث ونقتصر في القراءة على صيغه : الحكاية/ التأريخ/ الحدث ، والمسافة بين الصيغتين تقول أن الخرافة حكاية غير مؤكدة لحدث مؤكد أو غير مؤكد أما التاريخ فهو حكاية مؤكدة أو شبه مؤكدة لحدث مؤكد .
وصيغة الحكاية / التاريخ / الحدث التي تقول بتدخل الدولة في توطين الفلسفة داخل منظومة الثقافة الإسلامية ، لا تمنع وجود محاولات فردية من خارج مؤسسة السلطة لنقل وتوطين الفلسفة وربما كانت المعارضة السياسية (المعتزلة خصوصاً) أهم الذين حاولوا الاستفادة من لغة الفلسفة وآلياتها وقضاياها في بث رؤيتهم السياسية والدينية ، وقد كان المأمون نفسه قريباً من هذا الاتجاه وربما تعرف على ارسطو من خلالهم أكثر مما في الحلم .
وتبدو محاولة المعتزلة أقرب إلى محاولة تسريب الفلسفة إلى المباحث المعرفية والجدل السياسي منها إلى محولة النقل والتوطين،وهي بعد وان لم تكن محاولة رسمية ,إلا أنها ليست فردية تماما ,ذلك أن المعتزلة تحولوا إلى جماعة معرفية وسياسية ، ولمحاولة الفردية الأساسية لتوطين الفلسفة في منظومة الثقافة الإسلامية قام بها أولئك المولعون بالعلوم الطبيعية والتطبيقية من فلك ورياضيات وهندسة وطب وكيمياء وعلم الحيل(الميكانيكا) حيث اختلطت هذه العلوم بالأفكار الفلسفية وربما جاءت في كتب تحوي الاثنين (الفلسفة و العلوم) وهذه العلوم هي جزء أساسي من البحث الفلسفي آنذاك ، ألا أن الدخول الواسع للفلسفة ومشروع توطينها في منظومة الثقافة الإسلامية هو ما قامت به الدولة أيام المأمون . وعند العودة إلى النص : الحكاية / التاريخ / الحدث ، تذهب القراءة إلى :
1- إن السلطة العليا في الدولة الإسلامية متمثلة بشخص الخليفة قد اتخذت قرارا سياسيا معرفيا هو إدخال سياق معرفي جديد ( الفلسفة) إلى منظومة الثقافة الإسلامية وقد تدخلت هذه السلطة مباشرةً في تنفيذ هذا القرار ومتابعته بنقل الكتب وتنظيم الترجمة وتشجيع الاشتغال بالفلسفة شرحا و تعليما و تأليفا .
2- السياق المعرفي الجديد ( الفلسفة) كان غريبا على البيئة الثقافية الإسلامية ولم يحدث نتيجة ضرورة اجتماعية ملحة أو تحقيق لمطلب عام بل حدث بمبادرة شخصية من السلطة أحيطت بهالة ما ورائية ، وترددت المؤسسات الثقافية( ذات الأساس الديني) طويلا في تقبلها وبقيت في حالة شك ثم رفضتها تماما بعد ذلك.
3- أن عملية نقل الفلسفة تمت من خلال اتفاقية سياسية بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية كلا الدولتين ثيوقراطية.
4- اخذ امير المؤمنين ( المأمون) الكتب بدل المال ( الجزية) علما إن هذا المال يؤسس له النص الشرعي الديني باعتباره حقا لامة المسلمين تأخذه من الأمم الكافرة أو تلك التي على غير ملة الإسلام ، مقابل الاحتفاظ بوجودها أو على الأقل الحياة بسلام. والقراءة النصية تتيح الموازاة بصيغة :- كتب الفلسفة/المال, كتب الفلسفة /الحياة والسلام .

5- لابد أن المأمون قد عرف سواء قبل أو بعد نقل الكتب ، بأن الدولة البيزنطية (الثيوقراطية) قد حرّمت تداول هذه الكتب كما حرّمت الاشتغال بالفلسفة عامةً لأنها تناقض الكتب المقدسة وتشكك في العقائد الدينية .
القراءة في هذا المستوى تبين تدخل المؤسسة السياسية الرسمية(الخلافة) في أحداث تغير جوهري في منظومة الثقافة الإسلامية يمكن وصفه بالتحديث لهذه المنظومة ، ونتائج القراءة تشير إلى إصرار المؤسسة السياسية على هذا التغير وعلى أهميته بالنسبة إليها ومقدار التضحيات والتنازلات التي يمكن أن تقدمها لإحداثه، ومع كل هذا يمكن للقراءة الرومانسية للتأريخ عبور هذا الحدث السياسي / المعرفي اعتمادا على حب الخليفة المأمون للمعرفة ورغبة الدولة في توسيع معارف ومدارك الرعية وكذلك انفتاح منظومة الثقافة الإسلامية على الثقافات الأخرى ، وأن الدولة الإسلامية تريد السماح للمجتمع بالتمتع بالمنجزات الحضارية والثقافية الغير إسلامية!! ، إلا أن المقطع الأخر من الحكاية / التأريخ / الحدث يقول :
( في سنة 218 هـ - 833 م . وكان المأمون قد رجع من حربه في بلاد الروم ( أسيا الصغرى ) وجاء إلى دمشق ، بدأ في دمشق امتحان رجال الدولة والعلماء في القول بالعدل والتوحيد وبخلق القرآن . وتابع المأمون طريقه إلى الرقة ، ومن هناك أرسل كتابا إلى أسحق أبن إبراهيم صاحب الشرطة في بغداد يذكر فيه أن أئمة المسلمين وخلفائهم مسؤولون عن إقامة دين الله ، وأن الجمهور الأعظم من المسلمين يعتقدون أن القران قديم لم يخلقه الله ، جهالة منهم . ثم يطلب من صاحب الشرطة أن يمتحن القضاة في ذلك فمن أقر بأن القرآن مخلوق محدث أقره على عمله ، ومن أنكر ذلك أقصاه عن منصبه )2 .
بعد أن سرد المقطع الأول حدثا سياسيا / معرفيا يأتي هذا المقطع ليسرد حدثا معرفيا / سياسيا ، فالمأمون أنتج قضية تبنتها المؤسسة السياسية وبمختلف مستوياتها واستخدمتها في تحريك الفضاء السياسي للمجتمع الإسلامي وباستخدام أدوات العنف الشرعي ( الشرطة )، وتبدو قضية خلق القرآن أول تطوير إسلامي لإحدى أهم قضايا الفلسفة اليونانية أي ( هل العالم قديم ام محدث ) ومن وضع القران بديلا عن العالم في صياغة هذه القضية يدرك أن (القرآن) هو مركز منظومة الثقافة الإسلامية مثلما كان مفهوم ( العالم ) مركزيا في الثقافة اليونانية ، وتمظهر خلاف ما حول القران في طبيعته الوجودية وليس في مكوناتها النصية ( النحوية والبلاغية وأسباب التنزيل والناسخ والمنسوخ ...) كما شاع حتى ذلك الوقت ، احدث صدعا داخل المؤسسة الدينية التي بدت متماسكة حتى لحظة ظهور قضية (خلق القرآن) التي تتناول مركز هذه المؤسسة وجذرها التكويني(النص القرآني) ، وعملية تطوير القضية الفلسفية وأسلوب توظيفها للتأثير على الحياة الاجتماعية والنظام الثقافي والأدوات التي استعملت في التأثير وادارة الأزمة تشير إلى نوايا منظمة لمواجهة مباشرة مع المؤسسة الدينية التي طالما نظرت إلى المؤسسة السياسية باعتبارها أداة تنفيذية تابعة لها ، وفي تطور المؤسسة السياسية إلى مؤسسة سلطة( بالمعنى المباشر) كان لابد من تعديل هذا الوضع ، فاستخدمت المؤسسة السياسية الذرائع الشرعية التي منحتها اياها المؤسسة الدينية،أي (حماية العقيدة ، إقامة الشريعة ، قتل البدعة) في تصفية أطراف الخلاف الذي اخترعته(المؤسسة السياسية) بأدوات معرفية ليقود إلى عنف شرعي(عقائديا) وموزع بصورة عادلة على أطراف الخلاف في أوقات زمنية مختلفة ، وأدى ذلك إلى تصفية مراكز القوة داخل المؤسسة الدينية .
إن نجاح المؤسسة السياسية في السيطرة على الهرم الاجتماعي يستدعي وجود مؤسسة موازية للمؤسسة الدينية وتقوم ببعض أو كل الوظائف التي تحققها المؤسسة الدينية سواء التعليمية أو التربوية أو المعرفية أو الأخلاقية وربما التشريعية(في تصور مستقبلي) ، ولابد من الانتباه إن هذه الستراتيجية تستهدف المؤسسة الدينية كـ ( تنظيم اجتماعي) وليس الدين كـ (منظومة روحية) ،المؤسسة المعرفية (بوجهها الفلسفي) كانت هي البديل أو الموازي المناسب الذي تصورته المؤسسة السياسية للمؤسسة الدينية ، فالمؤسسة الجديدة ووجهها الفلسفي بالأخص) غريبة عن الثقافة والمجتمع الإسلامي وبهذا سيكون أساس وجودها الحفاظ على علاقة تضامنية مع المؤسسة السياسية (السلطة) ، إلا إن هذه الصفة بالذات(الغربة) جعلت من محاولة توطين الفلسفة داخل منظومة الثقافة الإسلامية تحتاج إلى وقت وجهد لا يتوافقان مع انتهازية السلطة وعنفها ، وبعد استعراض ضخم للقوة الدموية التي تتمتع بها السلطة على نطوع السيافين وفي السجون ، توقفت المؤسسة الدينية عن إنتاج توجهات جديدة او قادة جدد لديهم قدرات الجيل الأول من مؤسسي المذاهب الفقهية ، وبعد أن أنهكتها الخلافات الداخلية ، تحولت المؤسسة الدينية إلى توجه محافظ .
هذه التطورات التي أصابت تكوين المؤسستين(السياسية بتحولها إلى السلطة المجردة والدينية بتحولها إلى مؤسسة محافظة) هيأ لتوفير توافق جديد بينهما ، وهذا الوضع التوافقي يعكس قوة كل من المؤسستين، إلا إن المؤسسة الدينية أصبحت استشارية للمؤسسة السياسية وثرية أيضا، وصمد هذا التوافق طويلا وما زالت بعض بقاياه قائمة في المجتمعات المعاصرة ، إلا إن التعدد الإقليمي لمراكز السلطة في ظل الخلافة الإسلامية أو حتى خارجا عنها وفر للمنشقين عن المؤسسة الدينية المركزية وكذلك المتمردين عليها إمكانية مأسسة جماعاتهم والتوصل إلى توافق مشابه لذلك القائم في مركز الدولة لتقاسم السلطة في إدارة المجتمعات في الدول السلطانية الناشئة ، ومع ذلك لم تتخل السلطة عن مشروع توطين الفلسفة في منظومة الثقافة الإسلامية بل أبقته مشروعا تلوح به وربما استخدمته أو استعانت به في بعض الأحيان .
وإذا كانت علاقة المؤسسة المعرفية (الفلسفية) بالمؤسسات الاجتماعية المجاورة لها والمحيطة بها وتلك التي تتحكم بها ربما ، هي الوجود الاجتماعي الخارجي لهذه المؤسسة الجديدة والذي بدت فيه غريبة وعلاقتها ضعيفة وهشة ، فأن هناك وجودا اجتماعيا داخليا لهذه المؤسسة ، وهو وجودها المهني الذي حاول أن يكون بديلا عن قوة التنظيم الخارجية للمؤسسة المعرفية ( الدولة ) حيث سيحاول هذا الوجود المهني تنظيم المؤسسة المعرفية وكيانها الفلسفي تحديدا بالاعتماد على حيثيات وجود هذه المؤسسة ، فعندما فتر اهتمام الدولة بمشروع توطين الفلسفة ، كان هناك عدد من الشراح والمترجمين والنقلة والمعلمين والتلاميذ الذين أرادوا مواصلة العمل في المشروع الفلسفي الذي أقترب من المغامرة الفردية فحاولوا تقليد رجال الدين في التقرب من السلطة السياسية وتبادل المنافع معها ، وأدرك المشتغلون في المشروع الفلسفي قوة الجذر الديني المؤسس للثقافة والمجتمع الإسلاميين مما وفر لهم تحليلا واقعيا للفضاء الاجتماعي الذي يعيشون فيه ، فحاولوا أيجاد وظيفة لمشروعهم في هذا الفضاء وكان للتراث الذي اعتمدوه في تأسيس مشروعهم دور في تحديد هذه الوظيفة ، فقد ركن المشروع الفلسفي الإسلامي إلى الأفلاطونية المحدثة باعتبارها تراثا يعتمد عليه في تكوينه المنهجي و المفاهيمي و المعرفي(القضايا والمباحث الفلسفية) وكانت الأفلاطونية المحدثة قد حاولت التوفيق بين عدد من الاتجاهات والمذاهب الفلسفية ( الفيناغورية ، الأفلاطونية ، الهرمسية وحتى الارسطية ) وذلك لتكوين منظومة فلسفية قادرة على إثبات العقائد الدينية والدفاع عنها بلغة وآليات وقضايا من خارج السياق الديني وبالتحديد من خلال السياق الفلسفي وبقيت مدارس الفلسفة في منطقة الشرق الأوسط تلقن وتنشر أفكار الأفلاطونية المحدثة حتى الزمن الذي تحولت فيه الدولة الرومانية إلى دولة مسيحية ثم تأسيس الدولة الرومانية البيزنطية ( الشرقية ) التي حرمت ومنعت الاشتغال بالفلسفة وأغلقت مدارسها وحجزت كتبها في أماكن حصينة حتى أيام المأمون العباسي .
قراءة المشروع الفلسفي الإسلامي للأفلاطونية المحدثة أوحت له بتبني محاولة التوفيق بين مقولات النقل (الشريعة) ومقولات العقل (الفلسفة) ، وهذه المحاولة التوفيقية اتجهت دائما لاثبات التطابق بين مقولات السياقين (الشريعة والفلسفة) وقدرة العقل على اكتشاف مقاصد الشريعة ، بل وقدرة العقل على الكشف عن العقائد الدينية المتعلقة بالعالم الآخر لوحده ،وقد استفادت المؤسسة الدينية من هذه المحاولات في تجديد أساليب الدعوة للدين الإسلامي و الأحكام الفقهية,وحدث ذلك من خلال تبني المؤسسة الدينية للغة الفلسفة وبعض قضاياها .
وإذا كان التوفيق بين الدين والفلسفة قد هيأ لتقبل هذه الفلسفة في منظومة الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي فان هذه النزعة التوفيقية قادت المشروع الفلسفي الإسلامي الى اعتماد وظيفة التأويل لممارسة حياته داخل الفضاء الثقافي والاجتماعي الإسلامي ، وقد انحصرت آفاق هذا التأويل في تأويل النص الديني. والمقاربات التأويلية التي أنتجها المشروع الفلسفي الإسلامي للنص القرآني اتجهت إلى ما يبدو عقلنة للشرع بإخراج النصوص التي تبدو غرائبية للعقل(كما يتمظهر في النصوص الفلسفية اليونانية) إلى مفهوم الحقيقة المجازية والاعتماد على هذا المفهوم في تأويل كل ما يبدو لها غير ملائم أو منسجم مع التصورات الفلسفية والقوانين الطبيعية ، وهذا السلوك التأويلي خفف من وطأة النص الديني على السلوكيات بعامة وعلى سلوكيات السلطة السياسية بخاصة كما خفف من تأنيب الضمير الديني الذي ربما يعانيه الحاكم السلطاني لأنهماكه في الملذات واعتماده لأساليب سياسية لا توافق التعاليم الدينية وهكذا حصل الفلاسفة على موقع قريب من السلطة ليكونوا بموازاة المؤسسة الدينية ليس بمقدار السلطة التي يتمتعون بها فقط ولكن أيضاً بالعلاقة التي أقاموها مع النص القرآني, وللمحافظة على هذه المكاسب أنهمك الفلاسفة في العملية التوفيقية بين الفلسفة والشريعة ، وإذا كانت هذه الأخيرة ذات كيان نصي محدد فأن الفلسفة تمتاز بالتبعثر والتناقض بمعنى أنها لا تشكل وحدة نصية تتجه إلى ذات الهدف كما يحدث في الشريعة، بل أن الاختلاف هو السمة الأساسية للكيان الداخلي للفلسفة كسياق معرفي، ووضع الفلسفة هذا يعرقل عملية التوفيق التي يحتاج استمرارها إلى وجود حدين واضحين ومتموضعين ، وللتغلب على هذه الإشكالية كان لا بد من أجراء عملية تنميط وقولبة للنتاج الفلسفي اليوناني ، بحيث يغدو وحدة نصية منسجمة في موازاة الوحدة النصية المنسجمة للشريعة ، ولهذا اتجه الفلاسفة إلى استعمال مفهوم (الحكمة) بديلاً عن (الفلسفة) ، ويبدو مفهوم (الحكمة) أكثر تطرفاً في ادعاء المعرفة وحيازتها ومصداقيتها من مفهوم ( الفلسفة ) الذي يعني(حب الحكمة) ويؤشر أيضاً إلى الرغبة والمحاولة الفردية في الكشف المعرفي ويترك مسافة للشك في المعرفة التي يمكن حيازتها ، بمعنى أدق ، أن مفهوم(الفلسفة) أكثر تواضعاً من مفهوم (الحكمة) الذي يمثل رؤية الفلاسفة المسلمين للفلسفة كسياق معرفي ومنظومة موحدة لا يمكن أن تقود ألا إلى نتائج محددة ، فألغوا بذلك إمكانية التعدد والتناقض والإتلاف داخل هذا السياق ، فأنكر الفارابي إمكانية وجود خلاف بين حكيمين عظيمين مثل أفلاطون وأرسطو فانبرى للتوفيق بين آرائهما وكتب(كتاب الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس)3 أما أبن سينا فلم يتحمل رؤية الخلافات الواسعة بين المذاهب والمدارس الفلسفية اليونانية ، فأتجه شرقاً بحثاً عن حكمة مشرقية ومنطق مشرقي لا يقترف الأخطاء أو يهيئ لنتائج مغلوطة ويبرر عقائد (يراها أبن سينا ) فاسدة ، ألا أن أبن رشد ظل ينظر إلى الحكمة(الفلسفة) باعتبارها بنية متناسقة وموحدة تواجه بنية غير متناسقة ومتصارعة هي الشريعة التي مزقتها التأويلات . 4
وإذا كانت الفلسفة تتجه إلى تحقيق المعرفة أساساً فأن الحكمة تتجه إلى تحقيق معرفة نافعة وتبدو أحياناً هذه الحكمة نوعاً من إدارة للمعرفة تسعى إلى المحافظة على قوام النظام الاجتماعي لذلك كثيراً ما أوصت بالكتمان لتلك الحقائق التي قد تشوش على هذا النظام أو على العقائد التي أسسته فتراكمت معارف سرية في تأريخ الفلسفة الإسلامية تشوش أي قراءة تحاول كشف اتجاهات الخطاب الفلسفي الإسلامي ، إن وجد هذا الخطاب . ذلك أن انهماك المشروع الفلسفي الإسلامي في المحافظة على ذاته وتحقيق توطنه داخل منظومة الثقافة الإسلامية ، شغله عن إنتاج خطاب فلسفي متماسك فقد أنهك نفسه في التوفيق بين حدود ( الفلسفة والشريعة ) متغيرة ومتناقضة وتعيد إنتاج نفسها باستمرار في تصور براغماتي للعقل يحدد وظيفته بحفظ التوازن داخل بنية المجتمع وهذا التصور أدى إلى التفريط بالغاية المعرفية للمشروع الفلسفي الإسلامي ،حيث كان انشغاله الأساسي التوفيق بين نقولات الشريعة الإسلامية ونقولات الفلسفة اليونانية مدعياً أن يوفق بين العقل والنقل .
يمكن القول عن محاولة توطين الفلسفة في منظومة الثقافة الإسلامية بأنها محاولة تحديثية تبنتها الدولة ودعمتها ألا أنها في ذات الوقت وظفتها لمصلحتها الخاصة وحولتها إلى جزء من ممارستها السياسية ، وتدخل الدولة هذا ربما عرقل النمو الطبيعي للفعل الفلسفي داخل منظومة الثقافة السلامية ولينجز مشروعاً يمتلك ذاته وأهدافه وطرائقه ولغته ، أن استيراد سياق معرفي ضمن عملية سياسية لا يمكن أن يؤسس لتطور حضاري حقيقي ، كما أن انشغال الفلاسفة في عملية متواصلة من النقل والنقد والتأويل والتوفيق لتحقيق الذات منعهم من إنتاج معرفة فلسفية متماسكة ، لتكون الفلسفة أول المغادرين انقراضا من منظومة الثقافة الإسلامية .
المصادر :
1ـ فروخ ،عمر . تاريخ الفكر العربي ،دار العلم للملايين ،بيروت 1966,ص. 273 كما يرد النص في كتاب الفهرست لابن النديم .
2ـنفسه ص290 .
3ـنفسه ص355 .
4ـابن رشد ، فصل المقال ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، الطبعة الثانية ، ص121 .



#ساطع_راجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ادارة المعرفة( قراءة في الاضحوية لابن سينا )
- الاداء الضعيف
- المالكي.. حكومة وأزمة
- مهمة عاجلة
- جبهة التوافق..المواقف المتأرجحة
- تصريحات ليست عابرة
- قانون النفط..صفقات اللحظة الأخيرة
- نقد النص القديم - بنية التورية والسرد الحكائي
- السعودية هدف أيضا
- جدل امريكي
- سرديات الاختلاف/ بابل :صراع اللغات
- منهج المقاطعة
- الجماعة المقدسة
- الحلقات المنسية في العراق
- المالكي ليس هو المشكلة
- السلطة الأنثوية
- احتكار ثقافي
- فوضى السلاح
- قلق في الجوار
- الحلقة الاقتصادية المفرغة


المزيد.....




- روسيا تعلن احتجاز نائب وزير الدفاع تيمور ايفانوف وتكشف السبب ...
- مظهر أبو عبيدة وما قاله عن ضربة إيران لإسرائيل بآخر فيديو يث ...
- -نوفوستي-: عميلة الأمن الأوكراني زارت بريطانيا قبيل تفجير سي ...
- إصابة 9 أوكرانيين بينهم 4 أطفال في قصف روسي على مدينة أوديسا ...
- ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟
- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساطع راجي - توطين الفلسفة