أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين















المزيد.....

في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2006 - 2007 / 8 / 13 - 11:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقضي الجدارة الأخلاقية أن ينتقد المثقف جماعته، سلوكها حيال الغير بخاصة. فإن عرف نفسه كعربي وجب عليه نقدُ ما يحتمل أن يلحقه العرب بغيرهم من مظالم. وإن كان سوريا كان أولى به أن ينتقد أفعال بلده، تلك التي يمكن أن تترتب عليها نتائج تمس آخرين بخاصة، والضعفاء بالأخص. فإذا كان مسلما حق عليه "الأخذ على يد" المسلمين الذين يعتدون على غيرهم أو يضطهدونهم. هذا ما يجعل منه فاعلا أخلاقيا. لا جدارة أخلاقية، بالمقابل، في نقد الغرب مثلا أو إسرائيل، مهما أمكن لهذا النقد أن يكون صحيحا معرفيا وسليما سياسيا. نحن مسؤولون أخلاقيا عن أفعالنا، لا عن أفعال خصومنا وأعدائنا. وينال احترامنا الأميركي أو الإسرائيلي الذي ينتقد سياسة بلاده وثقافة مجتمعه، أكثر من ذاك الذي لا يكف عن نقد ثقافتنا نحن ومجتمعنا وسياستنا.
يبدو الأمر معكوسا في ثقافتنا المعاصرة: لا نكف عن لوم الآخرين، مثبتين أنفسنا في وضع الضحية الدائمة، بينما نبيح لأنفسنا السكوت عن ما نلحقه بغيرنا من مظالم. ونظننا نتبين سببين وراء ذلك. الأول، روح قبلية موروثة لم تتعرض للنقد والمساءلة في أوساطنا، ولم يتح حضورها الضاغط تراكم تراث انشقاقي مهم لدينا؛ والثاني صناعة سياسية، تتولاها وتحرص على استمرارها سلطات حكومية وحزبية ودينية وأهلية، وهي تتدبر توجيه الجمهور ضد خصوم وأعداء، ضد خونة وكفرة، بما يساعد تلك السلطات على مصادرة احتجاجه الوجداني والسياسي المحتمل.
ويكشف التعامل العربي مع نوام تشومسكي، المفكر الأميركي، اليهودي، المنشق، عن استخدام فقير بمحتواه الأخلاقي لمثقف يتحلى بأخلاقية رفيعة في سلوكه الشخصي وفي نشاطه الفكري والسياسي. يستهلك مثقفون عرب كثيرون، قوميون ويساريون بخاصة، نقد تشومسكي للسياسات الأميركية والإسرائيلية للبرهنة على صواب انحيازاتهم الفكرية والسياسية. لا ينتبهون إلى أن ممارسة نقدية من موقع داخل المجتمع والثقافة الأميركيين، لا تحتفظ بالمعنى والوظيفة ذاتهما حين تنتقل إلى مجتمعات وثقافات أخرى، ولا يتبينون أن موقعهم الأخلاقي في ثقافتنا لا يناظر أبدا موقع تشومسكي في الثقافة الأميركية واليهودية. الرجل ينتقد جماعته، يقاوم ميلا طبيعيا للتماهي مع قومه، ويدفع ثمنا سياسيا ونفسيا كبيرا بالمقاييس الأميركية لانشقاقه. جماعتنا يستخدمون تشومسكي لتعزيز تماهيهم مع قومهم، وفي الغالب لتخوين مواطنيهم الذين قد يأخذون مواقف أكثر انشقاقية. موقعهم مناظر لموقع خصوم تشومسكي اليهود الذين يصفونه بأنه "يهودي كاره لذاته".
وليس كون دولنا أضعف من أميركا وإسرائيل مسوغا للامتناع عن نقد بلداننا وثقافتنا إلا إذا افترضنا أن الضعيف عادل لمجرد كونه ضعيفا. والحال، ليس هذا صحيحا. فالجور في بلداننا، وفي علاقاتها مع غيرها، جم وفير. ثم إن المظلومية والعدالة ليست خصائص ماهوية لأي شعب أو أمة أو ثقافة. فما من شعوب خيرة وعادلة فحسب ("نحن") وأخرى ظالمة وشريرة فحسب ("هم"). هذا وهم تشيعه إيديولوجيات الهوية، قومية أو دينية أو طائفية أو عرقية. ولو كنا أبدينا اهتماما أكبر بتطوير نقد متسق لجورنا، لحزنا صدقية أخلاقية وثقافية أكبر، لا أصغر، في نقد أميركا وإسرائيل.
واقع الأمر أننا نبذل لجماعتنا ولاء مطلقا وغير نقدي، ولخصومنا المفترضين نقدا صرفا لا يمازجه أي تقهم، كيلا نقول تعاطف. لذلك كان تعاملنا مع تشومسكي تطفليا وأداتيا، هو جيد لأنه ينتقد"هم"! أيضا كان موقفنا من إدوارد سعيد ملتبسا. سرّنا وجود مثقف مـ"نا" بهذه القامة، لكن لم نستطع مجاراته في التعاطف مع معاناة اليهود قبل تأسيس إسرائيل، وتشخيصه حال الفلسطينيين بأنهم "ضحايا الضحايا"، وإدانته الجازمة للعمليات الانتحارية. وبالخصوص لم نستسغ أو نتقبل المبدأ الأخلاقي الرفيع الذي كان بلوره: لا تضامن بلا نقد. فلا يسع الفاعل الأخلاقي أن يتضامن مع أي طرف، بما في ذلك جماعتـ"ه"، دون أن يحتفظ بحقه في نقدها والاعتراض على أوجه من سلوكها وفكرها. النقد بند أساسي في "العقد التضامني"، إن صح التعبير. والتخلي عن هذا البند يرد التضامن إلى تعصب وقبلية، ويمحو شخصية الفرد ومبادرته ليغدو ابنا لغزية، يغوي أن غوت ويرشد أن رشدت، لا فضل له في رشادها ولا يتأثم من غواها. لا نتقبل مبدأ التضامن الدستوري أو المقيد هذا لأننا نريد تضامنا غير مشوب بتحفظ؛ نبحث عن تماه معنا، وإلا فالعداء.
على أن تصاعد موجات العنصرية الثقافية، الموجهة راهنا ضد عرب ومسلمين بصورة خاصة، تدفع لاقتراح عقد آخر، قد نسميه "العقد النقدي"، وهو يقضي بأن لا نقد بلا تضامن. والصلة بين النقد والتضامن أصلية، إذ أن روح النقد ولدت في مطالع الحداثة مع ولادة شاغل الارتقاء الأخلاقي والإيمان بالوحدة الإنسانية. ثم إن التضامن دستور النقد كما النقد دستور التضامن. فكما ينزلق تضامن بلا نقد إلى عصبية قبلية، فإن نقدا لا يلهمه تعاطف ينحط إلى تجريح وعصبية معكوسة، أو حتى عنصرية. ونجد نقدا كهذا عند أمثال كنعان مكية وفؤاد عجمي، ممن هم من أصول عربية، لكنهم يوجهون للعرب نقدا مطلقا، لا التزام فيه بروح "العقد النقدي"، بالتحديد الارتقاء الأخلاقي والوحدة البشرية. نقدهما يشييء العرب ويجردهم من إنسانيتهم، ويندرج بسهولة في خطط ومشاريع الجهات الأميركية الأكثر تطرفا والأشد عدوانية ويمينية وعنصرية.
والحال إن التعاطف ليس شيئا خارج النقد، ولا خارج المعرفة الموضوعية بالذات. والفارق في الإنسانيات ليس بين معرفة موضوعية بريئة من التعاطف (ومن الكراهية) وأخرى موضوعية بالكامل، بل بين معرفة موضوعية متعاطفة بوعي وبين معرفة متواطئة أو مسممة بالضغينة من وراء ستار من الموضوعية. فالتعاطف الواعي جزء من الموضوع الإنساني بالذات، ومعاملة الإنسان كموضوع محض هو حط منه إلى مرتبة شيء أو أداة.
وقد يبدو أن النموذجين، ابن غزية وابن مكية، متناقضان، لكن ثمة عدة مشتركات بينهما. أولها النزوع الإطلاقي، مرة لصالح التضامن ومرة لصالح النقد. والتضامن المطلق قبلية كما قلنا، والنقد المطلق عنصرية (نجد النقد المطلق في ثقافتنا موجها ضد اليهود بخاصة..). ثانيهما غياب الذات والضمير المستقل: تمّحي الذات لصالح القبيلة مرة، وتتورم خبثا وأنانية مرة (فترفض مبدأ الوحدة الإنسانية الشارط للذات المستقلة). وثالثهما أن التضامن القبلي غير النقدي والنقد البراني المبرأ من التضامن يتعاقبان طورين في دورة سيكولوجية واحدة. فالعصبوية المتولدة عن تضامن غير مشروط مهيأة هي ذاتها لأن تنقلب إلى عدوانية ناجمة عن نقد بلا ضوابط. وهما بعد بعدان متزامنان للسيكولوجية ذاتها. فالقبلي هو ذاته الناقد المطلق لقبائل أخرى، شأن أكثر الإسلامين والقوميين لدينا (عربا وكردا وسوريين..)؛ والناقد المطلق هو ذاته الذي يتماهى مع قبيلة أخرى، وقد يرفعها إلى مستوى مبدأ مجرد. مكية وعجمي نموذجان في هذا أيضا، فكلاهما مقرب من "قبيلة" المحافظين الجدد الأميركية، وكلاهما شاهدان "أهليان" يمنحان نظرياتها أساسا "موضوعيا".
وفي الجوهر يشترك التضامن غير النقدي والنقد غير المتعاطف في محو الطابع التعاقدي أو "الدستوري" لكل من النقد والتضامن.
ليس المثقف مطالبا بأن يتبرأ من "غزيته"، لكن ليس له أن ينصرها ظالمة أو مظلومة. هو ملزم، كفاعل أخلاقي، بأن ينتقدها إن غوت، وفي أضعف الإيمان أن يمتنع عن مشاركتها الغواية. فإن رشدت غزية، وقلما ترشد القبائل، وجب عليه أن يعمل على ينتظم رشادها "قبائل" أخرى.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن ...
- بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
- علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
- أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
- تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
- أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
- -أمة وسط- في المشرق؟!
- هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
- تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية
- تحقيب تاريخي بلا تاريخ: تعقيب على تعقيب بكر صدقي
- في شأن مشكلات العرب الواقعية ومشكلتهم الثقافية
- الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
- بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..
- نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع ...
- أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
- حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
- في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
- في عقلانية الدول وغبائها المرشح، في أغلب الظن، أن يستمر طويل ...
- أية دولة تقتضي العلمانية فصلها عن الدين؟
- هزيمة حزيران: من حدث تاريخي إلى شرط ثقافي


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين