أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - كريم مروة - دروس في الديموقراطية من مملكة البحرين الدستورية!















المزيد.....


دروس في الديموقراطية من مملكة البحرين الدستورية!


كريم مروة

الحوار المتمدن-العدد: 84 - 2002 / 3 / 8 - 07:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    




قد يبدو مستغربا، في حدود السائد من منطق الاشياء، ان يكتب يساري مثلي عن مملكة، اي مملكة، في شكل ايجابي. فكيف اذا كانت هذه المملكة تقع في شبه الجزيرة العربية، في أحد أطرافها، من الجهة الشرقية، على أرخبيل من الجزر يحمل، منذ القديم القديم من الزمان، اسم البحرين؟ ومصدر الاستغراب والاستهجان هو الترحيب بقيام مملكة حديثة في ارض العرب، تحل محل امارة قديمة. وهي مملكة، حين قرر أمير البلاد قيامها، كان يرمي الى جعلها تنتسب، في الشروط التاريخية للمنطقة، الى عائلة الملكيات الدستورية القائمة في عدد من بلدان العالم، لا سيما في بلدان اوروبا المتقدمة. واهتمامي بقيام مملكة من هذا النوع في الوطن العربي يعود لكون هذا الحدث يشكل، في نظري، نمطا جديدا من التحولات مختلفا عما هو سائد في بلداننا، منذ عقود. فهو، اي هذا الحدث، يبدو لي، بهذا المعنى، كالسير في الاتجاه المعاكس! وهذا أمر يحتاج، بالتأكيد، لتفسير، تفسير للحدث بذاته، وتفسير لدلالاته، في الوقت عينه.
المهم هو انني كنت في البحرين عندما أعلن أميرها محمد بن عيسى آل خليفة قيام المملكة. ولكنني كنت أعلم ان قيام هذه المملكة سيتم في هذا التاريخ بالذات، الواقع فيه الرابع عشر من شهر شباط من العام الحالي. ففي هذا التاريخ من العام الماضي صوّت البحرينيون، تلبية لدعوة أمير البلاد، بكثافة عالية (98) لصالح ميثاق العمل الوطني، الذي ينص على وضع دستور جديد للبلاد، هو دستور مملكة البحرين الدستورية. وهو الميثاق الذي يعيد البحرين الى تاريخ عام 1973، اي الى مسار من الاحداث والتحولات كان متميزا، في حينه، عما كان سائدا في المنطقة. ففي ذلك التاريخ انشأ أمير البلاد دستورا جديدا، وأجرى انتخابات لأول مجلس تأسيسي من نوعه، مؤلف من 30 نائبا، كان لليسار فيه ثمانية نواب. وكانوا، بالدور الذي مارسوه، من داخل المجلس، خلال العامين من حياة هذا المجلس (1973 1975) وفي الحياة العامة للبلاد، رموزا وطنية وديموقراطية مرموقة. واستمرت اسماؤهم، في السجون وفي المنافي، بعد حل المجلس (1975)، تعبّر عن الارادة الشعبية في العودة بالبلاد الى ذلك التاريخ من التطور الذي انقطع.
ستة وعشرون عاما هي الاعوام التي عاشت فيها البحرين، في الاتجاه النقيض لدستور عام 1973. وكانت السنوات العشر الاخيرة منها سنوات صراع قاسٍ أساءت، بما حصل فيها، الى الجزيرة، في السياسة وفي الاقتصاد، في الوقت الذي كانت تحاول فيه ادارة البلاد تحويل هذه الجزيرة الصغيرة الفقيرة النائية الى مركز مالي وتجاري يتجاوز حجمها وقدراتها، بديلا لبيروت، التي كانت قد وقعت في أتون الحرب الاهلية اللبنانية، وصار متعذرا عليها الاستمرار في دورها التاريخي المالي والتجاري والخدماتي النادر المثال. الا ان مطالع القرن الجديد قد فاجأت الجميع، في البحرين وفي الجوار من بلدان الخليج، بانفتاح هذه الجزيرة على أفق جديد نقيض لما كان سائدا فيها خلال تلك السنوات العجاف، بدا، في صورته، نوعا من العودة بالتاريخ في الجزيرة الى سياقه القديم، بعد انقطاع دام أكثر من ربع قرن. فبعيد عام، او أقل من العام، على وفاة الامير الأب، افتتح الامير الابن عهدا جديدا شق فيه عصا الطاعة على ما كان سائدا، معلنا رغبته في اقامة نظام جديد للبلاد، يطل منه على العالم المعاصر في شكل مختلف عن العهود السابقة. وهو تحول تقاطع فيه مزاج امير عصري مع مطامح شعب شغوف بالحرية، عريق في النضال من أجلها، من دون كلل، وبتضحيات سخية وكبيرة، راغب، بإصرار، في اقتحام باب التغيير، حتى ولو كانت الطريق إليه طويلة، وحتى لو جاء هذا التغيير في شكل تدريجي وبخطوات ناقصة! وهذه، لعمري، واحدة من سمات هذا الشعب التي تدل على ارتقاء في الوعي، نرجو له ان يستمر في تصاعد، وألا تعديه أمراض الواقع العربي المتخلف، سواء في الجوار، أو في الجغرافيا العربية الممتدة حتى المحيط.
لن أدخل، هنا، في تفاصيل ما نص عليه الدستور الجديد وما جاء في المذكرة التفسيرية له. ولن أدخل في فحوى التعديلات التي جرت على بنود الميثاق الوطني الذي صوت عليه البحرينيون بكثافة في العام الماضي. الا انني لا أستطيع الا ان أتوقف عند ما أشارت إليه، واعترضت عليه، المعارضة اليسارية والاسلامية، في هذه التعديلات الدستورية، من تراجع في موضوع الديموقراطية عما كان ينص عليه الميثاق الوطني. وجوهر هذه التعديلات المشار اليها يتمثل في إعطاء المجلس المعين دورا أكبر من الدور الذي كان مفترضا للمجلس المنتخب، الامر الذي يعطي للمعارضة الحق في القول بأن في هذا التعديل ما يعتبر انتقاما من الديموقراطية التي كان الميثاق الوطني يعدهم بها. الا ان هذا التعديل ليس المقياس الوحيد للتحولات التي بدأت بشائرها منذ عام، وتستمر، حتى الآن، من دون تقليص حقيقي في زخم اندفاعها. وما يدعوني الى هذا الاستدراك هو ما عبرت عنه، بوضوح قاطع، مجمل التدابير التي سبقت اعلان الميثاق وترافقت معه. وأكتفي هنا بتعداد هذه الاجراءات، من دون الدخول في شرحها وشرح شروط قيامها وأشكال تطبيقها. فما هي هذه الاجراءات؟ انها، اولا، الافراج عن جميع المعتقلين السياسيين، بمن فيهم اولئك الذين صدرت بحقهم أحكام بالاعدام، ثم اعادة جميع الذين كانوا في الخارج، من دون شروط، والتعويض على من كانت لهم حقوق، لا سيما من الموظفين السابقين، وإطلاق حرية تشكيل احزاب سياسية ونقابات عمالية وجمعيات من كل الانواع (بلغ عدد هذه الجمعيات التي جرى الترخيص لها 350 جمعية) ومنح قروض لعدد كبير من البحرينيين (لا أعرف شروط ذلك) لبناء مساكن، ثم إعفاء هؤلاء من تسديد نصف قيمة هذه القروض. يضاف الى ذلك قرار أميري (قبل ان يصبح الامير ملكا) يقضي بإقامة نصب تذكاري لشهداء البحرين (الذين سقطوا خلال صراعات السنوات الماضية). الا ان ما هو مهم، لتأكيد المعنى المتقدم في هذه الاجراءات، هو إلغاء قانون الطوارئ وإلغاء قانون محكمة أمن الدولة، الذي صار، بعد حل المجلس التأسيسي في عام 1975، المرجع الرسمي في الاحكام.
تلك هي الاجراءات التي اتخذها أمير البلاد، خلال العام الذي رافق وتلا التصويت على الميثاق الوطني. الا ان الدستور الجديد للبلاد، الذي يقر بالتعددية، في إطار الملكية الدستورية، قد أعطى للمرأة حقوقا سياسية واجتماعية تتساوى فيها مع الرجل، فتنتخب وتُنتخب، وتمارس نشاطها بالحرية ذاتها والحقوق ذاتها التي للرجل. وهي خطوة تاريخية تتقدم فيها البحرين على بعض الديموقراطيات العربية العريقة. ويجري حديث في كواليس البحرين ان الملك سيقدم، بعد الانتخابات النيابية، على إدخال امرأة او أكثر في الحكومة الجديدة المرتقبة. ورغم ان التعديلات الدستورية قد أضعفت دور المجلس المنتخب (40 عضوا) لصالح المجلس المعين (40 عضوا) فان المجلس الاول هو الذي يضع التشريعات، وهو الذي يراقب عمل الحكومة، من دون ان يملك صلاحية سحب الثقة منها، اذ ان هذه الصلاحية تعود، في القرار النهائي، لملك البلاد. لكنه، اي المجلس المنتخب، يملك الحق في سحب الثقة من وزير لا يجد فيه الكفاءة، او لا يجد في سلوكه ما يليق بوزير. اما المحكمة الدستورية، التي يقضي الدستور بإنشائها، فان وظيفتها هي مراقبة دستورية القوانين. ومثل المحكمة الدستورية هناك ما يشبه المؤسسة التي تراقب الشأن المالي، وكأن المقصود بها (وهو بالنسبة لي أمر غير واضح) ان تحد من الفساد الذي ساد وعم طويلا، وصار حديث الناس في كل الاوساط. وقد أتيح لي أن أسمع من فم وزير الاشغال في الحكومة الحالية ان الحكومة تتشدد في مراقبة الفساد منذ لحظة تشكيلها، من دون ان تدخل في متاهات المحاسبة عن الماضي.
وغني عن البيان ان كل هذه الاجراءات، قديمها وحديثها، ما نص عليه الدستور منها وما جاء تأكيدا لروح الدستور، انما تعبر عن اتجاه في التطور جديد من نوعه، كما أشرت الى ذلك في البدء. وهو ما تبين لي خلال الأيام الخمسة التي قضيتها في البحرين. إذ كنت ألبي دعوة من أصدقائي القدامى من قادة الحركة الوطنية البحرينية، الذين كانت قد بدأت علاقتي بهم منذ أوائل الستينات (أركان جبهة التحرير الوطني الذين أصبحوا اليوم قادة جمعية المنبر الديموقراطي التقدمي، التي يرئسها أحمد الذوادي). فقد كانت تلك الأيام، بالنسبة اليّ، فرصة تاريخية للتأكد من ان قيام مملكة البحرين، في هذه الشروط المشار اليها، هو حدث يستحق ان تزف انباؤه، ويستحق ان تقل ابناؤه الى أرجاء الوطن العربي كله. فهي ملكية دستورية تقف في منتصف الطريق بين ملكيات بلداننا الغنية عن التعريف والملكيات الدستورية المعروفة في بعض بلدان أوروبا المتقدمة. وهي، اي هذه الملكية، اذ تقفز من الماضي الى المستقبل بهذه السرعة، فانها تشير الى ان البحرين تدخل في تجربة جديدة تتجاوز انظمة البلدان المجاورة، وتكاد تتجاوز، في ما تؤسس له وتدخل فيه من حياة ديموقراطية، الانظمة الجمهورية في بلداننا العربية، بما في ذلك الاكثر قدما وعراقة منها. ذلك انه بمقدار ما تشير اليه هذه التجربة في البحرين من تقدم ملموس في اتجاه الديموقراطية تشهد هذه الديموقراطية تراجعا في جمهورياتنا الديموقراطية القديمة والعريقة هذه. اذ لم يبق من تداول ديموقراطي للسلطة في هذه الجمهوريات الا الجمهورية اللبنانية. بل ان جمهوريتنا اللبنانية، التي تمارس تداول السلطة بالانتخاب، منذ فترة الانتداب حتى هذه اللحظة، باتت تواجه خطر الانزلاق نحو الاستبداد السلطوي، الذي تتعمم نماذجه في اكثر من بلد عربي. وبهذا المعنى يصبح مبررا توصيفي لهذا التحول الديموقراطي في البحرين بأنه نوع من المسير في الاتجاه المعاكس!
الا ان ما شهدته خلال إقامتي القصيرة في البحرين قد أذهلني في أمر وأقلقني في امر آخر. أذهلتني تلك الخلية الحية الفائقة الغنى من النقاش، الذي شهدته البلاد في مناسبة الاحتفال بمرور عام على الميثاق وبإعلان الملكية الدستورية. وقد أتيح لي أن أشارك في بعض الندوات التي غصت بالمئات من المشاركين من الشباب والشيوخ والنساء، وبعدد غفير من المثقفين ومن الوجوه السياسية القديمة والحديثة. وكان البارز في هذا النقاش التعبير الحر والصريح عن مشاعر الاعتزاز بالتجربة، وعن مشاعر القلق المشروع من مخاطر تهددها، من الداخل ومن الخارج. وهذا النوع من النقاش هو دليل حيوية يعرف بها مجتمع البحرين، حتى في اكثر العهود قمعا واستبدادا. غير ان ما أقلقني هو ما سمعته، خلال المناقشات العامة، وفي حوارات خاصة، من مبالغات، حتى عند بعض القياديين، في النقد الصريح والجريء لبعض التعديلات الدستورية، الى حد تغليب السلبي على الايجابي من مجمل التدابير والاجراءات والتحولات التي اشرت اليها آنفا. أقول ذلك، رغم ان الاحزاب الخمسة القديمة الجديدة، جمعية المنبر الديموقراطي التقدمي وجمعية العمل الوطني الديموقراطي وجمعية الوفاق الاسلامي وجمعية المنبر الوطني الاسلامي وجمعية الوسط العربي الاسلامي الديموقراطي، قد أصدرت بيانا مشتركا قدمت فيه ملاحظاتها على التعديلات الدستورية، واكدت ((على اهمية استمرار نهج الانفتاح والحوار الديموقراطي الايجابي، ونبذ كافة اشكال العنف والقهر، من أجل تجاوز أية اشكالات تعيق المشروع الاصلاحي وتطور الحياة السياسية في مملكة البحرين)). الا ان هذه الاحزاب ذاتها قد رأت في التسريع بإجراء الانتخابات البلدية (شهر أيار من العام الحالي) والنيابية (شهر تشرين الاول من العام الحالي) بدلا من إجرائها بعد ثلاث سنوات، دليلا آخر على ((التراجع)) في تحقيق الديموقراطية، اذ اعتبرت ان هذا التسريع في اجراء الانتخابات سيكون في غير صالحها، لأنها لم تكمل اعداد اوضاعها لمثل هذه الانتخابات. في حين ان منطق الاشياء يشير إلى التسريع في إجراء الانتخابات، اياً كانت التفسيرات السياسية لها والاستهدافات منها، هو تثبيت للنهج الديموقراطي، من خلال التسريع في تشكيل المؤسسات الدستورية، التي بقيامها فقط، فضلا عن احترامها في الممارسة، تدخل البلاد فعلا في الحياة الديموقراطية.
وقد حرصت على القول لأصدقائي من المثقفين ومن قادة الاحزاب ان ما يجري في البحرين يعنينا نحن اللبنانيين، ويعني كل العرب. ذلك ان الواقع الراهن في البلدان العربية هو واقع آسن. وفي ظل هذا الواقع يذبح الشعب الفلسطيني، وتذبح قيادات احزابه وكوادرها، وتحبس السلطة الوطنية وتدمر أجهزتها. والانظمة تتفرج على ما يجري، غارقة في استبدادها وفي عجزها عن حل أزماتها الاقتصادية الاجتماعية المزمنة.. والجماهير المقموعة والمقهورة والمسلوبة حقوقها السياسية والاجتماعية، تكاد لكثرة معاناتها ولطول هذه المعاناة، تفقد القدرة على الحركة، وتدخل في ما يشبه اليأس من الحاضر والمستقبل. وهذا الواقع العربي بالذات هو الذي يعطي لأي تطور في الاتجاه المعاكس، أياً كان حجمه، الأمل بالخروج من النفق المظلم الى الحياة الجديدة، اي الى العصر بتحولاته الكبرى التي تجري في كل الاتجاهات. ولذلك فان التمسك بأي خطوة تتم في الاتجاه الصحيح، من اجل تثبيتها، هو المطلوب منا جميعنا ان نقوم به، بكامل وعينا وبكامل إرادتنا.
وأشعر، وأنا أقدم هذا التقرير عن مشاهداتي في البحرين الجديد، انني بحاجة الى إضافة بعض المعطيات عن هذا البلد العربي، استكمالا للصورة. وأول ما أحب ان أشير اليه، في هذا السياق، هو ان البحرين، كما أشرت الى ذلك آنفا، هي ارخبيل جزر. خمس من هذه الجزر مأهولة، موصولة في ما بينها بجسور تجعلها جزيرة واحدة كبيرة نسبيا. وأما الجزر الاخرى فيخضع وجودها للمد والجزر، الذي تعرفه حركة مياه الخليج، اسوة بكل مياه البحار في كل مكان، كبيرها وصغيرها. غير ان معلومة تاريخية عن البحرين غير معروفة بالنسبة للكثرة من غير البحرينيين، وأنا منهم، باستثناء المؤرخين، أرى من واجبي أن أنقلها اليهم، هي ان هذا البلد العربي الصغير بمساحته (700 كلم2) والصغير بعدد سكانه (700 ألف نسمة) هو بلد عريق في التاريخ. فيه أقيمت ممالك منذ أربعة آلاف عام. وفيه حصلت ثورة القرامطة، المعروفة في التاريخ العربي بالثورة الحمراء. ويقول بعض مؤرخي البحرين، ويتداول هذا القول بعض المثقفين والسياسيين البحرينيين، (وهو يحتاج الى تدقيق من مؤرخينا) بأن الفينيقيين، الذين يفتخر اللبنانيون بأنهم ينتمون اليهم في النسب التاريخي، انما جاءوا الى الشاطئ اللبناني من البحرين، ومن بعض بلدان منطقة الخليج. ويدعمون اقوالهم هذه بإيراد أسماء مدن صيدون وصور وجبيل، التي يعود وجودها في البحرين وفي عمان وفي أقطار خليجية اخرى الى عهود قديمة، سابقة على زمن قيام فينيقيا اللبنانية!
اما المعلومة الاخرى المعاصرة فتتعلق بدور البحرين السياسي، الذي سبقت فيه جميع بلدان الخليج، بما في ذلك الكويت، في العمل السياسي والثقافي المبكر، وتشكيل احزاب، بما فيها احزاب يسارية ماركسية الاتجاه، والانخراط في نضالات سياسية ونقابية تميزت بالوعي وبقدر عال من الوضوح في الرؤيا السياسية. وقد حاولت حكومة البحرين، في النصف الثاني من السبعينيات ان تعطي الجزيرة الدور المالي، الذي كان يفترض ان تصبح فيه بديلا للبنان، خلال الحرب الاهلية. إلا أن البحرينيين يعترفون بأنهم لم يستطيعوا أن يحولوا بلدهم الى هذا البديل، بكل مستلزماته، وإن كانوا قد مارسوه بحدود معينة. ويستطردون قائلين إن للبنان ميزة لا يشاركه فيها آخرون من شقيقاته العربيات. وهو اعتراف لم أر فيه، من قبل البحرينيين، حساسية ما تجاه لبنان بمقدار ما رأيت فيه نوعا من الاحساس بالأسى لكون لبنان الذي يحبونه لم يتعاف بعد، برغم السنوات العشر التي انقضت على الحرب، من الآثار السلبية لتلك الحرب. ويشارك المثقفون البحرينيون، لا سيما منهم الذين عاشوا في لبنان او زاروه كثيرا، في تقدير أسباب هذا الوضع، ويجتهدون! ويكاد بعضهم يرى، من بعيد، ما عجز الكثيرون من اشقائهم اللبنانيين عن رؤيته، سواء في تحديد عناصر الازمة القائمة في لبنان، أسبابا ومسببين، أم في قراءة الدروس التي يجب ان تستخلص من أحداث ذلك الماضي الذي مضى، من اجل ولوج الطريق الى المستقبل، في شكل اكثر صحة واكثر انعتاقا. وهم، اي المثقفون والسياسيون البحرينيون، اذ يجتهدون في قراءة الواقع اللبناني، من بعيد، انما يمارسون، من خلال اجتهاداتهم هذه، مهمة البحث عن مستقبل البحرين، في ظل التجربة الجديدة، التي تنقلهم من عصر الى عصر آخر مختلف. فالبحرين المؤلفة دينيا من طائفتين كبيرتين، شيعية تشكل الاكثرية، وسنية تتألف الطبقة الحاكمة منها، ومن عدد قليل من المسيحيين واليهود، إنما تقع جغرافياً في مكان مثير لكل انواع المخاطر، بسبب كثرة المصالح وتناقضها بين بلدان المنطقة المجاورة. فهي تقع على الحدود مع المملكة العربية السعودية، التي تتصل معها بجسر عملاق يبلغ طوله ثلاثين كيلومترا، موّلت بناءه السعودية. وصار هذا الجسر المعبر اليومي للتجار والسياح وللراغبين في قضاء أيام العطل في الجزيرة، بحرية مطلقة في كل الميادين، لا تتوافر شروطها في بلدهم، بسبب اختلاف الاحكام والقوانين والعادات. وتجاور البحرين دولة قطر الملاصقة لها، والتي كانت تتصارع معها على جزر، خلال زمن طويل، احتكم حكام البلدين، في آخر المطاف، لحل هذا الخلاف، الى محكمة العدل الدولية، وقبلا بحكمها، وجاء الحكم في صالح البحرين. وانتهى الصراع. لكن البلدين يختلفان في السياسة، الداخلية والعربية والدولية. ولكل منهما اتجاهاته ومصالحه، وعلاقاته ونهجه في الحكم. وتقع البحرين، ايضا، في الضفة المقابلة للضفة الطويلة من الخليج العربي الفارسي التي تشكل مطل إيران، الجار الكبير، على مياه هذا الخليج العريق في القدم. ان هذا الموقع، بالذات، هو الذي جعل البحرين، في تاريخها الحديث، مركز اهتمام ومجال صراع في المنطقة حولها. وكانت الاعوام العشرة الاخيرة، في شكل خاص، اكثر فترات هذا التاريخ الحديث ميدانا للصراع. وكانت إيران شريكا مباشرا فيه، من جهة، وكانت السعودية، الشريك الآخر، من جهة ثانية. وكان ارتباط البحرين بالسياسة البريطانية كتقليد، من خلال وجود احد رموز الحكم الاستعماري القديم في مراكز عسكرية وأمنية أساسية، شريكا ثالثا في السياسة الداخلية للبلاد. وقد أدت تلك الصراعات الحديثة الى بروز الحركات الاسلامية، في الاتفاق والاختلاف في ما بينها، على أساس سياسي ومذهبي، اكثر القوى السياسية تأثيرا.
الا ان التحول الجديد في البلاد قد شكل بداية حقيقية لإعادة التوازن السياسي، بين الاحزاب الاسلامية الجديدة، ثم بينها وبين الاحزاب العلمانية، اليسارية الماركسية واليسارية القومية والقومية المنتمية الى الطراز القديم وللحركة القديمة، وتحديدا، من الناحية التاريخية، الى حزب البعث، العراقي الولاء.
ولن أغامر في الذهاب بالتحليل أكثر، حول هذا الواقع، قديمه وجديده. لكنني، مثل أي مراقب لأحداث هذه الأيام، التي تؤرخ بتفجيرات الحادي عشر من أيلول، لا أستطيع الا ان أشير الى تأثير هذه الاحداث على الدور الجديد للبحرين، والى احتمال ان تكون هذه الاحداث قد لعبت دورا معينا في التحولات الراهنة التي تشهدها البحرين، باتجاهاتها المختلفة.
بين زيارتي السابقتين الى البحرين، في عام 1978 وفي عام 1980، فاصل زمني يبلغ واحدا وعشرين عاما. في هاتين الزيارتين، اللتين كانت بينهما البحرين، بالنسبة الي، نقطة عبور الى أوستراليا والهند، او اليابان (لم أعد أذكر) لم أر بلدا حقيقيا مما كنت أنتظر. بل رأيت، يومها، ما يشبه القرية الكبيرة، لكنني، حين ذهبت الى المدينة القديمة، فوجئت بوجود احد كتبي واعدادا من مجلة ((الطريق)) تحتل مكانا بارزا في مكتباتها. ولاشباع فضولي في التعرف الى البلد طلبت من سائق تاكسي ان يجول بي في أرجاء البلاد. وحين توقف، بعد أقل من ساعة، سألته: لماذا توقفت؟ أجاب قائلا لي: انتهت الجولة يا سيدي! وهذا الذي رأيته هو كل البحرين...
في هذه الزيارة بدت لي البحرين بلدا آخر، أكبر وأجمل وأكثر عمرانا. الا انني لم أفاجأ بما رأيت من مظاهر مدينية حديثة مختلفة عما هو سائد في بلدان الجوار. فقد كنت أعلم ذلك من قبل. والجسر العملاق الذي يصل البحرين بالسعودية هو احد الادلة المشيرة الى ان البحرين ما تزال مستمرة في تطورها القديم، الذي يجعلها مزارا لجيرانها، من كل الاوساط ولكل الاغراض. وقد لفت نظري، في الحفلة الموسيقية الغنائية التي أحياها الفنان مارسيل خليفة، ان مئات من السعوديين جاؤوا خصيصا لحضور الحفلة، ثم عادوا الى منازلهم، عبر الجسر العملاق ذاته، بعد انتهاء الحفل، كما لو كانوا ينتقلون من حي في المدينة الى حي آخر.
سيقول بعض الخبثاء، بعد الانتهاء من قراءة مقالي هذا، يا لها من مفارقة! يساري عتيق معروف يعلن، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بعد انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، ترحيبه بقيام ملكية دستورية، في جزيرة صغيرة نائية في أحد أطراف الخليج العربي هي البحرين، رغم ان هذه الملكية ما تزال في بداية تحولها في اتجاه الديموقراطية التي تتمتع بها الملكيات الدستورية في أوروبا.
بالنسبة إليّ لا غرابة في الامر، حتى ولو أعطينا لهذا الامر صفة المفارقة. وهي كذلك، في نظري. لكن دلالة ما أشرت اليه، في سياق هذا المقال، هو الدلالة الجوهرية، ومفادها أن علينا، لا سيما اذا كنا اشتراكيين وأنا معتز بانتمائي الى الاشتراكية كمشروع للمستقبل ان نقرأ الاحداث التي تجري أمامنا بالعين المجردة، من دون إسقاطات ايديولوجية عليها من أي نوع، وأن نحسن اختيار طرائق عملنا في الدخول في التحولات الايجابية من أجل جعلها تصب في الاتجاه الافضل الذي يقودنا إلى المستقبل.

©2002 جريدة السفير



#كريم_مروة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - كريم مروة - دروس في الديموقراطية من مملكة البحرين الدستورية!