أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غالي المرادني - الماركسية.. تناقضات متأصلة















المزيد.....



الماركسية.. تناقضات متأصلة


غالي المرادني

الحوار المتمدن-العدد: 2007 - 2007 / 8 / 14 - 07:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا يمكن لذي عقل مهما اختلف مع الفلسفة الماركسية أن ينكر أنها اكتسبت مكاناً سوف يظل دائماً محل احترام عدد كبير من الناس في أنحاء العالم، وعليه فإنه من الضروري أن يُفرد لـ (ماركس) حديث خاص وعقلاني بصفته أبرز الفلاسفة الملحدين في القرن التاسع عشر.

لقد كان إنكار وجود الله في الفلسفة الماركسية محصلة متكاملة لفلسفته التي لا تتوافق مطلقاً مع الدين ولم يكن إنكار وجود الله أمراً عارضاً، لقد اعتبر (ماركس) أن الناس مثل العناصر التي تتفاعل مع بعضها البعض، بتأثير قوانين اجتماعية واقتصادية تحكمهم... ولذلك فمن الواجب أن يتحرروا من سلطان تدخل الدين الذي يعرقل المسيرة الطبيعية للتقدم... وبالنسبة لـ (ماركس) لا يوجد للوحي والإلهام مكان في معجم ألفاظ فلسفته. لقد كان (ماركس) هو أول من جرّب إعطاء الإنسان حياة جديدة تقوم فقط على قدرة التفكير لديه... ومع أن هذا كان مسلكاً علمانياً خالصاً في أول الأمر... إلا أنه ما لبث أن استحوذ على تقدير من المجتمع... فقد ولد نوع من الديانة السياسية والاقتصادية كانت من خلق الإنسان قامت على إنكار وجود الله... ولم يستغرق الأمر طويلاً إلا وقد تحولت هذه الفلسفة المادية إلى مذهب حياتيّ وصار (ماركس) هو الرسول الأعظم لهذه الديانة اللاإلهية وكان وسيطها أيضاً... ولهذا فمن الواجب اللجوء إلى (ماركس) إذا ما أردنا أن ندرس هذه الفلسفة دراسة متعمقة، فقد كان من المقدر أن يتغير وجه العالم بسبب القوة المذهلة لفكرته هذه... وليس لمجرد آليات المادية الجدلية.

وعلى مقياس الصراع بين الأفكار والمعتقدات الإنسانية. نجد أن الدين بما يؤكده على دور الوحي الإلهي باعتباره أكثر الوسائل فعالية في الهداية يقف على الطرف الأقصى للمقياس... بينما تقف الماركسية بإنكارها التام للحقيقة الموحى بها على أقصى الطرف الآخر... وبين هذين الطرفين تقع مختلف الفلسفات التي يقترب بعضها من أحد الطرفين بينما يقترب البعض من الطرف الآخر... ولكن نفي جميع ما يمثله الدين نفياً تاماً ومطلقاً لم يوجد في أية فلسفة من الفلسفات كما هو موجود في فلسفة المادية الجدلية والاشتراكية العلمية.

ويبدو أن من بين جميع فلاسفة أوربا.. كان (ماركس) هو الأكثر ذكاء وواقعية، ومع ذلك فقد كان مثالياً بغير أن يعترف بمثاليته، شديد المكر في استراتيجية فلسفته ضد الله تعالى وضد الدين... وعنده لا يعني الله ولا الوحي شيئاً... وكذلك أيضاً لا مكان للإلهام في فلسفته... وهو لا يتفق مع مثالية (هيجل) التي تسبق الحقائق الموضوعية وتساهم في فعاليتها...
ففي فلسفة (هيجل) تولد الفكرة أولاً... ثم تتحقق التغييرات المادية فيما بعد تحت تأثيرها... وعلى ذلك حين تنمو الفكرة إلى مرحلة معينة من النضج وتصير حبلى بأفكار جديدة تخضع هذه الأفكار بدورها لاختبارات التحقيق... وهكذا تنتقل موجات هذه الأفكار موجة إثر أخرى وهي تحول الوقائع غير الموضوعية إلى حقائق موضوعية مشهودة يمكن إثباتها. لقد كان (ماركس) من الذكاء والمكر بمكان حيث أنه استطاع أن يتوقع البلاء قبل وقوعه... فإذا كانت الأفكار غير الموضوعية تتحول إلى وقائع موضوعية بحسب فلسفة (هيجل) فينبغي أن تكون الأفكار غير الموضوعية قد سبقت في وجودها الحقائق الموضوعية... مما يخلق سلسلة خطيرة من الأسباب والمسببات... إذ أن وجود الأفكار يقتضي أن يسبقه وجود الوعي الذي لا يمكن تصور وجوده بغير وجود الحياة... الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الله تعالى... باعتباره المؤثر والمحرك الأعظم الذي يمكن أن يحقق التغييرات الموضوعية بواسطة آليات الفكرة... ولهذا السبب لم يؤيد (ماركس) علناً المثالية (الهيجلية)...بينما من خلال تحوير وتحريف دقيق في تتابع الأسباب والمسببات جعل (ماركس) من الفلسفة (الهيجلية) فلسفة خاصة به حيث أنه وضع المادة قبل الفكرة، وعلى ذلك لم يبدأ الصراع الجدلي عنده بالأفكار وإنما يبدأ بالمادة المحكومة بالقوانين الطبيعية التلقائية... وبهذا الأسلوب الماكر فلا بد للمادية الجدلية أن تصل لنتيجتها المنطقية بمساعدة من الأفكار أو بغير مساعدتها... إن هذه الفلسفة تتصور سلفاً عدم وجود الله تعالى الذي كان من المحتم ازاحته عن كرسي قيادة شؤون الإنسان... لأن الإنسان وحده هو الذي من حقه أن يتولى زمام أمور نفسه بمسؤولية كاملة...

لقد كان اعتماد ماركس على العقل والمنطق اعتماداً كاملاً مثلما كان رفضه لله تعالى والوحي الإلهي رفضاً كاملاً أيضاً... إن مسألة المثالية المطلقة في مقابل المادية الجدلية ليست سوى مسألة ترتيب... وقضية أي منهما سبق الآخر ليست سوى قضية تنتظر البت فيها. وعلى هذا فليس في الماركسية من مكان لوحي من السماء.. وبالتالي لا مبادئ أخلاقية مستمدة من ذلك الوحي... لقد كان من الضروري بالنسبة لماركس إبعاد الأخلاقيات عن مجال الشؤون الإنسانية بسبب أنها تتضمن الاحتمال بأن تفضي إلى الله تعالى.

لكن هذا يؤدي بنا إلى سؤال هام، وحين نجيب عليه سوف نتمكن من فهم أفضل لنوايا ماركس الخفية. كيف استطاع ماركس أن يتخّيل سلامة وفعالية أي نظام يمكن أن يستمر بغير خلل مع غياب الأخلاقيات؟؟؟ لقد كان من الذكاء بمكان حتى إنه من المستحيل أن تكون هذه النقطة قد غابت عنه. لقد كان لديه من الذكاء ما جعله يدرك حلقة الاتصال بين الأخلاقيات وبين الله تعالى. إن الإنسان بطبيعته ليس حيواناً أخلاقياً... بل على النقيض... إنه الحيوان الأكثر فساداً تحت قبة السماء... وكل المحاولات لجعل الإنسان أخلاقياً انبثقت جميعها من الإيمان بالله تعالى... ولكن ماركس كان يعلم جيداً أن الإيمان بالله لم يكن متوافقاً مع فلسفته... وكل ما يقود إلى الله تعالى أو ما يمكن أن يقود إليه فهو محظور تماماً... وبناءً على ما سبق فقد كان عليه الاختيار بين أمرين: إما أن يشجع الأخلاقيات في نطاق الشيوعية حمايةً لمصالحها وبذلك يتعرض لخطر إعادة العالم الشيوعي إلى الله تعالى... أو يتجنب المخاطرة ويقبل عنها إمكانية وقوع ما يهدد النظام نفسه... ولعله كان يأمل أن يكون رعب العقوبة المتوقعة كافياً لتعويض غياب التربية الأخلاقية لدى القائمين على شؤون الحكم الشيوعي. إلا أنه كان مخطئاً في هذا... فالإنسان حيوان فاسد فساداً يتجاوز بطش العقوبة القاسية لنظام شمولي يعمل على تقويمه. إن الفلسفة الماركسية للمادية الجدلية لا تترك مكاناً لله تعالى... ولأجل هذا السبب بالذات شن (لينين) حملة شرسة على أولئك الذين بلغت بهم الجرأة أن يكونوا دعاة للفضيلة... حتى وإن كان ذلك ضمن نطاق الإطار الشيوعي.

وبالإضافة لما سبق فهناك سبب قوي آخر يتعلق بالغرض الذي ربما من أجله نبذ ماركس الأخلاقيات، وهو الخوف من أن تقف الأخلاقيات في الطريق لتكبح من جماح ثورة البروليتاريا. لقد كانت البروليتاريا مرتبطة بالسادة من البرجوازية باسم الالتزام الأخلاقي... وكان من الضروري تحطيم تلك الروابط وإطلاق الحرية للجماهير لتفعل كل ما تراه ممكناً للثورة ضد طغيان واستبداد الطبقة المغتصبة... لقد كان من الضروري عدم السماح بأي التزام أخلاقي أن يقف في الطريق... بل كان من الضروري أن تكون لهم الحرية الكاملة في القتل والاغتيال والنهب والحرق والتدمير حتى يمكن إبادة النظام الاقتصادي والسياسي البرجوازي... ولهذا فقد رأى ماركس في الأخلاقيات العدو اللدود لنظامه اللاإلهي.

ورغم واقعية وذكاء ماركس إلا أنه ظل مليئاً بالمتناقضات. لقد وضع لأفكاره المقترحة أساساً سليماً راسخاً يقوم على تفكير طويل وتحليل عميق، الأمر الذي يصعب معه تصور اتصافه بالتناقضات المتأصلة في شخصيته. ومع هذا فإن التناقضات كانت متفشية بعمق في الفكر الماركسي... وكانت إحدى هذه التناقضات هي النبذ الكامل للأخلاقيات من ناحية... وتنظيم حركة ثورية تقوم أساساً على ظاهرة أخلاقية هي التعاطف مع المظلومين من ناحية أخرى.

غير أن هذا لم يكن كل التناقض... إن التعاطف مع قضية البؤساء إذا ترك له الحبل على الغارب بغير أية ضوابط من العدل والإنصاف... فإنه يؤدي إلى اقتراف أعمال وحشية ضد الآخرين... وهنا يبدو التناقض أشد سطوعاً ووضوحاً... فإن لم تكن هناك عدالة في الشؤون الإنسانية ثم قمت بحركة باسم العدالة من أجل إعادة توطيدها... فإنك لا تستطيع أن تنتهك حرمة نفس المبادئ التي تؤسس عليها الحركة التي تقوم بها... إذ أنك بهذا تقطع نفس فرع الشجرة الذي تتعلق به للنجاة من السقوط.

لقد نسي ماركس بأن الذي ينشئ نظاماً لا يعترف بأية قيم أو اعتبارات أخلاقية يكون في تناقض مع نفسه حين يتوقع طاعة وولاء كاملين لنظام هو في جوهرة لاأخلاقي. كذلك هناك تناقض آخر في ماركس يتعلق ببرنامجه الذي خطط له أحسن تخطيط وحسب له ألف حساب لكي يتمكن من مساعدة البروليتاريا على الإطاحة بطغيان البرجوازية المستبدة... فمهما كان اسم هذه الفلسفة سواءً كانت تسمى الاشتراكية العلمية أو المادية الجدلية، إذا كانت هذه الفلسفة صحيحة بالفعل فإنها ليست بحاجة إلى مساعدة خارجية من أناس يعالجونها ويقودون خطواتها.

إلا أن الأمر الذي يستحق الوقوف عنده ومناقشته هو أن المادية الجدلية لماركس كانت متأثرة تأثراً شديداً بالمؤلف الضخم لداروين: أصل الأجناس (The Origin of Species)... وفي الواقع فإننا إذا ما درسنا هذا الأمر دراسة عميقة سنكتشف أن المادية الجدلية ليست سوى اسم آخر لنظرية داروين: صراع البقاء... بعد أن تم توسيعها لتشمل الشؤون الإنسانية. إن عوامل البقاء من حصول على الطعام وتوفير وسائل المعيشة هي الشغل الشاغل في حياة الإنسان... تماماً كما كانت هي نفسها العوامل المتسلطة على الأنواع الحيوانية الأولى من قبل أن يوجد الإنسان... إن قانون البقاء للأصلح ما زال يعمل ويؤثر الآن تماماً كما كان يعمل في السابق... بلا أي اختيار للحياة في أن تنتهج نهجاً يختلف عما يفضي به هذا القانون... وهذه حقيقة علمية... فإذا كانت الفلسفة الماركسية لا تتسم بهذه الدقة والحتمية فلا يمكن لعقيدة ماركس أن توصف بأنها علمية... وبالتالي فإن المادية الجدلية تفقد قيمتها كظاهرة طبيعية حتمية.

إن التطور والارتقاء عند داروين يختلف عن المادية الجدلية لماركس، فالنظرية الدارونية تسود وتهيمن على كل ما عداها في صياغة شكل الحياة وشق طريقها... وهي ليست في حاجة إلى برنامج أيديولجي للدفاع عنها... كما أنها لا تفتقد المساعدة الخارجية لتوطيد أركانها... بل على العكس من هذا إن لها القدرة على تدمير وإحباط أية محاولة تعترض مسيرتها... وإن لم يكن داروين قد ولد وإن لم يكن أحد قد كشف أسرار الارتقاء والتطور لظلت حقيقة التطور بلا أي تغيير... ولما تسبب غياب داروين في حدوث نتفة من تغيير في حتمية هذه الحقيقة... فقوانين الطبيعة لا تعتمد في عملها على الفهم الإنساني... وليس لإدراك الإنسان أي دور في حقيقة وجود هذه القوانين.. وسوف تظل عجلة القوانين الطبيعية تدور سواءً فهمها الإنسان أم لم يفهمها. إلا أن الأمر يختلف تماماً في حالة المادية الجدلية... فلو لم يولد ماركس ولينين لما كان من الممكن أن تقع ثورة شيوعية لا في روسيا ولا في أي مكان آخر من العالم.. لقد كانت روسيا في تلك المرحلة في حالة استعداد تام للثورة بقيادة لينين أو بغيره... لقد كان الفرق الوحيد هو أن لينين استطاع أن يركب موجة الثورة حين تعالت تلك الموجة فاستغلها لمصلحة الاشتراكية العلمية، وأما في حالة المنظور الدارويني للارتقاء، لم تكن هناك حاجة بتاتاً إلى مدافع لحماية مصالح القوانين الطبيعية ولا منظم يساعد في تنظيم عمليات التاريخ الطبيعي.

وإذا ما عدنا لمقارنة فلسفة (هيجل) مع فلسفة ماركس سنجد أن السؤال الهام الذي يقفز إلى الأذهان هو: هل الأفكار تسبق التغييرات الموضوعية في العالم المادي؟؟ أم أن التغييرات الموضوعية نفسها هي التي أوجدت الأفكار عند تواردها؟؟ فإن كان ماركس على حق لم تكن به حاجة إلى القيام بحملة فكرية ومثالية حتى يحقق ثورة شيوعية، إذ ما كان ليحدث أي شيء يعارض حتمية النتيجة العلمية. ولو كانت الشيوعية بالفعل قانوناً في ذاتها كمثل قانون الارتقاء لكان من المستحيل لأية أفكار معارضة مهما كان من قوة تأثيرها أن تعوق توطيد وتقدم الشيوعية، حتى لو اتفقت وتواطأت تلك الأفكار على ذلك، وهذا مثال آخر على وجود التناقض في ماركس، فمن الواضح أنه يرى أن المادية الجدلية كانت تسبق الفكرة... ولكنه كان يستند تماماً إلى قوة الفكرة لتحقيق ماديته الجدلية.

لو كانت أحلام ماركس تقوم على أسس علمية سليمة لكان من المنطقي أن يتحقق ما يبتغيه من نقل القوة الاقتصادية والسياسية من أيدي القلة إلى أيدي الكثرة، ولكن لم تكن هناك حتمية في حدوث الظروف التي خلقت ماركس والتي خلقت لينين. إن مجرد مولد ماركس بمواهب معينة لم يكن أبداً نتاجاً طبيعياً للمادية الجدلية.

وأيضاً كان فشل ماركس في تحقيق الثورة في ألمانيا التي كانت بحسب فلسفته حلبة صراع مثالي بكل العوامل الموجودة فيها لتحقيق ثورة بروليتارية... إنما هو برهان قاطع على أن المادية الجدلية في حد ذاتها لم تكن كافية لتحقيق وجه العالم السياسي والاقتصادي... ومن ناحية أخرى فإن نجاح لينين في روسياوهي بلد يقل كثيراً في قاعدته الصناعية عن ألمانيا إنما هو برهان آخر يؤيد المقولة التي تؤكد على أن الثورة الروسية كانت مجرد مصادفة ولم تكن نتيجة مباشرة للماركسية... لقد كان من سوء حظ روسيا وتاريخها أن لينين كان موجوداً في تلك المرحلة الحرجة التي أتاحت اللحظة الواتية للينين للانقضاض نتيجة لرد الفعل ضد طغيات وفساد وأنانية حكم القيصر المستبد مقروناً بشعور الإحباط والخيبة بعد الهزيمة في الحرب العلمية الأولى.

وعلى أية حال فقد كانت روسيا مستعدة تماماً للثورة، ولو لم تكن الثورة الشيوعية قد اندلعت لاشتعلت ثورة أخرى، فكل ما كان مطلوباً هو وجود قائد في منزلة لينين.. وكان من الصدفة البحتة أن روسيا وجدت في لينين القائد الذي تصادف أن يكون تلميذاً لماركس في الاشتراكية العلمية... وذلك الذي كان يدين الاستغلال بأقوى عبارات الاستهجان وأشد لهجات الاستنكار صار هو نفسه أسوأ المستغلين في تاريخ روسيا، فلم تكن الاشتراكية العلمية إذاً... بل كان لينين هو الذي فرض التاريخ على روسيا.

ولابد لنا من الإشارة لأمر هام آخر بعيداً عن تناقضات ماركس، فقد تجاهل ماركس في اشتراكيته العلمية عامل العقل. إن العقل هو مركز الأفكار.. ويتميز العقل بشخصيته الخاصة منفرداً عن هوية المخ، فالمخ هو المقر المادي للعقل، ولكن العقل الذي يشغل المخ ويسكن فيه ليس مادياً.. وإذا شبهنا المخ بالكمبيوتر فيمكن تصور أن العقل هو المشغل لهذا الكمبيوتر.. وتتولد الفكرة الذكية حين يتعامل العقل مع المخ الكمبيوتري... وحتى لو افترضنا وجود تشابه وتطابق تام وكامل بين مخين فإن الأفكار الناتجة عن كل منهما لن تكون متطابقة إذا تعامل معها عقلان مختلفان.

إن التقدم الإنساني بمجمله.. العلمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي إنما يحدث تحت تأثير العقل... وتمارس دول العالم القوية سلطتها وسلطانها على الأمم الضعيفة بواسطة الخبرة المتراكمة لقوة العقل المتفوقة... وهذه هي نفس القوة المتفوقة لدى البرجوازية التي تجعل منها قوة هائلة في تملكها المطلق للسلطة.. غير أن المادية الجدلية لم تأخذ هذه القوى العظمى للعقل في الحسبان. لقد أخطأ ماركس خطأً فاحشاً حينما تصور أن الثروة المتراكمة في النظام الرأسمالي هي المجموع الكلي لفائض قيمة العمل الذي يستغله الرأسماليون... فقد اعتقد أن قيمة طاقة هذا العمل تنتج عن المال غير المدفوع لقيمة العمل المستغل... مضافاً إلى ذلك قيمة الفوائد المتراكمة عن الأموال المعطلة والمودعة في البنوك.. وبهذا فتكون الغالبية البروليتارية تنتهب بواسطة الأقلية البرجوازية... ولكن مجرد العمل في ذاته لا يستطيع أن يتسبب في تراكم الثروة بغير أن يتزاوج العمل مع القوة المتفوقة للعقل. وهذا ببساطة ما تجاهله ماركس.. فالاختراعات العلمية المتقدمة هي من نتاج العقل وهي وحدها التي أحدثت ثورة في النسبة بين المنصرف والعائد في قيمة العمل تجاه الانتاج.

إن العمال في العديد من دول العالم الثالث لا يزالون يكدحون ويعرقون.. ولكن نتاج عملهم لا يعتبر شيئاً بالمقارنة مع نتاج العمل في الدول المتقدمة صناعياً... فالآلات المتفوقة والوحدات الإنتاجية المُميكنة بدرجة عالية والتقنية الحديثة.. حينما تتزاوج كلها مع العمل يكون لها كل الأثر الهام الذي يعول عليه.. وهذه القدرات كلها تحققت بواسطة العقل الذي يرجع إليه الفضل في تحسين الإنتاج... وإلا فإن العمل هو العمل سواءً كان في بريطانيا أو في بنغلاديش.. في جزر الباسيفيك أو في الأدغال الأفريقية.. فلماذا يكون إذاً عائد العمل في مكان ما أعلى منه في مكان آخر؟؟؟ من الواضح أنه العقل الذي يلعب الدور الحاسم في الناتج غير العادل للعمل... غير أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار هنا أن قوة العقل هي عامل طبيعي يمكن أن يستخدم للخير أو للشر... اعتماداً على من يستعمله.. وبما أن العمل حين يجد العون من العقل يصير أكثر إنتاجاً فكذلك الحال أيضاً مع الرأسمالية... التي حين تجد العون السليم من العقل المتفوق تصير قوة هائلة.. ولا تنطلق قوة الرأسمالية هذه آلياً من تراكم الثروة في أيد قليلة، إن الثروة لا يمكن أن تتراكم في أيد قليلة إلا إذا كانت قوة العقل تقف في جانبها... وإذا كانت قوة العقل قوة آثمة فاسدة فإنها سوف تخلق مافيا... ولن تستطيع قوة كل البروليتاريا أن تنجح في الوقوف ضد هذه المافيا، ومتى بدأ وجود هذه المافيات فإن عددها يظل يتضاعف لتمد سطوتها على كل مجال له علاقة بأية مصالح إنسانية .. ومع مرور الوقت تزداد قوتها وتفرض نفوذها على الكبير والصغير... وسواءً كان الأمر في المجال المالي.. في التجارة.. في السياسة .. في إدارة الأعمال.. في الصناعات الترفيهية.. في مجال الصحة والمرض.. في صناعة السياحة والسفر التي تتنامى باستمرار وفي مجالات الستعمال الكمبيوتر وصناعة الإلكترونيات.. في كل مكان وفي كل مجال.. فإن هذه المافيات تلقي بظلالها المشؤومة التي تتزايد حجماً وعمقاً وأثراً.
وبالتالي فإن قوة العقل حميدة كانت أو خبيثة هي التي في النهاية تتحكم في عالم المادة.. وليس لآلية المادية الجدلية دور مسيطر في صياغة قدر الإنسان...
ومع الأسف فإن النتيجة الحتمية لرفض وجود الله تعالى هي فساد العقل الذي كان من المقدر له أن يحكم وينظم أمور العالم.

و هناك عيب آخر في نظرة ماركس لإقامة مجتمع بلا دولة... إن ماركس يفترض أنه حين يسود التكافؤ الاقتصادي المجتمع سوف يزيل تماماً أصل كل أسباب الجريمة... وعلى هذا فلن تمون هناك حاجة لقوة الدولة وسلطانها لمحاربة الجريمة... إلا أنه نسي أن الطمع والجشع عند الإنسان ليس وقفا فقط على الأنشطة الاقتصادية وحدها... فحتى لو تحققت كل الأهداف والأحلام الماركسية يظل هناك الكثير والكثير مما يطمع فيه المرء ويشتهي الحصول عليه مما لم تلحظه عين الماركسيين.
إن الكثير والعديد من الشهوات والطموحات متأصلة في الطبيعة الإنسانية.. وأية اقتراحات لا تأخذ هذه الطبيعة في الاعتبار لا يمكن أن يكون لها تأثير فعال... إن عدم التكافؤ في الإنسان ليس منحصراً فقط في النواحي الاقتصادية... إذ يمكن أن يوجد عدم التكافؤ في القوى الجسدية أو المواهب الذهنية... وفي غير ذلك من قدرات العقل والوجدان.. كذلك فإن رغبة الإنسان الفطرية في أن يحكم وأن يسيطر وأن ينتصر على العقبات... رغبته في أن يُحب وأن يكون محبوباً... كل هذه الأمور تهيئ التربة الملائمة والمناخ المناسب لبذرة الطمع أن تضرب جذورها وتنمو.

وعلى سبيل المثال فإن الجمال هو أحد الأمور التي لا يمكن أن يشترك فيها الجميع بالتساوي رجالاً ونساء... كما أنه من غير الممكن توزيع الصحة والقدرات البدنية على الناس بمقاييس متكافئة... إن قدرات السمع والبصر.. اللمس والذوق.. ما يحب المرء وما يكره.. ما تشتهيه النفس وما تأباه.. المواهب الفنية.. التذوق الموسيقي.. الولع بالفن والإبداع الأدبي.. كل هذه أمثلة لعدم التكافؤ الذي خلقته الطبيعة نفسها خلال المراحل الطويلة للتطور... ولا يستطيع أحد من المدافعين عن الاشتراكية العلمية أن يلغي وجودها.. فلا بد من قبولها كأمر واقع.. والمشكلة هي أن هذه الاختلافات في ذاتها هي أصل سبب كل الفساد في المجتمع الإنساني... وتنشأ عنها كل الأمراض الاجتماعية.

إن الحل الوحيد الصحيح لتنظيم وتهذيب هذه الميول الإنسانية يكمن في القوانين الأخلاقية المنزلة من لدن الله تعالى... وهي بدورها لا قيمة لها بغير الإيمان بوجوده عز وجل... فعندما يغيب الله من أمور الإنسان وتغيب الحقيقة اللدنية الموحى بها من التأثير على الإنسان فلن يبقى هناك سلام في أي مكان.

للحق أقول أن الماركسية لا تنفرد وحدها بإنكار قيام الأخلاقيات بأي دور في الأمور الإنسانية... فما يقوم به الشيوعيون جهرة يقوم به أيضاً الرأسماليون ولكن بأسلوب بارع من الخبث والنفاق..إن سياسة الرأسماليين واقتصادهم وتجارتهم تخلو أيضاً من الأخلاقيات بشكل لا يقل عن نظرائهم في العالم الشيوعي الأمر الذي يجعلهم جميعاً شركاء في نفس الإثم... فقلة فرصة بروليتاريا الدول الشيوعية في الوقوف ضد من يقومون باستغلالهم تماثل أيضاً قلة فرصة الجماهير في العالم الرأسمالي.

إن المافيات التي تحدثنا عنها سابقاً والتي تخلقها قوة العقول الخبيثة الفاسدة في الرأسمالية لا تقل في فظاعتها عن مثيلتها التي تعمل في العالم الشيوعي عندما تتعارض مصالح الضعفاء والمحرومين مع مصالح الطبقة الحاكمة... وهذا هو العامل الذي يجب أن نركز عليه... فما الذي يجعل المحرومين السابقين ينسون فجأة كل آلامهم وتعاستهم في الماضي ويبدأون في التحكم في أقدار الجماهير بقلوب من حجر وبراثن من حديد؟؟ وأية أخلاقيات تلك التي تحكمهم؟؟ وأي وخز من ضمير يؤنبهم.. فحيث لا توجد أخلاقيات لا يوجد أيضاً وخز لضمير... إن هذه الآلية التي لا قلب لها والتي تختص بنظام معدوم الرحمة هي المسؤولة في نهاية الأمر عن فشل الشيوعية.

إن الفحص الدقيق والعميق لكل النظم الاستبدادية يكشف عن تناقض غريب ومتأصل، فلا فرق بتاتاً بين ما إذا كانت تلك النظم تقوم على فلسفة شمولية من شيوعية أو فاشية.. أو كانت تنبثق عن صياغة دكتاتورية للقوة من حاكم مطلق رأسمالي... فهناك عامل واحد مشترك بينهم جميعاً وهم أنهم لا يتحملون أن يكونوا أخلاقيين.. لأن بقائهم مرتبط بالاستبداد والاضطهاد... والأخلاقيات لا يمكن أن تتعايش جنباً إلى جنب مع قسوة الاستبداد... وعلى هذا لايمكن لهم أن ينجحوا ويزدهروا إلا في غياب الأخلاقيات.. ومع ذلك فإن نفس هذا الغياب الأخلاقي هو الذي يؤدي في النهاية إلى سقوطهم.

إن مجرد القسوة والاستبداد لا تكفي لحماية أي نظام شمولي أواستبدادي، فإن قوة العقول الماكرة التي تخطط المكائد وتدبر المؤامرات لا تقل في أهميتها عن أهمية ممارسة الاستبداد من أجل استمرار وجود تلك النظم... إن الرباط غير المقدس الذي يربط بين العقول الفاسدة والقلوب عديمة الرحمة هو ذلك الذي تتولد منه كل النظم الدكتاتورية.. وهذا الزواج غير الشرعي هو الذي يساعد هذه النظم على البقاء لفترة قد تطول أو تقصر.. لكنه دائماً ينفصم في نهاية الأمر.. ونفس عوامل التآمر والفقر الأخلاقي تصير في النهاية سبب سقوطهم من علٍ.

وفي الواقع لا شيء.. سواءً كان صالحاً أو طالحاً.. يمكن أن يحدث في شؤون الإنسان كنتيجة حتمية تتولد من داخله.. إن العاملين الأكثر أهمية هما اللذان يشكلان قدر الإنسان.. وهما عامل العقل وعامل الأخلاقيات.. فإن قوتهما أو ضعفهما.. صلاحهما أو طلاحهما.. هو ما يقرر مصير كل ما يخطط له الإنسان.. وعلى ذلك فقد كان ماركس مخطئاً في الحالتين.. وعندما نزيل عاملي العقل والأخلاقيات من الاشتراكية العلمية.. فإن ما يتبقى ليس هو بعلمي ولا باشتراكي... إن جماهير البروليتاريا مهما تضاخم حجمها وازداد عددها فإنها ليست كفوا أبدا لمواجهة جبروت قوة العقول الخبيثة.. والويل لذلك الزمن الذي تتواطأ فيه القوة الغاشمة للعقل الخبيث مع غرور الذات لحكم العالم.

وعلى هذا فلن يكون هناك من فرق يذكر بين ما إذا كان العالم يحكم بواسطة آلية مادية خالية من العقل وعارية عن الأخلاق.. أو يحكم بواسطة مافيا رأسمالية لها عقل خبيث وتفتقر للأخلاقيات.. ومع ذلك هناك فرق.. بل وفرق كبيرفي هذا الأمر الذي يكشف العيوب المتأصلة في الماركسية.. ففي الرأسمالية يوجد دائماً قدر من الحرية يتمتع به كل فرد في المجتمع.. وهذه الحرية هي التي تعزز أهداف المجتمع.. أما في الشيوعية فلا توجد حرية.. بل ظلام من فتور متزايد يلقي بكآبته ويتخلل كل نسيج في المجتمع الشيوعي.. وهو يوهن كل الجهود فيما عدا المجالات التي تجد الدولة نفسها مضطرة لتشجيعها.



#غالي_المرادني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دين الله.. دين الكهنة.. والتشريعات البشرية
- العلمانية في ميزان العقل


المزيد.....




- صحفي إيراني يتحدث لـCNN عن كيفية تغطية وسائل الإعلام الإيران ...
- إصابة ياباني في هجوم انتحاري جنوب باكستان
- كييف تعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسية بعيدة المدى وموسكو ت ...
- دعوات لوقف التصعيد عقب انفجارات في إيران نُسبت لإسرائيل
- أنقرة تحذر من -صراع دائم- بدأ باستهداف القنصلية الإيرانية في ...
- لافروف: أبلغنا إسرائيل عبر القنوات الدبلوماسية بعدم رغبة إير ...
- -الرجل يهلوس-.. وزراء إسرائيليون ينتقدون تصريحات بن غفير بشأ ...
- سوريا تدين الفيتو الأمريكي بشأن فلسطين: وصمة عار أخرى
- خبير ألماني: زيلينسكي دمر أوكرانيا وقضى على جيل كامل من الرج ...
- زلزال يضرب غرب تركيا


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - غالي المرادني - الماركسية.. تناقضات متأصلة