أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الحادي عشر















المزيد.....

زهور بلاستيك رواية الفصل الحادي عشر


شريف مليكة

الحوار المتمدن-العدد: 1995 - 2007 / 8 / 2 - 05:07
المحور: الادب والفن
    



البحث

بادوَّر بين طيَّات الكتب عنها
مابين كلام الشفايف م اللى دنا منها
من اللى شاف.. ومن اللى خاف لو يقترب
لايحترق .. لوكلمة الحق هايعود ويعلنها

إنغمستُ فى العمل وحياتى العادية ليومين، إقتنصت خلالهما شيئا من السكون وبعض من الهدوء النفسى اللذين إفتقدتهما فى الأيام الماضية.. ولكنى شعرت أننى أسرق راحة بال لا تخصنى، لا أمتلكها، فصرت مثل لص يجرى بكل إندفاع للأمام يتطلع للنجاة، وإن كان ينظر خلفه تياعًا متوقعًا ليد القدر التى تتبعه فى كل لحظة، أن تنقض وتنهى محاولته فى الهروب.. وفعلا جاءتنى المكالمة التليفونية التى كنت أتحسبها متوجسًا.. جاءنى صوت أمى على الجانب الآخر متهدجًا بسبب تدهور حالة أبى الصحية من جديد.. إزدادت صعوبة التنفس لديه، وإرتفعت الحرارة، وبدأ يغيب عن وعيه، فأجروا له فحصًا بالأشعة أظهر إصابته بإلتهاب رئوى مع هبوط فى القلب، أدى بدوره إلى فشل كلوى.. لم أدر ماذا أقول لها ولكننى طمأنتها بكونه بالمستشفى حيث يحظى بأعلى مستوى من الرعاية الصحية، ولذا فلم يبق لدينا إلا الدعاء له بالشفاء.. دقائق تمر، و هدأت قليلا بعدها، ثم طلبت منى أن أعود لنيويورك فى أقرب فرصة لأكون بجانبه وإياها، فوعدتها بالمجئ خلال أيام.. تفكرت بعدها فيما لو كانت تلك هى النهاية..
إعترتنى حالة من الحزن والضيق تملكت منى، ولكننى أفلت من قبضتها بالعمل وشئون الأسرة ليومين أخريين، سافرت بعدهما لزيارة أبى بالمستشفى.. ولكننى إخترت هذه المرة أن تصحبنى زوجتى وأبنائى فى رحلتى، حيث لم أتصور معاناة تلك الوحدة بطول الطريق من جديد، من ناحية، ولإحساس البهجة والفرح الذى يشيعونه من حولهم، وخاصة لدى أمى.. وأبى..

فى الصباح الباكر وقفنا خاشعين حول سريره، ولكن لم يتعرف أبى على أى منا.. كان بالكاد يفيق فينظر حوله، بإتجاهنا أحيانــًا، أو بأرجاء الغرفة، بعيون حائرة لاتميز ما حولها، فكان يسدل جفونه مستسلمًا لإغترابه فى ذلك المكان حيث يرقد، ثم يغيب فى غفواته.. كان يحاول بإصرار أن ينزع عن وجهه قناع الأكسوجين، وأنبوب الغذاء المنزلق إلى معدته عبر منخاره، وأنابيب السوائل، والمضادات الحيوية، ومقويات لعضلة القلب، وموسعات للشرايين، ومدرات للبول، و..
شجرة أغصانها من الأنابيب المتفرعة من حولة تمتد إليه من أركان الغرفة الأربعة، وهو يصارع من أجل أن ينتزعها عنه وكأنه يشعر بأنه الجذر والساق لها، قابعًا هنا من أجل أن يمدها بسبب للحياة، بدور تقوم به، بعذر للوجود، أراد له الآن أن ينتهى.. سبع وسبعون عامًا من العطاء.. شعرت بأنه سئم العطاء ولو ليوم جديد، فأعلن على الملأ إعتزاله عن ذلك الوجود، لأنه يبتغى أن يرتاح أخيرًا !! ..

حضرت سيدة متوسطة العمر إلى الغرفة.. طرقت الباب برفق ودخلت.. رشيقة القد أنيقة الملبس، وإن ملأت وجهها المساحيق بألوان شتى غلفته وكأنه قناع لا تدرى شكلها الحقيقى خلفه.. وأطلت ناحيتنا بعينين زجاجيتين زرقاوين لاعمق لهما، وبأهداب طويلة مصطنعة، ترمش برفات متعاقبة حينما تتحدث، ربما بسبب شعورها بالإضطراب حيال موضوع زيارتها.. بادرتنا بإبتسامة مفتعلة، أظهرت خلالها أسنانـًا صفراء محاطة بإطار من أحمر الشفاه الفاقع، ثم بدأت تتكلم.. أعلمتنا فى البداية أنها "نانسى فاجنر" أخصائية إجتماعية مسئولة عن حالة أبى، وبأن حالته الصحية، حسب ما ناقشها به الأطباء المعالجون، تعتبر متأخرة جدًا، بل وميئوس من إستعادته لقدراته الذهنية والبدنية، حتى وإن تم له الشفاء.. ثم إنتقلت ـ معتذرة ـ لتقترح أنه فى مثل تلك الحالات يمكن لأهل المريض المواقفة على نقله من الرعاية المكثفة بالمستشفى، إلى مستوى آخر من الرعاية يحظى فيها بالراحة والإجلال والوقار، فى أواخر أيامه على هذه الأرض، بدلا من الإبر والأنابيب والعناية المتلاحقة بالمستشفى، وخاصة إن كانت بلا طائل.. فطلبنا منها مهلة لمناقشة القرار فيما بيننا.. وددت لو كنا نستطيع أن نسأله هو، ماذا يقول فى ذلك القرار؟.. إنما مبتعدًا كان عنا فى غيبوبته الصامتة.. إنصرفنا سويًا قاصدين المنزل لنتباحث فى ذلك الشأن..
هكذا؟؟..
ذبلت الزهرة أخيرًا فوق غصنها، وأبت إلا أن تسقط، وتغيب عنا.. إلى الأبد.. لم تشفع لها نضارتها وحسن أريجها يومًا.. أصغت مرغمة لنداء الزمن يأمرها أن تذوى.. ثم تختفى.. ثم نسمعهم يقولون "سـُنة الحياة" فنضحك من سذاجتهم.. عفوًا.. إنها "سـُنة الموت"..!!
لطمتنى عندها فكرة أفافتنى من بين أحزانى وتأملاتى.. كيف كان يمكن لتلك الزهرة أن تبقى دومًا نضرة؟ ياليتها كانت زهرة صناعية ـ بلاستيك مثلا ـ لاينال منها الذبول والموت.. وترائى لى بستان فسيح مفروش بمسطح أخضر فاقع، إصطفت من فوقه آنيات زجاجية، تبزغ من كل منها زهرة يانعة المظهر، وإن كانت برمتها زهورًا بلاستيك!.. يالها من فكرة عبقرية! أهذا ما قصدت أن تقول يا سامى؟ جزيرتك مليئة بالزهور الطبيعية اليوم، ولكنها حتمًا ستذبل ثم تموت، فتستعيض عنها بالصناعية؟ .. ولكن ما قيمة زهور أبدية لو كانت "بلاستيك" لا حياة فيها أو شذى؟ ألهذا السبب جمَّعت بيننا الأقدار وتلاقت طرقنا؟.. لا.. لا أظن أن هذا خطر أصلا بذهن سامى أو قصده، ثم أنه رجل مادى يحتسب وقع كل خطوة قبل أن يخطوها، وأبعد ما يكون عن الشخص المتفلسف الذى يخوض فى غمار فكرة هكذا.. لا.. ليس سامى..
ولكنها كانت على أى حال فكرة كفيلة بإخراجى من جو الحزن الذى حاصرنى بعد لقاء نانسى فاجنر، والقرار الذى ينبغى لنا أن نتخذه..

أعادنى هذا الهاجس الطارئ إلى التفكير فى موضوع الجزيرة، وسامى، وإيزابل، وعامر، وتساءلت إذا ما كان سامى قد قص بدوره عليهم قصة لقاءنا بنيويورك، وعما إذا كانوا ـ مثلى ـ متشوقين لذلك اللقاء الذى سوف يجمعنا يومًا ما.. جميل أن يطل خاطر كهذا الآن فيزيح الشجون عن أفكارى ولو لحين.. خطرت لى فكرة مجنونة، وكعادتى شرعت فى تنفيذها على الفور.. أمسكت بالهاتف، وبحثت عن رقم سامى وضغطت فوقه، فجاءنى رنينه المألوف مرات ومرات ولم يرد.. أعدت الإتصال فأجابنى صوت إمرأة تسألنى من أكون.. توقعت أن تكون إيزابل، فسألتها:
ـ "هالو.. إيزابل؟"
ـ "إيزابل من؟"
أدركت أننى فى مأزق لأننى ذكرت إسمها هكذا، فى حين أنى لم أتعرف بعد بشخصها، فعقبت:
ـ "أيمكن أن أخاطب سامى؟"
ـ "لا يوجد أحد بهذا الإسم، يبدو أنك إتصلت برقم خاطئ" وأنهت المكالمة..
لم أفهم معنى لهذا على الإطلاق.. كيف أكون قد إتصلت برقم مختلف، لو كنت طلبت الرقم المسجل بالذاكرة بضغطة واحدة.. لا يمكن.. هل يمكن أن تكون مسألة تداخل فى الخطوط؟ هل إتصلت برقم آخر مسجل فى ذاكرة التليفون؟ أعدت الإتصال، فظهر إسم سامى إبراهيم على الشاشة المضيئة، وجاءنى صوت المرأة نفسها فقلت:
ـ "أنا فعلا آسف للإزعاج، ولكنى أبحث عن صديق لى يدعى سامى، فهل إتصلت برقم بالجزيرة الحرة؟"
ـ "هل بك شئ يا رجل؟ لا.. هذه هى الجزيرة المهجورة.. لا.. جزيرة الكنز.. ولعلمك الساعة الآن الخامسة والنصف من صباح السبت، وإذا فكرت فى أن تعاود الإتصال، سأطلب لك البوليس فورًا"
إنتهت المكالمة..

أعادنى نداء أمى لتناول الغذاء مع بقية العائلة الملتفة حول المائدة إلى حيز الواقع من جديد.. شعرت بالخجل لمَّا وجدت سحابة الحزن تخيم فوق الوجوه الساهمة من حولى.. ولكن عذرى يكمن فى إعتقادى بأن هنالك علاقة ما بين ما آلت إليه حالة أبى وبين لقائى بسامى، وبالجزيرة، وفى هذا التوقيت بالذات.. أثناء العشاء طرحت أمى سؤال مهم:
ـ "ماذا لو كان أبوك قادرًا على أن يتخذ هذا القرار اليوم، ماذا كنت تتوقع منه أن يقرر؟"
فأجبت على الفور:
ـ "بلا أدنى شك كان سيختار إنهاء هذه المعركة الخاسرة لأنه رجل عقلانى، وملتزم دومًا بإعلاء قرار العقل فوق العواطف.. هكذا علمنا دائمًا"
ثم أدرت وجهى إلى أختى بجانبى متسائلا، فإنخرطت فى بكاء صامت..
فأضفت:
ـ "لسنا بصدد قرار إنهاء حياة أبينا، أو إطالتها، لأن أيام عمره ليست بأيدينا نمد بها أو نقصر.. السؤال هو ماذا نفعل حيال كم العناية الصحية المفروضة على أبينا وهو مطروح فى غيبوبته، يتعذب بسببها، بل ويحاول التملص منها، ولا أمل فى أن يخرج بعدها بحال أفضل حتى لو تمت له كل أسباب العلاج المتاحة.."
"إذن فلنوقف هذا العلاج المكثف.. ليكن ما تروه صالحًا" قالت أختى من بين دموعها..
ـ "لتكن مشيئة الله" أضافت أمى وعينيها مرفوعة بتضرع نحو السماء..

فى صباح اليوم التالى، وبعد قداس الأحد وعقب زيارة أبى، إصطحبت زوجتى وأبنائى إلى مانهاتن مسترجعًا كلمات سامى عن مكان إقلاع الطائرة الهليكوبتر: "تشارتر تورز" ناحية "بروكلين باترى تانل" جنب الـ"وول ستريت" .. أعرف ذلك المكان جيدًا، وفى ذلك الوقت من العام عادة ما يكون مقصدًا سياحيًا، تغييرًا لجو الكآبة المحيط بحالة والدى الصحية المتدهورة.. وبالإضافة، كانت تدفعنى رغبة دفينة فى تعقب ذلك الأثر الأخير لأصل لمعرفة سر الجزيرة.. كان رد المرأة على رقم سامى قد حيرنى ولكننى عللته بأن يكون قد غير رقم تليفونه لسبب أو لآخر..
وكما توقعت كان المكان يشغى بالزوار، يملأون المقاهى والمطاعم المتناثرة، أو يتريضون مرتجلين بالممشى المطل على شاطئ البحر.. لاحظت وجود لافتة كبيرة معلقة تشير إلى مطار الهليكوبتر، وعدة شركات سياحية إتخذ موظفوها أماكن مميزة لبيع تذاكر الرحلات ولكن لم أجد من بينها "تشارتر تورز" التى كان سامى قد حكى عنها، وإن كنت وجدت "نيويورك تشارترز".. توقفت وسألت الفتاة المسئولة عما إذا كانت تعلم عن رحلات خاصة من وإلى جزيرة ما، جنوب غرب برمودا، سمعت أنها تدعى "الجزيرة الحرة"، فإبتسمت معتذرة بأنها لم تسمع بها.. عندها قررت أن أسأل الشركات الأخرى تباعًا.. مندوبًا تلو الآخر، وإبتسامة واحدة تلاحقنى يعقبها إعتذار بأن أحدًا لم يسمع عن تلك الجزيرة.. ما معنى كل ذلك إذن؟.. لم أعد أفهم شيئــًًا..
جلسنا فوق مقعد حجرى مواجه للمياه نأكل سندويتشات إبتعتها، وسرحت أتأمل المياه السارية أمامى وأتسائل إلى أين تظن أنها ذاهبة؟

ماذا يعنى كل ذلك إذن؟ أين هى تلك الجزيرة الحرة؟ أهى محض خيال إذن، أم هى حقيقة واقعة؟ لقد رأيت بنفسى المكاتبات عنها على صفحات الإنترنت، وكتبت عنها ثم سعى سامى إبراهيم بعدها إلى مقابلتى.. نعم سعى هو ولم أحاول أنا العثور عليه ليؤكد لى الحقائق التى كنت قد قرأت عنها من قبل أن أتعرف به.. ثم سامى نفسه.. هو إنسان من لحم ودم تقابلت معه شخصيًا، وأكلنا وشربنا معًا مرارًا فى مناسبات شتى.. هل كان كل ذلك خياليًا أيضــًا.. ممكن.. فى حالة واحدة فقط.. وهى أن أكون قد فقدت عقلى!..
ولكن لا.. لازلت أحتفظ بفواتير الغذاء والعشاء التى أنفقتها فى جيوب سراويلى فى البيت.. من غير المعقول أن أكون قد ذهبت إلى كل تلك الأماكن بمفردى، وأكلت كل ذلك الطعام وحدى، ثم تخيلت وجود سامى معى، ثم إخترعت أيضًا كل تلك الحكايات عن شخصيات لم أقابلها من قبل..
ثم ماذا عن دفتر مذكراته الذى رأيته يحمله معه خلال لقاءاتنا.. نعم لقد رأيته يقلب بصفحاته أمامى، وقرأت بعض السطور المدونة والوقائع المؤرخة، نعم عاينتها بنفسى أثناء حديثنا.. ما معنى كل ذلك إذن؟
هل يُعقل أن يكون سامى قد إخترع كل هذه الحكايات أمامى ليؤكد لى كذبة كبيرة كنت قد إنزلقت إليها، عن طريق مكاتبات مجهولة الهوية، كنت قد تعثرت بها فى يوم من الأيام؟ ولكن ماذا كان يبتغى هو من وراء كل ذلك؟ أكانت تلك المحاورات بالنسبة له نوعًا من الدعابة أو التسلية؟ ولكن ماذا جنى هو من وراءها سوى تبديد ساعات وساعات قضاها بحضرة شخص غريب بالمرة عنه، وكان أحرى به أن يمضيها بين أهله أو أصدقاءه، أو حتى بمفرده مع كتاب أو حتى برنامج تليفزيونى! ولكنه لم يبدو لى أبدًا وكأنه يستمتع بقص تلك الذكريات المؤلمة على مسمعى، حتى أنى كثيرًا ما كنت أشفق عليه من فرط الإنفعال الثى كان يغلب عليه أثناءها.. ثم هذه المذكرات المكتوبة التى حملها معه خلال لقاءاتنا، هل كتبها كلها على عجل فى خلال أيام معدودة، منذ أن قرأ مقالى عن الجزيرة، ثم أتى بها إلىَّ حتى يحبك الخدعة؟
ثم تساءلت.. هل يصح أن يكون سامى إبراهيم هو المجنون؟ هل فقد الرجل عقله، فإندفع فى ذلك الطريق بسبب دافع ملح، أو وسواس قهرى مثلا، أدى به إلى إفتعال كل تلك المواقف والأحداث والشخصيات، لمجرد إيهامى بأنها حقيقية؟ إنما هل يُعقل أن يحتال علىَّ شخص مختل بهذه المهارة، وبدون ولو هفوة واحدة، تفضح مخططه، وتـُسقط قصصه المزعومة؟ وإن كان مختلا، فلمَ لم تظهر عليه أى من مظاهر المرض، وكيف بدا منطقـيًا فى أطروحاته، وفى ردود أفعاله تجاه ملاحظاتى حيال أقاصيصه، وإذاء ما كان يدور حولنا من مواقف، فكانت كلها تبدو معقولة ومناسبة لكل المواقف.. هل تلك كانت تصرفات رجل مريض، أو معتوه؟
ولكن فى النهاية، إذا لم أكن أنا المجنون، أو سامى، فما معنى كل ذلك الذى حدث بالأمس، واليوم إذن؟ ما معنى أن ترد المرأة المجهولة على مكالمتى لتليفون سامى وتتوعدنى بإبلاغ الشرطة إن حاولت معاودة الإتصال بها؟ وكيف لا يدرى أحد من بين كل موظفى شركات السياحة هنا، بشئ عن الجزيرة؟ وكيف لم أجد شركة تشارتر تورز أصلا؟ أأكون قد أخطأت إسمها من فم سامى مثلا، أم يكون قد أخطأه هو؟ أسئلة وأسئلة تملأ رأسى.. وأبحث.. وأبحث.. ولا أستطيع أن أجد لها إجابة وافية..

رجعنا إلى المستشفى نحو الخامسة مساء، وزاد غياب أبى عن وعيه بمن حوله من كآبتى.. ومن خلال النافذة الوحيدة فى الغرفة، تطلعت إلى السماء الرمادية، والسحب المثقلة تتجمع وتتلاحم، فتحجب الشمس الواهنة المائلة نحو المغيب، منذرة بعاصفة قوية قادمة سوف تغشى رحلة عودتنا لا محالة.. إنحنيت أطبع قبلة فوق جبين أبى الغارق فى لجة عالمه المستتر عن مجال إدراكنا.. ولم ترجع القبلة بأى رجع، فإنصرفنا ملتفين حول روح كئيب.. صامت..

بدأ المطر ينهمر لحظة بدأنا رحلة العودة كما كنت قد توقعت.. وهبط الظلام مبكرًا عن موعده ذلك المساء.. وتتابعت رحلات المسـَّاحات الأمامية تطرح المياه عن زجاج السيارة أمامى، تاركة وراءها غطاءً رقيقـًا من المياة الصافية يحتضن الزجاج، فتتراقص أضواء السيارات فى حاراتها أمامى، فى شكل بقع حمراء محاطة بهالات تندحر سريعًا إلى هيئة أذناب رفيعة، تنتهى إلى مؤخرات السيارات أزواجًا، تتخللها كشافات العربات القادمة نحونا تغشانا بوميض بارق متقطع، يبتلع الكرات الحمراء ويغشانا للحظة ثم يختفى، بفعل تكتلات أسمنتية متربعة بطول الطريق.. رقصات عابثة فوضوية للأضواء تتبدى أمامى، ثم تتلاشى، وكأنها تمعن فى إضافة مزيد من السخرية على تساؤلاتى التى ماتزال تراودنى بطول الطريق..
قلت لزوجتى متأثرًا:
ـ "لا أعتقدنى سوف أبصر أبى على قيد الحياة من بعد هذا اليوم.."
لم تجبنى، وإنما مدت يدها وإحتضنت بحنان يدى القابضة فوق عجلة القيادة بقوة، لكى أحافظ على إستقامة السيارة، فى وسط ذلك الجو العاصف.. وإمتدت نظراتها تسبح أمامنا وتذوب بين أنهار المياه المتدفقة من حولنا..

عند وصولنا للمنزل كان الكل يغوص فى لجة نوم عميق.. أيقظتهم ثم إنسحبت أتا إلى جهاز الكومبيوتر، أبحث عن موقع المخاطبات الألكترونية الذى كنت قد حفظته به.. تركته لدقائق وذهبت لأعد كوبًا من الشاى، ثم عدت لأطالع نتيجة بحثى.. تنفست الصعداء عندما وجدت الموقع.. نفس التنظيم والتبويب، وبدأت أطرق بأصابعى فوق الأزرار، وأدقق حتى أتتبع نفس الخطوات التى أدت إلى المكاتبات السرية، حتى وجدت الركن الذى تذكرت أن من خلاله أجد العنوان الذى يفضى إلى الرسائل.. وفوق العنوان صوبت المؤشر، ثم ألقيت بذراعى فوق رأسى منتظرًا..
"أنت غير مؤهل أن تتطرق إلى هذا المكان إلا إن كنت تملك مفتاح مشفر"
إذن فقد أدركوا بأن هذه المعلومات قد باتت مستباحة، فأدرجوها خلف جدار من السرية لايستطيع إقتحامه إلا من يمتلك مفتاحًا للدخول!..
هذا إذن هو دليلى على أن تلك المعلومات التى حصلت عليها، من قبل أن تصبح سرية، قد تكون معلومات ووثائق حقيقية، لم أختلقها أنا من وحى خيالى، ولم يؤلفها عنى ذلك المدعو سامى إبراهيم..

"الجزيرة" إذن قد تكون موجودة، بمكان ما جنوب غرب جزر "برمودا" ، ويقطنها فعلا سامى إبراهيم وزوجته إيزابل، وصديقهما عامر سيد شندويلى، وزوجته أمينة أنور، والدكتور خطــَّاب.. و..
إذن فلم أفقد عقلى.. بعد..!!

إذن فالجزيرة المزعومة قد تكون حقيقية..!! والحياة بها ربما تغيرت فعلا بإرادة سكانها.. هؤلاء اللذين إختاروا لأنفسهم أن يحيوا بها حتى بعد أن أدركوا حقيقتها.. وحقيقتهم.. يعملون بها، ويبيعون ويشترون، بدون تفرقة أو تحزبات!..
ولكن لماذا تصر الجهات المسئولة حتى الآن أن تظلل أمرها بذلك الستار من السرية والغموض، مع أنها يمكن أن تصير نموذجًا إنسانيًا قديرًا بالتأمل؟
يبدو أنهم يحسبون أننا لسنا مؤهلين بعد للإمتثال بتلك الإختيارات، أو أنهم ربما يخشون أن يفقدوا سلطة قيادتنا إذا ما حذونا حذو أهل تلك "الجزيرة الحرة"..
ولكن كيف يتأتى لى أن أتأكد فعلا من صحة كل تلك الحقائق بما لا يدع لى مجالا للشك؟
لابد لى من أن أنتظر حتى يعاود سامى الإتصال بى فأطرح عليه كل تلك الخواطر، وربما أحظى منه بعدها بإجابات شافية..

وكما حدث فى أول ليلة إقتربت خلالها من معرفتى بموضوع "الجزيرة"، أغلقت الكومبيوتر ثانية، ثم مصباح المكتب، ودفعت بالمقعد للخلف، معتمدًا على راحتىّ، وقمت متجها فى صمت الى مخدعى .. علت وجهى إبتسامة مضغومة، مسحوقة بفعل كآبة أشمل، بسبب مرض والدى، وأنا أزحف تحت الغطاء بهدوء حتى لا أوقظ زوجتى التى كانت تغط ساعتها فى نوم عميق..

أيام تمر وتتعاقب وأنا أخوض من جديد فى معترك الحياة، وأتساءل برجفة عن حال أبى، وأنتظر..



#شريف_مليكة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهور بلاستيك رواية الفصل العاشر
- زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن
- زهور بلاستيك رواية الفصل السابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
- زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
- زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
- .زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
- زهور بلاستيك رواية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف مليكة - زهور بلاستيك رواية الفصل الحادي عشر