أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم كمال الدين - عند مرقد السيدة















المزيد.....



عند مرقد السيدة


حازم كمال الدين
مسرحي، روائي، مترجم، صحافي

(Hazim Kamaledin)


الحوار المتمدن-العدد: 1989 - 2007 / 7 / 27 - 09:13
المحور: الادب والفن
    




الطريق إلى الجحيم مليء بذوي النوايا الحسنة

1. شخصيات تجريدية

يوسف ابراهيم:
عراقي مرسوم في لوحة زيتية أجواؤها العامة صحراوية. يوسف، ليس شخصا. بل سرج بعير رابض فوق الرمال.
إيريك مارتينز:
بلجيكي ليس مرسوما في لوحة. إنه تمثال حين يتفتت تعود إليه الحياة، وحين يتماسك، يموت. إيريك رجل يشبه رمال متحركة.
موسيقي:
شخصية مبهمة تعزف كل الآلات.
صورة غائمة الملامح:
ضريح:
منبر:



2. طبيعة صامتة

فضاء يستعصي على التعريف.
تصوّر أنك تخرج من بيتك فتواجهك صحراء لا متناهية. لم تعد هناك طرقات مبلطة بالإسفلت، ولا أعمدة كهرباء. لا بيوت، لا حركة سير ولا مارة. الحركة أو اللا حركة لا تقودك إلى الخلف أو إلى الأمام أو إلى الجوانب... بل إلى عمق الصحراء.
فضاء يستعصي على التعريف.
تصوّر أنك تجد نفسك في حالة ترحّل في الصحراء. أنت لا تترحّل. الصحراء هي التي تمتد إليك فتبدو أنت مثل سراب يتدلّى في فلاة. في فضول صحراوي. في غواية صحراوية. الصحراء تبثّ فيك، رغم القيظ، نسمات مرمّلة، مظلّلة وموّشاة برذاذ ماء عذب. كلما أوغلت في البيداء، أو بالأحرى كلما تجاوزتك البيداء، تكتشف أن لونها الحقيقي هو اللون اللازوردي. هنا وهناك ثمة ما ينمو في الصحراء. بقع رملية داكنة تتفتق عن شيء.
سراب آخر يتدلّى أم ماذا؟
ومثلما يتجمّع الندى تتجمّع البقع وتأخذ هيئات آدمية. ثمّ مجاميع بشرية صغيرة تغذّ السير.
في فضاء يستعصي على التعريف يبدو وكأن ثمة موعدا.
أنت تبدأ الخطو. تتبع المجاميع التي تبدو لك وكأنها تختفي في غيمة غامقة.
غيمة أم واحة؟ تسأل نفسك، ثم تغذّ السير نحو الغامق المفترض.
درب رملي يبزغ. يتسّع. وشيئا فشيئا تنبثق من الرمال أشنات تبثّ رائحة بخور. ثمّ أشنات أخرى أكبر. ثمّ أشنات تصبح بيارغ ملونة...
لهيب مشاعل وروائح بخور.
إيقاعات دفوف عالية.
ترتسم على الرمال أزقّة أخرى. في رأس كل زقاق صنم يقدم شايا أو ماء ورد أو شمعة عليك أن تشعلها وتجتازه إلى ممر ضيّق.
جدران الممرات ليست من الآجر ولا من الإسمنت. جدران الممرات مبنية من عباءات غامقة. في نهاية كل ممر تنفرج فسحة من الفضاء. في موضع ما من الفسحة ثمة معمار يشبه بيت القصب.
ديوان.
بوابة صغيرة.
أنت تدخل الديوان.
ثمة ضريح، منبر، أعمدة قصب، أرض مفروشة بالسجاجيد والوسائد.
لا ضوء سوى تمايل لهب الشموع. القهوة حارة. يبدو دخول الناس المتقاطرين، أو المتقطرين، وكأنه استسلام لواحة صمت مؤطرة بعبق بخور هندية.
شخوص الحكاية يسكنون الديوان... كأنهم تماثيل حيّة في متحف!
إيريك يؤدي طقوسا تحاول أن تحاكي الطقوس الإسلامية، فيفشل أحيانا وأحيانا ينجح.
إيريك إلى جانب الضريح، عاري:
كائن متيبّس يلتصق بعمود من القصب.
طين إنساني يتكور على نفسه قرب المنبر.
مومياء تعيد تكوين أبجديتها في ثنايا السجاجيد.
زهرة رمل تتفتت عند صدر الضريح.
إلى جانب إيريك، عند الباب، موسيقي يجلس مثل عبد: يقدم القهوة المرّة ويعزف آلات بدائية. الموسيقي ينادي قوى خفية.
موسيقى وغناء يشتعلان كنار تذيب جليد التمثال (إيريك) الذي تكبّله الثلوج من جديد ما أن تخبو النار.



3. مدخل..
صباح السبت

موسيقى.
إيريك يحدّق بالجمهور.
إيريك يتحدث طوال الوقت.

من أين نبدأ؟؟
.......
إيساك بابل، بوريس پلنياك، أوسيپ ماندلستام، دانيل شارمز، ﭭيسفولد مايرهولد، ماكسيم گوركي....... گوركي... ماكسيم، ميرخولد.... ﭭيسفولد، شارمز.. دانيل، ماندلستام...... أوسيپ، پيلنياك بوريس، بابل.......... إيساك.... إيساك بابل، بوريس پلنياك، أوسيييپ ماندلستام، دانيييييل شييارمز، ﭭيسفولد مايرهولد.. هولد.. هولد، ماكسيم گوركي،......

نعم! يعني!!! أسماء!! مجرد لائحة بأسماء كتّاب اختفوا في عهد ستالين. جوزيف ستالين، ستااالين. ستالين جوزف. أسماء!! تمارين على الأسماء... تمارين.. أحفظها عن ظهر قلب. أنا لا أحب أن احفظ شيئا عن ظهر قلب.. قابليتي على الحفظ ضعيفة ولساني ثقيل، وأتكلم بسرعة كبيرة وأبلع الحروف أثناء الكلام. لذلك، أمارس ذلك الجمناستك الصباحي منذ زمن: هكذا اتفقت مع نفسي اتفاقا جنتلمان!
.....
على أية حال!!
السبت. ككل يوم أقف أمام المرآة في الساعة الثامنة صباحا. أتأمل كيف يلوك لساني الأسماء.. يتقاذفها في فجوة الفم ويرميها من الأمام إلى الخلف، من الخلف إلى الأمام، من الأمام إلى الخلف.
الجو حار. حزيران!
رحيق الزيزفون البديع يهب على الحمّام. طاقتي على المرح تتفتح.
اسمع شخصا ما يهبط السلم كالرعد..
ـ لابدّ أن يكون جاري الساكن فوق.
أقول لنفسي.. وقبل أن تستقر الفكرة في ذهني، يداهم جاري غرفتي كالعاصفة. يدور في الغرفة، ويلوّح بيده عاليا. يواجهني بعلبة كرتونية صغيرة يحملها!! أنا واقف في منتصف الغرفة. عاري. عيناي تزوغان بحثا عما يستر أعضائي...
ـ الاسم!
يقول لي.
ـ الأيقونات.. أين اختفت؟
يسألني!!
ـ الآثار، الخطوط... ماذا تريد مني؟
يسألني مرة أخرى بحدة تصيبني بالتوتر.
ـ أتعرف ماذا تريد مني؟
بالطبع لا أعرف ماذا تريد منه ولا من هي.. أو ما هي!! أهمل أسئلته وأفكر فقط بـ:
ـ كلسوني. سروالي الداخلي. أين هو؟ يجب أن أرتديه.
ـ أتعتقد أنها انتقلت إلى......
يصرخ.
ـ أتعتقد أنني انتقلت إلى جوار ربّي؟!!
وبقبضة كفّه الهائلة يضرب قحف رأسه.
يطير شرودي وتمصّري الصباحي بسرعة البرق!! ما هذا الحضور الصاعق الذي مسّني في الصميم وقوّض الصباح، بل وقوّض يوم السبت كله؟
ـ اللغة. اللغة.. لا شيء تحت سقف جمجمتي سوى اللغة!
يئنّ الرجل.
ـ كابوس لغوي، أين هو الكابوس؟؟؟
ويمسك فكاّه بتلابيب بعضهما، يحكّ قبضة يده بإبريق الماء الحديدي ويغمغم شيئا من قبيل:
ـ ممم... أم...
و..
ـ أتفهمين ما أقصد؟
يا الهي! ماذا أفعل؟ كل ما أستطيع أن أقول له هو:
ـ تفضل بالجلوس.
الرجل يجلس. وأثناء الجلوس انتهز الفرصة لكي أعبيء بنطلون جينز مكوي للتو بمؤخرتي العارية!



2. المدينة المسوّرة

ـ تشرب شيئا؟
أسأله.
ـ مدينة مسوّرة من كل جانب بجبال على رؤوسها العسكر.
يقول.
ـ وحدات عسكرية واقفة في وضعية إنذار جيم على رؤوس الجبال. بينما نحن في الأسفل، في تلك المدينة... لقد شحّ الذهول!
ـ شحّ الذهول؟!! ماذا تعني؟
ـ نفذت الصدفة! ونفذ كل شيء! ولم يتبق لي إلا أن أرقب أيام المدينة. المدينة كائن متغير. متجدد دائما.
ثم... يبربر مع نفسه وكأنه يبحث في ثنايا الرطانة عن ذكريات.
ـ ذات صباح شتائي.
يقول.
ـ ذات صباح شتائي رأيت الأشجار، خضراء يانعة، تلهو مع الأزهار. بالطبع يحدث ذلك لأني لم أكن أعاني في ذلك الصباح من الصداع...
ثم... يرطن مرة أخرى...
ـ ذات مساء صيفي رأيت أعمدة الضوء تطير فتصبح الشوارع مظلمة حالكة، لولا كؤوس حليب السباع لما عادت الأعمدة إلى الشوارع..
ـ تريد أن تشرب شيئا؟
أسأله.
ـ كان ربيعا وكانت الأزهار تتقافز. تغيّر أزيائها الملوّنة أمام عيني. كانت الأشجار اليانعة تتهادى... وكنت أرى النسيم بين زهور السوسن والياسمين... وفجأة رأيت ما يلي: زوبعة. باقات زهور محمولة. أشجار مقتلعة عائمة. الموت يجزم الأفعال! روائح عفنة. نتانة كونية!
ـ أصنع لك شيئا من القهوة؟
ألح قليلا ولكن بأدب.
ـ نتانة كونية!!
يعيد علي.
ـ لقد رأيت تلك المجزرة بالطبع لأن الخمور ما تزال تتلاطم في معدتي ولأن حريقا شبّ في أحشائي وآخر فلع قحف رأسي. نار سحبتني ودفعتني ودكّتني وزگطتني ورفستني وأمرتني: لماذا لا تقول شبّيك لبّيك!
ـ ماذا؟!!!!!!!!!!
ـ شبّيك لبّيك! عبدك بين يديك!
ـ ها؟؟ نعم؟.. جاري العزيز، أرجوك.. أنا أيضا ما أزال في ساعات الصباح الأولى.
اهدأ إيريك.. قلت لنفسي.. اهدأ. هيا.. اصنع قهوة قوية للزائر المفاجئ ولك.

موسيقى



3. الكابوس

لم أكن تعرفت على جاري العراقي بشكل جيد. أو بالأحرى، لم تكن لدي به معرفة. لهذا، احترت. كيف سأبدأ الحديث؟
ـ هل تعيش من فترة طويلة في بلجيكا؟
أقول له وأقدم كوب قهوة سوداء قوية.
برشفة واحدة يقذف القهوة بين ما تبقّى من أسنان مصفرّة في فمه ويقول بلغة إلهية:
ـ لقد نسيت الكابوس!
أنا أقول:
ـ من الصعب الحفاظ على الأحلام في الذاكرة.
ـ لا. لقد نسيت الكابوس عامدا! ولم أعد أفكر بها. بعد كل تلك السنين من التصفير في المقاهي، الأشغال العضلية، والجوع، والـ.. ، والـ.. لقد نسيت أنها تنتظر. كانت واقفة عند ضريح السيدة زينب تريد أن تراني. بينما أنا نسيت أن لدي أشواق لها. اندفعت نحوها بعجلة. توقفت أمامها. تمتمت: لا. إنها ليست هي واستدرت إلى ناحية أخرى رغم الهاجس الذي أراد أن يستوقفني قائلا: أنظر جيدا! إنها أمك... أكملت الطريق ورحت أنظر حولي: ربما تجلس هناك.
طوال الوقت كان جاري يزوغ ببصره في زوايا المطبخ. أغلق عينيه، وامتدّت يده إلى إبريق القهوة. أمسك بالابريق ورشّ ما تبقى من قهوة فوق أسنانه المتباعدة.
ـ كيف لي أن أتعرّف على أمي، أنا الذي نسي بعد ثلاث سنوات من المنفى حتى صورة العراق؟
يفتح عيناه السوداوان فتنجذب عيناي إليه.
ـ كيف لي أن أعرف أنها أمي، وقد تركتني ذاكرتي، وحيدا، أتفرس بوجهها، في مرقد السيدة زينب، حتى أضيع في التفاصيل والتجاعيد، فأرى صورة جدّتي مرة وصورة جارتي مرة وصورة سجادة مرة وصورة ابنتي مرة حتى يهتز كل شيء وتهرب مني القدرة على التعرّف على ملامحها؟
يضرب جمجمته بقبضة كفه مرة أخرى.
ـ لا أدري. لم أعد أدري. ذكريات ملامحها المتبقية في ذاكرتي تدق مسامير نفسها على وجه آخر لامرأة لا تقف عند المرقد، وإنما تجلس بين عشرات النساء في الصحن. نساء مبرقعات بعباءات سوداء. تهرب ذكريات الملامح مرة أخرى، إلى امرأة أخرى تمسك بقضبان شباك الحضرة بقوة لا تتناسب مع حجمها. وعجوز تهزّ الضريح في حالة تجلّي، في حالة لا أمل، ولكن بقوة وعزيمة الأيمان. ومرة أخرى تهرب الملامح لتستقر على وجه امرأة أخرى، ثم امرأة أخرى، وعلى أخرى حتى تتلبّس وجوه جميع النساء.



4. أمي!

أدقّق النظر فيه كيف يهذي تاريخه.. "بهدوء يا أخ، برويّة. قل ما تشاء. دع الأمور تجري برويّة" أفكر مع نفسي. بيد أن العكس هو الذي يحدث أمامي.
فجأة يقف جاري وقفة القديس پول حين قدم إلى دمشق عام 34 للميلاد، ودهمته الرؤيا http://www.alfalaq.com/sam/sam39.htm كأن صاعقة تشقّه شقيّن: فم مفتوح إلى أقصاه وعينان تزوغان إلى حيث لا أدري..

أنسلّ إلى غرفة النوم. أتعمّد التأخر لكي أضع شيئا حول جذعي العاري. وإذ أنا أبحث في كومة الـ (تي شيرتس) أسمع أنين. أنشغل في البحث. أنين. أنين لا يتوقف. أستغرق في البحث. كلمات تلوّن الأنين. أنين وكلمات. أتناول (تي شيرت) مكتوب عليه (ولد لكي يحيا) لكني أغيّر رأيي فأرميه بعيدا. أتناول قميصا كيفما اتفق وأتحرك بشجاعة نحو المطبخ.
كان واقفا هناك. بلا حراك. لا تسيء فهمي. كان واقفا هناك. كهل عمره حوالي 35 سنة. ملامح وجهه، مستغلقة تائهة، تبحث عن دموع.
ـ يمّه!!
يقول.
ـ يمّه!!..... أمي، أريد صورتك.
قال وانفتح علـ... علـ.. انفتح على ماذا؟ انفتح وكأن شمس أشرقت؟... نظر إلي ونظر. نظر طويلا، ونظر حتى بدأت أعصابي تتوتر.



5. الصورة

ـ هل أستطيع أن أفعل لك شيئا يا أخ أأ.... ؟
أسأله بطريقة خرقاء.
ـ إيريك..
يقدّم نفسه لي.
ـ عفوا؟
أقول.
ـ إيريك. اسمي إيريك.
يقول. أنا أضحك.
ـ أنا إيريك. اسمي إيريك!
أقول له.
ـ لا تردد خلفي كالببغاء.
يقول
ـ يوسف؟ أليس اسمك يوسف؟
أقول له.
كان مكتوبا على جرس شقته: ي. إبراهيم... يصمت الرجل. أسأله مرة أخرى:
ـ أليس اسمك يوسف؟
ـ اسمي إيريك.
يقول.
ـ هل بإمكاني أن أفعل لك شيئا يا.. يا.. إيريك؟
أقول له... أعطيه كرسيا. يدور بكرسيه، يداه بين فخذيه، يتأمل في موتيفات الكاشي المتناظرة على أرض المطبخ.
ـ أردت منها صورة فقط!! بيد أنها صمتت، لأنها لم تكن تحمل صورة شخصية لها... "خذ هوية الاحوال المدنية. اقلع الصورة الملصوقة عليها، وسأخبرهم في العراق أنها ضاعت" قالت لي.
واستغرق في التحديق بالكاشي.
ـ أن يكون كل شيء قابل لأن يوضع في محفظة، في صندوق، حتى أمي ذلك شيء عجيب. على كل حال.. كانت صورة.. هممم. لا أكثر من صورة.
أما أنا فقد بقيت أردد عليه:
ـ هل أستطيع أن اقدم لك مساعدة ما يا.. إيريك؟
لكن الرجل بقي يحدق ويدور.



6. بحثا عن إيريك

مدخل.
إيريك يضع عدسة مكبرة يستخدمها كما يستخدم البيمر.
على الشاشة تظهر فراشة جميلة جدا.

ـ تنبعث موسيقى من تلفزيون البيت.

موسيقى
http://blog.seniorennet.be/zinloosgeweld/

ـ التلفزيون أسود ـ أبيض.
العام هو 1968.
عمري 8 سنوات.

مدخل آخر.
لحن آخر.

سقّالة (سكّلة) عالية في الخلف.
في أعلى السقّالة (السكّلة) شيء يشبه الإله

يغني أغنية شافي Shaffy المعروفة:
http://blog.seniorennet.be/bewaarplaats/archief.php?ID=35

سماؤنا زرقاء ذهبية اليد
غيومنا أبراج، كريستالية ثلجية، نجوم مذنّبة،
رجال وكواكب
آخ، كل شيء حولي يدور،
أنا الملاك.

يغني مقطع آخر من ذات الأغنية

يأسرني لقاء دفء الشمس على وجهي.
يأسرني الضياء النحاسي.
بيدي أسقيك ماءً
ممزوجا بقواقع طالعة في رمال مالحة
أحبك، آه كم أحبك
.......
لأيام طويلة بقيت أردد تلك الألحان. أغني وأشعر بالكلمات تهز كياني.
شيء يسكنني يشبه الفرح والطاقة المتقدة في جسدي

يغني صارخا

آه، كل شيء حولي يدور،
أنا الملاك!!

وقد ساعدني ذلك على تكوين شخصيتي..
في تلك الفترة اندلعت أناشيد أخرى في الشوارع:

يغني أغنية أخرى

سوُننس سوُننس Suenens اطلع برّه!
سوُننس سوُننس اطلع برّه!
..........
كان خريفا. أبي وأنا نتجوّل بالسيارة في شوارع مدينة لوﭭان.
ـ سوُننس ارحل! لوﭭان مدينة ﭭﻼمانية! ارحل سوُننس!
شعارات مكتوبة بكلمات عملاقة على جدران المدينة. ارحل سوُننس! لوﭭان ﭭﻼمانية!! وكان سوُننس ممثلا للروح الكاثوليكية للأمة. ممثل؟ آية الله الكاثوليكي سوُننس Suenens. شيء من هذا القبيل؟ أم... ما...
ـ ما هو الـ "سوُننس"؟
سألت أبي... لكن أبي ظلّ يقود السيارة بتركيز.
ـ ماذا يعني سوُننس؟
سألت أبي مرة أخرى... لكن أبي قال ككل مرة.. لا شيء.
بعد عدة أسابيع في الصف الدراسي، صرخت قافزا من رحلتي.
ـ سوُننس سوُننس اطلع برّه!
دون أن أعرف مغزى الكلمات. لكن امتلاء فمي بالصرخة والكلمة بدت وجيهة. تلك كانت واحدة من انفلاتاتي القليلة خارج بحار الأحلام الراكدة.
ـ إيريك مارتينز، اطلع برّه!
صرخ المعلّم بي.
لحظة... كي أجنبّكم أي سوء فهم: اسمي إيريك مارتينز.
ـ ولكن لماذا يا أستاذ؟
ـ إيريك مارتينز، اطلع برّه!
..........
غادرت الصف... غادرت المدرسة... غادرت الشارع... دخلت إلى البيت...
ـ ما هو سوُننس؟
سألت أمي. لكن أمي.. كـا.. أمي....
صمت

كنت أجلس خلف شباك الصالون المطل على باحة الحديقة. وكنت أنظر إلى الأحجار الرمادية للباحة الصغيرة... كنت قد نثرت فتات من الخبز، حول شجرة الصنوبر الكبيرة... بقايا الخبز للطيور الصغيرة.
وكان لدينا قط. اسمه... كان اسمه (مِـ.. نــ.. و.. )؟ نعم.. نعم (منو). كان يختبيء بين أغصان شجرة الصنوبر وكنت أعرف ذلك... القط يتربّص. وأنا أنتظر. ستراتيجية مشتركة. فالعصافير ستأتي، حتما ستأتي.
وبالفعل جاءت العصافير. أما القط (مِـ.. نــ.. و.. ) فـ: هاپ، هاپ، هاپ!!... وبعد حوالي ساعة، رحت أبحث عن بقايا عظام يدخرها القط لي بشكل منتظم، في زاوية الحديقة الخلفية.

يدندن:
http://www.georgededecker.be/
وددت أن أكون طائرا..

ثلاث فراشات تسقط في مصيدتي.
أخرج واحدة من نوع "عين الطاووس". فراشة جميلة جدا. لونها برتقالي متوهج.
الفراشة ترتجف بين أصابعي. من الخوف؟ أترك الفراشة بهدوء ترتجف، ثمة عدسة مكبّرة في يدي اليمنى أوجهها إلى الفراشة. أنتظر الشمس. لا بد أن الشمس ستظهر. لا شك في ذلك. يجب أن أنتظر فقط بصبر.
وبعد فترة.. انظر... الشمس تظهر!!
رشفة من ضياء الشمس تتغلغل إلى عدستي المكبّرة. أرى من بين ثنايا الأجنحة شيئا ينمو. خط ضوئي داكن يتفتق عن شئ ما داخل اطار العدسة.
فراشة عين الطاووس ترتعد في يدي اليسرى.
سخونة خط أبيض تخترق اللون البنفسجي واللون البرتقالي للجناح.
يوشّ دخان بلا نار.
رائحة جيفة. شعواط؟ رائحة حلوة. عطرة.

صمت.
إيريك يضع تحت العدسة المكبرة صورة فيها ثلاثة فتيان.



7. الأخ أسامة

نظر جاري إلى صورة موضوعة على مرمر الموقد:
ـ لديك أيضا ثلاثة أخوة؟
سألني بلذة مفاجئة، وأشرقت تحت عينين دافئتين انفراجة مرحة واسعة حلوة، واتخذ جسده لبرهة ذات الوضعية المرحة: "جسد حرّ وأنيق!" قلت لنفسي!! "البهجة!!" أقول لنفسي. "هذه هي البهجة!! انظر وتعلّم!!" أقول لنفسي.
غير أن ذلك، ما لبث أن خبا.

ـ أخي الأصغر جاء لزيارتي في المدينة المسوّرة. كنت مشدودا لمعرفة ما يحدث خارج المدينة، كنت أريد أن أعرف كل شيء، حتى التفاصيل المملّة. وحين كنا نقصقص هوية الاحوال المدنية للوالدة لكي آخذ صورة أمي معي سألته عن المرحلة الدراسية التي وصل لها، وأشرعت بوجهه حكمة الأخ الأكبر ونحوت عليه باللائمة لأنه توقف كما تركته في ذات المرحلة قبل مغادرة العراق، وسألته عن عاشوراء، عن غصن تفاح كنت أسرق تفاحاته من الشارع كل موسم، عن مقهى الحاج حبيب، وعن الحمار الذي كتبنا عليه ذات ليلة "من يركبك فهو كلب!" وأطلقناه في المدينة واضطرت الشرطة أن تضعه في ساحة وسط المدينة وتقدم له العلف ولا يجرؤ أي واحد على التحرّش به، عن بنات الشروفي وصدورهن المندلعة كل خميس في السوق، عن حجر ناط عن الرصيف كنت أتعثر فيه كلما ذهبت إلى البيت مستعجلا. عن شاكر البدري وهل ما زال يلقي أشعاره في الاحتفالات الكبرى وهو يتأتأ، عن محمد زمان وما آل به الزمان والمكان... وذات لحظة قاطعني أخي قائلا: "مضت ساعة وأنت تناديني تحسين. أنا أسامة ولست تحسين. " عندها حدقت به مشدوها، تفحصت وجهه بدقة في حين أعاد عليّ الاحتجاج: "صار لك ساعة تصيحلي تحسين. أنا أسامة مو تحسين."

كان "إيريك العراقي!" كما سمّى نفسه نابتا في أرض الكرسي، ويداه تحت فخذيه. حدقت به بغباء ورحت أدرس تقاطيع وجهه بانتباه. وهو بدوره راح يحدق بي ويدرس وجهي بانتباه. إيريك. أسامة. إيريك. تحسين.

ـ لم أكن أتوقع أبدا أن التشظي قادر على تدمير ذاكرتي والصور التي لا تمحى إلا بالموت.

ولامس شيئا في... في... في ماذا؟ ذاكرته؟ ثم حكا معي وكأنني أخوه القادم من بطون الذاكرة.
ـ يا حبيبي يا أسامة. لقد كبرت وصرت تشبه تحسين إلى درجة كبيرة. كنت نحيفا عندما غادرت العراق والآن أنت ممتلئ. ضحكتك الآن تختلف عن ضحكتك قبل سنوات، وحتى صوتك صار يشبه صوت تحسين. واخي تحسين.. في أي صف وصل الآن؟

نظرت إليه ورحت أدقق في ملامح وجهه.

ـ وهكذا انتهى اللقاء بيني وبين أخي بقبلة من... أسامة!
نظرت إليه ورحت أدقق في قسمات وجهه.

موسيقى



8. اسكر!!

جلسنا فترة بدون صوت.
جلسنا فقط.
أردت أن أطرح عليه سؤالا عن أسامة، لكنه سبقني:

ـ الصورة
قال.
ـ نسيت الصورة. بحثت عنها فلم أعثر عليها. ونسيت البحث عنها. وتذكرتها وبحثت عنها و. و..
وبدا صوته مرتبكا.
ـ لا. لا.. بالعكس. لم أبحث عنها. كانت تلك ليال طويلة وكنا نعبّ العرق بعد صداع صباحي، وبعد أن كنا أقسمنا أغلظ الأيمان على التوقف عن تناول الكحول وحملنا (بازبند) ما بعد منتصف الليل. والبازبند هو الكائن الوحيد الذي يقارع التنويم الاصطناعي إبان مقارعة الخمور. لا. لا. خطأ. الوصف ليس مضبوطا...

كما قلت قبل قليل: بدا الرجل مرتبكا، فقلت له:
ـ خذ حريتك! اعتبر نفسك في بيتك!!

ـ التسلسل ليس صحيحا، لقد نسيت التفاصيل... كانت تلك ليالي تنتهي بصباحات تبدأ كالتالي. أولا: وجوه كحولية تتفق مع بعض على شيء ما. يمضي بعض الوقت. ثانيا: في الوجوه، تتبعثر ايماءات صغيرات. ابتسامات تخفي ما ورائيات. فترة من التوتر. رابعا: واحد من الوجوه يتظاهر بأنه...
ـ ثالثا.
أقول له.
ـ رابعا
يقول لي.
ـ يفتعل وجه ما مظاهر الانشغالات. يتظاهر بأنه مستغرق في القراءات في بطون كتاب مرمي جانبا..
ـ ثالثا
أقول له.
ـ رابعا!! يصرخ الوجه: اللعنة على الوعود!! سنسكر يعني سنسكر!
يصيح جاري.
ـ سنسكر، سنسكر!
يقذف الكلمات بوجهي وكأنني أخوه أسامة!!
ـ هل تسكر؟
سألني
ـ أنا أشرب.
قلت له.
ـ سنسكر إذن سنسكر!!

وخرج كالبرق من الغرفة. وبلمح البصر قفز السلّم إلى الأعلى ووقف أمامي مجددا.

ـ حليب سباع، درجة أولى. أهم مشروب في العراق!
ووضع قنينتين فوق الطاولة.... نظرت إلى ذلك الحليب: نسبة الكحول °46

ـ حسنا!! سنسكر إذن في منتصف النهار.
قلت له بدوري وفتحت الدرج لأضع إلى جانب حليب السباع العراقي من الدرجة الأولى قنينتان:
ـ جنيـﭭر (مونتپاك) درجة أولى في بلجيكا.. تفضل!
أسحب أقداح بيرة، أملأ اثنين منهما (مونتپاك). جاري يتناول قدحين ويصب فيهما (حليب سباع).

وشربنا. وشربنا. ملأت أقداحه وملأ أقداحي. وملأنا. وملأنا. وملأنا. وملأنا. وملأنا. وملأنا. وملأنا. وملأنا.



9. الشفّافيّة اللا محتملة

من يصدق أن الأقزام موجودون حقا في عالمنا وليس في حكايات الأميرة والأقزام السبعة فقط؟

أنا!

أنا أؤمن بوجود أقزام طولها 51 سنتيم..

لا تصدق؟
هذا شأنك!

كان عمري 26 سنة. عام 1986. لم يكن بإمكاني الحصول على عمل. العثور على عمل قضية صعبة جدا، وأنا عمري ستة وعشرين عاما. ماذا أفعل؟

افهمني: أنا لم أكن غير مهذّب أو غير موهوب ولا تنقصني اللباقة. بالعكس!! كنت متيّما بالميكانيكيات والالكترونيات. التقنيات والرياضيات كانت مزروعة في الجينات. إذا ما وجدت آلة طريقها إلى يدي خضعت مباشرة للتفكيك. يجب أن أفعل ذلك. ولع مجنون بالتفكيك والتركيب. وهكذا، أي أداة ميكانيكية أو الكترونية في البيت، أي أداة في الحديقة، أي جهاز مطبخ تجاوز محال على التقاعد، لم يسلم من هوسي بالتفكيك والتركيب والدراسة المعمقة. خلاطات فواكه، مراوح تعمل على البطاريات، الدمية الناطقة “ik doe pipi”، البطانية الكهربائية، تلفزيون ما قبل التاريخ ذو اللمبّات العجيبة، انتاجات "بلاك آند دكرBlack & Decker ": الدريلات الكهربائية والمثاقب وغير ذلك.. كل شيء، كل شيء، الكاميرا السوپر 8، الكهربائيات ذات الذبذبة... كل شيء.

كنت أعود إلى البيت مساء بعد يوم من البحث عن العمل المثير للأعصاب. أجلس متكاسلا وأبحث عن ما يشتت أفكاري. من خلف شباك الصالون المطل على الحديقة أنظر إلى اللون الأخضر... فألاحظ أن أقزام الحديقة (پاف و فلوف) لم يعودا يقفان مع بعض تحت شجرة الصنوبر الكبيرة بصداقة، وإنما الأول عند شوّاية (الباربكيو) والآخر بين الأزهار. كنت أعود مساء في الليلة التالية محبطا من السوليسيتيشنس الفاشلة. ومن خلف شباك الصالون المطل على الحديقة ألاحظ أنهما قد انتقلا من مكان الأمس إلى وضعية ومكان آخر.
افهمني!! لم يكن يحركهما أحد. لقد كانا يتحركان من تلقاء ذاتهما.
..........
وهكذا استمرت الأيام. كل يوم مكان جديد ووضعية جديدة... دون أن يحركهما أحد!! كنت أطرح على نفسي كل اليوم السؤال التالي: أين سيقفان هذا المساء؟ وكنت أعيش ذلك الترقّب، تلك الأعجوبة. أو تلك السلوى!! كل يوم إثارة جديدة.
أقزام الحديقة المتنقلون أخذوا حيّزا مفاجئا في حياتي.
شيء يشبه الإعجاز. وكأن ملاكا أبيض هبط لزيارتي بطريقة غير متوقعة. لكأنه وقف أمامي متجسّدا في هيئة كائن ملموس. كائن، أو ملاك وضع لنفسه بطارية ونظام تحريك يخضع لتعاليمه فقط بحيث يستطيع في أي وقت أن يتحرك بطريقة مستقلة، ووضع لنفسه (قطعة من الراديوم. راديوم فاكتور) تضيّع عليّ قدرة السيطرة على اتجاهات تحركاته أو تتبعها. شكل من أشكال الفوضى في الكوده.
ماذا سيفعل اليوم مرة أخرى؟
وقد منحني هذا نوعا من الإثارة، أو البهجة، أو السلوى؟
جلبت أقزاما وضعتها هنا وهناك ولففت سيجارتي. كنت سعيدا، وكنت أفعل كل ما أريد وهم بدورهم يفعلون كل ما يريدون. وقد أنساني هذا احباطات عدم العثورعلى عمل. وأنا على أية حال لم أكن أحب العمل حسب المقاس. العمل! هذا شيء ليس لي وإنما للأقزام. أنا أقرر الشروط وهم يتحركون.
حين أخبرت أندرييه صديقي المقرّب عن ذلك الإعجاز، سقط على قفاه من الضحك. ثم سمعته يصيح:
ـ خذ براءة اختراع. إيريك!! افتح معملا للأقزام. مزرعة لتكاثر الأقزام. إيريك. لا تتردد!! مصنع لإنتاج الأقزام، ثمة طلب كبير في السوق والعرض يكاد يكون صفر. إيريك. هذه فجوة كبيرة في السوق. املأها!

عام 1986. كانت الموضة حينها الكشف عن فجوة في السوق، عرض غير مسبوق، طلب كبير يبحث عن عرض. كان عمري 26. وقررت أن أصدق آندرييه.
.......
ذهبت أبحث عن فجوة السوق (العرض) التي أخبرني بها صديقي آندريه. فأنشأت مصنعا صغيرا مستقلا في الگراج... وهكذا: من گراج سيارة أمامي في بيت إلى شركة (الگرّي) ذات المسئولية المحدودة. من گراج إلى مصنع. ورغم أن هذا لم يكن طموحي، فلم أقاوم مغريات السوق. الطلب في السوق كبير أكبر مني.

هكذا جرت الأمور...

حفلات باربكيو وأصدقاء جدد. من أين أتى كل هؤلاء، لا أدري. لكنهم كانوا هناك فجأة. في كل حديقة أو مكان عام ثمة باربكيو وأصدقاء جدد وأقزام تفاجئك بحركات مبتكرة. وأحاديث عن بيزنيس. أحاديث عن بيزنيس. مشاعر رومانتيكية انتابتني ووضعتني في موضع المساهم في بناء عالم أكبر. في صناعة عالم أكبر. ارتقيت من عالمي القديم إلى عالم أرفع.

وقد ساعدني ذلك على تطوير شخصيتي.



10. يوسف عمر

نسمع يوسف عمر يسبّح بتراتيل دينية
http://www.iraqiart.com/songs/Artist.asp?ArtistID=9

ـ إنه يغني. يوسف عمر!
يقول صاحبي
ـ يوسف عمر!!

نسمع يوسف عمر يغني

ـ يوسف عمر في جهاز التسجيل. ونحن، العصابة السجينة في المدينة المسوّرة، نسكر. "سايب ياگلبي سايب" نسكر!! "دشداشه صبغ النيل" على الدوام نسكر ونغني....

نسمع مجددا غناء يوسف عمر

ـ العراق. العراق!
يصيح جاري.
ـ العراق!!
ويبكي. لا بل يعوي.
ـ هاي شنو يابه؟ شبيك لك؟!! شنو ها الخرط... خرط.. مو؟؟؟
يسألني،
ـ استدرار عواطف مو؟.. مقاطع من أغنية تفتح ينبوع العيون. بينما الصورة لا تحمل أي تأثير في ليالي السكر والعربدة والبكاء!!؟
.......

بعد فترة سألته:
ـ ماذا تفعل إذا ما وجدت في حديقتك قزم أسود يتمشّى؟
ـ ليس لدي حديقة كما تعلم!
أجابني.

ـ القزم لا يتجاوز طوله الواحد وخمسين سنتيمتر إطلاقا، على رأسه طاقيّة وهو دائما أشقر. 51 سنتيمتر، أشقر، يرتدي طاقية: وإلا فأنه ليس قزما.
ظل يرتشف الكحول بصمت.

ـ هل رأيت في حياتك زنجيا أشقر؟ طبعا لا، وإذا ما رأيت شيئا من هذا القبيل فلابد أن يكون زنجيا أشهبا (آلبينوalbino).

كان يشرب.

ـ الألماني البدين كان يريد أقزاما من كل الأنواع. جاءني الألماني السمين مع ياباني هزيل. صورة كاريكاتورية! المعذرة لكني لا أستطيع إلا أن أتذكر الحدث بهذه الصورة:

ـ We can work together
قال لي الياباني بلغة إنگليزية مكسّرة، بينما كان الألماني البدين يمسك بحقيبة.

ـ لدينا الكثير من الآلات الموبايل في كل أرجاء العالم. لدينا إنتاج كبير في ألمانيا، تكساس، الأرجنتين وجنوب كوريا. بضاعتك جيدة. بإمكاننا التوصل معك إلى اتفاق مجزي حولها. امنحنا حقوق تصنيع الأقزام الموبايل Darf في مناطق نفوذنا وسترى. سيبقى اختراعك الشخصي وكل ما سنفعله هو أن نبيعه في أرجاء العالم بشكل مربح. نحن نعرض عليك مبلغ عشرة ملايين دولار.

وأخرج الألماني ملف من الحقيبة ومن الملف بضعة أوراق بلاستيكية A4

ـ تفضل.
نظرت.
ـ وقّع هنا لو سمحت.
وأثناء التوقيع قال الألماني البدين:
ـ مثل هذا العرض لا يمكن لأحد أن يرفضه. بالمناسبة، أتعلم أن لدينا أندر وأذكى المحامين في العالم؟

صاحبي يشرب.
(مونتپاك)؟!
ـ لن تمرّ الأمور بسلام!! لن تمر!! وسأفشل. سأفشل. ثمة وراء الأكمة ما وراءها. كنت أشعر بذلك، ومع ذلك وقّعت العقد وحصلت على مقعد في هيئة ادارة الشركة. لم تكن لدي خبرة في الدراماتورگي الاقتصادي (فن تدجين المستهلك)، ومع ذلك كنت أشعر أن (الدراماتورگس) الاقتصاديين بالغوا بأسلوب العرض إلى حد غير مقبول: اعلانات مصوّرة من مثل: ناپليون پوناپيرت في حديقتك. غاندي بالقرب من النافورة. پول بوت. مارادونا.... صحيح أن ناپليون كان قصيرا لكنه لم يكن قزما. صحيح كان ماركوس قصيرا، لكنه لم يكن قزما. صحيح پول بوت قصير لكنه ليس بالقزم. مارادونا قصير لكنه ليس من فصيلة الأقزام. ستالين ضئيل بيد أنه ليس من تلك الفصيلة. غاندي صغير لكن ليس قزما. سوكارنو قصير لكنه ليس قزم. هتلر كذلك... لا. لا. مقارنة الأقزام بهذه الشخصيات في الدعاية مبالغات وإهانات.

جاري الفوقاني ما زال يشرب
ـ تقنيات بيع. أساليب عرض. فنون اجتذاب المستهلك.. هكذا كانت التسميات. وإذا ما انفتح سوق فجأة على الأقزام فإن الترجمة تعني: تلك هي السعادة الكبرى!
أضفت.

ـ في واحدة من اجتماعات قيادة العمليات التجارية للشركة "غرفة الحرب" المنظمة بحرفية عالية، أكّدت احتجاجي على تلك الأساليب. لكن الجواب كان لي بالمرصاد:
"لو كان المستهلك المحتمل رفض شراء البضاعة، لأتفقنا معك على وجود خطأ في سلوكنا السلعي، سيد مارتينز. لكن المبيعات في السوق تؤشر بأن أسلوب عرضنا للبضاعة صحيح. السوق على حق، سيد مارتينز، حركة السوق على حق دائما". وجاءني تعليق آخر بإنگليزية يابانية:
"Mister Mertens, if the client did not buy this product, than we have made some mistakes, but Nasdaq tells us that we are right, mister Mertens, i am sorry, but Wall Street never lies, Mister Mertens"
ولم يعد بإمكاني أن أمر في أي مدينة أو قرية أو ساحة عامة أو حديقة دون أن أصطدم بقزم يحتلّ نافورة ما: نافورات الأبطال، نافورات اللا أبطال، نافورات الحيوانات! أمر يبعث على الشعور بالعار!!... أنا قصير كذلك، نعم، لكنني لست من فصيلة الأقزام! ولن أقف في نافورة... هذه استقالتي من المشروع!! ضربت الطاولة بحذائي وحددت موعدا مع المحامي!

موسيقى



11. العلبة

فوق الطاولة قناني فارغة وأخرى نصف فارغة وأقداح أنصافها فارغة وعلبة كرتونية صغيرة. المطبخ يتراقص في عيني! جسدي يطرب. أشعر وكأنني تحررّت! تحررّت! أمسك عفويا بالعلبة الكرتونية.

ـ لا تقترب منها.
يقول لي.. بحدّة... لا أهتم برد فعله. أقلّب العلبة، وأسأل.
ـ دبابيس؟
ـ اتركها!!!
يقول بحدّة أكبر.

أسأله مرة أخرى.
ـ دبابيس آلة كابسة؟
.............
ـ نعم، دبابيس، دبابيس. كنت أبحث عن علبة الدبابيس. الآلة الكابسة كانت فارغة، ويجب أن أكبس أوراق مساهمتي قبل أن أسلمها إلى مدير التحرير.

لم أكن أعرف من قبل أنه كاتب. كنت أظن أنه..... أنه.....

ـ فتحت درج الطاولة في مكتبي بسرعة. الساعة الواحدة الا ربعا وسكرتير تحرير الجريدة يجب أن يسلّم المواد للمطبعة. تناولت علبة الدبابيس، أخرجت قالب دبابيس لأضعه في الآلة الكابسة، لكن الدبابيس كانت صدئة. نظرت فلاحظت أن اللون الصدئ مصدره علبة أخرى. علبة كبيرت!! وكنت قد نسيت العلبة لأني أوقفت التدخين فترة وعدت اليه دون أن أستخدم العلبة. شيء عالق بعلبة الكبريت... نظرت، فرأيت وريقة سميكة ملتصقة بالعلبة.... أعطني العلبة.
صاح بي، فأعدت العلبة له.

ـ انتابني شعور في تلك اللحظة المخبوصة بوجوب انتزاع الورقة الملتحمة بالعلبة. لماذا؟ لا أدري. نسيت ما كان يشغلني قبل العلبة والآلة الكابسة. نسيت سكرتير التحرير، نسيت النص الجديد الذي كتبته و "سيشكّل ثورة في الأدب الحديث"، وانشغلت بالورقة الصدئة. قلبّت العلبة فاكتشفت أن الورقة إنما هي صورة هوية شخصية. لماذا التصقت الصورة هنا؟ من هو صاحب الصورة؟ لمن هي الصورة؟

أبتسم في سرّي! كاتب "سيشكّل ثورة في الأدب الحديث" يبحلق بعينين عملاقتي السعة بعلبة دبابيس صدئة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ويتحدث عن علبة كبريت! ميلودراما من القرن التاسع عشر؟!!
ـ خذ الأمور ببساطة يا عزيزي!!
أقول له،
ـ لدينا الليل كله للحديث.
فالتقط أنفاسه.. ثم

ـ حاولت أن أخلع الصورة بحذر. وما أن بدأت حتى انخلع جزء صغير عن العلبة وتمزق جزء صغير آخر وظلّت الصورة عالقة بالعلبة. حاولت مرة أخرى من جانب آخر.. بحذر، وتوتر، واحد.. اثنان... ثلاثة.. آه.. مرة أخرى تمزق جزء من ذلك الجانب. جرّبت جانبا ثالثا فانفصل جزء من الصورة عن العلبة وتنفست الصعداء. استجمعت عزيمتي ووجهت انتباهي لفصل جزء آخر عن العلبة. وبالنهاية تكرر ما حدث: جزء انفصل وجزء تمزّق وبقي معلقا بالعلبة.

ـ سأذهب إلى التواليت!
قلت له وانكفأت على نفسي في التواليت. رحيق الزيزفون البديع ما زال يهب على الحمّام... ما أن رآني عائدا حتى أكمل القصة بنفس الايقاع والاحساس السابقين. وكأن فيلما توقف وعاد إلى الحركة.

ـ أفرطت في المحاولات. وفي كل محاولة كنت أرتكب أخطاء طفيفة تنتج خدوشا وتأوهات وتمزقات على الصورة. عندها ظهر سكرتير التحرير في مكتبي ليسألني عن المقالة فصرخت بوجهه، بالطبع أريد أن أنتزع الصورة دون أن تتلف. وإلا لماذا كل هذا الجهد.... فشلت في انتزاع الصورة عن العلبة. ومع ذلك كنت أحث نفسي على قبول الفكرة التالية "أليس ممكنا أن أنتزعها، هكذا، بصورة مفاجئة، بحركة واحدة، قبل أن تنتبه الصورة لنفسها وتتمزق؟"... أهملت سكرتير التحرير الذي ظل ينتظر بأدب أن أسلمه المقالة. نسيت رفوف الكتب، نسيت الغرفة، نسيت أني في مكتب جريدة حيث أعمل، ورحت أهذي وأشتم عفن الصورة وأهدد العلبة أن تتوقف عن مناكدتي وأتعرّق وأتعرّق. الرعشة "الرگلة" في يدي تنشط دون انتظام، لهاث وخفقان قلب، حمّى في الرأس، يا إلهي، ابنك يوسف سينفجر! سأنفجر، سأنفجر..
ـ آها.. اسمك إذن يوسف!!
لكنه لم يسمع تعليقي.
ـ اهدأ! اهدأ! اهدأ يا يوسف!! صحت بنفسي. لقد أنجزت معظم المهمة، رغم الأخطاء. والآن. استراحة. استراحة بسيطة... لم يبق عالقا في العلبة سوى جزء صغير من الصورة، فلماذا لا تنظر، بحذر واحتراس، إلى الأجزاء "المحرّرة" منها؟ حسنا.. قررت أن أنظر،.... ونظرت.
وعندها حلّ الصمت. صمت يشبه موسيقى في فيلم يعتمد الاثارة والتشويق. رفعت كأسي وقلت له:
ـ خِزونط هايد!! Gezondheid!!
فأجابني:
ـ بصحتك!!
ولم يشرب من الكأس
..........
ـ أصابتني صدمة.
قال:
ـ انقطع نفسي. توقفت نبضات قلبي ثم عادت.... كيف وصلت صورة أمي إلى العلبة، كيف؟ قل لي كيف؟ الاسم؟! الأيقونات؟ الأيقونات.. أين اختفت؟ الآثار، الخطوط... ماذا تريد مني؟ أتعرف ماذا تريد مني؟ أتعتقد أنها انتقلت إلى...... أتعتقد أنني انتقلت إلى جوار ربّي؟!! اللغة. اللغة.. لا شيء في بيداء رأسي سوى اللغة!
وبقبضة كفّه الثقيلة محق رأسه.

ـ كيف التصقت صورة أمي بالعلبة! كيف نسيت أمي فلم أعتنِ بصورتها، ولم "أقلّب" ذلك المستطيل الصغير الضائع من محفظتي زمناً طويلاً ثم نسيتها وعثرت عليها في هذا الحطام؟

وأخرج من قميصه علبة كبريت تشبه المتحجرات وهزّها بوجهي حتى تساقطت أعواد ثقاب كثيرة وراح يدعسها بكفيّه. جسده يشهق دون توقف. بتركيز عميق راح يدقق النظر بأعواد الثقاب. يهز علبة الدبابيس حتى تتساقط الدبابيس الصدئة وتكوّن جوقة أخرى. جرّ قدميه جرّا من تحت الكرسي وكأنه يخلع جذع شجرة...

كان قلبه معتما، وفي رأسه غيمة بيضاء.



12. إلى التفاصيل

يظهر أثناء المشهد نص على الشاشة من خلال بيمر وليس عن طريق العدسة المكبرة.
خلفية الشاشة پارك جميل فيه نافورة يتوسطها قزم:
ﭭيسفولد مايرهولد.

في حديقةٍ ربيعيةٍ آسرة. يتغيّر الإيقاع الداخلي، يمتقع وجه وترتجف يد وتطرق قدم بوابة الأرض. حركة إلى مكان تعرفه القدم جيداً. يعصف الفضاء بالمباني العاليات كريح تقتلع ما أمامها. يتبخّر الإسفلت في لهيب الشمس. تتقزم الأشجار وتستحيل عشباً في طريق متهدّم تعترضه شواهد مكتظّة وممتدة على مرأى البصر.. القدم تسير بطيئا، سريعاً يلهثُ جسد. تتقهقر القدم، تتمسح بالتراب وتتزود بالجلال قبل أن تتقدم. تتقدم يد وتمسك بمقبض الدرج. الدرج ينقتح. الدهليز يبعثُ أحاسيس غامضة. باب حديدي بارد يزرع الرعشة في اليد. ريح باردة خلف الباب مكسوّة بأبخرة. لم آتِ إلى هنا لرؤية أجدادي ولا أحفادي.. فقط، أود مشاهدة وجه أمي الذي لن يعود.

ـ أنا لا أفهم أي شيء مما تتحدث به. احك لي عن تفاصيل ما. التفاصيل.

أقول له بإلحاح. فيجيبني بلغة إلهية:

ـ أتعرف معنى أن تقتلع أمك صورتها من وثيقة الأحوال المدنية العراقية وتعود إلى العراق بدون وثائق في زمن صدام؟
ـ لا. لا أفهم.
ـ أقل عقوبة على هذا العمل كانت الاعدام....
ـ لم أفهم!! وما هي أكبر عقوبة؟!!
ـ هل تعرف صدام حسين؟
ـ نعم. في الصحافة والاعلام.
ـ وهل تعرف ما يفعله صدام إذا ما تلفت وثيقة رسمية من أم شخص معارض له؟ ثم هل تعرف معنى أن تتخلى أمك عن حياتها لأجل أن تعطيك صورة؟ مكثفة في صورة؟
ـ علاقتي بأمي ليست بالمعنى الذي تفهمه. احك لي عن تفاصيل ملموسة. احكي لي بالملموس.

وكأنني بذلك الالحاح كنت أن افتح آلة دماغه، أفحصها وأفككها وأعيد تركيبها.

ـ مئات من الرجال المعادن الصدئة. حشود رجال من ثقاب. قوس قزح من الألوان. الألوان تغطي الدبابيس المعدنية حتى تستحيل بشرا أقزام. الألوان تشتعل في رؤوس الرجال الخشب. تتمايز الألوان عن بعضها، وعلى نحوٍ مباغت تختلط ألوان المواكب..
ـ لم أفهم. احكي بالملومس. عرّج على التفاصيل.
أقول له.

ـ إلى التفاصيل! تكسو الألوان جسد كل دبّوس على حدة. تترنح أعواد الثقاب. تنهض الدبابيس.

يغني نشيدا حسينيا

ـ النساء يقفن وسط ليل مستنسخ clown من العباءات. الدموع على نحور النساء. الرجال مشتعلون نارا وفحم! وفي رأسي تراتيل ومواويل نسائية.

يغني واحدة من طقوس التعازي الحسينية

ـ ترتفع مواويل النساء مثل أيادي تهيل التراب على قبر أعز مخلوق في وجدان العراق.. عبد الكريم قاسم.. عبد الكريم قاسم..

يغني

ـ يا حبيبي يا حسين، نور عيني يا حسين..................... ليلٌ ساكنٌ كدمٍ متجمّدٍ يخدشه عويل يرفع العلبة. يمشي العويل بها لتصبح أشبه بتابوت ويقودها إلى عتمة المكتب. غرفة تعذيب مظلمة... يا لأصابعي، يا للدبابيس... كلّهم يحفرون قبرا، إنهم ينقبّون! صورة أمي الملتصقة بالتابوت تغور أعمق، تختفي، وبين الأنين والطقس والوجوم والليل يطلّ وجه أمي كمومياء... "المسوخ تمرق حول أذنيّ".

ـ ستجنني هذه الاستخدامات اللغوية!! ما معنى "المسوخ تمرق حول أذنيّ"!!
كنت أقول له وأكتشف بشكل غامض سحرا ما في الرجل.

ـ يا للدبابيس، يا رجال الخشب! أعواد الثقاب تختفي تحت تابوت أمي، وبين الطقس والوجوم ترفع الدبابيس وجه أمي مرة أخرى.
ـ احك بالملموس وارحمني!!
قلت وكأني أصرخ به.
ـ إلى التفاصيل!!! وجهٌ عشتاري.. جسدٌ إلهي مطهّر بمياه سومر.. رائحتها تسكن في البخور. رائحة البخور تسكن في الصلاة. الصلاة قادمة من البيت المقدس. تلك التفاصيل كانت تضمّخ جسد أمي بالطيب. الموكب والغيوم والعويل يسيرون. مسيرة في ليل من مطر واجم ورحلة أبدية.

صمت

كان واضحا أن السيد يوسف إبراهيم العراقي يمارس طقسا على طريقته الخاصة. كان نفسه بكل وضوح. "He was him self " وخاض طقوسه دون أن يجامل أحدا... لقد أحال جاري علبة إلى تابوت، صورة إلى جسد، وتحوّل بدوره إلى امرأة تندب، تمزق صدرها وتلطم على رنين العظام.. تقفز فوق أرض المطبخ وتدق فتجيبها عظام القفص الصدري. رأسها، أو رأسه يستحيل طبلا تهتز جلدته وهو يقرع الجدران. يتكثف رنين الرأس ويستحيل شهقاتٍ متقطعةَ ينفثها فمها الفاغرِ.. يعزف جسدها نشيدا "بدائيا" بداءة الحزن والخوف. جسدها أم جسده؟ لعنةً؟ تعذيباً؟ كاثارسيس؟ لا أدري.

صمت

ـ ولكن، ترى، هل ماتت أمي فعلاً، أم هي خيالات المنفى؟
يسألني بعد أن توقف فجأة بمزاج مناقض لكل ما حدث! وكأنه لم يبحر في كل تلك العواصف!
ـ لا أدري.
أقول له.
ـ لا أدري.
يقول لي.
وكان عازفا عن كل شيء.
هيكل أجوف!!
قلبه معتم، وفي عقله غيمة بيضاء.



13. طقوس الصمت

موسيقى طويلة

ـ فقط، أود مشاهدة وجه أمي الذي لن يعود.
صرخ وكأنه يطرد كابوس العدم.

موسيقى



14. في البدء كان

يظهر النص التالي على شاشة.
في خلفية الشاشة تشابيه حسينية.

كان يا ما كان في قديم الزمان، لا خيال، لا أنس، لا جن، لا شئ في البدء سوى الزبد يجلّل اليّم. الإله شمش لوحده يترحل. غيمةٌ بيضاء تغلي. شكل من أشكال المادة الغازية.
الغيمة البيضاء تطير بجناحين إلهيين. يحبل صدرها بنطفةٍ رماديةٍ تنفخ نفسها وتنفخ حتى تصير خروفا. ويتحول شكلها من خروف أليف إلى ثور وحشي. كان يا ما كان في كابوس الزمان رجل اسمه يوسف. غادر الرجل أمه العنزة السماوية دون أن يُعلمها، وعاش في بيت الطين، المعبد.
أمطرت السماء طوفاناً جرفَ بيت "الطين" واقتلع النخلة. أما المقبرة المشيّدة فوق قضبان عجيبة الطول، فقد أزهرت قبوراً جديدة.
وكلما انحسر الطوفان راحت تمتد إلى اليابسة الجديدة وتلد قبورا.

يوسف يجلس على كرسي في المطبخ، يحدق بمنفضة السجائر المدلهمة بالدخان والجمر. لم يكن سوى غيمة في العدم. وبدلا من الاحتجاج على اشعال تلك الكمية الخرافية من أعواد الثقاب في المنفضة وجدت نفسي أحتضن الغيمة أمامي وأخفيها بين ذراعيّ.

تعانقنا وكأن كل منا متيّم بعزلة الآخر... ريلكه.

ـ لا يجب أن تفكر دائما بأن علبة الكبريت تابوت وتستغرق في فكرة أن أمك ميتة.
قلت له.
ـ أعرف ذلك.
همس لي وأضاف:
ـ كادت الصورة تتمزق قبل أن أهرب من غرفتي.
ـ لن تتمزق. اطمئن!! سأفكك المعضلة وأعيد تركيبها بالطريقة المطلوبة!
ـ هل تستطيع أن تجد حلا؟
همس يوسف مرة أخرى..
.........
أفرغت مياه الإبريق الحديدي في إناء عميق وضعته على الطاولة.
ـ ضع العلبة الكرتونية في الماء.
قلت له.
ـ ستتشرّب الصورة بالماء، وبعدها ستنفصل الصورة. تماما كما نفعل مع طابع بريدي. أعطني العلبة لو سمحت وسأريك.
فم فاغر بشكل غبي وعينان تحدقان بي وكأني اكتشفت بوابات العالم الآخر.
ـ الأمر بسيط جدا. أعطني العلبة..
يوسف، وكأنه انبعث من عالم الموتى، يراني أقرّب الإناء. يدفع الصورة والعلبة على عجل في الاناء ويحرّك الصورة داخل الماء، ويحرّك، ويحرّك، ويحرّك، لكي تتشبع الصورة بالماء، وفجأةً:
ـ يا إلهي! سأغرقها في الماء. إنني أخنقها في الماء. إنها تغرق. إنها تغرق.
صرخ بلوعة شخص يحب المواقف الدرامية. عندها صحت بوجهه:
ـ دع الأمر يأخذ مجراه الطبيعي!! تعال.. دعنا نشرب قهوة!!
وبعد مشهد: "إنني أغرقها في الماء. إنها تغرق. إنها تغرق." جلبت قهوة قوية.
صمت.
قهوته بين أسنانه.
شفتاه تخفيان ببطء صدأ الأسنان.

رياح تهب في الديوان.

بهدوء تتشبّع الصورة والعلبة بالماء.
بهدوء تنفصل الصورة عن كرتون العلبة.
بهدوء يدقق يوسف في استدارة الوجه داخل العباءة، في العينين، الفم، الوجنتين.
ـ هنا بعض التلف.. انظر!!
بهدوء يقول لي.
ـ ملامحها صارت مثل التجاعيد.
بهدوء يقول لي.
ـ شقّ صغير هناك، أتراه؟ وذلك الخدش؟ بعض الألوان الصدئة تغلغلت كجراح في ملامحها.
بهدوء يقول لي فأجيبه.
ـ أتركها في الماء. أتركها إلى الغد حتى يزول الصدأ، وسنعود فننظفها ونرتّشها ونعيد لها ألوانها الأصلية..



15. توازيات

السبت قبل الغروب
يسألني يوسف، دون مقدمات:
ـ هل تفكر بأمك؟
ـ أمي؟
ـ هل هي ميتة؟
ـ أمي.......
أقول، وأبحث في ضباب رأسي عن أمي. ذاكرتي لا تسعفني..
ـ لا أدري لو كانت أمي أصلا على قيد الحياة في يوم ما؟
أقول له.
ـ هل هي في دار العجزة؟

فجأة وبعفوية لم أعهدها بنفسي أسمع صوتي يقول:
ـ هل تذهب معي لزيارة امي الآن؟
ـ لم لا!
قال لي.

موسيقى

لم أفكر من قبل فيما لو كنت أحب أمي أم لا. ولم يخطر ببالي أن أمي ـ التي لم تحيا ـ يمكن أن تموت!
أمي عادة موجودة منذ الطفولة.
مائدة الفطور، جبن الفستق، تعبئة الجوارب بأقدامي الصغيرة واحتجاج أصابعي التي تتعرض لتكة من اصبعها بشكل منتظم.
وأمي كانت دائما مشغولة.
تعمل نهارا في البريد، وعندما تعود مساء الى البيت، تستعيد عادة الصباح مع بعض التنويع:
مائدة العشاء، البطاطا المسلوقة الوورست والتفاح المطبوخ. على المائدة تتشكى من بعض زملاء أو زميلات العمل، أو بعض الزبائن. في المناسبات الكبرى تذهب إلى الكنيسة لتختلي بالكاهن، في غرفة الاعتراف، ثم تعود بعد ذلك راضية لتستقبل أحد زملاء العمل أو الزبائن في فراشها خلسة. هواية ظلت تمارسها حتى فقدت سحر الايروتيك.
وأمي ظلت مشغولة دائما حتى بعد التقاعد.
حين أذهب في "ويك أند" ما الى القرية لزيارتها دون موعد مسبق يسكنني هاجس أنها ستقول ككثير من المرات أنها مشغولة جدا، وأنها تفضل أن نحدد موعدا مسبقا لزيارتي.



16. تيريزا

مساء السبت..
تيريزا مارتينز، أمي، تلتقي يوسف. تشعر لوهلة بارتباك وخجل من وجود أجنبي في بيتها.
بعد ذلك، وربما للمرة الأولى، تشعر أن لديها ابن.
الابن يحكي مع روحها، يعتني بشالاتها الطويلة ويصرّ على أنها عباءات، يرتب المناشف المنقوشة بالزخارف مؤكدا أنها سجاجيد صلاة مسيحية من النوع النادر، ويعتني بالصليب المعلق بجلال.. يشعل له الشموع ويضع البخور مرددا: ما أشبه المسيح بالأم!!

مساء الأحد..
بعد أن تناولت أمي البسّه ژينيڤر Bessejenever لم تتردد في رواية حكايات ليوسف لم أسمعها أبدا من قبل:
ريح الفجر والموسيقى. عباد الشمس وفان كوخ. الكراهية "المقدسة" لكارمينا بورانا. كم مرة مزقت الأجنده. كيف شرشحت المعلم الذي طردني من الصف. كيف أرسلت أبي الى السوپر ماركت بدون قائمة مكتوبة. كيف اقتلعت الأقزام المتحركة من حديقة المنزل وأخبرت أبي أنها هربت!!

يقرأ في ورقة

أين وصلت؟؟
....
دريد ابراهيم.. ابراهيــــــــــــم دريــــــــــــد، عزيز السيد جاسم... آزيز، بنت الهدى، سلام عادل.. آ.. آ. ع... ع.... عادل سلام. عدنان خير الله طلفاح. طلفاااااح. ط.. ط.. ط.. ط.. حرف صعب.!! العين كذلك: ع عبد الخالق السامرائي. موهامّد باكر السدر. الصدر بـــاقر موهامد. عادل الشعرباف. طالب السهيل. أحمد حسن البكر. ماهر كاظم. كادم. موهامّد آييش. عايش. شفيك الكمالي....
.....
نعم! مرة أخرى أسماء!! لائحة بأسماء عراقيين قتلوا في عهد سادّام. صدام هوساين.. حسين.. أسماء صعبة!! ومع ذلك قررت أن أتعلم نطقها. تمارين.. قضيت أشهر!!! لا ادري كيف تمكن السيد سادّام هوساين من حفظ تلك الاسماء ومن ثم قتل أصحابها. من جهتي ما أزال أعاني من عدم حفظ جزء يسير من تلك الأسماء رغم الاتفاق الجنتلمان المعقود مع نفسي!
.....
ـ لو كنت في العراق لقتلوك.
قال يوسف.
ـ لماذا؟
قلت له.
ـ لأنك تجرأت وقدمت استقالة من شركة عملاقة ورفعت دعوى قضائية؟
ـ آه.. أه.. أنا.. لم..
ـ لم ترفع دعوى قضائية؟
ـ لا فائدة من مثل هذه الدعاوى. كثير من الوقت وخسارة مؤكدة.
ـ ولماذا ذهبت الى المحامي إذن؟
ولم يتركني أجيب. كان يجيب نيابة عني:
ـ خذلك المحامي؟ بالطبع! المحامون يتبعون القانون. القانون والعدالة في صالح الأقوى. أعطني عنوان الشركة وسأنيچ أخته!!
ـ لا داعي لهذا يا عزيزي!
ـ كيف يتجرأ كيس الخراء الألماني على أن يضع تمثال لينين كقزم في نافورة تتبول فيها الكلاب السائبة؟
ـ يوسف.. هنا لا توجد كلاب سائبة
ـ بل توجد!! أنت لا تفهم ما أعني
ـ لا داعي للتوتر...
ـ أعرف عددا من الموظفين الكبار هنا. يستطيع أي واحد منهم أن يركّع أكبر شركة مقابل مبلغ من المال.
ـ يوسف عن أي شيء تتحدث؟
ـ دعني أحكي مع واحد منهم لكي أنيچ أخت الألماني وسترى
ـ أن تضاجع اخته فهذا موضوع ممتع للأخت ولك. كل النساء تحب الجنس وبخاصة الجنس مع الأجانب.
ـ .................
ـ هذا نظام صارم أنت لا تعرفه جيدا ولا تستطيع أن تخترقه. قانون مرسوم بدقة على المقاس.
ـ إذا ما فكرت أن المعركة يجب أن تتم بناء على شروط النظام الذي صنعوه لن تمحق النظام. إذا أردت أن تنتصر عليك أن تتغلغل من خلال شروخ النظام. وكلما ازداد النظام صرامة اتسعت فيه فجوات لا يدركها.
ـ لا داعي لكل هذه الدهاليز. هذه قصة قديمة جدا. انتهت بتقديم استقالتي والتنازل عن حقوقي!
ـ تنازلت عن حقوقك؟ مجنون؟ أنا أعيد لك حقوقك.. سأختطف ذلك الألماني النازي وأدفنه في قبو البيت وأضع السيف على رقبته حتى يدفع مستحقاتك.
ـ لقد تنازلت عن كافة المستحقات. تركت لهم كل شيء قبل عشر سنين.
وغيّرت الموضوع بطريقة تفتقد اللباقة.



18. بدون تعليق

الاثنين صباحا.
لن أبدأ اليوم بالتمارين المعهودة. لا ماكسيم گوركي، ولا سلام عادل، ولا جوزيف ستالين، ولا اتفاق جنتلمان مع النفس!
.......
يوسف ابراهيم يقلي بيضا.
أمي تشرب قهوة.
وأنا أكاد أزحف إلى حضنها.
أثاث البيت الذي طالما تمنيت أن يحترق.
الكيـﭻ الذي يزخرف الجدران.
زهور الحديقة.
حضيرة الخنازير.
قبر القط "مـ. نـ. و". ألبومات الصور.
الصليب.
أوربانوس Urbanus .
تلك كانت أمي.
تلك الأشياء كانت ماض شخصي لي.



19. إلى الغد

يظهر النص القادم على الشاشة.
في خلفية الشاشة تظاهرات سياسية عارمة.
إيقاعات.
الرياح مستمرة.

50 طريقة لمغادرة الحبيب.
.......
وحلّ المساء.
.......
وجاء المساء مسكوناً بالسكارى، وجاء المساء منتفخا بالروتين،
وجاء المساء مسبوقا بصداع طوال الصباح،
وجاء المساء بالميلانخوليا،
جاء المساء بالوجود، بالعدم، بالأحزاب، باللجان، بجلسات السكر، بالصداقات، بالعداوات، بالنذالات، باللعنات، بالرذالات، بالعهرات، بالمنفات، بالحروبات، بالزنزانات، بالكامپات، بالدمعات، بالمرقدات... الجحيمات الدائمات، الراديوات الدائمات العويل حول الضحايا والإقتدارات والأمريكانات والحواسم وأم الحواسم وأم المعارك وأم العيورة والفرس والمجوسات والقادسيات وعراق يمور بالزرافات ليل نهار بناءً على التعليمات السريات المجنزرة الصادرة عن مجلس قيادة القندرة، مكتوب مكتوبين أودّيلك، وبكل قصيدة نصّي يحجيلك، كتبي ومقالاتي.. أعد، أعد، أحسنت، والكل يكذب.. أياد الأزبري، جمعة الخرخري، خميس العنبري، أربعاء القندري، ثلاثاء الهندري، اثنين السرسري، سبت السبّوتة، هسّة تجي الحوتة، والحوتة وين أضمها، أضمها بصنيديگي، صنيديگي شلون أفتحه.. يا ربّي.. مطرّها يا ربّي.. مطرّها.. يا ربّي.. يا ربّي.. يا ربّي.....
......................

تتصاعد الإيقاعات وترتفع طواحين هواء فوقها أعلام:
علم العراق 1958.
علم الاتحاد الأوربي.
علم بلجيكا.
علم ألمانيا النازية.
علم الولايات المتحدة.
علم إيران
... الخ.



20. الجسد يصرخ دونما صوت

الاثنين مساء.
يوسف ابراهيم ينتظر عودة إيريك مارتينز إلى البيت.
في المطبخ ينظر يوسف وإيريك إلى الإناء.
الأم تحت المياه.

بحر ساكن.
بقايا صورة متناثرة
شظايا.
بقايا تطفو على صفحة الماء
في قعر الإناء حطام.
صمت.

إيريك يختلس النظر.
بقايا سوداء.
شذرات بيضاء وبنية ملتصقة على صفحة الإناء.

إيريك يبحث عن الوجه لكنه لا يرى سوى خثرات رمادية أو حبر رمادي.
بقعة خالية الملامح،
ملامح مجعوصة على بعض.......
لون طيني يلتصق بالحاشية، حاشية الإناء.
في موضع آخر ندبةٌ صدئة تعوم تائهة.
شظايا بلون أسمر، وأخرى بلون أسود، كبقية من عباءة.
شظايا فاتحة اللون أصلها ملامح وجه.

ماء صامت
صحراء ضيّقة
رميم منتشر
غروب وجودي
وجسد يصرخ دون صوت.

الرياح تهب الآن في اتجاه آخر.
صورة الأم تظهر إلى جانب الأعلام.
إيريك عاري.
الرياح تعصف بكل شيء.

Antwerpen
29 Maart 2007



#حازم_كمال_الدين (هاشتاغ)       Hazim_Kamaledin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا لبناني
- القيامة
- صحراء من الرز الخام
- سيدة الوركاء
- النظام المتكرّش
- العائلة المقدسة الرقيّم الثاني
- العائلة المقدسة الرقيّم الأول
- العائلة المقدسة - الرقيّم الثالث - الأحـلام


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم كمال الدين - عند مرقد السيدة