أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - سرديات الاختلاف/ بابل :صراع اللغات















المزيد.....


سرديات الاختلاف/ بابل :صراع اللغات


ساطع راجي

الحوار المتمدن-العدد: 1986 - 2007 / 7 / 24 - 10:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يعمل السرد الديني على التعرض الى الاشكاليات الاساسية في الوجود ليوفر اجابات نهائية يسربها بهدوء الى المتلقي , والسرد والاجابات التي يوفرها تكون محكومة بالنظام العقائدي للدين وغالبا ما يترك السرد الديني فجوات نصية تمنح المرونة الكافية للاجابات التي يراد منها الاستمرار وللتعامل مع مختلف والازمنة وأن تكون ملائمة لمستويات وأتجاهات متباينة من التفكير ، هذه الستراتيجية في تنظيم النص تسمح للعلامات بالحراك بما يحفز القراءة الى تجاوز سطح النص المستوي والبحث عن ابعاد ثرية تجدد الفهم باستمرار .
وتعد اشكاليات مثل اللغة والتمدن والاختلاف الثقافي والاجتماعي قضايا اساسية في تاريخ الانسانية ورغم اهميتها فاننا نجد النص التوراتي يخصص مقطعا قصيرا ليتعامل معها حيث ينفتح الاصحاح الحادي عشر من سفر التكوين على مقطع سردي يبدو منفصلا عن محيطه ، كأنه فجوة تخرق سطح النص ليتحول المقطع الى بؤرة تأويلية متوترة حيث ينقذف في فراغ زمني مجهول ليؤسس تأويلا لعدد من القضايا الجوهرية , ويبدو الانقطاع الذي ينبثق فيه النص لأول مرة وكأنه مجرد اشتغال سردي يحفز القراءة ويخلصها من الملل الذي لحقها بسبب الشجرة الطويلة والمتشابكة لنسل نوح , لكن هذا المقطع يقوم بوظيفة تتجاوز التحفيز القرائي والاثارة فهو اساسا محاولة للاجابة على سؤال ضمني يطرحه القارئ بمجرد الانتهاء من قراءة شجرة النسب البشرية التي تعيد جميع الشعوب والقبائل والاعراق الى اب واحد , وفحوى السؤال ينصب على جذور الاختلاف الذي اصاب هذه الاسرة الواحدة كما يصورها النص الديني وما ترتب عليه من صراع سيطر على تاريخ البشرية . وتتم الاجابة المقدسة من خلال النص الديني بالاتي ( وكانت الارض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة . وحدث في ارتحالهم شرقا انهم وجدوا بقعة في ارض شنعار وسكنوا هناك . وقال بعضهم لبعض هلم لنصنع لبنا ونشويه شيا . فكان لهم اللبن مكان الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين . وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه في السماء ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الارض . فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو ادم يبنونهما . وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل والان لا يمتنع عليهم كل ما ينوون ان يعملوه . هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض . فبددهم الرب من هناك على وجه كل الارض . فكفوا عن بنيان المدينة . لذلك دعي اسمها بابل . لان الرب هناك بلبل لسان كل الارض . ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الارض ) ( تكوين /الاصحاح 11 /1 -9 )

الخارطة المقدسة
في مرحلة البدايات المنسية يحاول النص وضع خارطة للجماعات الثقافية تحدد آفاق المكان الذي يمكن الحراك داخله وتهدف الخارطة التي يؤسسها النص المقدس الى تقسيم الاماكن وفقا للمعتقدات فتصنف الاماكن الى مقدسة او مدنسة واخرى بلا تحدد نهائي لتبقى تتأرجح بين القداسة والدنس ، وتضع تلك الخارطة لكل مكان توصيفا ينسجم مع التصورات الثقافية التي يتضمنها النص , بمعنى اخر , ان النص سيحدد موقف الجماعة التي تقدسه من الاماكن واذا كان النص الذي نتناوله لا يحدد مكان الذات والذي يعتبر مركزيا ومقدسا في حياة الجماعة فأنه يشير اليه بطريقة ثانوية تحرض القراءة الى التأكد من حقيقة المكان الاول – المقدس حيث يشير النص الى الحقائق الجغرافية بالقول (وحدث في ارتحالهم شرقا انهم وجدوا بقعة في ارض شنعار ) فالمكان الاول الذي انطلقت منه حركة المجموعة البشرية في بدايات التاريخ المقدس تقع الى الغرب من شنعار فالمكان الاساسي تم اقصائه من خلال تجاهل تسميته إلا ان هذا الغياب اللفظي للمكان الاول سيجعل منه مكانا اكثر اهمية في تاريخ الجماعة ، كما انه يؤسس لمشروعية العودة الى المكان الاول ، والمكان الاول / المقدس يمثل عادة خزانا ثقافيا محشوا بالبراءة والجمال والحق ويقوم النص بالتعبير عن هذه القيم وتسجيلها في الذاكرة الثقافية للجماعة بطريقة سلبية وذلك من خلال الاحداث والصفات للمكان الاخر / الثاني الدنس وما يترتب على عملية الانتقال اليه وما يصيب الجماعة من كوارث ولعنات وهذا المكان الاخر شنعار الذي توضح التوراة حدوده عندما تصف مملكة نمرود ( وكان ابتداء مملكته بابل وارك واكد وكلنة في ارض شنعار ومن تلك الارض خرج اشور وبنى نينوى ورحوبوت عير وكالح ورسن بين نينوى وكالح )(تكوين /10/10-14 ) وهذا التوصيف الجغرافي يحمل مضمونا سياسيا لانه ازاح المكان من الفضاء الطبيعي الى الفضاء السياسي محدد ( مملكة نمرود ) واضافة الى هذا الوصف السياسي للجغرافيا هناك وصف ديني ثقافي ( وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الارض الذي كان جبار صيد امام الرب ) ( نفسه /8-10 ) وتوصيف ارض شنعار جغرافيا وسياسيا وثقافيا يسبق المقطع الذي اوردناه في البداية حيث يشكل سردا استباقيا يمنح المتلقي حدودا للتعامل مع الامكنة بما يؤسس تصور ثابت تعتنقه الجماعة الدينية وهي تتعامل مع المكان الذي سيظهر فيه ( ابرام ) ومن ثم رحلته غربا ، والحركة بين محور ( غرب – شرق ) ذهابا ثم ( شرق – غرب ) رجوعا يجب ان تخضع لمقاييس النص الديني ( القداسة / الدانسة ) وهذا الخضوع يوفر تبريرا كافيا للحركة ثم سيجعل من فكرة العودة الى المكان الاول المقدس ( فلسطين / اسرائيل ) محرضا دينا واجتماعيا للجماعة ولتحديد مواقفها من الاحداث التي ستواجهها على مدى التاريخ القادم الا ان هذا الارتحال الى الشرق حيث ارض شنعار يكاد يكون موازيا لحركة ارتحال اخرى نحو الشرق اكثر قدما وهو ارتحال قايين ( فخرج قايين من لدن الرب وسكن في ارض نود شرقي عدن ) ( تكوين /4/16 ) فالمكان الاول في هذا النص هو ( عدن ) وهو مكان مقدس حيث الحضور الالهي ( لدن الرب ) والرحلة تكون الى الشرق حيث ( ارض نود ) والتي سيسكنها الشخص الذي قتل اخيه وهو القاتل الاول في التاريخ ومن خلال تظافر هذه النصوص يكون الشرق ارض منفى وعقوبة وتيه ويحمل كل الصفات السلبية وهذا التوصيف لا يكون له معنى الا بالمقارنة مع المكان الأول الأصلي المقدس (عدن /أورشليم ).فيؤسس النص لعلاقة التضاد بين المكانين ٍويهيئ الجماعة الدينية لقناعة محددة تتسرب بسهولة ومن خلال التكرار الى الخافية الجمعية (اللاوعي) حيث تكون مصدر المواقف التي تتخذها الجماعة وتدافع عنها ومن ثم تشكل ذاكرة الجماعة واحلامها وكوابيسها.
يصف النص التناقض من خلال توصيف الجماعه وما يحل بها وما تضطر اليه عندما تسكن المكان الاخر , ففي المكان الاول الاصلي ( وكانت الارض كلها لسان واحد ولغة واحدة ) تبدو الجماعه في اقصى درجات الانسجام والتفاهم وتبدو هذه الحالة المثالية انعكاسا لحالة من الاكتفاء والشعور بالامن والبراءة حيث تتمتع اللغة بدرجة توصيل عالية فأنعدام الانقسامات الاجتماعية يؤدي الى طريقة موحدة في استعمال اللغة وبالتالي دلالاتها ومعانيها .
الصفات الاصلية للجماعه تعرضت للانهيار بتأثير ضغوطات لا يشير اليها النص مباشرة بل يشير الى رد فعل الجماعه على هذه الضغوطات ( وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ونضع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الارض ) حيث يتجه النشاط الانساني الى تأمين حاجات اما انها كانت غير موجودة سابقا او لانها كانت موجودة ومشبعة بفعل امكانيات المكان الاصلي . فالمدينة محاولة للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي وتوفير الامن أي ان هناك تحولا اساسيا نحو صيغة اكثر رقيا وتعقيدا من الحياة الاجتماعية وبالتالي هناك حاجة الى درجة متقدمة من التنظيم اما البرج فهو علامة لتنظيم الاتصال بين الارض والسماء ( الانسان والله ) من خلال التاكيد الوارد في رأسه ( رأسه في السماء ) لكنه ايضا تمادي الانسان ورغبته في الاطلاع ليس فقط الى اعلى ولكن ايضا الى اسفل أي رغبة الانسان في تصور الرؤية الالهية المتعالية النازلة من اعلى الى اسفل فالارتفاع هو تقنية للسيطرة على الاسفل – الارضي أي انها رغبة التماهي مع المطلق في صورتها البدائية التي ستهيء لتنظيم الدين أي تحويله الى مؤسسة. وتسمية الجماعه لنفسها هي بداية عملية التنظيم السياسي وبالتالي مأسسة السلطة التي تحقق الوحدة الاجتماعية ( لئلا نتبدد على وجه كل الارض ). يعقد النص علاقة بين المخاوف والضغوطات التي تواجهها الجماعة ووجودها في مكان معين ليكون ذلك المكان هو سبب تلك المخاوف والضغوطات وبالتالي سببا في كل ما يلحق بالجماعه من انهيار وتناقض ومواجهة وتبدد ، فيقرن المكان باللعنة الالهية التي تكرست بفعل التوجه الإنساني اللاديني ، هذا السرد يمنح المكان هوية محددة ثابتة وتأريخية وتدفع به الى الذاكرة الجمعية وقد تم تحديد طبيعته وبالتالي تقرر مبدئيا موقف الجماعه الدينية منه ومثلما تم تحديد هوية المكان الدنس الملعون تمت عملية تكريس المكان النقيض / الاصلي / الاول / المقدس ليحصل على هوية مضادة تسيطر ايضا على الذاكرة الجمعية ليكون تاريخ الجماعة فيما بعد مجرد سيرة مكانية ترصد ما يطرأ على المكان المقدس من تحولات وكذلك موقع الجماعه الدينية من ذلك المكان بعدا او قربا .
التنوع بأعتباره لعنة :
التحول الرئيسي وربما الوحيد الذي يحدثه السرد في الجماعه هو نقلها من حالة الوحدة في بداية النص ( لسان واحد ولغة واحدة ) الى حالة التعدد والاختلاف ( هناك بلبل لسان كل الارض ) وهذا التحول يأتي بصيغة اللعنة او الغضب الالهي ورغم ان الاختلاف والتبدد على وجه الارض هو حدث النهاية ويبدو فعلا الهيا خالصا ، الا ان النص استبق الحدث والقى اشارة تؤدي الى النهاية وطبيعتها وهي نهاية إنسانية ( ونصنع لانفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الارض ) وهذا تعبير عن مخاوف الجماعة. من الاختلاف والانقسام وهي مرحلة حتمية لابد من الوصول اليها بفعل التطورات التي تشهدها الجماعة والمدينة والبرج هما سياق لكمية عمل جديدة تتكفل بها الجماعة. مما يؤدي الى تقسيم للعمل ، وفيما تبدو الجماعة وقد اقتنعت بهذا الاختلاف والتنوع وحاولت تقنينه بما يحفظ وجودها من خلال فعل التسمية الذي يبدو تقنية لغوية سياسية لانتاج جامع مشترك لا يقبل الاختلاف بين ابناء الجماعة ومكوناتها والتسمية محاولة بشرية صرفة هنا ، ولأن التسمية عملية تعريف لهوية الجماعة وتحديد موقفها من العالم فانها تستند الى مجموع التحديات التي تواجه الجماعة وتكون طبيعة التعريف هي المتحكمة بالاستجابات التي تنتجها الجماعه ، وعدم الرضا الالهي يقود القراءة الى ان الجماعه كانت تتحرك وفق تصورات مادية بحتة او على الاقل وفق تصورات غير مرضي عنها دينيا فالضغوطات التي دفعت بها الى التفكير ببناء المدينة والبرج هي ضغوطات مادية طبيعية كما أن إنتاج نظام سياسي يتوارى خلف التسمية هو استجابة لنفس النوع من الضغوطات , هنا يبدو الصراع بين سياق اجتماعي لنظام يحاول البشر انتاجه وتحقيقه وسياق لنظام ألهي مقدس مفروض من ذات متعالية ومطلقة , والنص المقدس يقود السرد الى انتاج نهاية كارثية للنظام البشري الذي لم يحظ بالبركة الألهية فتقوض بسرعة ( ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الارض ) ومثلما يتقوض النظام الاجتماعي وينهار كذلك فان المنجز الحضاري والتصورات الانسانية في المستقبل تنهار ايضا وبسرعة ( فكفوا عن بنيان المدينة ) .
النص المقدس يريد ألإيحاء بأن العامل الديني هو اساس الوحدة الاجتماعية والسياسية واذا كانت الجماعه ترى في التنوع والاختلاف وضعا حتميا لابد من الوصول اليه فأن النص الديني يقول بان الاختلاف نهائي لا يمكن الغائه او الفكاك منه وهو لعنة ستلاحق العمل البشري وتطيح به ما دام البشر يحاولون انتاج نظام للوحدة اعتمادا على سياقاتهم الداخلية وحاجاتهم وتفكيرهم وبهذا تمتد اشارة الى سياق عام وكوني /الهي يحيط بالجماعة ويوجهها ويمكنه ان يحفظ وحدتها , الا ان المشكلة تكمن في نوعية الغايات التي يتجه نحوها كل من السياقين وبالتالي قناعة الجماعه بتلك الغايات , وكأن النص في النهاية يطرح تحديا لاختبار امكانية البشر على جمع ما فرقه الله .
اللغة والاختلاف :
يسجل النص وجود لغة واحدة هي اللغة الاصلية ومن خلال ضمير المتكلم بصيغة الجمع ( قالوا ) ( قال بعضهم لبعض ) ( وقالوا هلم نبن لأنفسنا ) تتم الاشارة الى درجة عالية من الانسجام الاجتماعي وبالتالي الوحدة وما يطرأ من تغيير على وحدة اللغة يوازيه تغيير اجتماعي مماثل واذا كان النص بصورة عامة يتعامل مع اللغة باعتبارها وسطا للتفاهم وان تدمير هذا الوسط يؤدي الى الاطاحة بالتفاهم فان ثمة اشارة الى ان اللغة اكثر من ذلك حيث يقول النص ( ونصنع لانفسنا اسما لئلا نتبدد ) والتسمية اساسا فعل لغوي ذا مضامين اجتماعية سياسية وبفعل التسمية تنزاح اللغة عن كونها مجرد اداة الى كونها موضوع أي انها جزء من الفضاء الاجتماعي الذي قد يكون موضوع تنافس خاصة عندما تكون التسمية عملية منظمة لانجاز هوية للذات الجمعية التي تحركت بفعل استشعارها لمخاوف التبدد والضياع ( لئلا نتبدد ) والملاحظ ان التسمية كانت الفعل الوحيد الذي حاولت الجماعه تبريره لخطورته وتكمن خطورة التسمية في انها احداث تغيير في جسد اللغة وبالتالي في الوسط الجامع للافراد حيث سيقود الاسم ( الكلمة ) سلسلة من التعريفات والانظمة والمحددات كما سيحمل الاسم نظاما رمزيا ودلاليا يقيد بعض المفردات او يدفع بها نحو معاني وتأويلات جديدة وهذا ما لا ينطبق على المدينة والبرج والتي هي تغييرات بيئية محيطية يجري في داخلها التفاعل الاجتماعي ولكنه لا يحتاجها كوسيط ثابت ، في حين ان اللغة رابط مؤسس ليس فقط للتفاعل اليومي للجماعه بل ايضا لتراثها وثقافتها ومعتقداتها هذه القراءة تقودنا الى ان الاختلاف اللغوي الذي يرشحه النص كلعنة الهية انما هو اساسا فعل بشري بمعنى ان الانسان هو الذي شرع في انتاج الاختلاف ربما دون قصد وفي كل الاحوال فانه لم يتوقع النتائج ومن اهم ما يؤسس له النص في موضوع اللغة هو تحفيز القراءة للتساؤل عن اللغة الاصلية ورغم ان النص لا يشير الى تلك اللغة صراحة الا ان ثمة اجابة متوارية تقترح من خلال النص المقدس الذي لابد ان يكون عبر تلك اللغة الاصلية مما يجعل من تلك اللغة خزانا عاما للثقافة الانسانية وعن طريق الحمولات الثقافية للغة سوف تتسرب الافكار والقيم والاحكام الاخلاقية والعقائدية الى كل الثقافات الجزئية والفرعية التي تفرقت عن الاصل ففقدت القداسة واللغة الاصلية هي اللغة المرجحة لتكون اداة الاتصال بين الاله والبشر وهذه ليست اجابات او عقائد وانما ايحاءات ثقافية تسري في النص بهدوء .
التعامل مع مفهوم اللغة المستعمل في النص لابد ان يتم بحذر ياخذ بنظر الاعتبار السياقات الثقافية للنص الذي يعتبر مجموعة معينة ممثلة للجنس البشري بأجمعه او على الاقل بانها المجموعه المركزية في حقبة تاريخية معينة ولا يزال هذا الاسلوب معتمدا في كتابة التاريخ التي تستند في التحقيب الزمني / الحضاري الى اهم الجماعات والدول ومتغاضية عن المناطق والجماعات الاقل حضورا في السياق الحضاري العام او على الاقل انها لا تعتبر مركزية بالنسبة للسياق الثقافي الذي يشتغل فيه النص مما يعني ان اللغة الموحدة الواردة في النص اشارة الى ما يخص جماعه محددة واجهت الاختلاف نتيجة تطور حضاري واجتماعي جعل لكل شريحة او فئة او طبقة لغة داخلية معينة أي مجموعه من المفاهيم والمصطلحات التي تنسجم مع كل واحدة من التصنيفات الاجتماعية السابقة بالاضافة الى ظهور اساليب متنوعه في استخدام اللغة ومن ثم انطلاق كل فئة اجتماعية الى نحت مصطلحاتها واجتراح اساليبها في انتاج الخطاب الذي يعبر عن مصالحها في اطار الحوار او الجدل الاجتماعي الذي يتفاقم مع تزايد التحضر والتوغل في المدنية وخاصة عندما تكون الجماعة في مرحلة إنتاج الإطار السياسي الذي يعرّفها ويحافظ على هويتها والممثل نصيا بفعل ( التسمية ) ويبدو ان ذلك الحوار او الجدل بين المكونات الاجتماعية قد وصل الى طريق مسدود وبالتالي اصبح مشروع التحضر ( المدينة والبرج ) فاقدا لمعناه ما دام التواصل اللغوي / الاجتماعي لم ينجح في انتاج الاطار او الهوية الجامعة ، فحدث التبدد الذي كان التخوف منه اساسا لمحاولة ( التسمية ) ليبدو الفعل الانساني وكأنه يدور في حلقة مفرغة .
المدينة والحضارة والدين :
مدينة الله / مدينة الانسان تنتشر في التوراة الكثير من الاوامر الالهية الموجهة الى انبياء وكهنة وملوك لبناء مدن او تشييد معابد او مذابح للأضاحي تكون اساسا لمدن مما يعني انه ليس هناك اعتراض ديني على بناء المدينة باعتبارها صيغة للاجتماع البشري الاكثر تعقدا . مما يدفع القراءة الى التمييز بين المدن بحسب النظام الفكري او العقائدي الذي يؤسسها ومن الواضح ان المدينة التي اراد بنو ادم بنائها في ارض شنعار لم تكن من ذلك النوع الذي يأمر به الرب بل هي مدينة يبنيها البشر وفقا لحاجاتهم الدينوية ويكون تصميمها معتمدا على التصورات البشرية وحدها, نجد هذا الاصل البشري للمدينة في ( وقالوا هلم نبن لانفسنا مدينة ) واللحظة التأسيسية للمدينة هي التي ينبثق منها النظام الاجتماعي / السياسي / الثقافي / الروحي الذي يسيطر عليها ويتحكم بحياة ساكنيها ويبدو من ضمير المتكلم الجمعي والغاية من المدينة ( لانفسنا ) فهي مدينة الانسان وليست مدينة الله ، حيث تكون مرجعية النظام الحاكم بشرية تماما وفي مقابل المدينة المقدسة ذات الاصل الالهي يقود النص الى صورة للمدينة البشرية توحي بانها دنسة ولا مستقبل لها وان الدمارسيلحق بها عاجلا او اجلا وهذا ما تتوعد به التوراة كثير من المدن التي تعتبرها غير دينية او مدن فاسقة .
المدينة هي ارقى اشكال الاجتماع البشري واكثرها تعقيدا وفي المدينة يحدث الانشطار بين الجماعه وثقافتها حيث تتحول هذه الثقافة الى نظم تتحكم بها مؤسسات لها مكونات بيروقراطية معقدة ويتكون تدرج سلطوي داخل كل مؤسسة والتغيير الاهم الذي تحدثه المدينة كهيئة اجتماعية معقدة هو التباينات الطبقية والاختصاصات الحرفية ومن ثم تنوع الوعي وتضاداته وصراعاته وفي اللحظة التي تفقد الجماعه وعيها الموحد البدائي والمختزل تبدأ صراعاتها الفعليه هذا سياق الحضارة وعملية تنظيم صراعاتها تتم من خلال مؤسسات جديدة اكثر رقيا وتعقيدا وما دامت الحضارة ذات مضامين وغايات بشرية فانها محكومة بأن لاتتجاوز الامكانيات البشرية وسيبقى البرنامج الحضاري محكوما برغبات البشر وتطلعاتهم وامالهم وصراعاتهم او بحسب التعبير الديني ( بأهوائهم ) الا ان النصوص المقدسه لها برنامجها الحضاري الخاص حيث يكون للدين الدور الاساسي في قيادة البشر نحو خطط وتصورات تتجاوز مطالبهم الخاصة وامكانياتهم ومع ذلك فان البشر غالبا ما سيحاولون شخصنة البرنامج الحضاري الديني. من خلال الصراعات الاجتماعية الداخلية يكون البرج علامة اساسية للحضارة البشرية فهو تجاوز للرغبة المالوفة عند البشر في الاتساع الافقي او في حيازة المزيد من الفضاء المجاور او المماثل سواء سلطويا او معرفيا والبرج علامة نصية لها اشعاعات تأويلية متعددة يطلقها التحديد المفتوح او اللاتحديد عندما تتمثل رغبة البشر في ان يكون برجهم ( راسه بالسماء ) انها رغبة في الشخصوص الى اعلى وتجاوز الرؤية الافقية والاهم ان بناء برج يعني تأسيس هذه الرغبة في داخل المجتمع وتوريثها الاجيال قادمة , البرج رغبة في التطلع الى الكوني لأمتلاك نظام السماء او على الاقل النظام الفلكي انه الغرور بامتلاك المعرفة الارضية والشغف بتجاوزها الى معرفة ارقى واكثر شمولية ولكن البرج ايضا مجاز مادي للكيان الاجتماعي المتكون من طبقات والتي سيكون اعلاها في السماء , وكل من طبقات البرج ستوفر نمط من المعرفة لساكنيها او لما يوازيها من البشر في التسلسل الاجتماعي , في هذا السياق يوفر البرج علامة تشير الى عدة انظمة متوازية / نظام معرفة / نظام ثروة / نظام سلطة .
التفاعلات والدلالات التي اشرنا اليها سابقا كانت ستتحقق لو تم انجاز البرج في حين يقول النص ( فكفوا عن بناء البرج ) وتبددت الجماعه على وجه الارض البرج لم يكتمل بنائه مثل المدينة لان النظام الاجتماعي لم ينجز او ان الجماعه لم تتوافق في انجاز ذلك النظام لكن المدينة البشرية لا تكتمل انها في توسع ونمو وكذلك انهدام وخراب فهي لا تبنى لتكتمل او تبقى فغاية بناء المدينة يحددها النص على لسان البناة ( لانفسنا ) والنفس البشرية تقبل بالتراجع والتغيير والانقلاب والحراك وهذا كله قد يطيح بمشروع المدينة والبرج كذلك ومنذ القدم تبنى المدن البشرية وتنهدم وكذلك الابراج اما لانها تستنفذ غايتها او ان مدنا جديدة وابراجا جديدة تاخذ بالنمو في اماكن اخرى ، المدن الابدية ليست ضمن البرنامج الحضاري البشري المدينة المقدسة وحدها لا تؤمن بالنهاية او الخراب ولا تتحمله واذا ما حدث فانها ستبقى تطالب بالانبعاث لانها مدينة الهية أي مدينة ثابتة بغايات لا نهائية وبزمن مفتوح وابراجها وانظمتها لا تصعد الى السماء وانما تنزل منها .
انتاج الخطاب : السرد ونظام الافكار
يعمل السرد على تحفيز التساؤل عند القارئ بما يدفع الى الانهماك في متابعة الحدث وكذلك اعادة النظر في كل العلامات التي يبثها النص بما يجعل من الحكي عملية منظمة لها اساس معرفي ودوافع موضوعيه ومنهج في ارسال خطابها والنص الذي تناولناه يعتمد صيغة في تحفيز تساؤل القارئ تقوم على تكوين سياقين احدهما سياق الحضور الذي يتمثل في تحديد اسم المكان ( شنعار ) والاشارة الى طبيعة التحولات التي تطرأ على الجماعة البشرية في حين يتصف السياق الاخر بالغياب فعندما يشار الى ارض شنعار بانها مكان التحول فانه يقصد في نفس الوقت بانها مكان ثاني تم القدوم اليه من مكان اول هو المكان الاصلي وبالمثل عندما يتم الحديث عن لسان واحد ولغة واحدة يجد القارئ ما يحفزه للتساؤل عن طبيعة ذلك اللسان واسم تلك اللغة وحتى لفظ ( بلبلة ) فانه لا يعني انتزاع اللغة الاولى بل يعني توليد لغات اخرى عنها وبالتالي بقائها الفعلي ليتم تحفيز سؤال عن الجماعه البشرية التي ما زالت تملك تلك اللغة وحتى الاشارة المزدوجة ( فكان لهم اللبن مكان الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين ) التي تدل على تطور في اساليب البناء او تشير الى طبيعة المكان لكنها ايضا اشارة الى هوية المكان الاول الذي تم التحول عنه طبيعيا وكذلك دينيا لانه يوفر مواد البناء دون الحاجة الى تدخل البشر ( حجر وطين ) أي بلا صناعة. ما ينتجه السرد في هذا النص الديني هو حشو سياق الحضور ( شنعار ) بعدد من التوصيفات القيمية السلبية ( مكان تحول ، تنوع ، لعنة ، فقر ، مشقة ) اما سياق الغياب فتكون توصيفاته ( مكان اصل , وحدة , بركة , غنى , راحة ) بهذا تم اصطناع هوية للمكانين تقوم على التضاد وعلى الاستمرارية , أي استمرارية لعنة الاختلاف والتبدد على مكان التحول ( ارض شنعار ) وكذلك استمرار الوحدة والبركة في المكان الاول الاصلي ( غرب ارض شنعار ) وتكون هوية المكان مجازا يعبر عن هوية الجماعه التي تسكنه .
الخطاب الذي تنتجه عملية السرد لا يحدد فقط هوية المكان والجماعه ولكنه وبسبب بدئيته ، انقذافه في الزمن التأسيسي للجماعه الدينية فانه يؤسس ايضا للمواقف التي يجب ان تتبناها الجماعه مستقبلا في كل الظروف من الامكنة والجماعات والحضارات الاخرى هكذا يشكل السرد اقتصادا فكريا يريح الجماعه الدينية أو يمنعها من محاولة انتاج مواقف متعددة جديدة كما يجنبها الاختلاف في أي قضية , انه يحافظ على وحدتها , ليكون الخطاب والسرد الذي انتجه وبالاحرى النص المقدس هو البركة الاساسية .




#ساطع_راجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منهج المقاطعة
- الجماعة المقدسة
- الحلقات المنسية في العراق
- المالكي ليس هو المشكلة
- السلطة الأنثوية
- احتكار ثقافي
- فوضى السلاح
- قلق في الجوار
- الحلقة الاقتصادية المفرغة
- الساعة الامريكية
- تحولات النص المقدس
- (تدوين الفوضى (فعالية النص وانكتابية المجتمع
- حمى الرئاسة
- حالة ضعف
- قسوة
- سياسة الصوت العالي
- الحكم الثلاثي
- سلاح الانقلابات
- تحديات جديدة
- دور العشيرة …دور الدولة


المزيد.....




- إنقاذ سلحفاة مائية ابتعدت عن البحر في السعودية (فيديو)
- القيادة الأمريكية الوسطى تعلن تدمير 7 صواريخ و3 طائرات مسيرة ...
- دراسة جدلية: لا وجود للمادة المظلمة في الكون
- المشاط مهنئا بوتين: فوزكم في الانتخابات الرئاسية يعتبر هزيمة ...
- ترامب: إن تم انتخابي -سأجمع الرئيسين الروسي الأوكراني وأخبر ...
- سيناتور أمريكي لنظام كييف: قريبا ستحصلون على سلاح فعال لتدمي ...
- 3 مشروبات شائعة تجعل بشرتك تبدو أكبر سنا
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /19.03.2024/ ...
- إفطارات الشوارع في الخرطوم عادة رمضانية تتحدى الحرب
- أكوام القمامة تهدد نازحي الخيام في رفح بالأوبئة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - سرديات الاختلاف/ بابل :صراع اللغات