أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - محمود درويش في حوار لهاآرتس: أنتظر ثورة في وعي الإسرائيليين















المزيد.....


محمود درويش في حوار لهاآرتس: أنتظر ثورة في وعي الإسرائيليين


نائل الطوخي

الحوار المتمدن-العدد: 1985 - 2007 / 7 / 23 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


حوار: داليا كربيل

ترجمة: نائل الطوخي

قبل أمسيته الشعرية في حيفا بيومين بالضبط، نشرت صحيفة هاآرتس هذا الحوار مع محمود درويش. أجرت الحوار المخرجة والصحفية الإسرائيلية داليا كاربل، في مركز خليل السكاكيني الثقافي برام الله، حيث تصدر دورية الكرمل التي يحررها درويش. يشرح درويش ظروف مغادرته لحيفا منذ 37 عاما، وعودته الآن. تلوح رنة محاسبة لذاته في الحوار، تليق بمن سيعود إلى فلسطين التي اضطر لمغادرتها عندما أصبح اسمها إسرائيل، ويعود الآن، ولم يتغير شيء على وطنه سوى المزيد من الاجتثاث لفلسطينيته.


الى أي مدى هو متأثر بزيارته لحيفا؟ كيف أثرت عليه معلومة أن 1200 بطاقة من اصل 1450 لحضور امسيته الشعرية قد تخوطفت في نفس اليوم؟ هل يؤثر هذا الحب في محمود درويش، المقيم في السنوات الأخيرة بعمّان، وأحيانا في رام الله؟

يقول درويش: "عندما تجاوزت الخمسين تعلمت التحكم في مشاعري. أسافر إلى حيفا بلا توقعات. ثم حاجز في قلبي. ربما أذرف بعض الدموع في نفسي لحظة اللقاء. أتوقع احتضانا دافئا، ولكنني أخشى أيضا من خيبة أمل الجمهور، فأنا لا أنوي قراءة الكثير من القصائد القديمة. لا أرغب في الظهور كوطني أو كبطل أو كرمز. سوف أظهر كشاعر متواضع.

كيف يتم الانتقال من رمز وطني فلسطيني لشاعر متواضع؟
الرمز غير قائم في وعيي ولا في خيالي. أقوم بجهود لتحطيم مطالب الرمز وللخروج من هذه الأيقونية، ولتعويد الناس على التعامل معي كشخص يريد تطوير قصيدته وذوق قراءه. سوف أكون حقيقيا في حيفا. سوف أكون ما أنا عليه، وأختار قصائد ذات مستوى عال.
لماذا تستخف بقصائدك القديمة؟
عندما يعلن أديب أن كتابه الأول جيد جدا، فهذا أمر سيء. أنا أتقدم باستمرار من كتاب لآخر. حتى الآن لم أقرر ما الذي سوف أقرأه على الجمهور. لست أحمق. لن أخيب أمله. أعرف أن كثيرين يريدون أن يسمعوا شيئا ما قديما.

يوم الاثنين صباحا كان قد وصل من عمان الى رام الله. حتى الآن لا يعرف كيف سينتقل إلى حيفا، المدينة التي بدأ فيها طريقه الأدبي في الستينيات، هناك الكثيرون ممن يتطوعون بمساعدته. في الأمسية التي تنظمها سهام داود، الشاعرة ومحررة دورية مشارف، بالاشتراك مع حزب الجبهة الشعبية للسلام والمساواة، سوف يلقي درويش كلمة ويقرأ حوالي عشرين قصيدة، يصاحبه سمير جبران بالعزف على العود وتدير اللقاء المغنية أمل مرقص. يأمل درويش أن تسمح وزارة الأمن له بالبقاء في إسرائيل لأسبوع، بينما لا تسمح له التأشيرة التي أخذها له بأكثر من يومين.

في 1970 سافر درويش إلى الخارج مع وفد شيوعي، ولم يعد. انتقل إلى مصر – وكانت عندئذ بلد عدو – ثم انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وأدار مركز البحوث التابع للمنظمة في بيروت. لم يتمكن من العودة بلا خوف القبض عليه إلا التوقيع على اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير. درويش أكثر نحافة من المعتاد، مهندم الملابس، بشوش الوجه. تبدو حالته ممتازه وأصغر سنا من عمره الذي يبلغ 66 عاما، بالنظر إلى كونه مات منذ ثماني أعوام إكلينيكيا بسبب متاعب في القلب وتمت إعادته للحياة.

هل ثمة أمل لهذا الشعب؟ هكذا سألت ولم يجهد درويش، المتشائم الأكبر، نفسه في أن يسألني أي شعب أقصد. "حتى لو لم يكن هناك أمل، فمن واجبنا أن نخلق الأمل.. بدون الأمل سنضيع. الأمل ينبغي أن ينبع من الأشياء البسيطة. من روعة الطبيعة، ومن جمال الحياة. من هشاشتهما. يمكننا من حين لآخر نسيان الأمور الحيوية ولو بهدف الاحتفاظ بصحة روحنا. يصعب الحديث في هذه الأيام عن الأمل. هذا يبدو كما لو كنا نتجاهل التاريخ والحاضر. كما لو كنا ننظر إلى المستقبل منفصلا عما يحدث الآن، مع هذا ينبغي أن نخلق الأمل بقوة حتى نعيش.
كيف تفعل هذا؟
أعمل لدى المجازات، لا أعمل لدى الرموز. أنا أؤمن بقوة الشعر الذي يمنحني أسبابا للنظر إلى الأمام ولملاحظة بصيص من النور. بمقدور الشعر أن يكون ابن حرام. هو مشوه ويقوم بالتشويه معا. بمقدوره أن يجعل من غير الواقعي واقعيا ومن الواقعي خيالا. بمقدوره بناء عالم نقيض للعالم الذي نعيشه. أعتبر الشعر دواء روحانيا. يمكنني أن أرسم بالكلمات ما لا أجده في الواقع. إنه وهم كبير ولكنه وهم إيجابي. ليست لدي أية وسيلة أخرى لإيجاد معنى لحياتي أو لحياة شعبي. بمقدوري منحهم الجمال بواسطة الكلمات ووصف عالم جميل والتعبير عن واقعهم كذلك. قلت مرة أنني بنيت بالكلمات وطنا لشعبي ولنفسي.
كتبت مرة قائلا "هذه الأرض تضيق بالجميع". والآن يبدو أن الإحساس بالانهيار والعجز أقوى من أي وقت مضى.
"الوضع اليوم هو أسوأ وضع يمكن تخيله. الفلسطينيون هم الشعب الوحيد في العالم الذين يثقون في أن اليوم أفضل مما هو متوقع في الغد. دوما ما يبشر الغد بوضع أكثر سوءا. منذ 93، عشية توقيع أوسلو، كنت أعرف أن الاتفاق لا يضمر أي وعد بأننا سنصل إلى سلام حقيقي قائم على الاستقلال للفلسطينيين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. برغم هذا أحسست أن الناس شعروا بالأمل. اعتقدوا أن السلام ربما كان مفضلا على حرب ناجحة. هذه الأحلام تبددت. الوضع الآن أكثر سوءا. قبل أوسلو لم تكن هناك حواجز، لم تنتشر المستوطنات هكذا وكان الفلسطينيون يعملون في إسرائيل.
هل الاستعداد للسلام كان متبادلا؟
يشكو الإسرائيليون أن الفلسطينيين لا يحبونهم. هذا مضحك. السلام يقوم بين الدول ولا يقوم على الحب. اتفاق أوسلو ليس حفل زفاف. أنا أفهم الكراهية الموجهة للإسرائيليين. أي شخص طبيعي يكره أن يعيش تحت الاحتلال. لنصنع سلاما في البداية ولنميز بعد ذلك بين أحاسيس مثل يحبوننا، لا يحبوننا. أحيانا بعد أن يقوم السلام لا يتم الحب. الحب هو أمر شخصي ولا يمكن فرضه على الآخر.
أنا أتهم الطرف الإسرائيلي بأنه لم يعبر عن استعداده لإنهاء الاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية. الشعب الفلسطيني لا يطالب بتحرير فلسطين. الفلسطينيون يطالبون بحقهم في الحياة الطبيعية على 22% مما يعتقدونه وطنهم. الفلسطينيون اقترحوا التمييز بين الوطن وبين الدولة وتفهموا التطورات التاريخية التي أدت للوضع الحالي، وبمقتضاه يعيش شعبان على نفس الأرض وفي نفس البلد. برغم هذا الاستعداد لم يتبق شيء يمكن الحديث عنه.
أشرت إلى قطاع غزة. ما رأيك في الواقع الجديد هناك؟
إنه وضع مأساوي. مناخ من الحرب الأهلية. ما يحدث بين رجال فتح ورجال حماس في غزة هو تعبير عن أفق مسدود. ليست ثمة دولة فلسطينية ولا سلطة فلسطينية ويحارب الأخ أخاه هناك على الأوهام. كل منهم يرغب في أن يأخذ السلطة لنفسه. كل شيء كأنما. كأنما هناك دولة، كأنما هناك حكومة، كأنما هناك وزير أو آخر، كأنما هناك علم وكأنما هناك نشيد وطني. الكثير من الكأنمات، ولكن بلا أي مضمون. إذا وضعت أشخاصا في سجن، وقطاع غزة هو سجن كبير، والمساجين فقراء بلا أي شيء، عاطلون وتعوزهم الرعاية الصحية الأساسية، فلسوف يكون لديك أناس بلا أمل. هذا يخلق إحساسا يبدو طبيعيا من العنف الداخلي. هم لا يعرفون من عليهم أن يحاربوا، عنئذ يحاربون أنفسهم. هذا يسمى حربا أهلية. ينفجرون تحت وطأة الضغوط النفسية والاقتصادية والسياسية."
ألا يخيفك صعود أصولية حماس؟
لا تخيفني من الناحية السياسية. وإنما من الناحية الثقافية. ميلهم لفرض مبادئهم على الجميع. هم يؤمنون بديمقراطية تحدث مرة واحدة، بهدف الوصوف فقط لصناديق الاقتراع والسلطة. لذا فهم كارثة على الديمقراطية. إنها ديمقراطية معادية للديمقراطية. ولكن لا يمكن تجاهل حماس كقوة سياسية لها مؤيدون في المجتمع الفلسطيني. الآن، بينما الدم حار والجراح نازفة يصعب الحديث عن حوار، ولكن في نهاية الأمر فإذا اعتذر رجال حماس عما فعلوه في غزة وأصلحوا نتائج المعركة هناك فلسوف يكون ممكنا الحديث عن حوار.
مرة ثانية أنتم تلعبون بجانب إسرائيل التي تستفيد من هذا الوضع بشكل غير بسيط؟
إسرائيل كانت تزعم على مدار السنوات أنه لا يوجد من يمكن الحديث معه، حتى عندما كان يوجد من يمكن الحديث معه. لا يريد الإسرائيليون الانسحاب إلى حدود 67، لا يريدون الحديث عن حق العودة ولا عن إخلاء المستوطنات وبالتأكيد لا يريدون الحديث عن القدس، عندئذ فعن أي شيء يمكن الحديث؟ نحن في طريق مسدود. أنا لا أرى نهاية لهذا النفق الأسود، طالما أن إسرائيل غير مستعدة للتمييز بين التاريخ والأسطورة. الدول العربية مستعدة اليوم للاعتراف بإسرائيل وتتوسل لإسرائيل حتى تقبل مبادرة السلام العربية، والتي تتحدث عن العودة لحدود 67 وإقامة دولة فلسطينية ليس في مقابل الاعتراف التام بدولة إسرائيل فحسب بل وإقامة علاقات من التطبيع الكامل معها. عندئذ فلتخبريني أنت، من يضيع هذه الفرصة؟ قيل دوما أن الفلسطينيين لم يضيعوا أي فرصة لإضاعة الفرص. لماذا قامت إسرائيل بتخفيض كل أسقف عناد العرب؟
هل تعتقد أنك سترى في حياتك اتفاق سلام بين الشعبين؟
أنا لست يائسا. تحملت وأنتظر حدوث ثورة عميقة في وعي الإسرائيليين. العرب مستعدون لتقبل إسرائيل القوية والمسلحة بالسلاح النووي ولكن عليها فقط أن تفتح أبواب حصنها وتصنع السلام. لتوقفوا الحديث عن خطوات الأنبياء وحرب بلعام وقبر راحيل. إنه القرن الحادي والعشرون. مطلوب ثورة ثقافية بين السياسيين في إسرائيل، حتى يفهموا أنه لا يمكن مطالبة الشباب هناك بانتظار حرب قادمة. العولمة تؤثر على الصبية، والشباب يريدون السفر والحياة وبناء حياة خارج الجيش. إن كان ثمة يأس أيضا بين الإسرائيليين، فهو علامة طيبة. ربما يؤدي اليأس لضغط شعبي على القيادة لكي تخلق وضعا جديدا. هل تعرفين الفارق بين الجنرال والشاعر؟ الجنرال، في ساحة المعركة، يحصي عدد الموتى في جانب العدو، أما الشاعر فيعد الأحياء الذين صاروا موتى في هذه المعركة. ثم عدو واحد وهو الموت. المجاز واضح. الموتى على الجانبين لم يعودوا أعداء.
هل ستفكر في التفرغ للعمل السياسي. كما فعل فاتسلاف هاول على سبيل المثال؟
ربما كان هاول رئيس دولة جيدا، غير أنه لا يتم النظر إليه كشاعر فريد. أنا أكتب قصائد أفضل كثيرا من عملي السياسي.
ما الذي تنوي قوله في أمسية حيفا؟
أريد أن أشرح كيف نزلت من الكرمل وكيف أصعد إليه الآن. وأسأل نفسي لماذا نزلت.
هل أنت نادم على كونك غادرت في 1970؟
أحيانا ما يثمر الزمن حكمة. التاريخ علمني نوعا من السخرية. دوما ما أتساءل: هل أنا نادم أنني غادرت في 1970. وصلت لاستنتاج أن الإجابة غير مهمة. ربما يكون السؤال عن سبب نزولي من الكرمل أكثر أهمية.
وما السبب وراء نزولك؟
حتى أعود بعد 37 عاما. هذا يعني أنني لم أنزل من الكرمل في 70 ولم أعد في 2007. كل شيء هو مجاز. إذا كنت الآن في رام الله وفي الأسبوع القادم سأكون في الكرمل وأتذكر أنني لم أكن هناك لأربعين عاما، فهذا يعني أن الدائرة أغلقت وكل السفر الذي طال سنوات كان مجازا. لن أخيف القراء. أنا لا أنوي تحقيق حق العودة.
وإن كان ثمة فرصة للعودة للجليل، لحيفا والعائلة؟
بصفتك صحفية رافقتيني إلى هناك، فلقد كنت شاهدة على قوة تأثري عندما أتيت في زيارة أولى عام 96 بعد غياب 26 عاما وكان من المفترض أن ألتقي بإميل حبيبي بغرض تصوير فيلم عن حياته. تأثرت وبكيت ورغبت في البقاء في إسرائيل. ولكن اليوم أنا غير مستعد لاستبدال هويتي الفلسطينية بإسرائيلية. هذا سيربكني فحسب. المعيار المهم اليوم هو ما الذي فعلته في هذه السنوات. كتبت أفضل، تقدمت، تطورت وأفدت شعبي من الناحية الأدبية.
ما رأيك في النقد الموجه لتوقيت قراءة قصائدك في حيفا، على ضوء الأزمة في الأراضي المحتلة وقضية عزمي بشارة.
نحن نعيش، وأنا لا أعرف ما هو الصواب. طول الوقت يكون توقيتنا غير مناسب. ليست هذه المرة الأولى التي آتي فيها. أتيت عام 96 والقيت كلمة تأبين في جنازة إميل حبيبي وأتيت عام 2000 وقرأت قصائدي في الناصرة وحضرت حفلا في المدرسة التي درست بها في كفر ياسيف. لا يمكنني أن أكون جزءا من صراع هذا الحزب مع ذاك. أنا ضيف الجمهور العربي كله في إسرائيل ولا أميز بين الحركة الإسلامية وبين الجبهة الشعبية للسلام والمساواة أو التجمع الوطني الديمقراطي. أنا شاعر الجميع. لا ينبغي أيضا أن أنسى أن هناك الكثيرين ممن يكرهونني بين الشعراء وبين من يظنون أنفسهم شعراء. الغيرة هي شعور إنساني، ولكنها عندما تتحول لكراهية فهذا أمر آخر. هناك من يعتبرونني خطرا أدبيا، ولكنني أعتبرهم أطفالا عليهم الثورة ضد أبيهم الروحي. لهم الحق في قتلي، ولكن ليقتلونني على مستوى أدبي، أي ليقتلونني في النص.
هل مازلت على اتصال بمفكرين يهود إسرائيليين؟
أنا على صلة بالشاعر إسحق لاؤور والمؤرخ أمنون راز كركوتسكين. في العشرين عاما الأخيرة أقرأ بالعبرية أقل، ولكن يثير اهتمامي بعض الأدباء الإسرائليين.
قبل سبع سنوات حاول يوسي ساريد، كوزير للتعليم، أن يدخل قصائدك إلى منهج الأدب الدراسي ونتيجة لهذا هدد بعض أعضاء الكنيست من اليمين بتدمير التحالف. هل أغضبك هذا؟
لا يهمني سواء أدرجوا قصائدي أم لم يدرجوها في المنهج الدراسي الأدبي. عندما تم تقديم اقتراح بسحب الثقة في الحكومة تسائلت في سخرية أين الكرامة الإسرائيلية. كيف توافقون على إسقاط حكومة بسبب شاعر فلسطيني بينما لديكم أسباب أخرى لفعل هذا. كذلك لا يهمني إن قاموا بتدريس قصائدي في المدارس العربية. لا أحب لهذه الدرجة أن أكون في مناهج التعليم. التلاميذ يكرهون الأدب بشكل عام إذا تم فرضه عليهم.
كتبت في قصيدة من قبل "من أنا بدون المنفى". باعتبار المنفى هو أساس شعرك، وباعتبارك قلت أكثر من مرة أنك تحمل المنفى بداخلك كحقيبة سفر. هل تعلمت على مدار السنوات والتجوال من بلد لآخر احتضان المنفى.
ليست مسألة احتضان. المنفى احتلني، ولكنني توقفت عن الشكوى من هذا الحمل. المنفى موجود في كل مكان. الآن أنا في رام الله، وحتى هنا أحمل منفاي. لست جزءا من المشهد ولا جزءا من المكان. عرفت رام الله منذ عشر سنوات فحسب. لا أملك ماض ولا ذكريات هنا. أنا موجود هنا كمزيج من المواطن واللاجئ والمنفي. اليوم علاقتي بالمكان خفيفة وهشة. كل الأماكن تتشابه الآن.
وأين البيت؟
لا أملك بيتا. غيرت بيوتا كثيرة جدا، لا أملك بيتا بالمعنى العميق للكلمة. البيت هو المكان الذي أنام وأقرأ وأكتب فيه. وهذا من الممكن أن يكون في كل مكان. عشت في أكثر من عشرين بيتا ودوما ما كنت أترك أدوية وكتبا وثيابا وخطابات. وأهرب.
في أرشيف سهام داود توجد خطابات، مخطوطات وقصائد تركتها وراءك عندما غادرت في 1970؟
لم أكن أعرف أنني لن أعود. اعتقدت أنني سأحاول ألا أعود. لم أختر المنفى بشكل حر. على مدار عشر سنوات كنت ممنوعا من مغادرة حيفا، من بينها سنوات ثلاث تم تحديد إقامتي فيها.
واليوم؟
ليس لدي حنين خاص لبيت بعينه. البيت ليس فقط الأغراض التي تركتها. البيت هو مكان وبيئة. لا أملك بيتا. كل شيء متشابه. رام الله مثل عمان مثل باريس. ربما لأنني تربيت على الحنين فلم يعد مناسبا لي أن أشعر بالحنين أكثر، وربما بهتت مشاعري، ربما انتصر الإيقاع على المشاعر وتعاظمت السخرية. أنا لم أعد نفس الشخص.
لماذا لم تقم عائلة؟
يذكر أصدقائي من حين لآخر أنني تزوجت مرتين. ولكنني لا أذكر هذا بالمعنى العميق للكلمة. أنا غير نادم لكوني لا أملك طفلا. ربما لم يكن لينجح، أو ربما كان فظا.
علام أنت نادم إذن؟
على أنني نشرت قصائد في سن صغير وقصائد غير جيدة. أنا نادم لأنني تسببت في ألم لصديق بكلمات قلتها له، أو لأنني كنت فظا وحادا. ربما لم أكن مخلصا لذكريات معينة ولكنني لم أجرم.
تحب عزلتك؟
جدا. عندما أضطر للخروج للعشاء أشعر أنه تم توقيع عقوبة علي. في السنوات الأخيرة صرت أحب أن أكون وحدي. أحتاج للبشر عندما أكون مضطرا لهم. ربما تعتقدين أنها أنانية، ولكن لدي خمسة أو ستة أصدقاء. هذا كثير. لدي ألاف المعارف وهذا لا يساعدني.
متى تفكر في طفولتك. إن كنت تفكر فيها أصلا؟
قمت بهذا الحساب للنفس في كتابي الأخير "في حضرة الغياب"، وهو كتاب يبدو سيريا رأى النور العام الماضي – على هيئة خطاب وداع أقوله وأنا أقف على حافة قبري وأقوم بتأبين نفسي. أنا هو الآخر الموجود في القبر. في الكتاب أكتب عن تاريخ حياتي، ولكن ليس بشكل متراتب. نثر شعري. هناك ألامس طفولتي في البروة وانتقالي للبنان والبقاء فيها عاما. ظننت أننا كنا سائحين. عدنا كمتسللين بشكل غير قانوني ومر وقت طويل حتى استلمنا بطاقة هوية. كتبت عن لبنان والمنفى والحنين والحب الذي مررت به، ولكن بلا أسماء.
قلت مرة في لقاء مع دورية "حداريم" أن الشعر الجيد هو طفولة صارت حكيمة؟
لا يسير أي شخص إلى الطفولة ولا يبحث عنها. إنها رشفة تحدث من حين لآخر. لست من بين هؤلاء الذين يستندون إليها. لست رومانسيا لهذه الدرجة ولا مريضا من الناحية الشعورية. عندما أتذكر طفولتي لا أجدني سعيدا. لم تكن طفولة سعيدة. عندما أتحدث عنها بدون قصد أتحدث عن شيء عام، لأن كل شخص، وليس أنا فقط، يذهب بهذه الطريقة إلى لبنان، أو لمخيم لاجئين.
كتبت بعض القصائد عن طفولتك. من الصعب عليك أن تعود لها اليوم؟ وهل ينطبق هذا على القصيدة التي تحدثت عن "قهوة أمي".
كتبت هذه القصيدة في سجن معسياهو عامي 63 و64. دعيت لأقرأ شعرا في الجامعة العبرية بالقدس وكنت أسكن عندئذ بحيفا. كانت هذه هي فترة الحاكم العسكري، قدمت طلبا بالسفر ولم يصلني رد. سافرت في القطار – هل يزال هذا القطار موجودا – وفي الغد استدعوني إلى قسم الشرطة بالناصرة وحكموا علي بأربعة أشهر حبس مع إيقاف التنفيذ وشهرين في سجن معسياهو. وهناك، وعلى علبة سجائر سكوت صفراء مرسوم عليها جمل، كتبت القصيدة التي حولها الملحن مارسيل حبيبة "هكذا في الأصل، ليس خليفة" إلى أغنية واعتبرت قصيدتي الأفضل. سوف أقرأها في حيفا.
هل تنوي زيارة القرية التي ولدت بها؟
لا. اليوم هي مستوطنة اسمها يسعور. أفضل أن أخزن الذكريات التي تبقت لي، المساحات الواسعة وحقول البطيخ، أشجار الزيتون واللوز. أتذكر الحصان الذي كان مربوطا بشجرة التوت في الفناء وكيف صعدت عليه وطرت إلى أسفل وضربتني أمي. دوما ما كانت تضربني، لأنها اعتقدت أنني شقي جدا، ولا أذكر بالتحديد أنني كنت شقيا. أتذكر الفراشات والإحساس الواضح بأن كل شيء مفتوح. كانت القرية قائمة على تلة وكل شيء كان منبسطا بالأسفل. ذات يوم أيقظوني وقالوا لي أنه يجب الهرب. لم يقولوا حربا ولا خطرا. سرنا مشيا، أنا وإخواني الثلاثة، حتى لبنان وكان أصغرنا رضيعا لم يتوقف عن البكاء طيلة الطريق.
هل تستلزم الكتابة لديك طقوسا ثابتة، أم أنك أصبحت أكثر مرونة مع السنوات؟
ليس هناك شروط، وإنما عادات. تعودت على الكتابة نهارا بين العاشرة والثانية عشر. أكتب على يدي. لا أملك جهاز كمبيوتر ولا أكتب إلا في البيت مغلقا بابي علي. حتى عندما أكون وحدي. لا أفصل التليفون. لا أكتب كل يوم وإنما أجبر نفسي على الجلوس يوميا على الطاولة. ربما يكون هناك وحي، وربما لا يكون، لا أعرف. لا أؤمن تماما بالوحي، ولكنه إذا كان موجودا فيجب علينا أن ننتظره، خوفا من أن يأتيني في الوقت الذي لا أكون متفرغا فيه. أحيانا ما تأتي الأفكار الجيدة بالفعل في أماكن غير لطيفة تماما. في الحمام، أحيانا في الطائرة وربما في القطار. نقول في العربية "بقلم فلان" وأعتقد أنهم لا يكتبون بيد. الموهبة موجودة في المؤخرة. ينبغي أن نتعلم كيف نجلس. إذا لم نعرف كيف نجلس فلن نكتب. النظام مطلوب.
كمن ينظرون إليه باعتباره أميرا، هل تنام جيدا؟
أنام تسع ساعات في الليل بلا أرق. أستطيع النوم في الوقت الذي أريده. يقولون أنني مدلل. أين كتبوا هذا عني؟ في الصحافة العربية. أنت تقولين أنهم ينظرون لي كأمير. الأمير هو شخص أعلى من الشعب. هذا غير صحيح. وأيضا غير صحيح أنني متكبر. أنا خجول وهناك من يفسرون هذا باعتباره تكبرا.
حقيقة أنك لامست الموت على الأقل مرة واحدة في حياتك هل تثير خوفا لديك من الشيخوخة ومن خيانة الجسد؟
لاقيت الموت مرتين. مرة عام 84 ومرة في 98، كنت قد مت إكلينيكيا وبدأوا فعلا في التحضير لجنازتي. في 1984 أصبت بأزمة قلبية في فيينا. كان هذا نوما عميقا على سحاب أبيض مع نور مبهر. لم أعتقد أن هذا هو الموت. حلقت وأبحرت حتى شعرت بالألم وكان الألم دليلا على أنهم أعادوني للحياة. قيل لي أنني مت لدقيقتين.
وفي 1998؟
كان الموت عدوانيا وأليما. لم يكن هذا نوما لطيفا. حلمت بكوابيس مرعبة. لم يكن هذا موتا، كان حربا مؤلمة. الموت نفسه لا يؤلم.
ما علاقتك بالموت اليوم؟
أنا مستعد له. لا أنتظره. أنا لا أحب الانتظار. الموت مثلي، لا يحب الانتظار. سويت معه اتفاقا في قصيدة "جدارية" وشرحت له أنني لست متفرغا له الآن. لدي ما أكتبه وما أفعله. لدي عمل كثير وحروب في كل مكان وليس لديك، أيها الموت، أي اهتمام بالشعر الذي أكتبه. هذا لا يخصك. ولكن دعنا نحدد موعدا. أخبرني مسبقا. لأستعد، ألبس جيدا ونلتقي في مقهى على شاطئ البحر ونشرب كأسا من النبيذ وعندئذ خذني.
هذا في الشعر. وماذا عن الحياة؟
أنا لا أخاف ولا أنشغل بالموت. أنا مستعد لتلقيه وقتما يأتي، ولكن ليكن شجاعا وبطلا ولننه كل شيء بضربة واحدة. ليس على مراحل مثل السرطان أو القلب أو الإيدز. عليه ألا يأتي كلص. ليأخذني مرة واحدة.
ما الذي يجعلك سعيدا؟
هناك مثل فرنسي يقول أنه إذا قمت نهارا بعد سن الخمسين ولم تشعر بالألم، فهذا يعني أنك مت. أسعد بكل يوم أقوم فيه صباحا. بالمفهوم الواسع أعتقد أن السعادة هي اختراع غير واقعي تماما. السعادة هي لحظة. السعادة هي فراشة. أنا أشعر بالسعادة عندما أنهي عملا.
هناك شعور لدي بأن راض عن نفسك أكثر من أي وقت مضى؟
ربما يبدو هذا فظا، ولكن هذا هو جمال اليأس. لا أوهام لدي. لا أتوقع الكثير من الأشياء وعندئذ، فإذا كان أمر ما على ما يرام فهي سعادة كبرى. هناك أيضا حس بالدعابة بجانب اليأس. أنا متفائل.
هل تشتاق إليه: "هذا السؤال جاء مبتورا في الأصل ولكن من الواضح أن الحديث هو عن إميل حبيبي"؟
كان المكان ليصبح أكثر امتلاء لو كان إميل حبيبي حاضرا. كان ظاهرة طبيعية. كانت له ضحكة وحس دعابة خاصين وأعتقد أنه حارب اليأس بواسطة الدعابة. وانهزم في النهاية. كلنا سوف ننهزم، حتى المنتصرون. ينبغي أن نعرف كيف نتصرف لحظة النصر وكيف نتصرف ساعة الهزيمة. المجتمع الذي لا يعرف معنى الهزيمة غير ناضج.
منذ فترة قصيرة أكملت كتابا جديدا عبارة عن مذكرات شخصية، هل تحب نفسك حقيقة؟
لا . فعلا. عندما يزورني شعراء شباب وأكون مؤهلا لمنحهم نصائح أقول لهم: "الشاعر الذي يجلس للكتابة ولا يشعر بنفسه عدما، لن يتطور ولن يحظى بالاعتراف". أشعر أنني لم أفعل شيئا. هذا ما يدفعني لتحسين كتابتي وأسلوبي ومجازي. أشعر أنني صفر –وهذا يعني أنني أحب نفسي جدا. لدي صديق يعرف أنني لا أتحمل رؤية نفسي في التليفزيون. يقول لي أن هذه نرجسية مقلوبة. هذا ما يقوله ابن الحرام ذاك.



#نائل_الطوخي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خمس وعشرون عاما من الترجمة في المركز الثقافي الفرنسي
- ماري تريز عبد المسيح: المثقفون هم بروليتاريا العصر الحديث
- مهمة سوسن وأخواتها في تحدي النشر التقليدي
- الأدب فاكهة شهور الظمأ المحرمة: المكتبة العامة، جنة القراء ا ...
- هجوم الجزائري ياسمينة خضرة في شوارع تل أبيب: ضريبة إسماع الص ...
- في وصف التعذيب وما وراءه
- بطرس غالي وشيمون بيريز في شهادات للتاريخ: الصراع كما يرويه ا ...
- المفتي.. الأب الروحي للعصر الحديث
- شاعر إسرائيلي يدافع عن حماس: نحن عنصريون ازاء كل من لا يحمل ...
- ايلان بابيه والتغيير المستحيل من الداخل.. موسم الهجرة من اسر ...
- عبد الناصر سعى لعقد سلام مع اسرائيل قبل عام سبعة وستين
- ادباء اسرائيل يحتجون. الفنانون يتذمرون والاوتوبيسات تسخر، ان ...
- سبعة أسباب تجعلني أعشق التراب الذي تمشي عليه حماس
- وزير الثقافة الاسرائيلي، غالب مجادلة: دولتي تحارب شعبي
- في مديح أهل النار
- بعد أن فشل في العثور علي حلم وردي واحد يرفع الرأس، محمد الكف ...
- معنى أن يكون الكاتب يهوديا
- النوبة بين التوطين والتطوير: عودة الجنوبي إلى أرضه
- أوروبا .. ولاية عثمانية
- صنع الله إبراهيم: أحلم بالكتابة عن الجنس


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - محمود درويش في حوار لهاآرتس: أنتظر ثورة في وعي الإسرائيليين