أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - الجماعة المقدسة















المزيد.....


الجماعة المقدسة


ساطع راجي

الحوار المتمدن-العدد: 1983 - 2007 / 7 / 21 - 08:30
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تصل الثقافة حدها الأقصى عندما تخلق وتثبت مجموعة من الحدود السلوكية للكائن البشري باعتبارها أعرافا اجتماعية تتعالى على الوجود النصي (التدويني) ولا تكون بحاجة الى مؤسسة محددة تفرضها حيث يتحول الكيان الاجتماعي برمته الى أدوات تراقب وتحافظ على ديمومة هذه الأعراف ، والكائن البشري الذي أنتج الثقافة من خلال وجوده الاجتماعي يتحول الى كائن خاضع لأحد تفرعات هذه الثقافة (الأعراف) ويكاد يجازف بوجوده الطبيعي من اجل وجوده الثقافي (العرفي) ويكون الخرق ، في هذا المناخ العام ، حدثاً مركزياً تحرص المجموعة البشرية على تعميق مشاعر الخطر تجاهه وهذا الشعور بالخطر يؤدي للمبالغة في الاهتمام بحدث الخرق الى حد تدوينه بإلحاح من رغبة التفنيد وهدم المحاولة الفردية للخروج على النسق الاجتماعي . وهذا التدوين لحطة عريّ خاطفة يصبح النص فيها ثقب المفتاح الذي يمكن اختلاس النظر من خلاله على الجسد الاجتماعي برمته .
ويتبين الشعور بالخرق عبر الوضع التدويني للنص ، لنجد الخرق الاجتماعي في موازاة خرق نصيّ والإصحاح (38) في سفر التكوين بؤرة خرق داخل السياق السردي الذي يحكي في عدة إصحاحات قصة يوسف ليتوقف فجأة ليسرد حكاية احد أخوة يوسف وهو (يهوذا) وعلاقته بكنته (ثامار) هذه الحكاية تقص سلسلة من أفعال الخرق هي :
1. يهوذا نزل من عند أخوته (مفارقة الجماعة العرقية / الدينية) .
2. مال الى رجل عدلامي (الانتماء أو التقرب الى جماعة أخرى) .
3. نظر يهوذا هناك ابنه رجل كنعاني اسمه شوع فأخذها ودخل عليها (الزواج من امرأة مختلفة عرقياً وهو أمر تكرهه الأعراف الإسرائيلية القديمة) .
4. كان (عير) بكر يهوذا شريراً في عيني الرب ، فاماته الرب (الشر هو مفهوم عام لحياة قائمة على خرق الأعراف والقوانين الاجتماعية والدينية) .
5. كان (أونان) إذا دخل على امرأة أخيه انه افسد على الأرض لكي لا يعطي نسلاً لأخيه فقبح في عيني الرب ما فعله ، فأماته أيضا (خرق اونان الوظيفة الأساسية التي يفترضها العرف من زواج الرجل بأرملة أخيه) .
6. قال يهوذا لثامار كنته اقعدي أرملة في بيت أبيك حتى يكبر (شيلة) ابني ، لأنه قال لعله يموت هو أيضا كأخويه (يعرقل يهوذا عرفاً اجتماعياً يقضي بزواج الرجل من زوجة أخيه المتوفي) .
7. ودخل يهوذا عليها (ثامار) فحبلت منه (الخرق هنا هو سفاح القربى / الزنا والذي عقوبته الموت) .
8. محاولة احد التوأمين (فارص) تجاوز أخيه في الخروج من بطن أمه (وهو خرق يحاول التشويش على حق البكورية الذي تقدسه الأعراف الإسرائيلية) .

النص يسرد سلسلة من الخروقات التي تنغص حياة الشخصية الرئيسية (يهوذا) ، والتي تتمتع بالثراء والسلطة ، ويوحي النص أن خرق الأعراف الاجتماعية ومفارقة الجماعة يؤدي الى حياة مرتبكة مليئة بالشر والخطيئة ويترصدها الموت باستمرار ، ويتم تأويل الموت باعتباره عقوبة إلهية تصيب من يتجاوز ويخرق الأعراف الاجتماعية والدينية وليس جزءاَ من سنن الطبيعة .
ورغم وجود هذا النص داخل سياق ديني (التوراة) إلا انه تعامل مع الأحداث بمنطق السرد التاريخي الذي يحاول الالتزام بالحيادية وتعميق الرؤية السردية الى جذر الحدث او اللحظة البدئية له لتبدو هذه اللحظة انسانية خالصة ، والتاكيد على حرية الفاعل يحفز ذهن المتلقي للاقتناع بالعواقب التي سيتعرض لها هذا الفاعل جراء خرقه للاعراف الاجتماعية ، بمعنى ان النص الديني يعقلن هذه الاعراف باعتبارها ادوات لمنع الخراب والفساد ، ومع ذلك ، يبقى النص ثقب مفتاح يهييء لاختلاس النظر على لحظة عري الجسد الاجتماعي عندما يتمكن (يهوذا) ، صاحب الثروة والسلطة ، من الافلات ومعه شريكته (ثامار) من العقوبة (الموت) التي يفرضها المجتمع على مرتكبي الزنا .
ويمكن للقراءة اطالة لحظة العريّ عندما ترصد تعامل النص الاوسع (الكتاب المقدس) مع حياة (يهوذا) وقبول التاريخ اليهودي لنتيجة علاقة السفاح (فارص وزارح) وتمتعهما بوضع مهم في التاريخ المقدس الذي يسرد وقائع النبوة والارادة الالهية حيث خرج من هذا النسل عدد كبير من الانبياء في تاريخ اليهود وامتد هذا الوضع المركزي لعلاقة (يهوذا وثامار) الى داخل الديانة المسيحية ، ففي الصفحة الاولى من العهد الجديد (انجيل متى تحديداً) نجد السلسلة الكاملة للنسب الناتج عن هذه العلاقة ، هذه السلسلة الحاشدة بالانبياء والملوك والرجال المهمين واخرهم يوسف (رجل مريم) .
وعند توسيع افق القراءة لرصد الامتداد الحكائي نجد مستوى اخر من الامتداد وهو مستوى ايحائي فمقابل يهوذا (ابن يعقوب في التوراة) نجد شخصية (يهوذا الاسخريوطي) في اناجيل العهد الجديد ، واذا كان الأول احد ابناء يعقوب الاثني عشر الذين اسسوا الشعب الاسرائيلي فأن الثاني هو احد الحواريين الاثني عشر للمسيح ، ويهوذا التوراتي هو الذي اقترح على اخوته بيع يوسف بدلاً من تركه يموت في البئر اما يهوذا الانجيلي فهو الذي اقترح على اليهود ان يسلمهم المسيح مقابل (ثلاثين من الفضة) ، ودور يهوذا الاسخريوطي يبدو اشكالياً للوهلة الاولى ، فهو لم يكن يحتجز يسوع ليسلمه اما مجرد الاشارة اليه او التعريف به فأن يسوع كان معروفاً عند السلطة والمجتمع اليهوديين ، لكن هذه الشخصية تهيء لموازاة اخلاقية وفكرية تتيح للمتلقي معرفة التطور الذي حققه النص الديني في تفعيل الادوار والاشارات ، يهوذا ابن يعقوب اراد بيع يوسف لكي لا يموت ويتحمل الاخوة اثمه ، اما يهوذا الاسخريوطي فقد باع يسوع للسلطة وهو يعرف حقدها عليه وبهذا يكون الخرق الذي نفذه الاسخريوطي هو خرق تدميري للجماعة وتحقق هذا الخرق تم بقبلة طبعها يهوذا الاسخريوطي على وجه يسوع (مؤسس الجماعة) والقبلة تؤدي هنا دوراً مضاداً للشائع عنها باعتبارها علامة عقد والتئام .
وادركت الجماعة في النهاية الشرخ الذي اصابها وحاولت ترميم ذاتها بأختيار شخص جديد يحل بديلاً عن يهوذا لتعود المجموعة الى اكتمالها العددي (الاثنا عشر) عبر قرعة تغدو فيها لعبة الحظ لعبة مقدسة ليكتمل عدد الشهود على قيامه المسيح وهم ايضاً الذين سيشكلون مجمعاً يحاكم اسباط بني اسرائيل الاثني عشر يوم القيامة ، وترميم هذه الجماعة يذكر بالتئام ابناء يعقوب واعادة تكوين الجماعة ، ولحظة الترميم هذه كانت حاسمة في تاريخ الجماعتين اليهودية والمسيحية ، لانها اطلقت المشروع الكوني لكل واحدة منهما
التطور الاخر الذي حققه النص الديني في التعامل مع (يهوذا) (الاسم / الاشارة) هو صنع النهاية ، فاذا كان يهوذا التوراتي قد افلت من عقوبة الموت ، ربما بسبب ثروته وسلطته ، وعاد الى الكيان الاجتماعي وشغل هو وسلالته الناجمة عن سفاح القربى دوراً اساسياً في التاريخ اليهودي ، فأن يهوذا الانجيلي اشترى بثمن يسوع حقلاً ، بما يوحي بفقره ، ومات في هذا الحقل بحادث عرضي او بقدرة الهية (بمنطق النص الديني) وهذه النهاية انتجتها الثقافة المسيحية التي تعتبر مفهوم الخطيئة مركزياً في منظومتها التأويلية ولذلك لم تترك فعل الخطيئة يمر دون عقاب مأساوي (واذا سقط (يهوذا الاسخربوطي) على وجهه انشق من الوسط فأنسكبت احشاؤه كلها ، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان اورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما ، أي حقل دم) (اعمال الرسل -1) بل ويشير هذا السفر الى العقوبة باعتبارها نبؤة مقدسة وردت في مزامير سليمان ، علماً ان سفر اعمال الرسل ليس نصاً غيبياً بل نص انجزته جماعة معروفة ومحددة ومارس فيه الحواريون فعلاً تأويلياً مهد لها للقيام بفعل سياسي / اجتماعي وهو ادخال عضو جديد الى الجماعة اعتماداً على نص مقدس (لانه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر) (اعمال الرسل ـ 1) ، هنا تحول النص التأويلي الى نص مقدس وتحول الفعل الاجتماعي الى فعل مقدس عندما تأسس على ذلك النص ، تحركت صفة القداسة من الذات الالهية الى الذات النبوية ومقولاتهم وافعالهم ثم الى ذوات الاتباع الاوائل ومقولاتهم والفعالهم ، ونعرف ان هذه الصفة انتقلت فيما بعد الى الامكنة والازمنة والاشياء والمؤسسات والرموز في حركة شهدتها اغلب الديانات .
لا يقتصر التشابه بين الشخصيتين على الاسم او بعض السلوكيات بل يمتد الى الدور الفعال لكل منهما في تأسيس جماعة مقدسة ، الاول احد اباء الشعب الاسرائيلي الاثني عشر وقبل ذلك ابن نبي (يعقوب) ، والثاني احد تلاميذ المسيح وحوارييه الاثني عشر ايضاً ، لا يمكن زيادة هذا الرقم وفي حال النقصان لا بد من اكمال العدد كما حدث مع الحواريين .
الشخصان قريبان من القداسة النبوية (اسرائيل والمسيح) وكذلك مؤسسان للجماعة المقدسة ومع كل هذا يقترفان خرقاً حاداً ضد الجماعة يصل حد الهدم وبمثل هذه الشخصيات الاشكالية يحرك النص المقدس دراما فعالة ومثيرة حيث تتهدم الحدود الواضحة بين الجماعات البشرية او التقسيم السهل الذي يصنف البشر الى مؤمنين وكفار ، اطهار ومدنسين ، ابرار وخطاة ليتمظهر البعد الصراعي في الشخصية الانسانية فأحراز الكائن البشري لقناعات ابدية ليس امراً سهلاً ومواقف هذا الكائن غير محكومة باشتراطات اخلاقية دائماً فنهناك الوجود الطبيعي للانسان ، الذي قد يسميه العقل الديني او أي عقل ايديولوجي (الضعف الانساني) او (الطبيعة الشريرة للبشر) التي تقود الى الخطيئة ، فالنص الايديولوجي يستخدم لغة حادة وهو يمارس التأويل الذي يؤسس لفعل اجتماعي ، بمعنى آخر ان هناك فارقاً بين اللغة التي يستعملها النص المقدس واللغة التي يستعملها النص التأويلي الايديولوجي .
ما هي الضغوطات التي دفعت هاتين الشخصيتين للمخاطرة بوضع القداسة الذي تحضيان به ؟ ، يوفر الكتاب المقدس تفاصيل حياة يهوذا ابن يعقوب اما يهوذا الاسخربوطي فالمعلومات عنه قليلة ، لذلك سيركز هذا التحليل على الشخصية الاولى التي تتواجد بشكل واسع في الاصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين . واذا كان النص يسجل مجموعة من الخروقات التي اقترفها يهوذا فأن علاقة السفاح بين يهوذا وكنته ثامار هي الخرق الاساسي والمؤثر ويمكن تعيينه بأنه خرق جنسي ولفهم هذا الخرق نحاول كشف فلسفة الجنس في مجتمع ديني هو المجتمع الاسرائيلي ايام تشكله الاولى في زمن يعقوب وابنائه (فقال يهوذا لاونان ادخل على امرأة اخيك وتزوج بها واقم نسلاً لاخيك) (تكوين 38-8) في المجتمع الديني تكون علاقة الزواج هي الاسلوب الوحيد المقبول لمارسة الجنس ويبدو التناسل هو الهدف الاساسي الذي حدده المجتمع للجنس كفعل انساني ، وهذه المبادىء الاجتماعية يقودنا اليها اصرار المجتمع على ان يكون للشخص نسل حتى ولو بعد موته وذلك بتزويج الرجل من ارملة اخيه الذي لم ينجب وادعاء النسل باسم الميت وللامتداد السلالي اهمية فائقة في ذلك المجتمع حد اثارة الحسد والحقد ضد اخ ميت (فعلم اونان ان النسل لا يكون له ، فكان اذا دخل على امراة اخيه ، انه افسد على الارض لكيلا يعطي نسلاً لاخيه) (تكوين 38-8) .
ان الاعراف التي يضعها المجتمع للسلوك الانساني هي ممارسة تأويلية لاشتراطات الطبيعة وحاجاتها ، حيث يؤسس المجتمع سؤالاً افتراضياً هو : ما الهدف من هذه الحاجة التي فرضتها الطبيعة ؟ ، والسؤال عن الهدف جزء من رؤية معرفية عامة يعتنقها المجتمع الديني يكون فيها الكون الطبيعي سلسلة من العلاقات المنظمة التي تتحقق بها الارادة المقدسة وبالتالي لا بد من هدف مقدس لكل حاجة طبيعية ، والهدف من الجنس هو التناسل ، ويمكن لقراءة اكثر اختزالاً القول ، ان المجتمع مارس تأويلاً (باستخدام العقل الديني) للحاجة الجنسية بما يحقق مصلحة هذا المجتمع في البقاء والاستمرار .
التأويل الديني للطبيعة انتج مجموعة من الاعراف الاجتماعية التي حدت من حرية الجسد الانساني (الجزء الطبيعي من الانسان في المفهوم الديني للانسان بأنه روح وجسد) ، (قال يهوذا لثامار كنته (بعد وفاة زوجها الثاني) اقعدي ارملة في بيت ابيك حتى يكبر شيلة ابني) (تكوين 38-11) هذا المقطع يشير الى السلطة التي يتمتع بها يهوذا على ثامار التي احتفظت بصفة (كنته) حتى بعد وفاة ازواجها ، وهذه السلطة نفسها تأمر ثامار بالبقاء ارملة ، وبتحديد مكان اقامتها (في بيت ابيك) وبانتظار زوج قادم ومحدد سلفاً (شيلة) حتى يكبر ، علاقة السلطة بين يهوذا وثامار ابتدأت في المقطع النصي الاتي (واخذ يهوذا زوجة لعير بكرة واسمها ثامار) (تكوين/ 38-6) وفعل (اخذ) هو صيغة للاستحواذ والتملك يوحي بقوة الفاعل ثم يأتي النص بصفة (زوجة) بعد اسم (يهوذا) مباشرة ولو توقفت القراءة هنا لتصورنا ان يهوذا هو من تزوج ، أي ان علاقة الفعل والفاعل والمفعول به تمت ولا تأتي إضافة (لعير) الا بعد هذا الاكتمال لتكون اضافة تفصيلية ، النص يسبق علاقة يهوذا / ثامار على علاقة يهوذا / عير او عير / ثامار ، حيث يمكن تصور سياقات تعبيرية بديلة تشير الى اهمية العلاقتين الاخيرتين وآخر ما ذكره المقطع النصي هو اسم الزوجة (ثامار) ، وتسلسل ظهور الاسماء والعلاقات في النص تنظيم لمنطق النص الذي هو جزء او امتداد لمنطق الثقافة التي انتجت النص ما لم يكن نصاً مضاداً او تخريبياً .
وفعل (اخذ) ورد في مقطع نصي اسبق من المقطع الذي ذكر اعلاه ، وكان الفاعل ايضاً يهوذا والمفعول به امراة ايضاً (ونظر يهوذا هناك ابنه رجل كنعاني اسمه شوع ، فأخذها ودخل عليها) ولم يشر النص الى علاقة زواج ، ربما لان منطق الثقافة التي انجزت هذا النص لا يمنح هكذا علاقة صفة (زواج) بسبب الاختلاف العرقي ، واذا كان الفاعل معروفاً فأن النص اغفل اسم المفعول به (المرأة) تماماً وذكر صفة (ابنة رجل) في اشارة الى وضعها الاجتماعي في منظومة السلطة فهي جزء من تبعات وممتلكات رجل اخر (الاب) ويصرح النص ايضاً بصفة (كنعاني) في اشارة الى التصنيف العرقي الذي ربما جاء يمهد لمقطع (فأخذها ودخل عليها) .
لقد تمرد يهوذا على جماعته العرقية عندما اقترب (مال) لجماعات عرقية اخرى (عدلامي، كنعاني) وحاول تأسيس جماعة عرقية جديدة وضحها النص بالاشارة مرتين الى فعل (اخذ) الذي يشير الى علاقات زواج عبثت بالحدود التي وضعتها اعراف الجماعة الاصلية (اسرائيل) واقترب يهوذا من النجاح في محاولته الاولى عندما (فأخذها ودخل عليها . فحبلت وولدت ابناً) (تكوين- 38) لقد كررت ايراد مقطع سبقت الاشارة اليه قبل ايراد المقطع الجديد للتركيز على ان هدف الجنس في الثقافة التي انتجت النص هو التناسل ، عندما نرتب الافعال التي وردت متسلسلة ومتلاحقة دون فواصل (اخذها ـ دخل عليها ـ حبلت ـ ولدت) والاقتراب من النجاح تمثل في انجاب ثلاثة ابناء ذكور وبدا هذا انجازاً مهماً لتحقيق هدف تكوين جماعة عرقية جديدة الا ان كل شيء تهاوى بعد فعل (اخذ) الثاني (اخذ يهوذا زوجة لعير بكره ...) الاشارة الواضحة والمؤكدة لدور يهوذا في هذا الزواج هو تعبير عن اصراره على تحقيق هدفه والتأكد منه بانسال (الجيل الثاني) من الجماعة الجديدة ، وحدثت الانتكاسة عند موت الابن الاول (عير) ثم موت الابن الثاني (اونان) وبدت ثامار شؤماً على مشروع يهوذا الذي تلافى الكارثة وابعد هذه الكنة عن ابنه الثالث بعذر صغر سنه ، ان علاقة (الاخذ) هذه هي نوع من التعهد بتوفير زوج (اشباع جنسي) من قبل يهوذا لثامار (التي عليها الانجاب) وعندما حاول يهوذا الالتفاف على هذا التعهد حدث شرخ في الموازنة التي يقيمها المجتمع بين الطبيعة والاعراف الاجتماعية او بين الطبيعة والثقافة الا ان يهوذا نفسه اصبح ارملاً فواجه الوضع ذاته الذي تعيشه ثامار حيث تصطدم الحاجات الطبيعية بسلسلة من الاعراف التي انتجتها مفاهيم الثقافة الاجتماعية (الشرعية ، الترمل ، النسب ، ...) هذه المواجهة بين الطبيعة والثقافة قد تصل حد الاطاحة باحدهما ، والمعروف ان مكونات الطبيعة اكثر صموداً والحاحاً من اشتراطات الثقافة لذلك تتعرض الثقافة ومنتجاتها (الاعراف) للتقويض تحت ضغط الطبيعة ، (قال هاتي ادخل عليك ، لانه لم يعلم انها كنته ، فقالت ماذا تعطيني لكي تدخل عليّ ، فقال اني ارسل جدي معزى من الغنم ، فقالت هل تعطيني رهناً حتى ترسله ، فقال ما الرهن الذي اعطيك ، فقالت خاتمك وعصابتك وعصاك التي في يدك . فأعطاها ودخل عليها) .
في هذا المقطع يتنازل يهوذا عن مجموعة من رموزه الاجتماعية ، وهي جزء من كيان ثقافي ، لتحقيق حاجات الطبيعية بتأمين متطلبات الجسد ، والرموز هي (الخاتم ، العصابة ، العصا) وهي اشياء تشير الى السلطة والثروة ، فالخاتم يمثل الشخصية الاعتبارية والقانونية حيث يكون بديلاً عن التوقيع (الامضاء) خاصة للاشخاص ذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي ومصدر ثقة لحامله وكفيلاً باثبات حقوق وادعاءات الشخص الذي يحمله عند المالك الاصلي للخاتم ، وامتلاك ثامار للخاتم وحده يكفيها للحصول على الجدي خاصة وان يهوذا يملك الكثير من الاغنام ، ولكنها تمادت وطلبت عصابة يهوذا والعصابة جزء رمزي من الثياب لارتباطه بالراس ولكون كشف الراس معيباً في المجتمعات البدوية والزراعية في منطقة الشرق الاوسط لكل من تجاوز مرحلة الشباب ، والدلالات الاجتماعية والسلطوية والتربوية (للعصا) واضحة ، حيث هي المرادف المبسط للصولجان (السلطة) كما انها اداة عقاب واداة رعي (سلطة / ملكية / قيادة) ما زال يتمسك بها شيوخ القبائل حتى في بعض المدن الحديثة كما تتمسك بها المؤسسة العسكرية والتربوية والدينية سواء بشكلها الاصلي او بما يشابهه .
هذه الرموز الاجتماعية تنازل عنها (يهوذا) بسرعة ، كما هو واضح في النص ، لاشباع رغبته الجنسية ، ويبدو انه تنازل عن منظومة رمزية كاملة في وضع بدت فيه قوانين الثقافة ضعيفة جداً امام قوانين الطبيعة التي اجبرت فردين على التعري رمزياً قبل التعري جسدياً .
ومفهوم التعري الرمزي يحرض للكشف عن الكيفية التي تعاملت فيها الثقافة مع الجسد رمزيا ، نقرأ في نفس النص (فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت ... فنظرها يهوذا وحسبها زانية . لانها كانت قد غطت وجهها) .
استخدمت الثقافة الملابس في تصنيف وتعريف الكائن البشري داخل المجموعة وبالتالي تحديد الحرية السلوكية المتاحة له ، فتكون الملابس اداة للوصم الاجتماعي احياناً ، كما قد تكون اداة للتمييز والسلطة ، وفي المقطع النصي نوعين من الملابس (ثياب الترمل ، وثياب الزانية) ، يوحي النص بأن الارملة كائن اجتماعي يعيش وضعاً حرجاً داخل المجموعة فتبدو نوعاً من التشوه الذي اصاب المجموعة ولا بد من سترة (اقعدي في بيت ابيك) وكذلك كائناً مشكوك فيه لا بد من وصمه اجتماعياً باستخدام نوع معين من الملابس (ثياب الترمل) التي تشير الى امراة فقدت زوجها بسبب الموت وهي ليست ثياب حزن او ثياب حداد بما قد يعبر عن المشاعر الفردية للمرأة الارملة ، تبدو سلطة المجتمع في ذروتها عندما تحيل الفرد الى علامة محددة الدلالة بل وتحدد مواقف وسلوك بقية الافراد تجاه هذا الفرد / العلامة . وهذا الوضع العلامي يكون ضاغطاً على الشعور الفردي لانه يعزله عن محيطه ويحرمه من اشباع حاجاته ويجرده من أي سلطة حتى على جسده وفي الحكاية الموجودة في الاصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين ، تدرك ثامار اهمية العلامات والرموز في تقييدها وحرمانها وانها لا تقل قوة عن الاعراف الاجتماعية نفسها ولذلك فأنها عندما تحاول التمرد على هذا الاعراف فأنها تتجه مباشرة الى تدمير العلامات وتشويهها عندما خلعت ثياب الترمل ولبست ثياب الزانية ، ثم اهانت الرموز عندما استطاعت الاستحواذ عليها وهي في دور الزانية ، حدث كل هذا قبل ممارسة الجنس مع يهوذا حيث تمردت على مجموعة الاعراف التي تجبرها على القعود في بيت ابيها وانتظار طفل صغير ليكبر ثم الزواج منه واخيراً ذلك العرف الذي يمنعها من ممارسة الجنس مع حميها صاحب السلطة المباشرة على جسدها (اخذها ، زوجها لابنه عير ، ثم لاونان ، اجبرها على الانتظار ، احتال عليها بسبب تشاؤمه منها ، امرها بالقعود في بيت ابيها) ، كل الخروقات التي قامت بها ثامار تغاضى عنها المجتمع لانها مارست الجنس مع السلطة ، ويمنحنا النص نوعاً من الموازاة بين حالتين من الممارسة الجنسية ليهوذا ، الاولى مع زوجته الكنعانية (اخذها ودخل عليها فحبلت وولدت ...) والثانية مع ثامار (اعطاها ودخل عليها فحبلت منه ...) ، كلمة (منه) غير موجودة في المقطع الاول بسبب وضوح العلاقة ، اما وجودها في المقطع الثاني فيشير الى الوضع الحرج للارملة (ثامار) وربما الى عدم التأكد من سلوكها اللاحق بعد ان استحوذت على الرموز التي تحميها من العواقب المترتبة على أي سلوك قد تتخذه فيما بعد .
النوع الثاني من الملابس التي اشار اليها النص هي (ثياب الزانية) التي لم يطلق عليها النص هذا الاسم بالتحديد بل وصفها (تغطت ببرقع وتلففت ... فنظرها يهوذا وحسبها زانية ، لانها كانت قد غطت وجهها) ، يوضح النص ان الزانية ، في ذلك الزمن ، كانت تحجب جسدها بل وتبالغ حتى تغطي وجهها ، أي انها مجرد علامة بلا تفاصيل او ملامح جسدية ، وحتى عندما تمارس الجنس تبقى محتفظة بحجابها وهو سلوك يشيء الجسد ويختزله في تكوين واحد هو العضو التناسلي الذي احتاجه يهوذا ليخفف من ضغط قوانين الطبيعة الجسدية فلم يكلف نفسه عناء معرفة هوية الشخص الاخر الذي يضاجعه ، وتتخذ العلاقة الجنسية / العهرية بعداً اقتصادياً يتضح في المساومة التي يقوم بها الشخصان ويتوصلان الى تحديد ثمن (جدي معزى من الغنم) وهو حيوان يوصف بالشبق والخصب ، وهذا التلاؤم بين العلامة والضرورة السردية يرجح مناخاً تأويلياً جنسياً للنص يوجه ذهن المتلقي / القاريء الى ما هو ثابت واصيل في التكوين الانساني عندما يحاول فهم نقطة الاتفاق التي يتوصل اليها (يهوذا وثامار) في اختيار علامة للعلاقة التي ستجمعها .
الاصحاح الثامن والثلاثون من سفر التكوين نص سردي يمارس التقنيات الحكائية مثل التشويق واثارة المفاجآت خاصة في تغيير مسار واهداف الشخصيات ، فـ (يهوذا) حاول اقامة جماعة (عائلة) جديدة عندما ابتعد عن جماعته القديمة وصاهر جماعة عرقية اخرى وكادت محاولته ان تنجح عندما انجبت ثلاثة ابناء ذكور الا ان كل شيء انهار بعد موت ولدين وتعطيل زواج الثالث بسبب التعهد القائم بين يهوذا وثامار (المشؤومة) ، المفاجأة التي يثيرها النص الحكائي ، ان محاولة يهوذا تنتجح بصورة غير مقصودة وبالحاح قوى الطبيعة (الجنس) وليس قوى الاعراف الاجتماعية والثقافية (تكوين عائلة ونسب) في لحظة تخلى يهوذا عن رموزه أي شروطه الثقافية والاجتماعية ، نعود الى توصيف النص لعلاقات يهوذا : -
1. اخذها ودخل عليها ...
2. اعطاها ودخل عليها ...
التوصيف الاول هو لعلاقة مقبولة اجتماعياً ولكنها لم تجد نفعاً في تحقيق احلام يهوذا اما التوصيف الثاني فهو لعلاقة مرفوضة اجتماعياً ولكنها حققت احلام يهوذا ، في الاولى (اخذ) وفي الثانية (اعطى) وما اعطاه هو رموزه (ثقافته) لتأتي النتيجة (النسل) في سياق مشوة تدميري (علاقة السفاح) ولكن المجتمع قبل بهذه النتيجة ربما بسبب ثروة وسلطة يهوذا او الرغبة الملحة عند المجتمع للزيادة العددية لافراده ، اما قبول يهوذا نفسه لهذه النتيجة فكان بالحاح رغبة الذات في تحقيق سلطتها وممارسة هذه السلطة على جماعة تابعة لها .
النجاح المهم الذي حققه يهوذا ليس في تكوين جماعة جديدة وحسب بل في تسلط هذه الجماعة على الجماعة العرقية الاصلية (اسرائيل) ، من خلال سلسلة الملوك والانبياء الذين خرجوا من نسله والمباركة والمديح المدهش الذي يحظى به يهوذا من ابيه يعقوب قبل وفاته في الاصحاح التاسع والاربعين من سفر التكوين الذي يبدو نوعاً من الترضية قدمته الجماعة الاصلية لترميم كيانها باعادة ضم الجماعة (الفرعية) الجديدة التي تكونت نتيجة انشقاق او خرق وبموازاة هذا الترميم الاجتماعي هناك ترميم نصّي حيث يعاود النص (سفر التكوين) سرد حكاية يوسف لتغدوا الصفحة ونصف الصفحة التي تحكي علاقة يهوذا وثامار شيئاً ضئيلاً وثانوياً في التدفق النصّي الضخم (الكتاب المقدس) ولان القراءة هي أعادة سرد وتنظيم للنص . بما يعني تكوين نص آخر مفترض فأن الإصحاح (38) من سفر التكوين هو ثقب المفتاح الذي يتيح للقارئ التطلع الى الجسد الاجتماعي في لحظة عرّيه بما يهيء لوصف هذا الجسد واكتشافه وفهم علاقاته لتحقيق وظيفة القراءة .



#ساطع_راجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلقات المنسية في العراق
- المالكي ليس هو المشكلة
- السلطة الأنثوية
- احتكار ثقافي
- فوضى السلاح
- قلق في الجوار
- الحلقة الاقتصادية المفرغة
- الساعة الامريكية
- تحولات النص المقدس
- (تدوين الفوضى (فعالية النص وانكتابية المجتمع
- حمى الرئاسة
- حالة ضعف
- قسوة
- سياسة الصوت العالي
- الحكم الثلاثي
- سلاح الانقلابات
- تحديات جديدة
- دور العشيرة …دور الدولة
- مفارقات اسطنبول
- العامل الأمريكي


المزيد.....




- أداة جديدة تستخدمها الشرطة الأمريكية لمواكبة التقدم.. ما هي ...
- لأول مرة منذ جراحة البطن.. مشاهدة أميرة ويلز علنا وسط تكهنات ...
- نتنياهو: الهجمات الأمريكية تستهدفني لأنني أمنع قيام دولة فلس ...
- بوتين: جميع محاولات مجموعات التخريب الأوكرانية لاختراق حدودن ...
- رئيس الموساد يغادر قطر لكن المفاوضات بشأن غزة مستمرة
- ألمانيا ـ القبض على إسلاماويين بتهمة التخطيط لشن هجوم بالسوي ...
- لقطات جديدة لِكيت برفقة الأمير وليام تبدو فيها مبتسمة
- أولويتها غزة.. رئيس الوزراء الفلسطيني المكلف يقدم رؤية حكومت ...
- يديعوت أحرونوت: الجيش الإسرائيلي شكل فريقا للبحث عن أنفاق با ...
- زعيم كوريا الشمالية يشرف على تدريبات مدفعية جديدة


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - الجماعة المقدسة