أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي لهروشي - قصة : الطريق إلى الجحيم















المزيد.....


قصة : الطريق إلى الجحيم


علي لهروشي
كاتب

(Ali Lahrouchi)


الحوار المتمدن-العدد: 1980 - 2007 / 7 / 18 - 07:39
المحور: الادب والفن
    



كان الليل أشد حلكة وسوادا ، لما عاد - موحى - إلى مرقد نومه ، تتقاذفه منعرجات الأزقة الملتوية كالأفاعي ، وهو يخطو خطوات متثاقلة واحدة خلف الأخرى ، ليس من جراء العياء ، بل من جراء ثقل الحزن والأسى ، الذي خيم على وجهه الأمازيغي التعس ، وكلما التقى أحدا من معارفه إلا وحياه بابتسامة مصطنعة ، محركا شفتيه الذابلتين ، وعينيه الغارقتين في سليل من الأسئلة العالقة ، لم تكن ابتسامته نابعة من القلب ، تلك المدفوعة بشعور الأمان والراحة والاطمئنان ، بل كانت ابتسامة مستوحاة من الغموض والخوف الغرض منها أن لا يُشعر غيره بثقل همومه التي استحوذت على قلبه ، وهو شاب في مقتبل العمر ، متوسط القامة ، نحيف الجسد ، أسود الشعر.. يشعر أنه على شفى حفرة ، حيث كاد يموت من جراء البطالة ، بعدما قذفت به السياسة الطبقية جانبا وهو في انتظار الموت الذي يأتي ولا يأتي ، ومع ذلك يبتسم لكل من يحييه من بعيد أو من قريب رغم أنه الوحيد الذي يعرف أن ابتسامته الذابلة قد تنعكس على وجهه عبر تجاعيد غارقة.. يفضح سره الداخلي لكل من يتمعن النظر في الصور الملتصقة على الأوراق التي تثبت مغربيته ، وهو من يعرف حق المعرفة صعوبة الانتظار ، والخوف من انسداد الأفق ، شعر بطول الليل الذي لا يقيس وقته بالزمن العادي كما يقاس لدى من يحسب الأيام المعتادة من بين العامة من الناس، بل يقيسه بعمق الجرح و الألم .. فتح باب مقر المنظمة الحزبية حيث يوجد سرير نومه المركب من أربعة كراسي متحركة ومتحولة .. رده بهدوء كي لا يزعج راحة الجيران ، حاول أن لا تسمع خطاه وهو يخطو نحو البيت الداخلي كي يركب سريره الأطوماتيكي ، تمدد عليه دون إزالة ملابسه .. تقلب يمينا ، ثم يسارا بفراشه الذي تفوح منه رائحة النوم الكريهة ، وتحول مرقده إلى مجرد إسطبل تقيدت فيه رجليه كالحصان العاطل عن العمل ، و المشاركة في دوران عجلة البلاد التي يتلاعب بها المحظوظين من الأغنياء المحتلين للبلاد في الظلمة ، والعتمة ، وأجداده نيام ، كره اليمين و اليسار، كما مل أن يستظهر أو يستبطن من جراء عناد النوم له، حينها أحس بالعياء ، والدوخة من جراء تزايد الرائحة الكريهة المخيمة على الغرفة ، راودته في الظلام فكرة كتابة رسالة عسى أن يُحرك بها الضمير ، إن وجد في الأصل لدا من ألقي به شابا يانعا في الركن كمذياع مهشم ، عاجز عن البوح بالصوت ، والجهر بالحقيقة ، أرسل بصره نحو الساعة الحائطية التي تدق أحيانا ، وتصمت أحيانا أخرى ، إما من قدم حُبابتها ، أو من جراء رفضها التعامل و التماشي مع الواقع المُتعب ، و الزمان الدائري البطيء المفروض من قبل حاكم طاغي متن قبضته الحديدية على البلاد ، وشرد العباد ، بعدما ترامى على شعبها باسم الدفاع عن الله والوطن ، لم يهتم لحظتها " موحى" كثيرا بالسياسة ، رغم معرفته القطعية بأن السياسة تُمارس على كل من لا يمارسها ، بل انشغل عقله الليلة بكتابة رسالة ترسخت خطوطها العريضة في دهنه ، وذاكرته ، التي لا تنسى سبب عمق جراحه ، حدق بنظره البريء في تلك الساعة التي توقفت عقاربها على الثالثة ليلا ، حينها قرر القيام ثم القعود إلى جانب الشمعة المحرقة ، وهي تواجه حلكة الظلام ، و تذرف الدموع المحرقة مثله ، فكم من مرة سألها ، ولم ترد عن سؤاله ، فقرر بذلك أن يدعها وشأنها كي لا تضايقها أسئلته المحرجة ، حرك جسده المتعب ، وأعطى الأمر لأقدامه للتوقف ، لكنها رفضت الانصياع لأمره هذه المرة ، وانزعج خوفا من إمكانية إصابته بالشلل ، وكيف لا يصاب به وهو الذي لم يشتغل لمدة تجاوزت ربع قرن من الزمان ، بعدما تم إقصائه وتهميشه من قبل الطغاة ، والزنادقة ، تحرك بكل أطراف جسده ، عاجزا عن القيام ، حينها استسلم لرغبة جسده في البقاء ممددا في الفراش ، مسرعا إلى ترتيب الجمل المكونة لرسالته الغاضبة في ذاكرته ، حتى يتمكن من وضعها صباحا على الورق وبعثها للجريدة ، إن كانت هناك جريدة تقبل نشر معاناته ...
لست الوحيد الذي طرق ، ولا يزال يطرق الأبواب بحثا عن شغل ، كالمسكين المحروم المتسول ، الباحث عن لقمة خبز محروق قد يشبع بها بطنه أو لا يشبعه ، ولست الوحيد من أبناء الفقراء و المحرومين من بين شباب بلادي الذي يكتوي بنار البطالة الحارقة ، ولكنني الوحيد في كربته ، الوحيد في معاناته ، رتقت وأرتق الشراع كي أنجو من بين أمواج الفقر ، والبؤس والضياع و التشرد العاتية ، لكن المرافئ تهرب مني فلا يزداد انسحاقي إلا انسحاقا .. ولدت عام 1968 بلا يوم ولا شهر بعدما حسم غياب إدارة التسجيل و التوثيق الذي لا يتواجد بقريتي في ذلك الأمر، وسط عائلة فقرها مدقع ، زادها اختطاف المنون لوالدتي عام 1975 ولوالدي عام 1985 بؤسا وشقاء ، قاومت .. قاسيت .. عانيت .. تسولت أعطاني هذا كتابا ، وأهداني ذاك قميصا من قمصانه القديمة ،عملت في البناء و الفلاحة و الأوراش ... صبرت و صابرت ، وثابرت إلى أن حصلت على الإجازة في الأدب العربي ، تخصص لسانيات من كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمكناس سنة1990 ، ولم أجد بذلك منفذا ومنقذا للتخلص من معاناتي،لأن قريتي - تولال - المنزوية بهامش منسي محاطة بأربعة جبال عالية ، و صارت كالسجن الجماعي لكل من يقطنها من الإنس والحيوان ، وعلى الرغم من أن السنتين الأخيرتين ويزيد من عمر الإجازة قد قضيتهما بالسجن المدني سيدي سعيد بمكناس كمعتقل سياسي ، على الرغم من ذلك فقد كنت أمل أن تصبح الإجازة سيفا حاسما يقطع حبل السرة بيني وبين ماضي البؤس و الشقاء، لكن الحاكمين قرؤوها بالمصري الفصيح فصارت الإجازة " أجازة " من غير مرتب ، ومند أن خرجت من السجن صحبة ثلاثة عشر رفيقا و أنا أعيش في بطالة قاتلة ، بعدما أمر القاضي بحبسي لمدة ثلاثة سنوات نافدة ، وأخذ فترة من عمري كما تؤخذ صغار الغزالة أمام أعينها فريسة للأسد ...طلبت الخدمة المدنية فأعفوني منها بدون مبرر... اجتزت العديد من المباريات بما فيها أطر وزارة الداخلية التي لم أكن أتصور أني سأضطر لاجتيازها .. كاتبت عدة جهات .. طلبت العمل من عدة مؤسسات تعليمية وغير تعليمية تابعة للخواص دون جدوى ..ومما يزيد ضياعي وتشردي قسوة هو أن لي أختا خادمة في البيوت مند أن تركتها والدتي يتيمة في سنها الخامس من العمر، وأخا لفظته الإعدادية بعدما تعب من قطع مسافة عشرون كيلومترا ذهابا وإيابا حيث يرحل صباحا ليعود مساء مشيا على الأقدام ، مع العلم أنه يعاني من إعاقة برجله اليسرى ، بعدما تعرض لكسر لم يعالج جرحه بعد ، لأن قريتي لم تتوفر على مستوصف طبي للعلاج أو الإرشاد ، كما لم تتوفر آسرتي عن التكاليف المالية للسفر به بحثا عن الطبيب داخل أغوار المدن المخيفة ، ومند ولادته وهو كذلك مثلي عاطلا معطلا عن العمل والمشاركة في الدوران الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد ، رغم أنه طرق بدوره أكثر من باب ووجه أكثر من نداء الإنقاذ إلى العموم ، كان أخرها عبر أمواج إذاعة " طنجة " في ليلة رمضانية ، برنامج استغل معاناته لجمع الأموال من المحسنين وتفريقها بين العاملين بالإذاعة ، كما لنا أخا غير شقيق لا نعلم ما فعلت به الأيام مع زوج أمه الجديد ، أو مع جدته أو خاله، علاوة على أننا لا نملك شهادة للسكنى في هذا الوطن إذ أن رفاقي في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي هم الذين وقعوا التزاما على أن أخي يسكن بمقر الحزب لمدة عقد من الزمان ، متخذا الكراسي الأربعة الخشبية الطويلة سريرا للنوم ، و هو ملزم أن يفتحهم كل صباح حتى يتسنى للمتوافدين من الرفاق استعمالهم للجلوس وتبادل الحوار حول مواضع مختلفة ، فلولا ذلك لما تمكنا من إنجاز بطاقاتنا الوطنية التي تحدد جنسيتنا المغربية ، ولو أن أبي الذي لم يترك لنا غير حصير بال ، وزريبية قديمة قدم الله ، وبعضا من الأواني الفخارية " الكدرة و الكلة والكصعة " ترك لنا مالا لا نقضوا علينا بدعوى الحجر على أموال اليتامى... أمام هذا الوضع فكرت أن أهجر خريطة هذه البلاد التي تأكل كالقطط صغارها ، لكن من أين لي بتكاليف الجواز وتكاليف السفر؟ فكرت بأن أطالب بإسقاط الجنسية عني و اعتباري من الهند أو من السند أو من أي بلاد أخرى، خصوصا وأن النظام المسلط على الحكم في بلادي لا يعرف سوى نفسه ، فيما يرى الملتفين حوله من أبناء الشعب مثلي مجرد عبيد وخدم في وطن يعتبره مجرد ضيعة له ، لكن قناعتي بأن المواطن الوطني الصادق لا يرمي الجنين مع خرقه المتسخة منعتني من ذلك ، بل لقد أحسست رغم إدانتي للإرهاب بتعاطف شديد مع المتورطين في أحداث كل من " فاس ومراكش والدار البيضاء " خصوصا حين علمت أن الفقر و البؤس و الضياع والحرمان والتشرد هي الأسباب التي جعلت منفذي تلك العمليات لقمة سائغة في يد من له الهدف في ضرب البلاد. نعم لقد كاد الفقر أن يكون كفرا بالخالق كما قال "علي بن أبي طالب" لمدة تجاوزت أربعة عشر قرنا ، فكيف لا يكون الفقر سببا في التمرد والعصيان في زمن الفوارق الطبقية الصارخة، زمن التقشف على الشعب، والسخاء الفاحش مع الملكية وكل من يدور بفلكها من خدام وأعوان وعبيد... ولأنني أعتبر المعايير التي وضعها المجلس الوطني للشباب والمستقبل، خصوصا أقدمية الشهادة ، والحالة الاجتماعية ، لم تراع في حالتي ، ولأن الشغل هو الوحيد الكفيل بأن يضمن حقي في الحياة ، وفي المواطنة والسكن ، فإنه لم يبقى أمامي سوى أن أعلن عن دخولي في إضراب لا محدود عن الطعام ، محتفظا لنفسي بحق تحديد التاريخ المناسب لتنفيذ ذلك... سيقول البعض من المستفدين من تدهور الوضع أن الدولة قد قامت بالواجب وأنشأت الصندوق الوطني لتشغيل الشباب ، وسنقول لهؤلاء صحيح ، ولكن ما فائدة ذلك لمن لا يجد حتى ما يصادق به على شهادة الميلاد... كما سيقولون أن المصاريف المالية الكافية لحل المشاكل الاجتماعية غير متوفرة فأضرب لهم مثالا عن الملك الذي يسرف ثمانية عشرة مرة مما تُسرفه الملكية بإنجلترا ، وهو من ينفق من المال العام على حيواناته ما لا ينفق عن الميزانية المخصصة للشؤون الاجتماعية... وعلى كل ولكي أظهر للجميع حسن نيتي ، ولكي لا أتهم بأني أريد إيقاف البيضة في الإناء ، فإنني على استعداد لقبول أي عمل مؤقت ومحدد من حيث الزمن حتى وإن كان مستخدما بالإنعاش الوطني، أو عونا للخدمة بجماعة من الجماعات ، وفي أي مكان من جغرافية البلاد ، قبل قراري الدخول في إضراب لا محدود عن الطعام حتى الموت ، إذ ما معنى البقاء على قيد الحياة بلا أمن ولا كرامة...؟؟
لم يدري بعد كيف بزغ نور الصباح ، لأنه كان منشغلا بترتيبات السفر المادية ، ومن أين يحصل على ثمن التذكرة .. بدت له الطريق إلى العاصمة صعبة على متن حافلة قديمة مهلهلة، تناول قرصا من أحد أصدقائه المرافق له حتى لا يشعر بالدوخة ودوران الرأس، أحس بمرارة القرص في جوفه ، لأنه لم يسبق له أن تناول دواءا ، فحاول أن ينام تجنبا للقيء ، داخل حافلة مماثلة للمرحاض العمومي ، تفوح منها كل أنواع الروائح الكريهة ، فمن رائحة الإبط إلى رائحة القيء و السجائر ، والمخدرات ، و الأكل و الفواكه النتنة ، ثم رائحة الدجاج والأرانب ، والحجل.. من كل الهدايا و الرشاوي التي تصب في قلب العاصمة ، لقضاء الأغراض الضرورية ، لذا من يمتلك مفتاحا لمشكل من المشاكل التي يعاني منها المغربي المغلوب على أمره ، لكن" موحى" لم يحمل معه بين هؤلاء المسافرين إلا عزمه وقراره على تنفيذ إضرابه عن الطعام ببهو وزارة حقوق الإنسان مهما كلفه ثمن ذلك ، حاول النوم وعند كل إغماض تجول الصور أمام مخيلته كأنه في مشهد حقيقي ، صورة والدته التي ماتت وهي حامل في سن لم يتجاوز السابعة والثلاثون من عمرها، ثم صورة والده الذي خطفته المنية في العقد الرابع من عمره ، وصورة أخته وهي شغالة بدون مرتب ، وهي طفلة محرومة من الدراسة و التعلم ، تأكل وحدها من بقايا طعام مشغلها كالقطة بالمطبخ ، مع العلم أنها هي التي تنجز كل شيء.. صور أبناء قريته ونسائها ورجالها ممن لا يعرفون الطريق إلى العاصمة ، وبالتالي كيف لهم أن يعرفوا ما يدور بها من سمسرة وبيع وشراء وصفقات ، ومؤامرات.. ؟ فكانت تلك الصور تزيد من عزمه ، وإرادته على مواصلة نضاله حتى الموت ضد القهر ، والظلم والجوع الذي لحقه ...
استرخى في مقعده الضيق كمن تناول المخدر، شعر بعضلات جسمه وكأنها تذوب لتصير سيلا يهوى تحت أقدام الركاب كبول الأطفال ، الذي يصب بين أقدام السائق كلما تدحرجت وسارت عجلات الحافلة في المنحدر، فجأة استيقظ مذعورا على توقف الحافلة المفاجئ ، التي أحدثت صوتا كالانفجار، وفهم من مرافقه أن السائق هو الذي ضغط على فرامل الحافلة مرة واحدة وبقوة ، كاد الركاب أن يخرجوا من خلالها مرفرفين في الهواء كالطيور، من جراء قوة التصادم مع المجهول ، فطلب" موحى" من مرافقه أن يناوله قرصا أخر يساعده على النوم ، حتى لا يشعر بتوقف الحافلة المخيف مرة أخرى ، لكن مرافقه الذي تعود عن السفر وتحمل عناء الحافلة خاطبه قائلا : أتنزل لتتبول وتأكل شيئا و تشرب مشروبا أم تبقى بالحافلة؟ --
حينئذ رفع موحى رأسه الثقيل و الدائخ ونزل.. شم رائحة الشواء تفوح من مقاهي صغيرة ذات البنايات البسيطة المجاورة للطريق الرئيسي المؤدي للعاصمة ، نظر إلى الدكاكين الصغيرة التي تعرض كل أنواع الأشياء التافهة للبيع ، يتواجد بها تجار تظهر على وجوههم علامات البؤس و الشقاء، وعدم الثقة لا في الحاضر ولا في المستقبل ، ثم أدار عينيه نحو مجزرة يظهر فيها جزارا نحيف الجسد ، ثم تسائل في الخفاء : إن كان ذلك الرجل جزارا حقا ونحيف الجسد مثلي ، فهذا يعني أن أكل اللحوم لا يسمن الجسد ، وإلا لماذا لم يكن هذا الجزار سمينا مثل الثور وهو من يصبح ويمسي على اللحم ؟ أمعن النظر في القطع الضخمة من اللحم المعلقة على بوابة المجزرة ، و الذباب و النحل ، والنمل وكل الحشرات تتسابق في لهف نصيبها من الشحم و اللحم ، متسلقة أطراف الذبيحة المعلقة من أرجلها الخلفية، كما يعلق البوليس السري بالمغرب المعتقلين من أجل انتزاع اعترافاتهم و أقوالهم وشهاداتهم في حادث من الأحداث ، وخاصة السياسية منها، ثم تذكر موحى بلهفة أنه ممن لا يأكلون اللحم إلا في مناسبة عيد الأضحى ، نظرا لارتفاع ثمنه ، وكيف له أن يأكله الآن ؟ وهو من لا يملك إلا ثمن تذكرة سفر إلى العاصمة ذهابا بلا إياب وربما بلا عودة ؟ احتشد الناس ملتفين حول الجزار, وكل واحد منهم يطالبه بشيء ، بلا نظام مصرا على تحقيق طلبه هو الأول دون غيره ، فيظل الجزار مرتبكا بين تعدد الطلبات ، والتشابك بالأيدي بين المشترين كالجياع ، وهو من يحاول التزام الهدوء و الصبر تجنبا للشجار المؤدي إلى العراك مما سيفقده هؤلاء الزبناء ، أنزل خروفا من بين الخرفان المعلقة ، وضعه على قطعة من الخشب التي تغير لونها الطبيعي من جراء تلوثها بالدم و الأوساخ ، فبدأ يمزق أطراف الخروف المسكين بعنف كالغاضب مستعملا سكينا يوحي إلى عصر الفتوحات الإسلامية ، وعصر السيوف لنشر الدعوة.. شعر موحى بالجوع محاولا التهرب من الجلوس جانب مرافقه، الذي كان يفترس قطعة من اللحم بأسنانه الحادة ، وهو يحولها بلسانه يمينا ويسارا بفمه كما يفعل السبع الجائع عند اصطياده الفريسة، فحاول " موحى " أن يدير بصره ثانية صوب المجزرة ، فتوقفت عيناه على صورة الملك بارزة على علو الخرفان المذبوحة والمعلقة، وجهه تتقاسمه الابتسامة التي تخفي العكس ، فكر أن يسأل مرافقه حول سبب تواجد الصورة بالمجزرة ، فخاف أن يغضب مرافقه ، لكون المغاربة يخشون الكلام في السياسة ، لما تجلبه لهم من عذاب و مآسي ، فعاد صوت المذياع إلى ذاكرته عندما سمع عبر الأخبار مرارا أن الملك هو الرياضي الأول ، والمبدع الأول ، و السياسي الأول ، والمتدين الأول... فهو بدون شك الأول في كل شيء ، ولهذا قد يكون هو الجزار الأول المتخصص في مجزرة الشعب . اقترب مرافقه من أن يلتهم كل قطع اللحم الموردة بنيران الجمر وهو يشعر بلذة رائعة ، دون أن يهتم بالحشرات التي تتوقف على شفتيه اللتان تغير لونهما بالشحم نحو البياض، نطق متسائلا :
- رأيتك لم تأكل شيئا هل أنت صائم ؟
وجد موحى في سؤال مرافقه أنه من الضروري الانتقال به إلى موضوع أخر، كمخرج له للهروب من الأسئلة الأخرى المحرجة التي ستتعاقب حديثهما ، فأجاب مسرعا : لست صائما بدليل أنني تناولت القرص الذي منحتني إياه ، ولكني أشعر بوجع في بطني ولا أستطيع أكل أي شيء سوى شربة ماء ، كما أن سائق الحافلة يعتزم مواصلة الطريق فهيا بنا إلى الحافلة كي لا نبقى هنا في منتصف الطريق.
واصلت الحافلة طريقها بالمسافرين ، فأسلم موحى رأسه لزجاج النافذة عسى أن يلتقط أنفاسه من هواء الطبيعة الخارجي، بعدما تلوت الهواء الداخلي للحافلة بكل أنواع الروائح الكريهة، كانت كل المشاهد التي تلتقطها عينه كآلة التصوير تتركز بمخيلته، وتحفر بها مكان كالوشم، وهو يقارنها مع مشاهد قريته المنسية البعيدة كل البعد عن العاصمة وقراراتها المجحفة، و فجأة بدأت الحافلة تخف من السرعة على مقربة من مدخل العاصمة ، حيث يبرز منظر خلاب كالجنة تحيط به كل أنواع النفورات وهي تسقي العشب الأخضر الجميل ، والأشجار مصطفة منظمة نظيفة ، ملونة الأسفل بالبياض، يتكئ على كل واحدة منها رجل بلباس مخزني ، حيث أختلط الدرك بالشرطة و الجنود بالقوات المساعدة و السيمي بالحرص الملكي مما جعل موحى يحس بأمر غريب ما إذ لم يسبق له أن شاهد مثل هذا الإنزال لرجال السلطة ، فأسرع بذلك موجها سؤاله لمرافقه :
- هل وقعت حادثة هناك حتى اجتمع كل ذلك الحشد من أفراد السلطة؟ ضحك مرافقة ضحكة مصطنعة إما استهزاء من المشهد الذي يراه كل زائر للعاصمة ، أو لكل من جرته أقدامه للتجول بالمدن الأخرى حيث يتواجد بكل واحدة منها قصر من قصور الملك السادسة عشر، الشبيهة بثروة الفراعنة ، أم من سذاجة هذا الشاب البدوي المظهر، والهندام والوجه ، المنحدر من الشعب الأمازيغي المعروف بالثقة في الجميع ، والكرم وحسن الضيافة والتعامل المثالي في الخلق ، والصدق بعيدا عن توجهات الدين والملة وما جاءت به الفتوحات ، شاب يضع سؤالا لن يضعه سوى السائح الزائر للمغرب ممن لا يعلمون شيئا عن بطش السلطة هنا ، حتى يتفاجؤون كما تفاجأ موحى ، واصل مرافقه ضحكته و هو يتمتم أحيانا كمن فقد شيئا ، وهو يرتب عقله حتى يتمكن من استعادة السيناريو اليومي من هذه الحياة التعسة ، وفجأة توقفت الحافلة بسرعة مخيفة ، حينها أطل موحى من النافذة عسى أن يعرف شيئا عن سبب توقف الحافلة ، لكن مرافقه جره من ذراعه قائلا: نحن الآن على مقربة من موقع القصر الملكي ، وستتوقف الحافلة كي تتم عملية التفتيش ، و التأكد من بطائق وهاويات الركاب ، فهل حملت معك بطاقتك الوطنية ؟ فكر موحى أن يرد على مرافقه باستغراب مصحوب بشجاعة تظهره على أنه مستعد لقول" لا " حتى في وجه حاكم طاغي ، حين ردد بينه وبين نفسه مبتسما: أنا مغربي أصيل ، وبطاقتي الوطنية هي دمي وشرفي وما يسري على وجهي من براءة وحب للمغاربة الفقراء و المحرومين أمثالي ، وأنا طالب أناضل من أجل تغيير هذا الفساد الذي يسري في جسم الوطن كما تسري الدماء في أجسادنا ، أنا لا أخشى أحد ، كما أنني لست خطيرا على أحد حتى يتم تفتيشي ، الخطير على الوطن هو الملك الذي يخاف من الشعب ، وبذلك يحمي نفسه بهذه الحشود من أفراد السلطة ، وبهذه التهديدات و الممارسات والأساليب القمعية التي تعودنا مواجهتا في رحاب الجامعات و الكليات.. صمت قليلا ، وقرر أن لا يناقش هذا الأمر مع مرافقه بالحافلة ،تجنبا لمفاجئة قد تفسد كل شيء ،خاصة و أن المخبرين و الاستعلامات والمخابرات المغربية متواجدة في كل بيت ومقهى ، ومعهد وجامعة ،وهي في كل مكان كالشيطان ، ثم رد عليه قائلا : يا أخي أنا طالب أعرف كيف أتعامل مع السلطة لغويا حتى لا أثير غضبهم. رد عليه مرافقه : هؤلاء لا يتعاملون باللغة أو بأساليب الفهم وسترى ماذا سيقع لك لو لم تدلي ببطاقته وسيتضاعف عذابك إن قلت أنك طالب ، لأنهم يكرهون الطلبة و النقابيون مثلي!
صعد أربعة أفراد من الدرك الملكي يتقدمهم واحد قوي العضلات سمين البدن كالثور، عريض الأكتاف يحمل نظارتين سوداء اللون وهو يمعن في وجوه الركاب دون أن يعلم أحدهم إلى أين يتجه ببصره وبنظراته الاحتقارية للركاب قبل أن يتفوه فاتحا فمه كالتمساح موجها خطابه للركاب قائلا : من يعرفني منكم فسينفد طلبي حالا لأنه يعلم أنني لا أخاف أحدا ما دمت أقوم بعمل يرضي سيدي الملك المنصور بالله ،فأنا عبده المأمور ، ولن أترك أي واحد منكم يمر دون معرفة من هو ؟ وماذا بحوزته ، ومن يجهلني منكم قد يجرب عذابي وقسوتي ، إذن من لديه شيئا كالمخدرات أو الممنوعات أو الأشياء المهربة ، أو من لا يحمل منكم البطاقة الوطنية فما عليه إلا أن يتكلم قبل أن يتعبني التفتيش فيكون عذاب من لم ينفد أمري مضاعفا وقاسيا.. لحظة أعطى إشارة برأسه لأعوانه ، فبدؤوا ينزلون من لم تكن بحوزته البطاقة الوطنية ،وقد جام غضبهم عندما علموا أن موحى طالبا جامعيا وبحوزته رسالة لتنفيذ إضرابه اللا محدود بالعاصمة .. اختطفوه ، بعدما غطوا رأسه بكيس بلاستيكي .. اقتادوه إلى جهة مجهولة لم يظهر من حينها بعد، وظلت الأسئلة عالقة كما هو الشأن في قضايا كل المختطفين من الذين سبقوه ، ومن الذين سيلحقون به نحو معتقلات سرية في بلاد اسمها الجحيم
علي لهروشي
مواطن مغربي مع وقف التنفيذ
أمستردام هولندا
[email protected]
0031618797058



#علي_لهروشي (هاشتاغ)       Ali_Lahrouchi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات من عمق الذاكرة: صرخة يقظة من القلب إلى الشعوب المحكوم ...
- المغرب بين مطرقة القبيلة العلوية المستبدة ، وسندان الأحزاب ا ...
- أعوان القبيلة العلوية المسلطة تنهج سياسة تشويه وتفريق الأماز ...
- اللإنتخابات المزمع تنظيمها بالمغرب تحت استبداد سلطة القبيلة ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية ؟ ال ...
- ليكون الغرض من إحياء الأمازيغية هو الدفاع عن الإنسانية والهو ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية الجز ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية؟الجز ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية؟الجز ...
- جلسات الاستماع لضحايا الاعتقال السياسي بالمغرب مجرد دعايات ت ...
- البيعة قمة الاستبداد بالمغرب
- المغرب وسياسة الأبارتايد
- الصحراء الغربية بين طموحات الشعب الصحراوي وتخاذل النظام المل ...
- المغرب مجرد تجمع بشري لا علاقة له بمفهوم الدولة
- أسباب ظهور الخلايا الجهادية حاليا ، و الحركات الثورية مستقبل ...
- لبنان ليس هو الحريري ، والحريري ليس هو لبنان فمن ينقذ شعب لب ...
- نداء تاريخي للدعوة لتأسيس الجبهة الثورية الديمقراطية الأمازي ...


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي لهروشي - قصة : الطريق إلى الجحيم