أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - السلطة الأنثوية















المزيد.....


السلطة الأنثوية


ساطع راجي

الحوار المتمدن-العدد: 1977 - 2007 / 7 / 15 - 10:45
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يتجه القص في ( سفر راعوث ) الى تحفيز ثيمة سبق توظيفها في سفر التكوين ( حكاية يهوذا وثامار ) بما يهيء القارئ للمقارنة بين الحكايتين لإستكشاف الثابت الذي أصر السرد الديني على أبقائه ، ليبدو هذا الثابت حقيقة كونية وأنسانية وأخلاقية تتجه الأحداث والشخصيات نحو تحقيقها لتغدو أمراً لا مفر منه ، رغم حرية الشخصيات وتنوعها ، وأهم تغيير يحدث في سفر راعوث هو سيادة الفاعل الأنثوي في الحكاية حيث يقضي الموت على زوج نعمى وأبنيها ويتركها مع كنيتها الأجنبيتين في بلاد غريبة ( موآب ) كانت العائلة اليهودية قد لجأت إليها هرباً من القحط الذي أصاب بيت لحم ( الموطن الأول ) والأنفصال عن المكان ومفارقة الجماعة أحدى اليثم المتكررة في التأريخ اليهودي ويبدو الظرف الأقتصادي هو المهيمن في صياغة العلاقة مع المكان والجماعة وأذا كان الخروج من جماعة ما أمراً ممكناً إلا أن البقاء دون جماعة أمر يكاد يكون مستحيلاً في الأزمنة والمجتمعات التي تسيطر فيها العلاقات القبلية ، ومع ذلك فأن الدخول الى جماعة جديدة أمر محفوف بالشك وأحتمالات الفشل ، والفرد الجديد يحتاج الى زمن طويل للأنصهار في المجموعة وقد لا يحدث هذا في حياته بل قد يحدث في حياة أحفاده ، وأهم وسيلة للدخول الى جماعة عرقية أو عشائرية هي المصاهرة ، فقد تزوج أبنا أليمالك / نعمى من الموآبين الذين أستضافوهم ، من هذا الحدث يأخذ النص الحكائي بالتوسع في مفهوم السلطة الأنثوية ، حيث تكون العلاقة بين المنضمين الجدد للجماعة ( العائلة اليهودية ) والموآبين في موازاة العلاقة الزواجية التي لم يتوسع النص في تفاصيلها ، لتبدو علاقة المصاهرة مهمة بذاتها لا بشخصياتها فتأتي بالعبارة ( فأخذا لهما أمرأتين موآبيتين أسم أحداهما عرفة وأسم الأخرى راعوث ) ( راعوث / 1-5 ) دون الأشارة الى أسم زوج كل واحدة منهما منفرداً ، وهذا الزواج محاولة للأستقرار في المكان الجديد لتكون المرأة الصلة المؤثرة في العلاقة بين الرجل والمكان ، فتبدو شخصاً يميل الى الثبات والأستقرار وهذه الصفات هي التي تحكمت بسلوك نعمى في لحظة تحررها أي بعد موت الرجال ، زوجها أولاً ثم ولديها في فترة قصيرة ، وحوادث الموت وفشل العلاقات الزوجية وعدم الأنجاب تتكرر في سفر راعوث ، مثلما حدث في حكاية يهودا وثامار ، لتبدو الغربة ومفارقة الجماعة ( الدينية / العرقية ) محفوفة بالمخاطر ، وتثبيت هذه القضية وتكرارها في السرد التوراتي يوحي بأن هذا السرد يعمق الشعور بوجود لعنة تلحق بكل من يفارق الجماعة طبعاً دون أن يشير النص الى هذا حرفياً ، ولكن تكرار النتائج المترتبة على مفارقة الجماعة في أكثر من حكاية تؤدي الى تسلل الشعور باللعنة الى اللاوعي الجمعي لتكون صياغة هذا اللاوعي أحدى وظائف السرد الديني وربما أهم تلك الوظائف .
وأذا كان موت الرجال قد حرر نعمى من سلطتهم فأنه منحها في ذات الوقت سلطة أتخاذ القرار فيما يخص حياتها وحياة كنيتها كذلك ، والقرار الأساسي الذي تتخذه نعمى هو العودة الى المكان الأصلي الذي لا يبدو مكاناً بالمعنى الطبيعي بل هو مكان أجتماعي وديني حيث يوجد الأهل والنظام والعناية الآلهية ( فقامت هي وكنتاها ورجعت من بلاد موآب لأنها سمعت في بلاد موآب أن الرب أفتقد شعبه ليعطيهم خبزا ) ( راعوث/ 1-6)، أن تحرر نعمى من سلطة الرجال وحيازتها لهذه السلطة على كنيتها يمثل أنكسارا في المنظومة الثقافية التي أنتجت هذه الشخصية لتبدو غير قادرة على استيعاب هذا الوضع وترغب في التخلص منه بأقصى سرعة ، ليس فقط بالعودة الى المكان الذي تحكمه تلك المنظومة الثقافية وحيث يوجد أقاربها الرجال بل أيضا بالتخلص من الكائنات الخاضعة لسلطتها ( عرفة وراعوث) ، ولكن في نفس الوقت ثمة أدراك ينمو عند ( نعمى) لمعنى السلطة الانثوية ،فهي في الوقت الذي تطلب من كنيتها مفارقتها والعودة الى أهلها ( فقالت نعمى لكنيتها أذهبا أرجعا كل واحدة الى بيت أمها ) ( راعوث/1-8) تحدد نعمى مكان العودة الى ( بيت الأم ) أي أن نعمى تتخلى عن سلطتها للنساء تحديدا ، في حين أن ماحدث في حكاية ( يهودا وثامار ) هو العكس ( فقال يهو ذا لثامار كنته أقعدي أرملة في بيت أبيك ) ( تكوين /38-8) ليتخلى الرجل ( يهوذا ) عن سلطته على المرأة (ثامار ) لرجل أخر ( الأب) ، لكن هذه السلطة الأنثوية التي تمثل انكسارا ثقافيا في ذهنية نعمى تبقى تمثل الوضع المتحول والأستثنائي وغير المستقر وأن الاستقرار يعني سيادة نمط محدد من العلاقات هو علاقة ( رجل/ امرأة ) ( وليعطيكما الرب أن تجدا راحة كل واحدة في بيت رجلها) (راعوث/1-9) فالوضع الطبيعي الوحيد الذي تتصوره نعمى هو وجود المرأة في بيت الرجل أي تحت سلطته فما دام المكان ملكه فهو أيضا منطقة سلطته والدخول أليه يعني الخضوع لهذه السلطة ، ألا أن الخاضعات لهذه السلطة ( عرفة وراعوث) حاولنا التمسك بسلطة نعمى ، ويبدو في الحوار النسوي الذي يسجله سفر راعوث أن المنظومة الثقافية التي أنشأت شخصية نعمى قد أحكمت صياغة هذه الشخصية ليبدو عقلها مستقرا تماما على نمط محدد من العلاقات الاجتماعية والجنسية التي يمكن السماح بها بل والتمسك بتراث الجماعة وتقاليدها وأعرافها رغم الانفصال عن هذه الجماعة أو الابتعاد عنها ، حيث تبرر نعمى لكنيتها استحالة بقاؤهما معها ( فقالت نعمى أرجعا يا بنتي لماذا تذهبان معي . هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونوا لكما رجالا أرجعا يا بنتي وأذهبا لأني شخت عن أن أكون لرجل . وأن قلت لي رجاء أيضاً بأني أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضاً . هل تصبران لهم حتى يكبروا . هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل)( راعوث/11-12) في هذا المقطع تبدي نعمى تقديرا كبيرا لمفاهيم وأشتراطات ثقافتها الدينية والاجتماعية فهي تنحسر على عدم قدرتها على تكوين نسل وتبدي نيتها في الاحتفاظ بلكنيتين لوتوفر لها أبناء ليمارسو ا التقليد اليهودي الذي يجبر الاخ على الزواج بارملة اخية الذي لم ينجب وفي ذات الوقت تبدي نعمى تقدير وفهما لاشتراطات الطبيعة وحاجاتها وعلى الأخص الرغبة الجنسية والتقدير والفهم يتضحان في الحاحها على وضع نفسها في اطار العلاقات الجنسية والأنجاب مما يعني ألحاح هذه الرغبات عليها شخصياً حيث تمنعها الشيخوخة من الحصول على رجل ( أذهبا لأني قد شخت عن أن أكون لرجل ) حتى في الأمنية تحاول التحصن بعذر شرعي هو الأنجاب ، وكأن الممارسة الجنسية لا تهدف إلا الى الأنجاب ، وفهم نعمى للحاجة الجنسية يبدو جديدا ( توراتياً ) وأكثر عمقاً عندما لا تتصور أمكانية الصبر على ألحاح الجنس ، وأن هاتين الكنتين لن تصبرا حتى يكبر الأبناء ويبلغوا سن الزواج ( هل تصبران حتى يكبروا ، هل تنحجزان من أجلهم على أن تكونا لرجل ) وهذا الفهم الأنثوي يتناقض تماماً مع الفهم الذكوري الذي ينتجه يهوذا (فقال يهوذا لثامار كنته أقعدي أرملة في بيت أبيك حتى يكبر شيلة أبني ) ( تكوين / 38-11 ) وقد تبين خطأ فهم يهوذا ولا واقعيته حيث لم تصبر ثامار .
يسجل سفر راعوث ، من خلال شخصية نعمى ، معرفة المرأة بجسدها ، هذه المعرفة التي لا يتصور العقل الذكوري إمكانية وجودها لذلك يطرح نظاماً إجتماعياً أحادي الرؤية والرغبات ، فهو يتصور أن جسد المرأة يمكنه الأنتظار أعواماً ( حتى يكبر الصغار ) ليشبع حاجاته ، وربما يبدو التصور الذكوري أكثر تحققاً في الواقع لكن هذا التحقق أنجزته المنظومة الثقافية التي يتسيدها الرجل وتصوراته ، ونعمى بأعتبارها شخصية خاضعة لهذه المنظومة ونتاج لها ، فأنها في الوقت الذي تعترف بحقيقة الجسد الأنثوي وحاجاته إلا أنها لا ترى إمكانية لإشباع هذه الحاجات إلا بالخضوع لسلطة الرجل ، ربما حد التملك ، فتقول ( شخت عن أكون الرجل ) و ( عن أن تكونا لرجل ) هذا الوضع السلطوي ( التملك ) الذي يمر عبر الزواج هو الوضع الوحيد الذي تقبل به نعمى وتدعو إليه كنتيها ، وإذا كانت عرفة قد قبلت هذا النمط وقبلت الوضع التقليدي للمرأة التي تفضل الأستقرار بين أهلها وفي وطنها ( موآب ) والجلوس في ( بيت أمها ) على أمل ( أن تكون لرجل ) وهذا السلوك التقليدي أكثر أمناً في تحقيق الحاجة الطبيعية وأحتمال النجاح فيه أكبر إلا أن المرأة الأخرى ( راعوث ) تمثل الصورة المضادة للطبيعة والمجتمع عندما تصر على البقاء ضمن علاقة أنثوية محضة ( فقالت راعوث لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت ) ( راعوث /1-16 ) ورغبة راعوث في مرافقة أمرأة أخرى ( نعمى ) وملازمتها تبدو منافية للأعراف الأجتماعية والدينية التي تحكم حياتها فتتخلى عن هذه الأعراف لتقول لنعمى ( شعبك شعبي وإلهك إلهي ) ( راعوث /1-16 ) والتحولات المكانية الدينية / القومية التي تنجزها راعوث تشوش الصورة المتوقعة للمرأة وأذا كانت هذه التحولات توصف بأنها ثقافيه ألا أنها نتجت عن تحول جسدي / نفسي تمثل في تخلي راعوث عن العلاقات الطبيعية مع الرجل عندما رفضت تبريرات نعمى للانفصال عن كنيتها وعندما تقول راعوث ( حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يريد) ( راعوث / 1-17) فأنها تصرح بانها مضطرة لهذه التحولات وإن أرتباطها بـ ( نعمى ) هو قدرها . وهذه التحولات ستبدو لشخص متمسك بعقيدة معينة مجموعة هائلة من التنازلات تجعل من الطرف الأول ( راعوث ) خاضع للطرف الآخر المتمسك بعقيدته ( نعمى ) وخاصة أن هذه العقيدة ( اليهودية ) لا تمارس التبشير خارج عرق معين ( أسرائيل ) فتكون علاقة راعوث بالمجتمع اليهودي تمر عبر نعمى ، أي أن ثمة تبادل في الأدوار حدث بين نعمى وراعوث .
لم يؤشر النص الى نشاط تبشيري قامت به ( نعمى ) وبالتالي لا يمكن الركون الى تفسير ديني لهذه العلاقة بل أن نعمى رفضتها وبررت هذا الرفض بأسباب جنسية أما راعوث ( فلصقت بها ) ( راعوث / 1-14 ) ، أما الكنة الأخرى ( فقبلت عرفة حماتها ) وكانت هذه قبلة وداع ( أنفصال ) في حين فعل راعوث ( ألتصقت ) هو فعل أتصال وتشبث ومحاذاة جسدية ، يكون التعبير اللفظي / النفسي الموازي له على لسان راعوث ( حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت . شعبك شعبي وآلهك آلهي . حيثما مت أموت وهناك أندفن . هكذا يفعل الرب بي وهكذا يريد . أنما الموت يفصل بيني وبينك ) هذا الأسراف في توصيف العاطفة وتوحد الذات الأنثوية في الآخر ( الأنثوي ) ينسف كل تصور عن علاقة ( الكنة والحماة ) ليضع محلها علاقة عاطفية مختلفة وغريبة ترى فيها راعوث ( قدراً ) في حين ترفضها نعمى التي تتمسك بالعلاقات العادية فترفض النمط الجديد الذي تريده راعوث وتعمل على إعادة صياغة شخصية راعوث بما يجعل منها شخصية سوية حسب الفهم التوراتي الذي يرفض تحولات راعوث فيصفها النص بانتماءاتها السابقة ( فرجعت نعمى وراعوث الموآبية ) فالسرد الديني يثبت الشخصية معتمداً سلطة خارجية ( تأليفية ) لا تهتم بالتحولات التي تحققها الشخصية في النص .
والإصحاح الأول من سفر راعوث يبدأ بـ ( … أنه صار جوع في الأرض . فذهب رجل من بيت لحم يهوذا ليتغرب في بلاد موآب … ) وينتهي بـ ( ودخلتا بيت لحم في إبتداء حصاد الشعير ) فعلاقة الأنسان بالمكان تتأثر بثنائية ( الجدب / الخصب ) ، فالجدب هو لحظة الأنفصال تحت ضغط الحاجة الطبيعية ، والخصب هو لحظة الأتصال التي تشيع فيها الحاجات للكائن البشري ، والتصور الأنساني للعلاقات بهذه الصيغة يمتد الى علاقة البشر بعضهم ببعض ، فالعلاقات الأنثوية الخالصة مجدبة ( كما أي علاقة مثلية ) . عكس العلاقات الأنثوية الذكورية الخصبة ليس فقط بالمعنى الجنسي ولكن أيضاً بالمعنى المعيشي والأقتصادي ، فالسيادة الذكورية في المجتمع التقليدي تقوم أساساً على أمتلاك الثروة التي تعني حفظ الحياة بصورة مباشرة حيث تتكون الثروة من المحاصيل الزراعية ( الغذاء ) وعلاقة ( نعمى براعوث ) لا يمكن أستمرارها في مجتمع يعلي من شأن الخصب والتكاثر ويعتبر البركة الأساسية التي يمنحها الرب هي الكثرة والنمو ، لذلك يدفع الإصحاح الثاني بمفهوم ( الذكورة ) بسلوك أقحامي كأنه يخرق حركة السرد الهادئة التي كانت ستؤجل ظهور العنصر الذكري ( بوعز ) حتى لحظة لقاء راعوث به في الحقل ، ( إلا أن الممارسة السردية خضعت لتلك السلطة الخارجية التي تنظم النص وتتحكم به فأندفع أسم بوعز في بداية الإصحاح الثاني ، لتبدو العبارة التي ظهر فيها الأسم ( بوعز ) لحظة توقف سردي ، وهذا الإقحام تنبيه الى مفاهيم الضرورة الطبيعية ووجود الآخر ( الذكر ) الذي يمكنه أغناء الحياة الأنثوية ، كما ينبه الأقحام الذكوري الى وجود نعمى مرة أخرى في النظام الإجتماعي التقليدي الذي يجعل منها إمرأة خاضعة لسلطة رجل ( وكان لنعمى ذو قرابة لرجلها جبار باس من عشيرة أليمالك أسمه بوعز ) والنص يحرص على ذكر قوته ( جبار باس ) وأن علاقة بوعز بـ ( نعمى ) ليست مباشرة بل أنها نتيجة قرابته لزوجها المتوفي ، وهذا أحياء لسلطة الرجل الميت على المرأة الحية من خلال أقاربه الذين سيبقون متحكمين بحياة نعمى لأنهم ( عشيرة ) مما يعني أن نعمى تخضع لسلطة ذكورية جماعية لا نهاية لها .
والأدخال المفاجئ للعنصر الذكوري في حياة ( نعمى / راعوث ) يتزامن مع وقوع الأنفصال الأول بينهما حيث تضطر راعوث للعمل في الحقول لتوفير الطعام ، وحدث الأنفصال ( المؤقت ) بين ( نعمى / راعوث ) أدى الى حدوث أتصال بين ( راعوث / بوعز ) وهذه العلاقة الجديدة تدور أساساً حول الطعام والذي يكون بوعز مصدره الوحيد ، حيث تلتقط راعوث ما يهمله الحاصدون من سنابل في حقل بوعز ، وعندما نقرأ ( فسقطت على وجهها وسجدت الى الأرض وقالت له كيف وجدت نعمة في عينيك حتى تنظر ألي وأنا غريبة ) ( راعوث /2-10 ) والمقطع يسجل رد فعل راعوث على قبول بوعز لها في حقله وعنايته بها التي لا تزيد على السماح لها بألتقاط كمية أكبر من السنابل المهملة ، مما يؤشر حجم الجوع الذي تعرضت أليه ( نعمى / راعوث ) والشعور بالتهديد بأستمرار هذا الجوع ما لم تحصل على أتصال دائم بمصدر الطعام ( بوعز ) وتفترض راعوث أن وجودها كـ ( جارية ) لبوعز يمكن أن يحقق هذه الصلة ( ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي لأنك قد عزيتني وطيب قلب جاريتك وأنا لست كواحدة من جواريك ) ( راعوث / 2-14 ) رغم أن بوعز يوضح لها أن عنايته بها والسماح لها بالألتقاط في حقله هو رد جميل لعنايتها بقريبته ( نعمى ) ، ويكون الطعام هو الصلة الأولى المباشرة بين راعوث وبوعز ( فقال لها بوعز عند وقت الأكل تقدمي الى ههنا وكلي من الخبز وأغمسي لقمتك في الخل . فجلست بجانب الحاصدين فناولها فريكاً فأكلت وشبعت وفضل عنها ) ( راعوث / 2-14 ) وتهديد الجوع يتضح عندما تحتفظ راعوث ببقايا الطعام لـ ( نعمى ) التي تعرف ضرورة التخلص من ذلك التهديد وتطوير العلاقة ببوعز من ( الولي الثاني ) الى صلة مباشرة تؤمن الطعام فتدفع نعمى بالموضوع الجنسي الى سطح النص ( أنه حسن يا بنيتي أن تخرجي مع فتياته حتى لا يقعوا بك في حقل آخر ) ( راعوث / 2-22 ) كأنه تمهيد يمارسه النص ( من خلال نعمى ) لنمط العلاقة الجديدة أو لما يأتي من أحداث تخطط لها نعمى لتحقيق ( الراحة والخير ) ، ( فقالت لها نعمى حماتها يا بنتي ألا ألتمس لك راحة ليكون لك خير ) ( راعوث / 3-1 ) وتضع نعمى خطة ينتجها عقل ( داعر ) تهدف الى ما هو أكثر من فائدة أو منفعة بسيطة تنتجها الدعارة العادية ، فهي توجه راعوث لأستغلال جسدها ( فأغتسلي وتدهني وألبسي ثيابك ) للأيقاع بـ ( بوعز ) وهو في سكره ( ولكن لا تعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الأكل والشرب ومتى أضطجع فأعلمي المكان الذي يضطجع فيه وأدخلي وأكشفي ناحية رجليه وأضطجعي وهو يخبرك بما تعملين ) ( راعوث / 3-5 ) وتتصف لغة نعمى في هذا المقطع بالإيحائية فهي لا تسمي الأشياء باسمائها ، ربما لأنها تعي عدم رغبة راعوث في الرجال ، أو لا تريد الكشف عما يمكن أن تتعرض له راعوث أو الحد الذي ستتوقف عنده الخطة التي أستسلمت لها راعوث تماماً ( فقالت لها كل ما قلت أصنع ) بل أنها توافق على الأستسلام لمشيئة بوعز أيضاً ( وهو يخبرك بما تعملين ) وتكرار فعل الأستسلام يوازيه في النص التأكيد على ( الأكل والشرب ) كما يتكرر في الإصحاح تصوير خضوع راعوث ( وألتفت وأذا بأمرأة مضطجعة عند رجليه ) وهو وضع يؤكد الصورة التي وردت في الأصحاح السابق ( فسقطت على وجهها وسجدت الى الأرض ) وأذا كانت راعوث قد تمنت أن تكون جارية لـ ( بوعز ) في الأصحاح السابق فأنها تعتبر نفسها جارية فعلاً في هذا الأصحاح ( فقال من أنت قالت أنا راعوث أمتك ) ( راعوث / 3-9 ) وحتى بعد الأنتهاء من تنفيذ خطة نعمى عادت راعوث الى وضعها السابق ( فأضطجعت عند رجليه الى الصباح ) ومقابل هذا الخضوع تطالبه راعوث بـ ( فأبسط ذيل ثوبك على أمتك لأنك ولي ) والنص لا يسجل الفعل الجنسي مباشرةً ليترك للقارئ تأويل توسل راعوث على أنه دليل على ذلك الفعل أو أن راعوث قد خدعت بوعز وأستغلت سكره فحسب ، والأقرب أن الممارسة الجنسية قد حدثت فعلاً لكن تطوراً إجتماعياً وأخلاقياً حدث في الفترة بين حكاية ( يهوذا وثامار ) وهذه الحكاية منع ذكر الوقائع بدقة ، إلا أن راعوث كانت قد فهمت أهداف نعمى بحيث لا يمكنها الأعتماد على مجرد أيهام بوعز لتحقيق دخولها الى المجتمع اليهودي وتمتعها بالثروة بصورة رسمية وقد عرفت آليات هذا المجتمع وقيمه التي تحرم العلاقات الجنسية خارج الزواج ، وأن من واجب الولي المحافظة على سمعتها بل والزواج منها .
وفي مقابل كلمة ( أمتك ) التي تستعملها راعوث ، يستعمل بوعز كلمة ( يا بنتي ) التي قد تشير الى التصور الأساسي عند بوعز عن راعوث ، ربما بسبب كبر سنه ( فقال أنك مباركة من الرب يا بنيتي لأنك قد أحسنت معروفك في الأخير أكثر من الأول أذ لم تسعي وراء الشبان فقراء كانوا أو أغنياء ) ( راعوث / 3-10 ) وهذا الكلام يوحي بفهم بوعز لمخطط راعوث والنتائج التي تريدها وحتماً ليس فيها أشباع الرغبة الجنسية بل الحصول على ( الراحة والخير ) ويدرك بوعز أيضاً ضغط الجوع على راعوث ونعمى ( وقالت هذه الستة من الشعير أعطاني لأنه قال لا تجيئي فارغة الى حماتك ) ( راعوث / 3-17 ) فالمكيدة ودور نعمى وهدف خطتها بدت واضحة لبوعز وربما تأثر بقدرة المكيدة على تحقيق الأهداف فقرر أستعمالها لأتمام زواجه من راعوث أو تزويجها من الولي الأول في أسوأ الأحوال ، فيرتب بوعز المشهد التقليدي لإقامة الشرائع اليهودية فيما يخص تركة الميت وأهله ، فيضطر الولي الأول للتنازل عن حقه في الأرض وسلطته على راعوث التي يتم تداولها بإعتبارها جزء من الميراث الذي تركه ( أليمالك ) بل أنها جزء تابع وثانوي حيث تكون الأرض في الصدارة ووجود راعوث ينغص هذا الميراث ويقلل من قيمته فيتم التخلي عنه للولي الثاني ( بوعز ) .
وما يجعل من هذه الممارسة التقليدية مكيدة هو أخفاء بوعز لحقيقة علاقته براعوث وشرع في تزويجها برجل آخر بأصراره المفاجئ على أقامة التقاليد اليهودية وربط حقل أليمالك بالزواج من راعوث ، هذا الربط كان يمكن أن يؤدي الى زواج راعوث من الولي الأول ، وبينما الشيوخ والشعب يشاهدون هذه الأحداث ويشهدون عليها فأنهم يدركون أن ثمة مكيدة في الأمر ويتضح هذا في دعائهم حيث يستذكرون زيجات سابقة تم تدبيرها عبر المكائد ( زواج أسرائيل من راحيل وليئة ) وزواج ( يهوذا وثامار ) وهذه الزيجات بالأضافة الى وجود المكيدة في تنفيذها فأن المجتمع يعتبرها مباركة ومثمرة أيضاً تتم في ذات السلالة المقدسة حيث بوعز هو أحد أحفاد فارص الذي نتج عن زواج ( يهوذا وثامار ) أما زواج ( بوعز / راعوث ) فقد نتج عنه ( عوبيد ) الذي سيكون الجد المباشر لـ ( داود ) .
تصل القراءة هنا الى أن المجتمع أخذ يعتبر المكيدة أمراً مشروعاً طالما هي تحقق أهداف يعتبرها المجتمع ضرورية لإستمراره وقوته ( الثروة ، الزواج ، التكاثر ، حفظ النسب ) حتى لو تطلب إتمام المكيدة أقتراف فعل محرم ( الزنا ، الكذب ) والنص الحكائي الديني يحاول تبرير تلك الأفعال عبر توفير الغطاء الشرعي / التقليدي الذي يحكم سلوك الشخصيات ( لأقيم أسم الميت على ميراثه ولا ينقرض أسم الميت من بين أخوته ومن باب مكانه ) ( راعوث /4-10 ) رغم أن هذا النص ذاته يسجل نسب عوبيد الى بوعز ومتجاهلاً أليمالك ، إلا أن نعمى تحقق أهدافها الشخصية حيث تعتبر جاراتها أن الطفل هو حفيدها الذي تترتب عليه واجبات تجاهها ( فقالت النساء لنعمى مبارك الرب الذي لم يعدمك ولياً اليوم لكي يدعى أسمه في أسرائيل . ويكون ذلك لإرجاع نفس وإعالة شيبتك ) ( راعوث / 4-14 ) فحياة نعمى مرتبطة دائماً بـ ( ذكر ) حتى لو كان طفلاً فأنه سيكون صلة توفر أسباب العيش .
ورغم أن السفر بأسم راعوث إلا أن الشخصية الأساسية هي لـ ( نعمى ) وحتى الشخصية الثانية حصل عليها بوعز ، وتبدو راعوث موضوعاً للنص أكثر مما هي شخصية فاعلة فيه حيث تمسك الشخصيات اليهودية ( نعمى / بوعز ) بخيوط الأحداث وتتحكم بها ، بل أنهما يشتركان في أعادة صياغة شخصية راعوث ، تلك المرأة الأجنبية الوثنية ، بما يجعلها خاضعة للمجتمع حتى تقبل بصيغة تجعل منها تابعة لحقل يشتريه بوعز فيقول ( وكذا راعوث الموآبية أمرأة محلون قد أشتريتها لي أمرأة ) ( راعوث / 4-10 ) ، والتحولات التي طرأت على شخصية راعوث لتنتقل من أمراة متحررة في تكوين علاقاتها الإجتماعية ، عبر رفضها للزواج وأصرارها على مرافقة نعمى ومغادرة موطنها الأصلي ، الى أمرأة تخضع بسهولة لخطط الآخرين وتقبل بالزواج والأستقرار في علاقة تقوم على ( الشراء ) وتكون فيها السلطة مطلقة للرجل ، بل وقبولها حتى بأن تكون جارية ، هذه التحولات نتجت عن المتغيرات التالية :
1. متغير أقتصادي ، حيث تتعرض راعوث لضغط الجوع عندما تنتقل من مكان خصب ( موآب ) الى آخر مجدب ( بيت لحم ) .
2. متغير ديني ، وهو أنتقال راعوث من مجتمع وثني يترك مساحة واسعة من الحرية الفردية الى مجتمع يحكمه دين صارم وتفصيلي يقلص حرية الأفراد .
3. متغير شخصي ، فالأنجذاب العاطفي الذي يسيطر على راعوث تجاه شخصية نعمى جعلها تحت تأثير هذه الشخصية القوية التي تؤمن بأفكار ثابتة عن الجنس والثروة والنسب .
يسجل سفر راعوث عملية تدجين الكائن الوثني وهو في صورة أنثوية متحررة ( راعوث ) وهذه الشخصية تستدعي أن تكون الشخصية المضادة ( أداة التدجين ) أنثوية أيضاً ، وما يقوله النص عبر تشكيل الشخصيات بهذا التوزيع ، هو أن القيم والأفكار التي يبثها النص هي قيم وأفكار نافعة وحقيقية وعامة وكونية تؤمن بها النساء وتعمل بها وتنتفع منها مثلما يحدث مع الرجال ، ولأن النص الحكائي ( خاصة الشعبي ) يقوم على حركة متناوبة ( الأستقرار ، الأختلال ، أعادة الأستقرار ) فأن النهاية في هذا التقسيم تكون أشارة الى الوضع الطبيعي والمتوازن الذي ينبغي أن تسير عليه الحياة وبأنه المفيد لكل الأطراف وهذه المواصفات يوحي بها النص حين ينتهي عند أقامة العلاقة الزوجية وتسجيل ما تثمره عنه من أطفال وأستمرار السلالة ، فتكون العلاقة المباركة الوحيدة والقابلة للأستمرار .
والمدخل الأساسي لتحقيق فهم النص ، هو أداة التدجين الأنثوية ( نعمى ) التي تبدو كأنها تتمتع بسلطة حقيقية ، في حين أنها مجرد أداة أنتجها مجتمع ذكوري أخضعها لأشتراطاته وعرضها لضغوطه وربط حياتها به وأقنعها بأن تحقيق أحلامها ورغباتها ( التي وضعها هو لها ) لا يتم إلا بالقبول بالمجتمع على حاله والعمل للمحافظة عليه أيضاً .



#ساطع_راجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احتكار ثقافي
- فوضى السلاح
- قلق في الجوار
- الحلقة الاقتصادية المفرغة
- الساعة الامريكية
- تحولات النص المقدس
- (تدوين الفوضى (فعالية النص وانكتابية المجتمع
- حمى الرئاسة
- حالة ضعف
- قسوة
- سياسة الصوت العالي
- الحكم الثلاثي
- سلاح الانقلابات
- تحديات جديدة
- دور العشيرة …دور الدولة
- مفارقات اسطنبول
- العامل الأمريكي


المزيد.....




- تحقيق لـCNN.. قوات الدعم السريع تطلق العنان لحملة إرهاب وترو ...
- ستتم إعادتهم لغزة.. مراسل CNN ينقل معاناة أمهات وأطفالهن الر ...
- أردوغان يريد أن يكمل -ما تبقى من أعمال في سوريا-
- استسلام مجموعة جديدة من جنود كييف للجيش الروسي (فيديو)
- عودوا إلى الواقع! لن نستطيع التخلص من النفط والغاز
- اللقاء بين ترامب وماسك - مجرد وجبة إفطار!
- -غباء مستفحل أو صفاقة-.. مدفيديف يفسر دوافع تصريحات باريس وب ...
- باشينيان ينضم إلى مهنئي بوتين
- صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 31819 قتيلا ...
- هل مات الملك تشارلز الثالث؟ إشاعة كاذبة مصدرها وسائل إعلام ر ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع راجي - السلطة الأنثوية