أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - جدلية الزمان والمكان في رائحة الغائب















المزيد.....

جدلية الزمان والمكان في رائحة الغائب


هويدا صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1969 - 2007 / 7 / 7 - 11:04
المحور: الادب والفن
    


إن المكان كمدخل لدراسة عمل سردي ينطوي على مغامرة كبيرة، لان المكان يتخلق مع هذه الأعمال، ويتشكل في فضاءاتها ، ولأن المكان أهم ما ينتظم العناصر الإبداعية، ويشكل منظما لا يمكن الابتعاد عن تأثيره، سيما في عمل روائي ، فالزمان والشخصيات والسمات النفسية لها ، كل هذه لا تتجلي ولا تتحرك إلا داخل المكان، والرواية نص مكاني وهو مدخل استراتيجي للتعامل مع النصوص، والبحث في الدلالات المعمقة للحضور المكاني يحيلنا إلي أهمية البحث عن شعرية المكان ، لأن الأمكنة ليست متشابهة ، بل متمايزة فيما بينها وتتغير ، وتتغير معها هويتها ، وتتغير سيرة الشخوص فيها ، وتتفاوت سطوة المكان على الإنسان تفاوتا كميا ونوعيا، ومن هنا اكتسبت الأماكن في علاقاتها خصوصية تشكلت ، حتى صارت تلك الآثار جزءا من الوعي العام للإنسان في ذلك المكان، بهذه الطروحات يقودنا المؤلف عبد الله السلايمي إلى البحث عن أثر المكان البدوي في رواية رائحة الغائب لأن الرواية كما يرى بحكم طبيعتها الفنية هي المرشحة للكشف عن أبعاد العلاقة بين الإنسان و الصحراء ، وتجلياتها في الوعي الإنساني والإبداع الأدبي.
إن المكان من أهم عناصر الخطاب السردي باعتباره ملفوظا حكائيا قائما بذاته ، وقد يشكل المكان أهم العناصر المكونة للنص السردي وقد درس جاستون باشلار رمزية الأماكن وارتباطها بالسارد والشخوص ، في جميع تجلياتها وتعارضاتها في كتابه "شعرية المكان"
تناول الخطاب الروائي كثيرا ثنائية الريف والمدينة ، مثلت المدينة المتن والريف أو القرية الهامش ، المدينة هي المسيطرة بثقافتها وسيطرتها ، وتقوم العلاقة بينهما في الثقافة العربية على الصراع وعلي الإزاحة ، فغدت المدينة هي الأقوى بما تمثله من سيطرة قوية ومركزية على تسيير الشأن الحياتي ، في حين يبقى الريف هامشا في هذه العلاقة، فكيف تجلت ثنائية : الريف والمدينة كمكان روائي في " رائحة الغائب "؟
ولكن ثم مكان ثالث لم يتم تناوله بكثرة في السرد الروائي ، فالرواية تدور بين فضائين يمثلان أيضا المتن والهامش
فضاء المدينة وإن كانت مدينة هامشية هي الأخري وهي مدينة العريش ، وكذلك الفضاء الآخر المكون الأساسي للرواية هو مكان الصحراء ، أو البادية
تقوم بنية المكان في هذه الرواية على مكان حاضر دوما في ذاكرة السرد ، فالذات الساردة تنتصر له دوما ، فهو الذي يمثل البراءة والطفولة ، هو الحاضر والمحتل للكادر التصويري طوال الوقت ........ يبدأ الكاتب روايته بمقولة لكويلهو من رواية الخيميائي دالة بشكل لافت عن ارتباط الكاتب بمكانه واعتزازه به ، رغم أنه لم يفلح في الإمساك بتفاصيل خاصة تميز هذا المكان وتعطيه هذا التميز يقول الكاتب كمدخل لرواية :
" اشتر قطيعا من الماشية ،واسرح في العالم حتي اليوم الذي تدرك فيه أن قلعتنا هي الأكثر أهمية ، وأن نساءنا هن الأجمل "
يطرح المكان نفسه بشكل واضح في الصفحات الأولي من الرواية ، ثم يتواري لتظهر جدلية أخري تنتظم الرواية وهي جدلية الزمان ، وأثرها علي الذات في هذا العمل السردي يقول في الصفحة الأولي من روايته :
" زحفت الشمس متسلقة جدار ضحاها ، جاس الصمت بدوائر وهجها الموغل في فضاء الرحابة بينما تجوس أحلام صقر برأسه وقد فرغ للتو من تغطية جرن الشعير ..........ولأن الصحراء أرضعتهم كصقورها الحذر ، يعرف أناسها وقد أتقنوا لغتها كيف يحبون الصحراء )
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا العمل الروائي ... هل استطاع السارد أن يقبض علي تفاصيل المكان التي تعطيه خصوصيته وتميزه عن مجتمع المتن / المدينة ؟
في الواقع انشغل السارد برصد سيرة الإنسان في المكان عن رصد خصوصية المكان ذاته ...
في رواية تدور أحداثها في البادية كنت أتوقع أن يقدم لي الكاتب رصدا وصفيا لهوية البادية التي تختلف حتما عن هوية المدينة ...
ولكن لأن الكاتب منشغل بعنصر آخر هو وطأة الزمان علي الإنسان البدوي ، ورصد فترة مثلت زمنا مفارقا في حياة العرب بعامة والبدو بخاصة وهي فترة ما بعد 1967 ، فقد انشغل الكاتب عن خصوصية وهوية المكان ... ومع ذلك أشار للحدث فقط دون تفاصيل ، كل شيئ يشير إليه بلمحات عابرة دون تفاصيل يقول : " ما كاد يفعل حتي انبطح صارخا من هول ذعر سرعان ما احتل عيون الرجال ، اشرأبت أعناقهم ، وقد شخصت أبصارهم يرقبون أسراب طائرات مغيرة تلقي بحممها فوق رؤوس أرتال الجنود المرابطة علي مقربة منهم ، دوت انفجارات زلزلت الأرض تحت أقدامهم ، فأضحوا فرائس لحيرة عصفت برؤوسهم عن سر موت دفاعات الجنود " ...
ولأن الرحيل ثقافة البدو ، فقد ارتحلوا فرارا من هزيمة عصفت برؤوسهم قبل أن تعصف بأجسادهم ، فروا للكثبان الرملية بمحاذاة البحر ، احتموا بأشجار الأثل حتي تقيهم جحيما انثال من بطون الطائرات المغيرة ..............
طبعا الهزيمة والانكسار المسكوت عنه في الرواية ، جاء في جمل قليلة ولكنها دالة " فأضحوا فرائس لحيرة عصفت برؤوسهم عن سر موت دفاعات الجنود " ...

ومع ذلك يظل العمل الروائي " رائحة الغائب " يعطي للمكان أهمية كبيرة ، لكونه يؤطر أحداث ووقائع الرواية ، ويحيل على أمكنة واقعية معروفة مثل غزة والعريش وغيرها من الأماكن علاوة على كون هذه الأمكنة تغني الرواية بدلالاتها الواقعية والرمزية، كما أنها تحفز الذاكرة على الاسترجاع .
منذ المقدمة الأولي يطرح الكاتب سؤال كتابته ورؤيته للعالم ، فيتوق إلي عالم آخر ربما يأتي من خلال كلماته وسطوره ، وربما يأتي مع ربيع يبدد وحشة الصحراء ، وينير ظلمتها بشموسه ، هو منذ البدء يراهن علي الكتابة التي يطرد بها وحشة مكانه المميز والخاص جدا وهو الصحراء ، ويأتي له بربيع يبدو مستحيلا ، ويبدد فصولا يتمني ألا تعود ...
ما الذي جعل الصحراء موحشة هكذا برأي الكاتب ؟ ما الذي أفقد مكانه هويته الخاصة ... لماذا نسي وهو الممتلئ حبا للمكان ـ لماذا اشغل عنه ليرصد حركة الإنسان في الزمان ؟
سؤال ألح علي منذ قرأت الصفحات الأولي للرواية ...
إن الصحراء تشكل فضاء البؤس لهؤلاء الذين ينتظرون الغائب عله يعود ، وحين يعود إليهم يعود منكسرا ، أفقده المستعمر أعز ما يملك الرجل ، أفقده رجولته وفحولته الجنسية ، مما جعله ينكسر في عين امرأته ... إنه الحلم المجهض والمصير الذي تحول إليه من حياة العز والكرامة في القرية إلى حياة البؤس والحرمان في سجن المستعمر ، بعد أن عاد تملكه الحنين إلى الأرض / المرأة ، وزراعتها ، جعل انكساره يزداد وطأة .
تقدم لنا الرواية انعكاسات هذا الفضاء الذي سببته النكسة وازدياد طغيان المحتل علي القرية جميعها ، فداخل السجن يغدو الزمن ميتا ويتجاوز مقاساته الطبيعية ، وينعدم فيه الشرط الإنساني، فيصير الزمن نفسيا مثقلا بالانكسارات ، ويمثل فيه زمن الزيارة استثناء ، لذا يتم الحرص عليه وعلى تملكه أطول مدة ، غير أن المؤلم أن مكانه محدود وزمانه محدود أيضا في فترة الزيارة ،
فصوت الجندي تعلن انتهاء الزيارة .
ويقيم الكاتب لعبة ماهرة حين يجعل تعويض الهزيمة والانكسار لا يتم إلا عبر الحلم ، فالصغير نور حين ذهب لزيارة صقر في السجن ، وبعد انتهاء الزيارة يقيم طقوس حلم ينتصر فيه للذات ضد الآخر الإسرائيلي ، فيتخيل نفسه وقد حرر أباه بعفوية وبراءة طفل ، هو حلم تعويضي يقول :
" سرت في جسده النحيل رجفة وقد خال الجنود يركلون أباه بينما يصرخ مستغيثا ، بلا وعي كور قبضة يده ، سددها إلي وجه الجندي الواقف علي باب الزنزانة ، فأفقده الوعي ، واصل تقدمه في قوة شمشونية لا يعرف من أين استمدها ، نظر إلي الجندي الآخر في تحد ، تراجع الجندي أمامه ذعرا يتوسله للعفو حتي التصق بركن الزنزانة ، انقض نور قابضا علي عنقه في ثورة حتي هلك في يده بينما فر الآخر بعد أن أفاق هلعا ، اندفع يحتضنه أبوه في زهو ، طرز وجهه بالقبلات ، جذبه نور خارجا ، أفسح الجنود لهما الطريق وقد التصقوا بالحوائط في ذعر كعصيان يابسة يتلمسون النجاة ، ما إن وصلا إلي بوابة السجن ، حتي أطلقا لأقدامهما العنان هاربين .. اصطدمت يسراه بجانب عمه ، صدمته اليقظة ، فنزفت دموعه في حرقة ، أحاطه عمه بذراعه في حنو كبير رغم كيانه المتداعي من الداخل " .
على الرغم من أن (المكان) قد احتلّ حيّزاً كبيراً في شعرنا العربي, في المقدمات الطللية, وفي وصف الطبيعة الجامدة والمتحركة, فإنه لم يحظَ بدراسات هامة في السرديات العربية إلا أن التقنيات الحداثية للرواية فرضت الاهتمام به , فبدأ يحتلّ مكاناً هاماً في السرد الروائي, ذلك أنه لا أحداث ولا شخصيات يمكن أن تلعب دورها في الفراغ دون مكان. ومن هنا تأتي أهمية المكان, ليس كخلفية للأحداث فحسب, وبل وكعنصر حكائي قائم بذاته, إلى جانب العناصر الفنية الأخرى المكوّنة للسرد الروائي.
يرصد الكاتب في روايته فترة ما بعد النكسة وحتي فترة عقد معاهدة السلام في 1977 ، مرورا طبعا بمعاناة البدو بعد النكسة ، ورصد فرحتهم بانتصار أكتوبر ، ثم ذهاب السادات إلي الكنيست الإسرائيلي وعقد معاهدات السلام ... ولكن الرصد لهذه الأحداث الجسام وتأثيرها السلبي والإيجابي علي البدو بالذات جاء رصدا من الخارج .. سواء تفاصيل الحدث التاريخي أو الآثار النفسية لمن عايش هذه الأحداث من البدو الذين يُفترض أنهم أقرب من اكتوي بنار الهزيمة ، ولم يجن بأي حال ثمار النصر ... يقول في رصد ما حدث في 1967 : " شخصت أبصارهم يرقبون أسراب طائرات مغيرة تلقي بحممها فوق رءوس أرتال الجنود المرابطة علي مقربة منهم "
ويقول في موضع آخر عن انتصار أكتوبر ، وتأتي اللحظة التي تحملوا ثمنها طويلا مذلة ومهانة من المحتل وجنوده : " انثالت بيانات النصر تثلج صدورهم وقد تحلقوا حول المذياع غير مبالين بعربات المحتل وجنوده ،وقد أخذوا يجوبون البلاد يثيرون الرعب بين أهلها " . ويصور حلم العودة .. عودة البدو إلي ديارهم بعد النصر وقد تحقق :
" بدت العريش كعروس استردت شرفها ،عمت الفرحة ربوعها ، رفرفت الأعلام خفاقة فوق أسطح منازلها ،ومن خلف جدران طينية تنبعج منها أبواب خشبية عالية وواطئة ،مضت الناس مترعة بمشاعر حنين فياضة لم تغادرهم طيلة أعوام بينما تنطق عيونهم بآمال في غد ربما تحمل شمسه نسائمها " .
المسكوت عنه واللامقول في رائحة الغائب :
يطرح الكاتب في روايته قضايا كثيرة مسكوت عنها ، تشغل باله كبدوي ، وتطرح صورة الأنا وعلاقتها بالآخر ومن هذه القضايا
1 ـ صورة المرأة في ثقافة الصحراء والتي تجلت في هذه الرواية في أكثر من موقف دال والتي جاءت نمطية لا تختلف عما طرح في الثقافة البدوية كما سنوضح :
المرأة البدوية مشاركة تاريخيا وحاضرا في الحياة الاقتصادية والبيتية ,إلا إنها بقيت مُقيدة بين تقاليد المجتمع وقضايا اجتماعية أخرى جعلتها تتحرك فقط في فلك ما يفرضه الرجل والمجتمع من قيود ومُعوقات جعلت تَطورها رهينة للقرار العائلي ومساحة الحركة المسموح بها اجتماعيا وعائليا ضمن سلسلة القهر المفروض عليها سواء من قبل الأب أو الأم أو الابن والعائلة والمجتمع ضمن تركيبه سُلطوية داخل البيت وخارجه وتبرير ذلك القهر بحجة العادات والتقاليد مما يحيل بالضرورة إلي عدم تطوير حالة المرأة ووضعيتها ، بل تُحاصر بشتي وسائل المحاصرة ، وقد تشكل الأم ثقافة الدونية التي ترزح تحتها المرأة ، فالأم والجدة حارسة كهنوت التحيز ضد المرأة ، منذ الصغر تغرس في البنت ثقافة الدونية وتوطئها حتي ترضي بهذه الثقافة ، ولا تكتفي بذلك ، بل تغرس أيضا في الولد الذكر مقولات ترسخ لهذه الدونية مثل قول الأمهات ( عيب أنت رجل ، الرجل لا يفعل كذا ، هو أنت بنت ؟! ) .
كذلك هناك كارثة حقيقية تتعرض لها المرأة في تلك الثقافة وهي عدم أهليتها لاختيار الزوج ، بل وفرض زواج ابن العم عليها ،
هذه الصورة وضحت جليا في هذه الرواية ، رغم أن شاغل الرواية الأول هو حقوقي بالدرجة الأولي كما سنوضح لاحقا ، إلا أن هذه الحقوق لا تعتني بالمرأة ، ولا تنتصر لها ، يقول الكاتب : " بعد أن أوجعها ضربا ، أقسم صقر بأنه سوف يزج بها إلي أول طارق لبابها تخلصا من بلائها قبل أن تجلب له الفضيحة والعار لذا ما إن تقدم فالح لخطبتها حتي وافق أبوها "
يزوج صقر سعيدة لمجرد أن تحدثت مع شاب آخر من عشيرة مجاورة ، ويقسم أن يزوجها لفالح رغم عدم احترامه له إلا أنه يعترف لزوجته أن فالح بارك الله فيه لم عرضه من الانتهاك .. وحين تتعب سعيدة مع فالح وتفر منه إلي بيت أبيها يعيدها الأب ذليلة منكسرة ويرفض تطليقها منه ، حتي أنها تفر لاجئة إلي شيخ عشيرة مجاورة وتطلب ما سماه الكاتب تطنيب أي لجوء لحمي الشيخ ، وطبعا بناء علي هذا الالتجاء ، يطقلها فالح ، ولكنها تعيش في ذل وانكسار ، وتدفع ضريبة التمرد وطلب الطلاق يقول الكاتب :
" ـ وليتكو يا عرب كارهة جوزهي وطالبة الطلاق .
ـ كان الأصول يا أتشاور أكبارها يا شيخ .. قال صقر محتدا .
....
فأمامهم خيارين : إما يلبوا لطنيبته مطلبها أو اللحوء إلي القضاء العرفي ليفصل بينهم ............. ولبوا مطلبه مرغمين ، فعادت سعيدة إلي بيت أبيها مطأطأة الرأس وعاشت ذليلة ......" .
2 ـ القضية الثانية صورة الأنا والآخر في الرواية :
تطرح الرواية مفارقتين شديدتي الدلالة علي العلاقة بين الأنا ( الذات البدوية ) والآخر / الفلاح المصري
المفارقة الأولي نظرة التعالي التي ينظر بها البدوي إلي ذاته والدونية والتحقير التي ينظر بها إلي الآخر
البدوي يري نفسه أفضل وأعلي قيمة من الفلاح ، ويرفض مثلا أن يزوج ابنته من فلاح حتي لو كان هذا الفلاح ذا شأن ، وهذه صورة متوارثة منذ الهكسوس الذين جاءوا من أرض كنعان واحتلوا مصر ، وحقروا من شأن الفراعنة أ واعتبروهم فلاحين ، وسخرية أبي فيس من آلهة وعادات المصريين ليست ببعيدة عن الأذهان ...............
يطرح الكاتب هذه النظرة المفارقة حينما يفكر عواد من الزواج بفلاحة من المدينة ، يرفض شديد بعنف وقسوة لولا تدخل صقر وإصراره علي مساعدة أخيه في الزواج من ندي ... طبعا مسموح قليلا خرق هذا العرف بزواج البدوي من فلاحة .. ولكن مرفوض تماما زواج البدوية من فلاح يقول الكاتب : " أخذ صقر ينظر بعيدا يبحث في خزي عن ردود مقنعة لسياط أسئلة سوف تمطره بها جماعته ، واتقاء لنظرات ازدراء محقونة بتبرئ من فعل مشين سوف يودي بسمعة العشيرة ، وقطعا لا يقدم عليها إلا خارج عن تقاليد الصحراء .. اتسعت عينا صقر محدقا في اللاشيء وقد خال أخاه شديدا يقول مقطبا كعادته في ثورة كأنه يعلن بدوره براءته من فعل أخيه :
ـ أخوك ما لقي في القبيلة كلهي أحسن من الفلاحة هيذي ؟ " .
النظرة الأخري التي أيضا تمثل مفارقة تتضح في نظر الآخر / أهل القاهرة والسلطة التي يمثلونها للبدوي إلي البدوي ذاته ، والعجيب أنها نفس نظرة التحقير ، وكأن التحقير متبادلا ...
حين ذهب الشيخ فراج ليدخل ابنه الكلية الحربية بعد تفوقه في الثانوية العامة تحقيقا لحلم قديم صاحب النكسة وما فيها من مهانة وعار ، ذلك الحلم أن يصبح صالح بن الشيخ فراج ضابطا ...
وساعة الكشف الطبي ينظر إليه الضابط أو الطبيب الذي يعرف أنه بدوي من سيناء نظرة أجملها الكاتب في عبارة بسيطة : "
ـ من أين ؟
أخبره صالح ، حدجه الضابط وقد علت شفتيه ابتسامة ساخرة بنظرة احتقار اعتصرت الشاب من دهماء شعره حتي أخمص قدميه ، بينما وقف صالح ينظر إليه متوجسا وقد جف حلقه ، دفع الضابط إلي صالح بأوراقه وهو يقول في قرف :
ـ غير لائق ... هذا ما ينقصنا .. !! .
3 ـ القضية الثالثة والتي ربما تكون مطروحة علي الساحة السياسية والأمنية الآن علاقة البدو بالحكومة المصرية ... والتشكيك في علاقتهم باليهود .. واتهامهم بالخيانة والتواطؤ ... وقد طرحها الكاتب بحيادية تامة .. فلم ينف أن هناك من البدو من هم خانوا مصر ، وتواطؤ مع الآخر الإسرائيلي مثل معروف ، وهناك من جاهد وحارب وضحي بنفسه من أجل مصر ، وتمسك بانتمائه لمصر مثل الشيخ فراج ، والسخرية المفجعة التي يطرحها الكاتب أن الحكومة المصرية بعد الحرب لم تفرق بين من هو خائن ومن هو كافح وحارب المحتل ، ويفجؤنا الكاتب بتكريم السلطة للنموذجين معا ، وبنفس الطريقة ، فها هو الشيخ فراج ومعروف كلاهما يكرمه السادات ويعطيه شهادة تقدير وراديو ملفوف في علبة قطيفة .
وساعتها يصاب الشيخ بالانكسار مرتين :
مرة حين تساوي مع الخائن معروف الذي يدعي أنه فقد ساقه في الكفاح والجهاد ضد المحتل رغم أنه خان وباع واستعلي علي أبناء عشيرته ..
والثانية والموقف الآخر الذي كسره وجعله يشعر بالانسحاق هو رفض ابنه المهين في الكلية الحربية .
وبعد رصد هذه الظواهر الثقافية في رواية : " رائحة الغائب " بقي لنا أن نتساءل ، هل تفكك الرواية وعدم وجود حبكة قوية فيها ، مقصود فنيا من الكاتب ، أم قلة وعي بتقنيات الرواية ، وجماليتها ؟
في الحقيقة أري أن هذا التفكيك الذي تجلي في الرواية وافتقادها للحبكة الدرامية إنما يعود إلي نسق التفكير الذي يرسخ في لا وعي النص .
الحبكة الأرسطية والتصاعد الدرامي بالشكل التقليدي ، إنما هو ابن نسق تفكير معقد ومنظم في آن ، نسق تفكير ابن المدينة ..
لكن البيئة البدوية الصحراوية لها نسق مختلف ، فهي بيئة تطرح البساطة ورحابة العالم ، تطرح نسق الفراغ أكثر منها شغل الفراغ
، فمن الطبيعي أن تأتي الرواية تفتقد إلي الحبكة وغيرها من الجماليات التقليدية للسرد الروائي ، وأنا حين أرصد ذلك لا أعتبره عيبا ، بل أعتبره طرح يحيل إلي نسق من التفكير ابن شرعي لهذه البيئة .
هويدا صالح
القاهرة
يونيو 2007



#هويدا_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسئلة القصة القصيرة
- سينما السبعينيات وحقوق الإنسان
- النساء يبحثن عن كوي للضوء ما بين قاسم أمين والطاهر حداد
- قراءة في قصص ذاكرة الجسد
- المرأة الحزينة والمرأة الحالمة دوما
- الشيخ أحمد
- كوي صغيرة نبص من خلالها علي أعماق الأنثي المنسية
- أفضية الذات / عندما يصبح النقد موازياً
- رجل وحيد وشجرة عارية
- سبع مقاطع من يوميات شجرة عارية
- من يوميات شجرة عارية
- تزييف الوعي
- الواقف في مفرق التيه
- جل أسطوري
- نجيب محفوظ بين الرمز الفني والواقعي
- انعتاق
- نهاية الأضداد وبداية الإعلام غير المحايد
- الأستاذ منصور
- الموسيقي الكلاسيكية / عصر الباروك
- هو يحب الموسيقي ، لكنه ليس حالما تماما


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - جدلية الزمان والمكان في رائحة الغائب