أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - سلام إبراهيم - طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع















المزيد.....

طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 1962 - 2007 / 6 / 30 - 07:54
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


لم أكن أظن يوما بأني سأمارس مهنة التعليم لطلبة صغار، إذ لم أدرس التعليم، لكن ما شجعني على خوض هذه المغامرة علاقتي بالحرف والكتابة منذ صباي وحتى خريف عمري. يضاف إلى تجربة تعليم بنتي ـ همسة ـ التي وصلت الدنمارك وعمرها عام وأبني ـ صلاح ـ الذي وُلِدَ هنا في الدنمارك عبر جهدٍ خالص بدأ في وقت مبكر بسرد قصة على مسامعهما كل ليلة في محاولة لتعود آذانهم على إيقاع العربية، وفعلا وجدت التجربة مفيدة. فرغم عيشهم في ضاحية تبعد عن Roskilde مدينة ، وفي وسط دنمركي خالص.. لم أجد صعوبة في تعليمهما العربية.
بدأت رحلتي كمعلم في صف العربية التابع للشبكة العراقية في الدنمارك. أول مرة أتعامل مع أكثر من أربعة وعشرين تلميذ وتلميذة متفاوتي الأعمار، والمستويات في اللغة.
وقفت أول يوم محملا بأرث تجربتي في مدرستي الأبتدائية الأولى، حيث قال لنا معلمي في الأول إبتدائي الأستاذ المرحوم ـ عدنان حوني ـ في خريف عام 1960 بمدرسة الثقافة الأبتدائية المجاورة لموقف ـ حي العصري ـ الشهير في مدينة الديوانية، مشيراً إلى خزانة خشبية في ركن الصف جوار السبورة:
ـ بهذي الخزانة ـ حجية ـ كل من يسوي وكاحة، وما يدرس راح تطلعله، وتكسوعه!.
لم أفهم ما يقصد!. تخيلتها امرأة كبيرة ترتدي الشيلة والعباءة محصورة داخل الخزانة الطويلة والعميقة، ولما كنت متوقدا في طفولتي حركا أود إلتهام الدنيا. سألته:
ـ عمي شتسوي هذي ـ الحجية ـ بالدولاب؟!.
أمرني بالوقوف وقال موجها كلامه إلى التلاميذ:
ـ أنا عمكم صحيح لكن تگولون أستاذ!. والحجية هسه أطلعها وتشوفها!
وخطا نحو الخزانة، فتح القفل.. ظننت أن شيخة تشبه جدتي الحجية ستطلع علينا، لكنه أخرج عصا غليظة ذات رأس مكور أضخم من جسدها قليلا. هزها قائلا:
ـ هذه الحجية!. الما يصير عاقل راح يشبع ضرب بهذا الرأس، ودور كفه حول النتوء المخروطي. من يومها عاشرتنا العصا وأذاقتنا الويل حتى صارت المدرسة تشبه غرفة تعذيب أقبية الأمن العراقي زمن صدام والتي سوف أحلُّ فيها ضيفاً مرات عدة في شبابي. ظللنا هكذا حتى مرحلة الأعدادية.
قلت مع نفسي:
ـ خير ما أبتدأ فيه معهم هو القص.
ولما كنت أمارسه في صباي شفهيا، ثم كتابة لما بدأت أكتب القصص، ثم عدت إليه في منتصف عمري لما كنت أقص لطفليّ القصص التي أختلقها كل ليلة. فكرت برواية تلك القصة على تلاميذتي الذين لم يروا أو يعرفوا العراق إلا مما يسمعونه من عوائلهم. فقصصتُ عليهم حكاية اليوم الأول بالتفاصيل مستعينا بالحركات والتمثيل في الفسحة أمام السبورة، نقلت لهم ما كنا نعانيه من خوف ورهبة حينما كنا طلبة في العراق في تلك الأيام.
كانوا ينصوتون بعيون مدهوشة، جامدين يتخيلون المشاهد التي أصفها. أنهمكت شاعرا بمتعة إستعادة تلك الأيام وكأنني أعيشها من جديد ولم أنتبه لمرور الوقت، إذ نظرت عرضا إلى ساعتي اليدوية فوجدت أن ساعة الدرس الأول قد أنقضت، قطعت القصة قائلا:
ـ وقت الأستراحة!.
لم يقم أحدٌ بل صاحوا بحرقة:
ـ كملّ القصة.. كملّ!.
ومن يومها ربطتني بتلامذتي وتلميذاتي علاقة مودة خاصة، وجدتني أحبهم وأشتاق إليهم طوال فترة الأسبوع، فالمدرسة هي مجرد ساعتين منتصف ظهيرة كل سبت من الساعة (12 ـ 2) بعد الظهر. تعرفنا على بعضنا أسبوعا بعد أخر.. صرت أعرف الأسماء والمستويات وأحاول قدر الإمكان بذل ما بوسعي من أجل ترسيخ اللغة ليست ككتابة أو قراءة بل كثقافة وسمع وبعد تاريخي حضاري من خلال أتباع طريقة مختلفة عما يتبعها المعلمون في العراق. فهنا الأشكالية عميقة وجوهرية كون أطفالنا لايستخدمون اللغة الدنمركية في مجرى حياتهم اليومية حيث تسود المؤسسات التي تبني الإنسان منذ الروضة وحتى النضوج.. لذا كان همي ثقافيا أكثر منه تلقينيا كما كان يفعل معلمينا في الطفولة في العراق حيث كانت اللغة العربية سليقة نفتح عيوننا ووعينا عليها ونعاشرها طوال اليوم في البيت والشارع والمدرسة فتتحول إلى غريزة.
أقصد ثقافيا هو تشبيع التلميذ بمدلولات المفردة العربية عبر رواية القصص والمعلومات المثيرة والجذابة وبالعربية طبعا كي ترسخ تلك المفردة في ذهنه وتصبح ذات مدلول يتذكرها لأنها مرتبطة بقصة أو ظاهرة مروية له بشكل ممتع. هذه الخبرة تولدت لدي من خلال جهدي مع طفليّ.
سأورد مثلا.. في درس وردت فيه كلمة مطر، لم أحاول تحفيظهم المفردة وإتقان كتابتها قبل سرد العديد من القصص عن المطر. سردت لهم مثلا كيف أعاني في الشتاء حينما أقصد المدرسة باكرا في يوم ماطر ومحلتنا لم تكن معبدة الشوارع، فتعلق بقدميَّ أكداس الطين وأتعب حتى أصل إلى باب المدرسة الواقعة على شارع مبلط. أنزع حذائي وأنظفه ثم أغسل قدمي بحنيفة حديقة المدرسة قبل الدخول إلى الباحة المسقفوفة المبلطة والصف المرصوف بالكاشي. وصفت لهم البرد، وقتها لم تكن الصفوف مدفئة، والنوافذ مكسرة الزجاج، شأنها الآن في عراق القرن الواحد والعشرين.. حكيت لهم عما هو حال مدارس العراق.. كيف وجدتها حينما زرت مدرستي ربيع 2004 وجلست في صفي القديم وحكيت لتلاميذ الصف عما كان يفعل بنا المعلم قبل قرابة 44 عاما، وجلست وسطهم والتقطت صوراً تذكارية:
قاطعوني بضجة:
ـ نريد نشوفها!.
أوعدتهم بجلبها معي في الأسبوع القادم
كنت أرصد مقدار دهشة وجوه تلاميذي البريئة المستنكرة لعذابات تلاميذ العراق في طفولتي، والتي لم نكن نخاف فيها من إرهابي يفجر نفسه وسطنا، أو مسلح يخطف معلما من معلمينا كما يحدث الآن.
أشبعت مفردة ـ المطر ـ في بعدها العراقي المرتبط بالتاريخ وبلدهم الذي لم يعيشوا فيه .. عندها انتقلت إلى بعد أخر من أبعاد المفردة ـ المطر ـ إلا وهو البعد الجغرافي العلمي للظاهرة، فبدأت بسؤالهم:
ـ هل تعرفون كيف ينزل المطر من السماء؟!.
أجاب البعض كل حسب ما سمعه وتصوره. الأتفاق الجوهري بأن الكلام باللغة الدنمركية ممنوع منعا باتا.. فقط بالعربية.. كنت أحاول تعوديهم أو جعلهم يبذلون جهدا ذهنيا للتعبير عما يريدون قوله باللغة العربية. وكنت أحس أحيانا أنهم يقومون بمحاولة ترجمة تلك المعلومات إلى العربية فهم أحيانا يستطيعون الجواب بالدنمركية لكن القاعدة التي وضعتها منذ أول درس جعلتهم يستخدمون أدمغتهم من أجل المساهمة في المواضيع التي نجحت بإثارتها.
حينما قالوا ما يعرفونه بدأت أشرح لهم وبالرسم على السبورة شيئا تعلمناه في درس الجغرافيا في الخامس الأبتدائي عن دورة المياه في الطبيعة. عن التبخر والغيوم والمناطق الباردة في الأعالي وسقوط الأمطار وتفجر العيون والأنهار وأنحدارها نحو البحار.. والتبخر من جديد ونزول الماء من السماء في كل شتاء.
قصص.. حكايات.. كل أسبوع نقضي النصف ساعة من الدرس الأول بالحوار وتبادل السرد، حيث أطلب من كل واحد منهم أخباري عما فعله خلال الأسبوع، أو حلم به، أو ما رآه ويريد أخبارنا عنه، فيقوم كل تلميذ بقص ذلك بالعربية، وحينما تخونه المفردات يتحول إلى الدنمركية، فأقاطعه:
ـ بالعربية وإلا أسكت.
تواشجت علاقتي بطلبتي حتى صار بعضهم يقضي فترة الأستراحة معي في الصف. ومثل هذه العلاقة الحميمة والعميقة وأنا أشعر بأن جمعيهم أبنائي.. صرت هشا وأنا فعلا هش مع أبنائي، ناعما لم أمارس القسوة قط معهم. لم أفعل ذلك منتفضا ومنتقما من ما لاقيته من قسوة في البيت والمدرسة والشارع ومؤسسات الدولة القمعية التي أرتني الويل والذل في أقبيتها.
ها أنذا في مواجهة طفولتي بوجوه تلاميذي الأبرياء الراغبين بمعرفة شيئا عن لغتهم ووطنهم.
ها أنذا أحاول تقديم ما بوسعي من حنان ومعرفة وثقافة تتيح للتلاميذ محبة لغتهم الأم، لعل ذلك يساعدهم حينما ينضجون ويسعون بحثا عن جذورهم، ( وهذا يحدث لغالبية اطفال المنفيين والمهاجرين ) فلا يجدون اللغة حاجزا ومعوقا في طربق معرفة المزيد عن البيئة التي ينحدر منها آبائهم مما يسهل عليه التواصل والفهم ويخفف من إشكالية الأنتماء العويصة التي يقع فيها الجيل الثاني من اللاجئيين والمهاجرين.. وهذه هي التيمة الجوهرية التي وضعتها هدفا لعملي في التعليم ساعتين كل أسبوع.. زرع الرغبة وأثارة الفضول لدى تلاميذي الأبرياء الذين كانوا أول أسبوعين يأتون بهم آبائهم أو أمهاتهم قائلين:
ـ جبناهم بالقوة!..
لكن بعد أسبوعين وجدتهم يأتون بشوق يشعرني بغبطة لا تعادلها سوى كتابتي نصاً جديدا أتونس به قبل القارئ.
لست بصدد ذكر تفاصيل طريقتي في التواصل مع أبنائي الحميمين، تلامذتي الذين يبدون للزائر شكسين غير منضبطين.
كنت غير مهتم بشرح: لم أسمح لهم بالتعبير والكلام، فكما ذكرت أن يتحدثوا بالعربية هي تيمة عملي. ذلك يسهل عليّ مهمة التعليم، فبعد شهرين باتت عملية تعليمهم الدرس لا تتطلب من الوقت إلا دقائق، من ناحية أخرى ومن خبرة طفولتي والحياة عدت مؤمنا بأن كل طفل لدية رغبة في العبث والتهريج والصراخ فَلِمَ لا أدعهم ينفسون عن تلك الرغبات، وَلِمَ لا أوظف تلك الرغبة في تحريضهم على محبة العربية كلغة غنية قديمة. وما فعلته والذي يبدو ظاهرا للزائر كفوضى هو فاعلا من وجهة نظري في ترسيخ ثقافة اللغة لدى تلاميذي. الخبرة أكتسبتها من خلال جهدي لتعليم طفليّ. وضعت فقرة أخيرة فأصبحت خطة التدريس تتكون من ثلاثة مفاصل أساسية:

القص ـ تعليم اللغة ( درس الأسبوع ) ـ مسابقة لغوية

في العشرين دقيقة الأخيرة أطلب منهم محاولة إيجاد مفردات عربية تبدأ بالحرف الذي درسناه، وأقوم بتسجيل أسماء من يحب المشاركة في المسابقة على السبورة، ثم تبدأ المنافسة فيضجون منفعلين متوقدين كل يحاول الفوز بذكر ما يجده من مفردات فيبدو الصف للزائر أو حتى للسامع ضاجاً مضطرباً لكنني على قناعة تامة بأن هذا الحماس يشحذ ذهن التلميذ ويرسخ في ذهنه المفردة العربية في محاولته للفوز. أسجل المفردة التي يذكرها المشارك. أطالبهم بالهدوء قليلا لأشرح لهم المفردة التي ذكرها المنافس بتشبيعها ثقافيا كما ذكرت كي تترسخ في نفوسهم وذاكرتهم وهذه الطريقة وجدها مثلى لتلاميذ لا يستخدمون لغتهم الأم في التعامل اليومي.
النتائج باهرة..
أخبرتني زميلتي التي تدرس الصف الأخر ـ أم عبدالله ـ عما فعلته بإبنها ـ نوار ـ الذي كان يكره فكرة تعليم العربية فبات قبيل النوم يحاول إيجاد مفرادت عربية تبدأ بحرف درس الأسبوع التالي.
خصصت دروسا كاملة لتعريف تلامذتي جغرافية العراق، فرسمت خارطته ونهريه، ومدنه، وحكيت لهم عن كل مدينة فيه، قصصا حدثت لي، إذ لم تبق مدينة في عراقيَّ لم أزرها ولدي فيها ذكريات. وجدت تجاوبا وإنصاتا ورغبة وفضول لديهم لمعرفة المزيد عن بلد آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم، وعجبت من تقاعس الأسرة العراقية في المنفى أو المهجر عن تعلم أبنائها وتنوريهم قدر المستطاع عما يعرفونه عن بلدهم الأم.
المبادئ المعلنة للشبكة العراقية في الدنمارك هي من أجتذبتني إلى المساهمة في التدريس كمتطوع. خصوصا ما يتعلق كونها منظمة مجتمع مدني معنية بالعراقي الموجود في الدنمارك بغض النظر عن اللون والجنس والدين والقومية والطائفة، وهذا المبدأ متجسد في الصفوف التي ندرس فيها.
فالتلاميذ يمثلون المجتمع العراقي بغالبية أطيافه وقومياته، ففي الصف الذي أدرس فيه العديد من التلميذات المحجبات، وإلى جوارهن العديد من التلميذات المنحدرات من عوائل غير متدينة، في الصف الكردي، والعربي، والتركماني، السني والشيعي بدلالة الأسماء، ومن مختلف محافظات العراق من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه.. وما قدمه التلاميذ من فعالية في حفل ختام الموسم الدراسي الذي أقيم في 16 ـ 6 ـ 2007 على قاعة منظمة مساعدة اللاجئيين في كوبنهاجن، حيث أرتدى التلاميذ ألبسه تمثل كل فلكلور الأزياء الشعبية العراقية التي تمثل أطيافه... وما جهروا به أمام جمهور الحضور معرفين باسمائهم والمدن التي تنحدر عوائلهم منها في الوطن البعيد، لكنهم هبوا بصوت واحد بعد العرض صارخين كونهم عراقيين، لم يكن مجرد أستعراضا شكليا بل هم فعلا قادمين من الأمكنة التي ذكروها، وهم فعلا وهذا ما أسعدني بدأت تترسخ في نفوسهم فكرة كونهم عراقيين قبل كل شيء.
التلاميذ في تزايد.. والمستويات مختلفة.. والجو الأجتماعي السائد بين أباء وأمهات التلاميذ صافٍ وعميق. وهو فسحة وفرتها الشبكة العراقية في الدنمارك أبتدأت بجهود ذاتية وكان حماس عوائل التلاميذ في دفع إيجار الصفوف ذاتيا هو من أوجد هذه المدرسة المصغرة، لكن الشبكة حينما وجدت الحماس والمشروع سعت لإيجاد من يدعم هذا المشروع ونجحت في ذلك من خلال إيجاد مؤسسة دعمت هذا النشاط فباتت عوائل الطلبة غير مطالبة بتغطية تكاليف إيجار الصفوف بل بالعكس صارت لدينا فرصة للقيام بنزهات إلى أمكنة فيها بهجة للطلبة الصغار وأول رحلة قمنا فيها إلى ـ سينما كوبنهاجن الفضائية ـ كان الجمع جميلا. بعض الأباء والأمهات يقودون طلبة وطالبات في صفٍ منتظم في الشارع.. تشرف عليه امرأة متماسكة تعمل بصمت أسمها ـ غادة عبد الرزاق ـ وهي متطوعة أيضا ومشرفة على ترتيب أمور النزهات المقررة، على أدراج السينما كنت أنصت لآهات التلاميذ الذين زودوا بنظارات ثلاثة الأبعاد تجسد المشهد وتجعل من الصورة وكأنها حية تجرى جوار جسدك. الرحلة فوتت عليَّ ساعتين من الحوار الذي وجدت فيه كينونة مختلفة لوجودي وأنا أمتزج مع أطفال عراقيين في علاقة هي أعمق حسيا مما يتصوره الناظر من بعد كون العلاقة مجرد معلم وتلميذ. مثلما أدهش الفلم تلامذتي الصغار أدهشني، فأول مرة أدخل فيها صالة العرض هذه حيث رأيت عبر النظارات السميكة حشرات تتجسد وتفاصيل صرت معها جاسوسا على مجريات طبيعة الحشرات الخفية الجارية منذ بدء الخليقة.
الدرس الذي كان في الأسبوع التالي تعلق بما شاهدناه بحيث وصلت مع تلامذتي أن قتل الحشرة جريمة تعادل قتل الإنسان.. وهذه مسلمة تثبتتها الأديان في كتبها المقدسة، وساعدني المنظور المجسم عبر النظارات في جعل تلامذتي أقرب للبشر في المفهوم المطلق من مفهوم الأيدلوجيات بحيث صار لحشرة الرب معنى وحياة ليس لدينا الحق بسحقها بالقدم أو باليد، وحكيت لهم حكاية الخنسفانه التي سمعتها في طفولتي من أمي.. السائرة على درب المهانة والحالمة بالزواج من أحدهم، ودورانها في سوق المدينة وحواراتها مع أصحاب المهن ونهايتها المضحكة.
سألتني تلميذتي ـ صبرا ـ التي ظلت طوال الموسم الدراسي تتحاور معي في ربع ساعة الإستراحة عن كل ما يعنّ لها من أفكار وتنصت إلى أجوبتي بفطنة نادرة فأذهب بعيدا متوسما بها مستقبلا لامعا تضيف فيه شيئا للدنيا فيما لو أحاطتها ظروف مناسبة:
ـ هل أخبرتك أمك بهذه القصة وهل كانت تعرف مثلما عرفنا وهل كانت لديها نظارات مثل التي رأينا بها الفلم في السبت الفائت؟!.
قلت لها على الفوركلاما قد لاتفهمه لكنه حقيقيا:
ـ أمي وجدتك كانتا تقدران على الرؤية دون نظرات!.
ـ أش لون عمي؟!.
كنت فعلا مؤمنا بقدرة أخيلة أمي وجداتنا!.
الشيء الذي فزت به من كل هذه التجربة هو:
ـ أن ولا تلميذ أو تلميذة نادتني أو ناداني بإستاذ بل كان ينادونني بعمي.. وهي مفردة أحبها جداً..
ـ هل لقطوا عبرة أول قصة رويتها عليهم في أول درس؟!.
ـ لا أدري!.
لكن ذلك أسعدني.
العلاقة التي نُسِجَتْ خلال الأشهر التسعة الماضية مع تلاميذي جعلني أشعر ببهجة ومتعة خالصة عميقة فيها الكثير بالنسبة لنفسي، الكثير.. الكثير.. أجدني أتخلص في هذه التجربة من العنف الذي مارسه المعلم العراقي معي فجعلني مهزوزا ضعيف الثقة بنفسي فبقيت كل عمري أخوض المخاض تلو المخاض لأثبت لنفسي كوني إنسانا.
كلهم أولادي وهم يشعرون بذلك ويتنافسون عليّ
طوبي للطفولة
طوبى للمحبة
وسحقا للتعصب والطائفة وكل الأيدلوجيات التي لم تفعل طوال التاريخ سوى أشغال الإنسان بوهم مدينة فاضلة مستحيلة وسلبه حريته وتوظيفه عبدا لمبادئ.. أما يموت من أجلها جاهلا، أو يعبر التجربة ليكتشف هباء أحلامه المستحيلة.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجهك المأمول حجتي رسالة عاشق مخذول تحول إلى سكير حالم حتى قا ...
- حوار بين الشاعر علي الشباني وسلام إبراهيم
- قولبة شخصيات النص في أبعاد معدة سلفاً رواية أيناس لعلي جاس ...
- أقواس المتاهة مجموعة عدنان حسين أحمد القصصية المغزى في النص ...
- بنية روائية تؤسطر الوقائع وتدفعها إلى حافة الجنون قلعة محمد ...
- المنفى هو منفى أبدي بعد مجيء الطير مجموعة إبراهيم أحمد القصص ...
- بنية قصصية تبحث عن دلالتها بالرمز -ما يمكن فضحه عن علاقة أبي ...
- كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا مصاطب الآلهة مجموعة محم ...
- مجلس جالية أم مجلس أحزاب الجالية؟!
- المولود في المنفى كائن مكونٌ من الحكايات -أمسية صيفية-* مجم ...
- المنفي ميت حي -البيت الأخضر - مجموعة عبد جعفر القصصية
- قاب قوسين مني- مجموعة -هدية حسين- القصصية تصدع بنيان المجتمع ...
- أصغي إلى رمادي لحميد العقابي الذات حينما تدمرها الطفولة والح ...
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة5
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة 5
- ما بعد الحب رواية هدية حسين 1
- ما بعد الحب رواية هدية حسين2
- الحرب خربت كل شيء كم كانت السماء قريبة- رواية -بتول الخضيري-
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة2
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة3


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
- كارل ماركس: حول الهجرة / ديفد إل. ويلسون


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - سلام إبراهيم - طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع