أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مهدى بندق - تفكيك العقاد العقاد مفككاً















المزيد.....

تفكيك العقاد العقاد مفككاً


مهدى بندق

الحوار المتمدن-العدد: 1962 - 2007 / 6 / 30 - 07:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هامش (1):
أدرجنا هذا المقال تحت عنوانين عمدًا. فلقد وُضع العنوان (الذى يتصدر الصفحة الآن) بعد أن انتهت الكتابة، فكان أن شُطب العنوان الأقدم (العقاد مفكِكًا) شطبًا Cancellation وليس محوًا Erasure، ليظل العنوان المشطوب أيضًا مقروءًا. فعلنا ذلك اتساقًا ومنهج المقال نفسه، الذى يوظف أنطولوجية الحضور جنبًا إلى جنب إبستيميةٍ Epistemic تتعامل مع تأثيرات وآثار الغياب Trace of Absence لنتعرف -بهذا المنهج الأحدث فى الدراسات النقدية- على حقيقة قراءة العقاد للثقافة العربية بعامة، وقراءته لشعر شوقى بصفة خاصة.
ذلك أن التفكيك Deconstruction إن هو إلا محاولة منهجية، ضد نصية Anti- Text هدفها نقض بنية أى فعل لإثبات خلوها من الجوهر Essence، فلقد أدركت الدراسات اللغوية، فى تقاطعها مع المنجز الفلسفى المعاصر، أن التعامل مع النص الأدبى بحسبانه كاملاً فى ذاته Self- Contained- كما ذهبت إلى ذلك مدرسة النقد الجديد- تعاملٌ خاطئ، يعزل النص عن المجتمع وعن التاريخ، فضلاً عن مجافاته للحقائق الفيزيائية.
هامش (2):
من المعروف أن الفيزياء الحديثة -بعد أن قضت على وهم ديمقريطس القائل بأن الذرة كيان قائم بذاته غير قابل للانقسام- قد مضت إلى ما هو أبعد، حيث أثبتت أن نواة الذرة لا تنى تنحل إلى أن تنكشف عن شىء لا مادى Non- Material. فما هو هذا الشىء اللامادى؟! طاقة؟ ولكن الطاقة يمكن قياسها بمعادلة آينشتين: E = Mc2 ومع ذلك لا يمكن القول بأن الطاقة هى أصل الكون، وإلا سئلنا: فمن أين جاءت؟! فإذا قيل جاءت من مادة أولى Premordial، هيولى Choase عدنا إلى ما كنا عليه، لنتخبط فيما يشبه الدَوَر والتسلسل المنطقى العقيم.
فيزيائيًا ندرك أن معادلة آينشتين لا تثبت وجودًا ماهويًا Indentical، بل مجرد وجود رياضى مفترض. وهكذا نستبين أن المركز Center والأصل Origin افتراضان ذهنيان ليس لهما وجود فى الطبيعة. أو هما حالة غياب -ضرورية- تصاحب حضور عالمنا الذى نعرفه، مثلما يصاحب القرينُ المعنوىُّ (فى أساطير القدماء) الشخصَ الملموسَ الحى.
لقد تأسست الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو وحتى هيجل، على ما يعرف بميتافيزيقا الحضور، الوجود المطلق بغير خارج أو نقيض. فحتى الموت الذى يُعَدُّ نقيضًا للحياة، أدرجه هيجل فى بنائه الفلسفى الضخم، بحسبانه مجرد تحول للحياة، وجزءًا لا يتجزأ من الوجود الكلى الذى لا يدركه فناء.
بيد أن التفكيك يرى غير ذلك. فهو يرمق الآخر المختلف: اللاوجود النقيض الحقيقى للوجود. وهذا اللاوجود Non- Existence ليس العدم الذى تصوره هيدجر، وعاينه سارتر داخل "وجوديتهما". وآية ذلك أن العدم (المستمد من العدمية الألمانية Nihilism بمعنى العبث) هو نوع من الوجود المؤلم. إذ يتمظهر هذا العدم فى مشاعر محض وجودية، مثل القلق والسقوط. بينما العدم عند سارتر ملازم للاختيار. فاختيارى لموقف ما، إعدام لموقف آخر كان ممكنًا أن يتخذ. لكن هذا كله ليس إلا تجارب روحية "وتفاهمات" على هذا الشاطئ الذى نوجد عليه. التفكيك يمضى إلى الشاطئ الآخر المجهول تمامًا. ليس عبر بحيرة "أخيرون"، بل عبر الفلسفة. وبالطبع فإن الوصول إلى هذا الشاطئ الآخر: اللاوجود، إنما يكشف عن إشكالية حقيقية، إذ لا يمكن ثمة تسمية الأشياء أو حتى التعرف عليها، لأنها ليست أشياء، بل هى سلب الأشياء، وكل محاولة لمقاربة هذا السلب، إنما تحيله إلى دائرة الإيجاب، فتمتنع معرفته.
فلم إذن ترحل الفلسفة إلى هذا الشاطئ الآخر غير الموجود؟! إنها تفعل هذا لكى تهز ثقة الوجود بنفسه، حتى لا يستمر سادرًا فى وهمه أن له مركزًا وأصلاً ومرجعية يركن إليها. وإنه -أى التفكيك- حين يؤسس بذلك لما يسمى بميتافيزيقا الغياب؛ فلكى يباشر الاحتجاج على هذا الوجود الفاشل، المكرور، المقلد، العقيم. وكيف لا يكون عقيمًا مع وجودِ أرقى كائناته (الإنسان)، لا يتوقف منذ ظهوره عن القتل والتدمير وتعذيب بنى جنسه، فضلاً عن سائر المخلوقات؟! فإذا أضفنا إلى جرائمه تلك، جريمته الكبرى فى حق نفسه: جريمته المتمثلة فى تخريبه لبيئته بتلويث الأجواء وتصحير الغابات، وتحميض الأنهار (أى جعل مائها حمضيًا)، لعلمنا أن هذا الكائن قد حان حينه، وأزف موعده، وأشرف على نهايته، وليس ببعيد ذلك اليوم الذى سيقال فيه: كان هنا جنس يسمى الإنسان، وكان أشبه بوجه مرسوم على رمال الشاطئ، فمحته موجة من أمواج البحر، بحد تعبير ميشيل فوكوه.
فمن الذى سيحل محل هذا الوجه؟ يحل محله الآخر المختلف، النقيض الأنطولوجى للأنا الحالى. فما دامت الطبيعة لا تقبل بالفراغ المطلق، بقدر ما لا تعترف بالملاء المطلق (الهيجلى)، اتساقًا منها ومبدأ الإنتروبيا Principle of Entropy (تشتت الطاقة)، فلا غرو أن تحل الصورة السالبة Negative محل الصورة الموجبة الحالية Positive.
إن الوجود النقيض فى الفلسفة المعاصرة، ليكافئ عند الفيزيائيين افتراض الإلكترون الموجب (الإلكترونات فى عالمنا سالبة الشحنة) وبالتالى يتم افتراض الذرة النقيضة، والثقوب السوداء آكلة النجوم. فإذا كان هذا هو شأن الكون بحديه الماكرو والميكرو، فأية حكمة يمكن للأصوليين (دينيين كانوا أم علمانيين) أن يركنوا إليها؟! إن التفكيك بهذه الشجاعة ليدعو بأسلوب غير مباشر إلى تأسيس علم جديد للوجود، يأخذ فى اعتباره الحقائق لا الأوهام، مركزًا على التواضع لا على التفاخر، علم ينزع القداسة عن كافة النصوص، بما فيها نص الطبيعة ذاتها، ذلك النص الذى تأسس على ما فكر فيه "الموجود" باعتباره حضورًا مطلقًا؛ مما يعنى أن يستمر هذا الوجود إلى الأبد!
أما العلم الجديد، فيفتح الفضاء لنوعية جديدة من الكتابة -مثلما فعل جاك دريدا فى كتابه Of Gramatology يكون فيها الاختلاف (الذى أشار إليه دى سوسير فى دراسته للعلاقات اللغوية) الهمَّ المقيم لكل كاتب، إذ يكون المسكوت عنه -فيما كتب- أكثر اتساعًا وأهمية من المُقال. وقد يسأل سائل: ومن أين لنا بمعرفة هذا المسكوت عنه؟! والجواب بسيط: بأن يتحول قارئ النص إلى كاتب. وهو ما يشى بإمكانية تحول الوضع الإنسانى من حالة المفعول به Object إلى حالة الفاعل Subject. وذلك هو الطريق القويم الوحيد لبناء الديموقراطية، إذ لا قيمة لأية مسامرات عن الديموقراطية، بينما الشعوب محكومة بمنظومات سابقة التجهيز، منظومات يسميها هيجل الدولة، ويدعوها الليبراليون بالليبرالية، والبنيويون بالنسق، على حين يتلطف الماركسيون الأرثوذكس بإضافة ديكتاتورية إلى تعبير الدولة الهيجلى. وفى ظل هذه المنظومات الشمولية جميعًا، فإن أقصى ما تملكه الشعوب، أن تبدل بحكامها الحاليين حكامًا جددًا. هذا إذا استطاعت -أو حتى أرادت- أن تبدل. فما بالك بشعوب لا يعترف أفرادها، ولو بينهم وبين أنفسهم، بأنهم مريدون أصلاً. والحق أن هؤلاء واقعيون تمامًا، فالأيديولوجيات الموروثة، والظروف الموضوعية المعيشة، تقتاد إنسانيتهم فى كل لحظة إلى جدار اليأس لتتلقى صدورها رصاصات الإعدام الرحيمة.
بيد أن الديموقراطية يمكن أن تتحقق حسب، حين يعى الناس حجم الضلال الفلسفى الذى أقيم على مرجعية أصولية، هى عند أفلاطون عالم المثل، وعند أرسطو الوجود المنطقى، وهى مدينة الله بنظر توما الأكوينى، كما تجدها فى عالم العقل الخالص الديكارتى، وفى ترنسند نتالية كانط، أو الفكرة الكلية عند هيجل، حيث تلفُّ هذه الأصول، المصير الإنسانى بعباءة الجبر المطلق Per- Destination. وحتى بالنسبة للماركسية -التى جاهدت لتكون فلسفة تغيير وتحرير- فلقد انتهى أمرها على يد ستالين بحتمية تاريخية، وكان إنجلز قد سبقه بالإقرار بحتمية كونية: رصدها فى كتابه Dialectic of Nature. فهل ثمة سبيل للتخلص من هذا الضلال الفلسفى، إلا بالتحديق فى وجه ميدوزا، دون أن يتحول المرء إلى حجر؟! لقد فعلها جاسون حينما استعان بمرآة (تقول الأسطورة) وما هذه المرآة فى تقديرنا إلا أداة رمزية، بها نعكس صورة الوجود (الذى لا نستطيع أن نجزم بأنه أصل) لنرى جانبه السالب: اللاوجود.
هامش (3):
إننى أكتب الآن، أو أتكلم، أو أرى، أو أتنفس. ولكن ثمة آخر مختلف غير موجود بإزائى، صامت صمتًا مطلقًا، أعمى تمامًا، ليس به أنفاس تتردد. وهو بالقطع يحل محلى... جزئيًا عند النوم وكليًا فى الردى، إنه غائب عنى بالغياب... لكنى سأهزم أمامه، مالم أعترف له بوضعه هذا الغائب. أما إذا شئت أن أحيا حياة حقيقية، جادةً ومثمرةً، فلا مندوحة من النضال، ليس ضده، بل معه، نضالاً حتى الموت. وإن هذا النضال هو ما سوف يمنح حياتى قيمتها ومعناها، ويجعل من موتى استشهادًا من أجل الحقيقة (على طريقة البسطامى وليس الحلاج) وقد يؤدى بى إلى مخرج من وجودى المظلم، وقد يعرفنى على معنى الحرية الحقيقية، وليس الحرية الزائفة التى يعرضها علىَّ الفلاسفة البراجماتيون والطوباويون الحالمون. ذلك أن مجرد الوعى بالجبر المطلق، والإعلان عن الرغبة فى نقضه وتفكيكه، إنما هو أول خطوة على طريق محوه، إذ يكشف تفكيكه عن الخواء الواقع وراء الملاء، وماذا يكون وراء انقشاع الجبر إلا الأمل فى الحرية؟!
ولأن عباس محمود العقاد كان ناقدًا (بالدال) عملاقًا بغير شك،ولأنه كان شجاعًا وثوريًا (بمعايير طبقته وعصره)، فلقد كان اختيارنا له ملائمًا لمنهاجنا الباحث عن مواضع النقض (بالضاد) فى الثقافة العربية. ولعل أبا العلاء المعرى أن يكون واحدًا من هذه المواضع فى دراسة قادمة. أما اليوم، ونحن نحتفل بمرور أربعين عامًا على رحيل العقاد، فلقد رأينا أن خير ما يقدم للرجل فى ذكراه، هو دراسته على ضوء المناهج "الثورية". ولم لا؟ ألم يكن هو ذاته صاحب ثورة على التقليد والمقلدين؟! فعلينا إذن أن نتحقق من صدق عزيمته -وقد كانت صادقة من وجهة نظره بغير شك- وأن نحاجيه فيما أعلن عنه من استهدافٍ لبلوغ ملكوتِ الحرية، غاية كل فكر ثورى، دون أن نلومه على إخفاقٍ، ما دام هذا الإخفاق قد جاء نتيجة نقص فى الأدوات والوسائل، وتعبيرًا عن ثقافة طبقة، حاصرها التاريخ، فامتنعت عليها الحداثة.
دعنا لا نردد ما كتبه نقاد العقاد وهم كثر، وأبرزهم محمد مندور الذى أخذ على زميله اللدود طرْحَهُ لإشكالية العلاقة بين الأدب والفلسفة، دون أن يضع لها حلولاً. ثم غالى شكرى الذى لم يرضه منهج العقاد فى النقد الإمبريقى، لافتقار هذا النقد إلى إطار نظرى متماسك. ومن حيث تركيزه على الشكل بمعناه اللغوى، لا بمعناه الفنى الذى يكرس الشكل صورة للمضمون.
كذلك لن نجادل ماهر شفيق فريد فى رصده لغلو العقاد وتطرفه وإجحافه وتحامله (ومعه المازنى) بالضد على شوقى وعبد الرحمن شكرى والرافعى والمنفلوطى، فهؤلاء جميعًا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، كممثلين لثقافة طبقتهم وعصرهم، وكان الأولى بناقدهم أن يلزم حدود الموضوعية وعفة اللسان فى نقدهم، وهو مالم يفعله العقاد.
كان من الممكن أن نرد على نقاد العقاد، قائلين إن الرجل لم يكن يستهدف النقد بل النقض، لولا أن استهداف المرء منا هدفًا، لا يعنى قدرته على إنجازه بالضرورة، ومن ثم يسقط الاعتذار بالنوايا، طالما ظل الهدف فى دائرة الوجود بالإمكان، لا يتعداه إلى عالم الوجود بالفعل.
إنما الذى يهمنا فى سياق فكرتنا نحن أن نركز البصر على تلك الومضة الغريبة، المغايرة لأطياف الثقافة العربية، الومضة التى أمسك بها العقاد فى لحظة من لحظات إشراقه، ثم ما لبث حتى أفلتها فى اللحظة التالية.
كان العقاد منشغلاً بالبحث عن حجر عنيف مدبب، يلقم به أمير الشعراء، فإذا به يقف وجهًا لوجه، مع آلية لم يسبق للنقد العربى أن خبرها. تلك هى آليه الإزاحة Displacement أو لنقل الانحراف بالنقل الذى وُجد إلى نص آخر، لم يوجد حال إبداع المبدع، فكان أن عمد العقاد إلى شطب أبيات كتبها شوقى، وتأليف بديل لها، قائلاً له: لماذا لم تكتب هكذا؟! انظر إلى أبياتى، تر أنها من نفس البحر (الكامل) الذى كتبت به أبياتك، ومعانيها هى معانيك، وقافيتها قافيتك، وأنت مقلد وانتمقلد، فلم تظن أنك كتبت أصلاً؟.
بمثل هذه الأسئلة المضمرة فى عقل العقاد، كان ممكنًا للرجل أن يقارب حقيقة غياب النص، ولو أنه فعل ذلك بجدية (بدلاً من تحويل الموضوع إلى سخرية واستهزاء)، لكان قد سبق هيدجر ودريدا، ولكان قد أطلق الزلزال من مكمنه، يفتح طريقًا للإبداع بغير حدود.
بيد أن العقاد -شأنه شأن طبقته- كان معرضًا لانقسام وعيه، ما بين وافد غربى حداثى، وموروث يعد فى نظر هذا الوعى أصلاً ومرجعًا واجب الاتباع. وكانت تلك هى إشكالية الطبقة البورجوازية المصرية قبل وأثناء وبعد ثورة 1919. كانت عين منها على التقدم والتحديث (رسملة قوى وعلاقات الإنتاج) والعين الأخرى كانت مركزة على مصالحها المرتبطة بالإقطاع وأيديولوجيته، فكان انقسام الوعى لدى العقاد، موازيًا لانقسام هذا الوعى الطبقى. ومن هنا يمكننا أن نفهم كيف غدا إصرار العقاد على الطعن فى المقلدين، مؤديًا لتمسكه بجوهر التقليد: الأصل Arch، حتى أن أركيولوجيته كانت دائمًا تنتهى إلى شىء صُلب Concrete عاجزًا عن المروق منه إلى ما تحته: الخواء، اللا شىء Nothingness الذى نراه (أو بالأحرى لا نراه) بعد أن ننزع عن البصلة، آخر قشرة عليها.
لنعد إلى ذلك التكنيك الذى ظفر به العقاد الثورى، ثم أضاعه العقاد المحافظ الأصولى. نقصد بذلك تكنيك المحو Erasure السلاح ذا الحدين، والذى يُستطاع به محو ما كل ما سعى إليه العقاد من تحقير لشوقى، حينما نذكر "عقادنا" بأن أمير الشعراء إنما كان صاحب الفضل الأول فى إدخال النص الشعرى الدرامى إلى الثقافة العربية، لأول مرة فى تاريخها، بما يعنيه ذلك من نقلة نوعية فى الوعى بالصوت والصوت الآخر، داخل العمل الأدبى الواحد. وبما يمكن ترجمته فى الحياة السياسية إلى الاعتراف بأحزاب المعارضة، وبحقوق المرأة، وبالأقليات الدينية، وبنقابات العمال... إلخ.
غير أن هذا لم يكن شفيعًا لشوقى عند العقاد، أن يكتب قصيدة يرثى بها صديقه الطبيب عثمان غالب، قصيدة تقليدية تعكس صورة قبلها فى شعر الرثاء، فالتقط العقاد بضعة أبيات منها، ليفعل بها العجب العجاب.
يقول شوقى:
ـهِ فسل به ملأ الأساةومآبهم فى المعضلاتتِ عن الغــــــروس المثمــــرات أما مصاب الطب فيـأودى الحمام بشيخهمملقـــــــى الـــــدروس المســفرا
ولا شك أن هذه أبيات تغيم فى هزال الفكرة وركاكة الصياغة، وكان يكفى أن يشار إلى ذلك، فينتهى الأمر. لكن العقاد انتقض يؤنب ويوبخ، ولو استطاع لأطلق الرصاص على قائلها. كل هذا مفهوم، إنما غير المفهوم أن يمحو العقاد ذلك التأليف، بتأليف آخر من عنده، يقول فيه لشوقى: ولماذا لم تكتب هكذا:
فى الأرض رُسْلُ الحُمَّياتفتمردت بعد (الممات)يا من سرور (ظاهرات)تيفود فى كل الجهاتبكتريا بعد المماتدل بالدمـــــــــوع الســـــــائلات طربتْ لمصرع غالبقد مات (غالب) جندهاأمست جراثيم الملارْوتفرق التيفوس والـتْـوتألب الميكروب والــوبكــــــت قواريـــــــــر الصيـــا
لا مراء فى أن العقاد كان يقصد السخرية، وقد صرح هو نفسه فى "الديوان"، بأنه أراد أن يثبت أن التقليد أمر فج، يقتل روح الإبداع. ولقد كنا أحرياء بأن نوافقه دون تحفظ، لولا إدراكنا أن العقاد نفسه، لم يكن سوى مقلد ممتاز، اتخذ من توماس كارليل "أصلاً" لبحوثه فى العبقريات، ومن وليم هازلت مصدرًا لمعاييره النقدية، وجعل من عبد القاهر والحاتمى مرجعين له لفهم الوحدة العضوية فى القصيدة. وليس فى هذا ما يشين، وإلا فأين هو الإبداع الذى يبدأ من درجة الصفر؟ ألم يقل عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
نقول ليس فى هذا ما يشين، ما دام الداعى لا يعلن أنه ثائر ضد كل تقليد. أما أن يزعم أنه فى طريقه إلى الإبداع الحق، فيطلق ممحاته كعصا موسى، تلتهم أفاعى المقلدين، فلقد صار واجبًا أن نذكره بأن عصاه تلك التى يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه (وله فيها مآرب أخرى)، يمكن لآخر أن يطلق عليها أرضة تأكلها بدورها. وآية ذلك أن كاتب هذه الصفحات، كان قد أنشأ أبياتًا -فى صدر شبابه- يقلد بها تقليد العقاد لشوقى، على سبيل التباهى ومقارعة العمالقة. وتلك هى الأبيات:
من روعها جمع النُداةفلتمرحى يا حمياتإن الموات له التفاتت إذن سنشفى بالحياةمن (غالب) للمقبلاتفالعــــــــلم يؤتـــــــى المعجزات أبكت جنازة (غالبٍ)اليوم غُيِّب طبُّهاولتلفتى أحلامنافإذا أبينا أن نموفدعوا البكاء وهيئواهـــــــو (غـــــــــالب) لو تعلموا
فبغض النظر عن قيمة هذا الكلام من حيث الجودة أو الرداءة، وبغض النظر عن الترتيب الزمنى فى التآليف الثلاثة، فإنه ليبقى السؤال الأهم، منطرحًا على صعيد الموضوعية: أى هذه الأنسقة، يمكن أن يعد أصلاً بينما الآخران يعتبران له صورًا؟
الإجابة واضحة: الثلاثة تقليد لنمط Stereotype، لقالب طباعى سابق التجهيز. وليس ثمة أمل فى كتابة تتحرر من هذا القالب/ النمط إلا بتفكيكه ونقضه نقضًا. ونحن نعلم أن تحقيق ذلك ليس بالأمر اليسير، فتحقيقه يتطلب مزيدًا من تعميق الوعى الإبستمولوجى بإشكالية الوجود الكبرى على المستويين الفلسفى والعلمى، ويتطلب كذلك التزود بالشجاعة الروحية الفائقة. وهذه الأخيرة قد أشعل شرارتها أستاذنا العقاد بالفعل، فإذا لم تكن هذه الشرارة قد أصابت مرماها فى ذلك الوقت، فإن مشعلها لجدير بكل تقدير بالنظر إلى ريادته فى المحاولة.



#مهدى_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى أن تطل عيون المطر.
- الأصولية تلتهم الحداثة
- رفع الالتباس بقراءة ميثاق حماس
- ساعات بين الكتب
- احسان عبد القدوس وشمس اللبرالية الغاربة
- التراث المجهول
- حوارات مهدي بندق – 7 - مع أدونيس
- في رماد المحو
- استقالة من ديوان العرب
- مواسم الجفاف
- حوارات مهدي بندق - 6 - مع قطب اليسار أبو العز الحريري
- حوارات مهدى بندق - 5 - مع الدكتور مجدى يوسف
- حوارات مهدى بندق -4 -مع الناقد د.صلاح فضل - القسم الثاني
- حوارات مهدى بندق - 3 - مع الناقد الأدبىّ د. صلاح فضل
- حوارات مهدى بندق -2 - مع السيد ياسين
- والدولة أيضاً محاصرة في مصر
- حوارات مهدي بندق - 1 - مع جابر عصفور
- البلطة والسنبلة -5- المصريون واشارات الخروج من الحصار
- ريا وسكينة بين صلاح عيسى وميشيل فوكوه
- البرهان الثقافي على المسألة الإقتصادية


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مهدى بندق - تفكيك العقاد العقاد مفككاً