أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - الساقية...(رواية سودانية)















المزيد.....



الساقية...(رواية سودانية)


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 2516 - 2009 / 1 / 4 - 04:02
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول

قرية طيبة إحدى قرى شمال السودان الصغيرة .. كأي قرية من قرى دول العالم الثالث، الحياة فيها أشبه المستنقع تنحدر من سيء إلى أسوا وتبرز فيها متناقضات المجتمع الثالث الطيب والشرير والقبيح …مع خيوط الفجر الأولى يتعالى صياح الديوك بين أكواخ القرية المتناثرة، التي تختبئ تحت غابة من أشجار النخيل والدوم. وهي من أشهر نباتات المناطق شبه الصحراوية..منازل القرية مبنية بالطين ما عدا منشآت الحكومة وبيوت التجار، مبنية بالطوب المحروق ومطلية بالجير الأبيض جعلها ذلك تشكل نغمة نشاذ في هذه المنظومة التي حاكها الفقر.. حاج إبراهيم تاجر كبير من أكبر رجالات القرية.. ويلقب أيضاً بود المهتدي لأن أسلافه كانوا من اليهود القدامى في المنطقة وأعتنق جلهم الإسلام بينما هاجر البعض الآخر.. يقف منزله شامخ في قلب القرية.. كانت الانتهازية تحتل مساحة واسعة من شخصية هذا الرجل ويجسد ما يسمى برجل الدين ورجل الدنيا، يأوم المصلين يوم الجمعة في جامع القرية ويقوم بتخزين الدقيق والسكر والجازولين في متجره الأشبه بجحر الضب الخرب بالإضافة إلى أنه عضو بارز في مجلس المنطقة ويعتبر زراع للحكومة في القرية متزوج من امرأتين، ابنة ود البشير وهي عقيم لا تلد والثانية شقيقة عبدالباسط، التاجر بالإقليم الجنوبي، تدعى مريم، أنجب منها ولديه كمال وإيمان.كان للثروة التي هبطت على شيخ عبد الباسط أسطورة، ظلت تحكيها زوجته الطيبة آمنة للغادي والرائح، في ذلك اليوم ذو الحر القائظ، من أيام رمضان، حضر زوجها من مزرعته المتواضعة في معية رجل غامض يرفل في أسمال بالية ويحمل حبلاً ملفوفاً على عاتقه بعناية، كعادة أهل السودان، كانت قمة الأصالة تتجسد في رمضان عندما تدعو عابر سبيل ليتناول معك طعام الإفطار.. تناول الرجل الغامض الطعام معهم ودعا لهم بالبركة وبات ليلته معهم وفي الصباح ناول عبد الباسط الحبل وأخبره أنه سيعود ليأخذه يوماً وأندفع في طرقات القرية واختفى كأنما ابتلعته الأرض.. مضت السنين وانفتحت كنوز الحكمة على حاج عبد الباسط المزارع الفقير وبدأ يخطو خطوات واسعة نحو الثراء.. نجح محصول البصل الذي زرعه في ذلك الموسم واشترى شاحنة ثم أسطول شاحنات ينقل البضائع من الخرطوم إلى الأقاليم الجنوبية للبلاد، لم يغر الثراء المفاجئ حاج عبد الباسط بل كان سباقاً للخير، بنا المدرسة والعيادة بحر ماله، وفي كل المناسبات السعيدة التي تمر على القرية كانت له اليد الطولى، ظل لسانه دائماً يلهج بالشكر والعرفان لله الذي يرزق من يشأ بغير حساب، ومنذ ذلك الحين تمنى أهل البلدة لو كان ذلك الرجل الغامض صاحب الحبل ضيفهم فقد عرفوه، إنه العبد الصالح، الخضر. تمنوا لو كانوا صادفوه فهو يأتي مرة واحدة جالباً معه السعادة والثراء وسعيد الحظ الذي يعرفه، لأنه يأتي دائماً في ملابس الفقراء والمتسولين ومظهره الخارجي لا يدعو إلى الاحترام في هذا الزمن الذي يهتم الناس بالمظهر دون الجوهر.. كان هذا حديث حاجة آمنة الطيبة زوجة عبدالباسط.عن كثب من متجر حاج إبراهيم يلوح سور المدرسة الأبيض. المدرسة الأولية الوحيدة في البلدة، ملحق بها منزل حكومي واحد للناظر، كان في تلك الفترة الرجل الأسطورة ود الزين وزوجته زينب وطفلهما معاوية، منذ أن حضرت هذه الأسرة الصغيرة إلى القرية كانت محل احترام وتقدير الأهالي.. ود الزين رجل ثائر لا يرضيه الحال المائل، عرف عنه المشاركة في ثورات عديدة ضد الإنجليز ومن مؤسسي مؤتمر الخرجين الذي كان له القدح المعلى في اجلاء الاستعمار البريطاني من البلاد.عند نهاية الطريق الذي يفصل بين المدرسة ومنزل ود البشير الجزار، كان يقيم محمد أحمد وأولاده، محمد أحمد يعمل كاتباً في المحكمة الشرعية في البلدة وهذه المحكمة يأتيها قضاة موسميون من المدينة المجاورة، كعادة الفقراء وذوي الدخل المحدود، كانت أسرة محمد أحمد كبيرة توفى نصفهم بالأمراض المستوطنة، وبقيت زوجته ملكة، المرأة العنيدة التي كانت من أجمل حسان القرية أيام شبابها، تصارع في طلب ودها شباب القرية غنيهم وفقيرهم ولكنها اختارت محمد أحمد لشيء في فؤاد أم موسى رغم بساطته ولا مبالاته التي اشتهر بها في شبابه، أولادهم .. محاسن كبرى البنات ثم صابر وشريف وزينب ومسك الختام وليد الرضيع ..بقي أن نصف المعلم الأخير وهو قبة شيخ صالح التي تقع عند طرف المقابر، جوار شجرة الدوم العتيقة. أما المزارع فقد كانت تحتل الشريط الضيق بين منازل البلدة ونهر النيل.* * *في ذلك الصباح جلست ملكة تعد نفسها للذهاب إلى الحقل، يرقد زوجها الكسول في فراشه عند طرف الفناء وقد ارتفع غطيطه وتحته زجاجة الخمر التي لا تفارقه ابداً. وكوب ملقى بجوارها جلست محاسن قرب الموقد تعد الشاي. صابر لازال نائماً سابحاً في أحلامه الوردية.. فهو لا يحب العمل في الزراعة ويعتقد أن هناك معادلة مغلوطة أوجدته في هذه القرية.. أما شريف وزينب فقد استيقظا مبكرين وجلسا قرب الموقد في إنتظار الشاي كانت زينب تحمل شقيقها الصغير وليد والدجاج يجري هنا وهناك وقد تعالى نهيق الحمار في ا لخارج، التفتت ملكة إلى ابنتها زينب.- اذهبي وجهزي الحمار.نهضت زينب وسلمت وليد لأمه وانصرفت خارجة تضرب الأرض بأقدامها الصغيرة، بدأ البخار يتصاعد من صنبور إناء الشاي على النار.. انزلت محاسن الإناء وبدأت تصب الشاي على الأكواب، نهض شريف وناول أمه كوب الشاي، كانت ملكة تحملق في وجه صابر النائم بالقرب من والده " ومن شابه أباه فما ظلم" ، عادت زينب بعد أن أعدت الحمار وجلست ترشف الشاي في صمت وتلذذ، وضعت ملكة وليد النائم جانباً، نهضت قائلة: - محاسن !!- نعم يا أماه - اهتمي بشقيقك النائم هذا وعندما يستيقظ صابر دعيه يحضر إلي في الحفل ولا تنسي أن تضعي الشاي في الحفاظة لوالدك حتى لا يستيقظ ويحيل حياتك إلى جحيم.كانت هذه آخر كلمات ملكة قبل أن تخرج وتمتطي حمارها، تشق طرقات القرية المتربة وهي تتبادل تحية الصباح مع السابلة من أهل البلدة الطيبين اللذين كانوا يتدافعون في الطرقات كعادتهم كلما تنفس صباح جديد.خرج شريف خلف أمه مباشرة في طريقه إلى صديقه معاوية، هناك تعالى إلى أذنه العراك اليومي بين معاوية وأمه زينب ذلك الجدال الذي كان شريف يعرف أسبابه سلفاً، زينب تريد من ابنها أن يأوم فروضه في المسجد وابنها يرفض ذلك، هذا معاوية منذ وفاة والده ود الزين، ترك في نفسه ظلالاً من الحزن من الصعب محوها، جعل منه الحدث الجلل طفلاً منعزلاً، كثيراً ما كان شريف يراه يجلس وحيداً عند النهر، يحملق في الفراغ أمامه.. ظل شريف يردد أنه سيتنازل عن نصف عمره لو عارف ماذا يدور في ذهن صديقه، كان صديقه يقول كلاماً غريباً تقشعر له الأبدان، لا يحتمله شريف ولا والدته زينب، كان يقرأ في كتب والده الراحل لذلك كان جل حديثه يدور حول أسرار الحياة والموت.. لا زال شريف يذكر عندما وبخ صديقه وطلب منه الإذعان لرغبة أمه والذهاب لصلاة الفجر في المسجد، صاح فيه معاوية محتداً: - أنا لن أذهب لأصلي مع هذا المترهل حاج إبراهيم، لأني لا أريد الاستماع إلى خطبته التي عفا عليها الزمن منذ أيام أسلافه الأتراك والسلطان عبد الحميد.- لكن لا بد من الصلاة .- أنا أصلي هنا .. يا أخي نحن نبحث عن علاقة روحية بين الخلق والخالق تكون مبنية على المحبة والتقديس وليست مبنية على الخوف والطمع، كما يفعل هؤلاء الغوغاء اللذين تعج بهم قريتنا وعلى رأسهم حاج إبراهيم هذا.كان الانفعال والغضب يعصفان بمعاوية والكلام يتدافع من فمه كالرصاص.. حتى شريف نفسه يتملكه الخوف ويبذل الساعات الطوال في تهدئة ثائرة صديقه ويحاول استرضاء زينب بشتى الوسائل. إن غضب زينب ثلثاه حنان وحب لأبنها الوحيد الذي تخاف عليه من غضب الله.. كان غضب معاوية مليئاً بالكراهية لحاج إبراهيم الذي يتلاعب في أقوات أهل القرية.ظلت العلاقة التي تجمع الصديقين متينة لا تعكرها شائبة سوى الصداقة التي تجمع شريف بكمال ابن حاج إبراهيم كمال على العكس من والده.. ابن صالح واب ضال، ومع ذلك لم يكن هناك أي ود عميق أو انسجام بين كمال ومعاوية، ظل شريف بطبيعته المرنة يوفق بين الاثنين وتنمو الصداقة بين هذا الثالوث العجيب متسقة وهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم في رحم القدر.هدأت ثائرة زينب بدخول شريف البيت، كانت تحبه كثيراً، نظر معاوية في إمتنان إلى صديقه الذي انقذه من غضب أمه وقد امتلأت عيناه بالدموع وزينب ما فتئت تذكره بوصايا المرحوم والده..لا زال شريف يذكر ذلك اليوم الذي نعى فيه الناعي ود الزين. كان الحر قائظاً آنذاك عندما تعالى صياح ود مريم ناعي القرية، الرجل المكلف ببث أخبار الوفايات، كان أهل القرية يتشاءمون منه عندما يرونه يجوس في الطرقات ممتطياً حماره الأسود.. فهو رسول ملك الموت، ما سلك طريقاً وإلا سلك السايلة غيره.. لم يرتح أهل القرية من كابوسه إلا عندما غرق مع المركب الذي يقل القرويين شرقاً، غرق مع نفر غير قليل من أهل القرية في تلك الكارثة الجسيمة ودفنت عشرون جثة في يوم واحد، وبموت هذا الرجل غرقاً تنفس أهل البلدة الصعداء.. لكن مع ذلك ظلت عواجيز القرية يرددن الأساطير ويلكن بألسنتهن الأساطير حول هذا الرجل. عندما يكتمل القمر ويصير بدراً في زمهرير الشتاء يخرج ود مريوم من النهر ممتطياً خماره الذي غرق معه في الحادثة والماء يقطر منهما، يتجولان في القرية ليلاً وقرب انبلاج الفجر يعودان إلى مثواهما الأخير تحت الماء.. كثيراً ما كانت هذه الأساطير تسبب الرعب لأطفال القرية ومن بينهم شريف وكمال ما عدا معاوية، الوحيد بين الأطفال الذي كان لا يؤمن بهذه الخطرفات، بل كان يقضي جل وقته في ليالي الشتاء الباردة على شاطئ النهر يناجي روح والده الوفية، يحدق في الأفق الجنوبي البعيد الذي ذهب إليه ود الزين يوماً ولم يعد، كان والده يتسلل إليه عبر ضوء القمر من مكانه السرمدي ويجلس جواره يحدثه عن ما يجب عليه التزامه حيال والدته والرضوخ لرغباتها.. كان الابن يستمع إلى أبيه في صمت مشوب بالحزن وأكثر ما يحزنه الدماء الغزيرة التي تغطي جسد والده، وجهه الصلب وعيناه الشجاعتان تمسحان الابن الكئيب.. كان الابن يسأل والده عن سر الدماء التي تغطي جسده ويرد الأب في حنو بالغ " أنها طلقات الرصاص يا أبني، لقد كنت في مقدمة المتظاهرين".


- هل كان ذلك مؤلماً يا أبي ؟


- نعم شعرت بالحرارة تجتاح جسدي وبعدها أخذت أعلوا وارتفع في فضاء رحيب جميل ..


- ما هي ثورة اكتوبر يا أبي ؟


- كانت كذبة كبيرة .. استبدل الناس ما هو خير بما هو أدنى.


وينظر معاوية إلى والده في دهشة.


- هل هذا يعني أن التضحيات ذهبت هباء ؟!..


- لم تذهب هباء يا ابني .. بل دلت على أن الشعب يملك إرادة التغيير.. لا تصلح ثورة من غير برنامج .. لذلك احتوتها كلاب السلطة.. وأجهضت طموحات الجماهير.


- اني اقرأ ذلك في مذكراتك التي تركتها لي ..


- هل أنت عاتب على رحيلي يا أبني


- لا يا أبي، إني اعتز بك كثيراً.


وعند الفجر يحضن الأب بجسده الفاني ابنه بقوه ويتسلل عائداً بنفس الطريقة، يعود الابن إلى البيت بملابسه المغطاة بالدماء.. لم يكن ذلك يزعج زينب، بل كانت تنظر إلى ملابس ابنها الدامية في حنو، وتنضوها عنه وتستبدلها بأخرى نظيفة وتحمل الملابس المخضية إلى حجرتها وتبكي وتبللها بالدموع، في الصباح تعود الملابس بيضاء من غير سوء بفعل دموع الأم التي لا يعرف علاقتها بإزالة الدماء عن الملابس القطنية.خرج الصديقان كالمعتاد يحملان الطعام إلى ملكة في الحقل كانا يشقان طرقات البلدة في صمت.. حافلين بالضجر.. " تباً لهذه العطلة المدرسية اللعينة.. متى تفتح المدارس وتريحهم من هذا العذاب؟! " ..


****


الفصل الثاني


كانت رائحة البرسيم تعبق في الجو في ذلك الصباح المهيب وملكة تعزف في حقلها بجد ونشاط. بدأ أن هذا الموسم الزراعي ناجح، جادت فيه الأرض بكل سخاء وسيكون هذا العام عام خير لأهل البلدة كافة.. جلست ملكة تلتقط أنفاسها تحت شجرة الحراز الضخمة وعن كثب منها كان الحمار المكتنز يعتلف من الحشائش المنتشرة على حافة الجدول الكبير الذي يمر بجميع حقول البلدة.لا زالت ملكة تذكر لعدة سنوات مضت عندما حضر وفد الحكومة ولأول مرة ترى رجالات الحكومة الجديدة آنذاك كان يرتدون البدلات العسكرية الخضراء الجميلة التي تزينها النياشين والأنواط.. هؤلاء أعضاء "مجلس قيادة الثورة" .. كان الحماس يتدفق من أحاديثهم والإصرار يلمع في عيونهم. كرمهم أهل القرية بالذبائح والزغاريد عندما حضرت عربتهم العسكرية تشق طرقات القرية الضيقة المتربة.. الرجل الوحيد الذي لم تعجبه تلك الزيارة كان حاج إبراهيم، ما فتئ يلعنهم وينعتهم خفية بالكفار والملاحدة.. وفي المجلس الكبير الذي ضم أعيان البلدة ورجال الحكومة تقرر أن تزود البلدة بوابورات لسحب المياه وشق ترعة رئيسية بدلاً عن طريقة الري بالساقية القديمة والتي أذل بها حاج إبراهيم أهل البلدة فهو الوحيد الذي يملك ساقية، كان يبيع لهم الماء، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ولم تصدق ملكة أن هذا الحلم تحقق آنذاك، ما أن أنصرف رجال الحكومة الجديدة الممتلئين بالحماس وسط زغاريد النساء وأهازيج الأطفال.. بعد أيام قلائل حتى حضرت الشاحنات الكبيرة تحمل هذه المردة الحديدية التي يتدفق الماء منها كالشلال وأصبحت ملكة تنظر إلى أبعد ما تستطيع ولا تجد حداً فاصلاً بين حقلها الممتد والسماء "بارك الله في هؤلاء الرجال أصحاب البدلات العسكرية التي تزينها النياشين والأنواط تحدثوا قليلاً وفعلوا كثيراً " .. قطع ظهور الأولاد حبل أفكارها كانت أقدامهم الصغيرة تتعثر وهم يشقون الحقول تحت وطأت ما يحملونه من طعام وحفاظة الشاي إلى أمهم الحبيبة، ابتسمت ملكة عندما طاف في ذهنها المستقبل المشرق الذي ينتظر هؤلاء الصبية في ظل الثورة الاشتراكية.. ها هي القرية قد انتعشت وازدهرت في فترة وجيزة وأول الغيث قطرة. جلس الأطفال حول أمهم وبدأو في تجهيز أواني الإفطار.. وارتفع نهيق الحمار معلناً بدأ الفطور والتفت ملكة إلى الأولاد:


- ما الخبر يا أولاد هل استيقظ والدكم؟


قالت ملكة في استياء فهي تعرف ماذا يعني أن يستيقظ محمد أحمد.


- نعم استيقظ واعلن أنه ذاهب إلى السوق بعد إثارة ضجيجه المعهود وتعليماته التي لا تنتهي.


كان رد شريف بمثابة إنذار لملكة بأن محمد أحمد يعتزم أمراً جللاً، فزياراته للسوق طابعها دائماً الإثارة، فأنبرت في حدة :


- ماذا يريد من السوق؟!


- لديه جولات تمر يزمع بيعها وهي في مخازن حاج إبراهيم.


- لعنة الأبالسة عليه !! لا بد أنه يريد أن يبيعها للنسوان اللاتي يصنعن الخمور البلدية بثمن بخس..


قالت ذلك وقد بلغ بها الاستياء مداه، ثم انتصبت وغسلت يديها من جدول الماء، جمعت زينب الأواني وجلست عند حافة الجدول تغسلها، معاوية الصامت دائماً يجلس ساهماً، دارت أكواب الشاي الساخن عليهم، غرق الجميع في صمت يرشفون الشاي في تلذذ في حرم الحقول اليانعة الخضرة.. كانت ملكة تعلم تماماً أن الحديث عن مثالب بعلها العنيد لا تنتهي، لكن مع ذلك تعلم في قرارة نفسها أنها تحبه ذلك الحب الذي يجعله جدير بعداوتها فتصب عليه سخطها واحباطاتها وليس هناك رجل جديد بعداوتها غيره.. بدأت الشمس تصلي الأرض بشواظ من نار، التفتت ملكة إلى أولادها:


- انصرفوا الآن قبل اشتداد الهجير ، وأرعوا أخاكم وليد - نعم يا أمي.


- ثم أين صابر ؟!- استيقظ كالمعتاد وحمل الطمبور وذهب إلى طاحونة الأحمدي.


- ألم تخبروه بأني أريده هنا؟


- أخبرناه يا أمي.


- تباً لهذا الولد الخائب .. انصرفوا الآن واخبروه يأتي إلى هنا بدل الجلوس ومعاكسة الفتيات في الطاحونة.


ودعت ملكة أولادها بنظرة حنان وعيون ملأى بالدموع ثم حملت معزقتها وانهمكت تعمل في جد النشاط حتى استغرقها العمل تماماً ولم تر العربة لاندروفر التي لاحت في الأفق الجنوبي خلف الحقول في طريقها إلى القرية، عربة عبد اللطيف عم أولادها الثري، القاضي الكبير المقيم في الخرطوم.. عبد اللطيف الشقيق الأصغر لمحمد أحمد، نال درجات عليا من التعليم فوق الجامعي أهلته لهذا المنصب الرفيع الذي ينعم به الآن.توقفت العربة أمام بيت محمد أحمد مثيرة عاصفة من التراب، الشيء الذي استفز كلاب ود البشير الجزار فأخذت تنبح نباحاً شديداً معلنة حضور جسم غريب للبلدة، نزل عبد اللطيف من العربة يحمل حقائبه وجلبابه الأبيض الناصع يتلامع مع شمس الظهيرة، تدافع أبناء محمد أحمد نحو عمهم وتناولوا الحقائب المحملة بالهدايا إلى داخل البيت في مظاهرة عارمة.. عبد اللطيف بمثابة ليلة القدر يأتي دائماً محملاً بالهدايا وكل ما يبهج الأطفال، جلس عبداللطيف على العنقريب المتهالك وأمامه كوب ليمون ويحمل وليد بين يديه جلست محاسن عن كثب في العنقريب المقابل تمشط شعرها وكان النزاع قائم بين شريف وزينب في الهدايا المتناثرة على العنقريب الثالث، التوتر بادياً على عبد اللطيف.. كان في عجلة من أمره رغم مشوار السفر الطويل بالعربة الذي يفوق مئات الأميال:


- أين والدكم؟


- ذهب إلى السوق.


قبل أن تختم محاسن كلامها أنفتح باب الفناء الخارجي معلناً قدوم محمد أحمد المخمور وفي يده زجاجة العرق رفيق دربه.. لم يلحظ محمد أحمد وجود شقيقه لأول وهلة وبدأ كالمعتاد يرسل شتائمه وسبابه.


- تعساً لكم .. لمن العربة التي تقف في الخارج؟


- هذا عمي عبد اللطيف يا أبي .. حضر تواً من الخرطوم.قالها شريف في ارتباك وتفادى والده الثمل..


وقف محمد أحمد كالمصعوق يحملق في شقيقه وقد أخذته المفاجئة غير المتوقعة وتمتم من تحت لسانه المتلعثم.


- السلام عليكم ورحمة الله .. متى حضرت؟


- أهلاً وسهلاً… ما هذا الاستقبال السيء يا أخي .. متى تقلع عن هذا السخام.


- ماذا أفعل يا أخي .. الحياة صعبة لا تطاق ؟!نظر عبد اللطيف في حنان عميق ممزوج بالشفقة إلى شقيقه وأوسع له مجال يجلس بجواره مردداً.


- ألا تريد أن تنساها ابداً وقد طال الأمد ؟!


- آه .. ما أتعسني !!


انحدرت دمعة مره من عيني محمد أحمد المحمرتين .. وتداعت الذكريات الحافلة بالشجن.. نورا رفيقه صباه التي طواها الموت في ريعان شبابها ودفنت في المدينة التي غمرتها المياه بعد نزوح جل أهلها الطيبين.. تذكر ضفائرها الطويلة وجسدها الناحل وشقاوة الطفولة ولهوها البريء، والصعود على أشجار النخيل الطوال واقتسام التمر.. مسح عبد اللطيف الدموع من عين شقيقه وضمه إليه.- إن لك زوجة وأطفال الآن، هم الأولى بحبك ورعياتك.كانت نصائح عبد الطيف تسبب آلاماً شديدة لأخيه فأنبرى له في خنوع.- لا تشمت في ابنائي يا ابن أمي.. أعدك بأن تكون هذه آخر زجاجة.- أنه كوعودك السابقة!!سرح محمد أحمد بخياله بعيداً، إن زيارة شقيقه حركت أشجان قديمة.. عندما ماتت نورا أدمن محمد أحمد شرب الخمر وترك الدراسة وأخذ يلازم قبرها السنين الطوال وفي مرة تعارك مع المرحوم والده عندما عرض عليه الزواج من امرأة أخرى واستقل القطار الذي يعج بالمسافرين القادمين من مصر ويتجه جنوباً.. في القطار التقى بالرجل الغامض الذي كان ينبعث ضوء أزرق من عينيه.. كانت نظرات الرجل الطيبة تتغلغل في أعماق محمد أحمد الجريحة وتضمدها كشعاع الليزر وكلامه المشبع باليقين " يا ابني لا تحزن، الحياة مثل هذا القطار الذي نركبه، يأتي الناس ويعمرون الأرض وينصرفوا في عتمة السديم الرمادي الذي يسمى الموت وتتحلل أجسادهم، وتفنى في التربة، أما الأرواح فتصعد إلى عليين أو ترتد أسفل سافلين" ظل يرن في أذنه سنين طوال.قطع حبل أفكاره أخيه متسائلاً :


- إلى أين ذهب عقلك ؟!


القى محمد أحمد الزجاجة جانباً وأخذ يحدق في شقيقه الذي يجلله الثراء من أخمص قدميه حتى رأسه ولحيته التي خطها الشيب ووجهه المصقول كالمرآة.


- انى فقدت أشياء لا تعوض يا أخي !!لا يعرف الليل الطويل وسهده إلا من تنجم أو أنا


- دعك من هذا الحديث الذي يحبط الأعمال طأطأ محمد رأسه وبدأ كأنه استيقظ من حلم طويل ونظر إلى أخيه كأنه يراه أول مرة وتحدث مغايراً مجرى الحديث.


- ما هي أخبار أمنا أمنة؟


- حضرت من البلد لإجراء بعض التحاليل الطبية في الخرطوم وهي تبلغك السلام.


- الله يسلمها .. هل هي بخير؟


- نعم بخير وأرسلتني لك في موضوع هام ..


نظر محمد أحمد إلى شقيقه في توجس .. كلام الأم لا بد أن يطاع .


- أرجو أن يكون بوسعي عمله تنحنح عبد اللطيف وبدأ سرد موضوعه


- أنت تعرف يا أخي أن الله أنعم علي بثروة ولكن تنقصني نعمة الولد.


- كيف ذلك.. هل نسيت ابنتك هند؟ - لم أنسها يا عزيزي ولكن ليس الذكر كالأنثى.. أعتقد أنك تعرف ما أعني.


- تعني أنك تريد أخذ أحد أولادي الذكور.- نعم هكذا قالت الأم.. وليكن صابر.


سرى التوتر بين الأطفال لدا سماعهم الخبر .. صابر !! شقيقهم الحبيب يسافر بعيداً


- تأخذ صابر !!


- نعم سأجعله كإبني تماماً، سأوفر له جميع فرص التعليم وأعدك أنه سيكون في أمن وأمان.


بان التفكير من وجه محمد أحمد ثم قطب جبينه .


- أنا ليس لدي مانع أن تأخذهم كلهم إذا شئت ولكن ملكة ستحيل حياتي إلى جحيم وأنت تعرفها جيداً.


- لا عليك ستثور قليلاً ولكن عندما تتغلب المصلحة العامة على عاطفة الأمومة ستتفهم ذلك.


دخل صابر يحمل طمبوره المتهالك.. كان لا يدري ما يدور بخصوصه.. حيا صابر عمه في ود ودخل إلى احدى الحجرات، كان عبد اللطيف يتأمله في اعجاب.. اعجاب الرجل الذي لم ينعم عليه بنعمة الولد الذكر .. نظر محمد أحمد في أثر ابنه بعينيه اللتين زالت آثار السكر عنهما تماماً وبدتا صافيتين وصاح :


- صابر .. تعال هنا.التفت صابر وقفل عائداً وأخذ ينظر إلى أبيه في توجس


- نعم يا أبي.


- ستسافر مع عمك لتقيم معه في الخرطوم…


- لكن يا أبي أنا ..


قاطعه والده بحده


- تعساً لك أيها الغبي .. ما الذي يعجبك هنا؟!.. جهز نفسك للرحيل.. هيا انصرف.


لمعت الدموع في عيني صابر، كان بقية الأطفال يحملقون فيه في دهشة وذهول، كم تبعد الخرطوم هذه عن خيالهم البسيط. دخل صابر الحجرة وجمع ملابسه في عصبية وقد تطايرت في ذهنه الأفكار فعلاً إن بقاءه لا يفيد.. خاصة وأنه صاحب طموحات جبارة وها قد أتته الفرصة تسعى على قدمين. لكن أمه .. اشقاؤه… قطع صياح والده خارج المنزل الممزوج بهدير المحرك حبل أفكاره.. اندفع خارجاً لا يلوي على شيء حتى أنه لم يلق نظرة وداع على اشقائه الذين تكوموا بعيدا يودعونه بدموع تناثرت من أعينهم كالدرر.اندفعت السيارة تشق طرقات القرية وصابر ينظر بعين دامعة إلى معالم القرية، ودكان حاج إبراهيم .. المدرسة .. المقابر.. قبة شيخ صالح.. المزارع الخضراء الممتدة في الأفق الغارب وطيف أمه البعيد، تحزم ربط البرسيم وترفعها على حمارها وتبدأ رحلة العودة وكما ظهرت العربة اختفت كالحلم في الأفق الجنوبي وسائقها يكاد يطير من الفرح، صابر ابن أخيه وحلمه الذي تحقق سيصنع منه رجل عظيم وستفرح به زوجته الطيبة فاطمة والأم وهند أيضاً.* * *كان الحمار يشق طرقات القرية ينؤ بحمله الثقيل ملكة وحزم البرسيم وقد تعالى آذان المغرب، حيت ملكة حاج إبراهيم بفتور أثناء مرورها أمام متجره وما أن اقتربت من المنزل حتى صاحت بصوتها الرفيع.- صابر .. شريف.قفزت من الحمار بخفة وربطته عند الباب.. لمحت ملكة آثار السيارة التي ما زالت واضحة أمام الباب.. حدقت في الآثار في توجس انفتح الباب وأطل منه شريف، بدأ شريف يساعد أمه في إنزال حزم العلف من على ظهر الحمار المنهك.. لم تلحظ ملكة الوجوم الذي يخيم على ابنها ودلفا إلى داخل المنزل، حيث كان محمد أحمد كالمعتاد متكوماً في فراشه في طرف الفناء بعد تناوله الجرعة المسائية من الخمر.. وهو يسب ويلعن اعداءه الوهميين دارت ملكة ببصرها تتفقد أولادها، زينب تحمل وليد عن كثب.. محاسن تعد شاي المغرب.. هناك أحد ا غائب .. أحست أن أولادها يبدون غير طبيعيين، تمتمت ملكة في توجس


- ماذا بكم يا أولاد .. أين صابر؟


نظر شريف إلى أمه في حزن ومن خلال الدموع التي طفرت من عينيه أجابها.


- أخذه عم عبد اللطيف الذي حضر الظهيرة.. ليقيم معه في الخرطوم.


وقع الخبر على ملكة كالصاعقة، ونهضت كالملسوعة وأندفعت نحو زوجها النائم وهزته بعنف حتى استيقظ وهي تصرخ وتولول.


- أين صابر يا محمد أحمد .. أين ولدي أيها السكير التعس ؟!


هب محمد أحمد مذعوراً وأخذ يحملق في زوجته التي انقلبت سحنتها تماماً.


- لا أعرف .. أكله التمساح!!


طفرت الدموع من عينيها وقد اجتاحها شعور عميق بالهزيمة أنه الآن يسخر منها.. أخذت تهزه بقوه.


- لماذا تركت عبد اللطيف يأخذه .. لماذا؟ صابر وا والداه !!


بدأت أمارات الغضب تنتشر على وجه محمد أحمد وازاحها بعيداً وزعق فيها.


- تعساً لك.. تعساً لكم جميعاً .. فليأخذكم الشيطان جميعاً أنت وبقية الأود .. اغربي عن وجهي !


انهار محمد أحمد نائماً مرة أخرى وارتفع غطيطه.. استدارت ملكة وانزوت جالسة في ركن قصى وقد تحلق أولادها حولها وهي تنوح وتندب حظها العاثر.. الخرطوم تعني الموت بالنسبة لها.. الخرطوم حيث تكثر حوادث الحركة وجرائم القتل .- ماذا فعلت يا محمد أحمد؟ كيف تتخلى عن ابنائك تباً لك ؟!.كانت الأفكار تتضارب في عقل الملكة كأمواج البحر الهائج " لابد من الذهاب الآن إلى الخرطوم مهما كلف الأمر.. لكن كيف ؟!" وهي لا تعرف من أين تبدأ أو اين تقع الخرطوم وهي لم تعبر النهر إلى البر الشرقي إلا مرة واحدة في حياتها عندما حضر ذلك الزعيم الطائفي الكبير ماراً بالقطار في المدينة المجاورة على الضفة الشرقية للنيل.. لكن لا بد من السفر حتماً ستصل إلى الخرطوم وتعود بإبنها حتى لو كلفها حياتها .. يجب أن تتذرع بالصبر الآن حتى لا تفزع أولادها.. أنهارت ملكة على العنقريب متظاهرة بالنوم وبدأ أولادها يدبون نحو مضاجعهم في صمت وعم السكون المنزل مرة أخرى ما عدا غطيط محمد أحمد المتقطع الممزوج بالشتائم والسباب بين الفينة والفينة التي يكيلها لاعدائه الوهميين.. وزجاجة الخمر الملقاة تحت فراشه تتلامع تحت ضوء القمر.. كان القمر بازغاً في تلك الليلة وأشعته الفضية تغمر المكان وتلقي ظلال ساحرة في المنزل .. نهضت ملكة في هدوء ودخلت إلى حجرتها. حملت صرة ملابسها ونقودها ثم عادت واتجهت نحو فرش محاسن وأخذت توقظها برفق .. هبت محاسن مذعورة وهدأت عندما لمحت وجه أمها الهادئ يبتسم لها مبلل بالدموع الجافة التي كانت تتلامع مع ضوء القمر.


- لا تفزعي يا بنتي.. اهتمي باخوتك.. أني ذاهبة لأحضر صابر.


- لكن يا أماه الليل و ……


- لا تخافي علي يا حبيبتي، ماذا يفعل قطاع الطرق بامرأة عجوز مثلي؟


نهضت ملكة من جوار ابنتها واتجهت نحو فراش وليد النائم وحملته وقبلته بقوة وعادت به إلى محاسن واضجعته جوارها.


- نامي يا بنتي.. أمك أمرأة شجاعة لا تخاف أبداً.


نهضت ملكة واتجهت نحو فراش ابنها شريف وأخذت توقظه بهدوء.


- قم يا شريف..أنا أمك فتح شريف عينيه في ذعر، يبدو أنه كان يعاني من كوابيس مزعجة.


- ماذا !! من ؟ أمي..


- نعم يا ولدي.. امك ذاهبة إلى صابر.. هيا أنهض لتقوم بتوصيلي إلى مشرع المعدية عند ضفة النيل.


- لكن يا أمي الخرطوم بعيدة جداً.


- نعم يا ابني أعلم أنها بعيدة ولكن لا بد منها وإن طال السفر، هيا انهض لتجهيز الحمار.


نهض شريف وخرج يجهز الحمار، نهضت ملكة واتجهت نحو فراش بعلها اللدود النائم..سحبت عليه الغطاء بحنان بالغ تقيه برد الأسحار واستدارت منصرفة خلف ابنها، لازال القمر اللامع يركض خلف نتف السحب وملكة وابنها يشقان طريقهما بين اشجار النخيل حيث تداعى إلى مسامعهما صوتاً حداء عبد الجواد المراكبي من أبناء القرية التي تقع قصادهم في البر الشرقي، كان في صباه شاب قوي ومن أكثر المعجبين بملكة حتى أنه كان يجازف بحياته بعبور النهر لرؤيتها وهي ترد الماء بين اترابها وكم نظم فيها من قصائد.. كان ذلك زمن ولي.. اقترب الحمار براكبيه من الرجل الذي أخذ يحملق في طيفهما في دهشة


- السلام عليكم يا عبد الجواد.


انساب صوتها على اذنه كالجرس وايقظ فيه جروح قديمة.


- أهلاً ملكة.. ماذا أتى بك في هذا الليل المتأخر؟


- اريد العبور إلى البر الآخر هل لديك مانع.


- ابداً هذا ما يسرني.. هل سيعبر ابنك معك؟


- لا سأعبر وحدي.


التفتت ملكة تودع ابنها الذي اعتصره الألم وطفرت الدموع من عينيه مسحت ملكة دموع أبنها.


- لا يا شريف الرجال لا يبكون.. أرعى اخوتك حتى أعود.


اندفعت نحو المعدية، وقف شريف عند الشاطئ يلوح لأمه التي أبحر بها القارب يشق الماء الذي اكسبه ضوء القمر لون اللجين المصهور، جلست ملكة قبالة الرجل الذي بدأ يجدف مبتعداً.. أخذت ملكة تحدق في شبح ابنها الذي وقف عند الشاطئ ممسكا بالحمار ويلوح لها بيده.. ظل المركب يبتعد تدريجياً من الشاطئ واقترب الشاطئ الآخر رويداً رويداً وبدأ ت الريح الخفيفة تعبث بأثواب ملكة وهي تجلس منكمشة عند حافة القارب وقد انتابتها الهواجس حتى أنها لم تفطن إلى النظرات الماجنة التي كان يمسح بها الرجل جسدها كلما انكشف منه جزء بفعل الرياح، اقترب المركب من الشاطئ المقابل أكثر وعينا الرجل قد امتلأتا ببريق الشهوة .. ترك عبد الجواد المجداف واقترب منها، ووضع يده على فخذها.. تنبهت ملكة فجأة ونهضت كالملسوعة ورفعت يد الرجل بعيداً وقد امتلئت عيناها رعباً، صارخة في وجهه: - اتق الله يا رجل ؟ لم يأبه الرجل لكلامها وقد استيقظت فيه كل كوامن الماضي وشرع من مداعباته، حاول أن يضع يده على صدرها، لم تحتمل ملكة هذا وانتابها شعور عميق بالقرف وصفعته بقوه.. اثارت الصفعة جميع كوامن الرجل الحيوانية واندفع نحوها يريد تطويقها بيديه وانقلب المركب مطوحاً بهما في الماء.. اطفأ الماء البارد شهوة الرجل المتأججة كما يطفئ الماء قطعة حديد متوهجة وبدأ الرجل يسبح جاهداً في اتجاه ملكة التي شارفت على الغرق وهو يسب ويلعن الشيطان الذي لعب بعقله وكان يقوده إلى ما لا يحمد عقباه، كعادة خلق الله أجمعين يلقون تبعه أعمالهم الشريرة على الشيطان حتى لو كان الشيطان نفسه نائماً في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. سحب الرجل جسد ملكة المبتل إلى الشاطئ وقد أغمي عليها تماماً.. جرها بعيداً عن الشاطئ واراحها على الرمال الناعمة وسبح عائداً لإنقاذ مركبة الذي أخذ يغرق تدريجياً، دفع الرجل مركبه إلى الشاطئ وربطه بإحكام وابتعد نحو قريته التي كانت تلوح عند كثب دون أن يتلفت إلى الجسد الممدد على الشاطئ الذي تركه خلفه، وقد تسارعت انفاسه وهو يتمتم ويتعوذ بالله..ظلت ملكة ممددة على الشاطئ بلا حراك تعبث بها الرياح ..


*****


الفصل الثالث


في ذلك الصباح المهيب، عندما تعالى صياح الديوك في مدينة أبو حمد، كانت ملكة تسير بحذاء الشاطئ في طريقها إلى داخل المدينة التي كانت تتثاءب على الأفق استعداداً لاستقبال يوم جديد، أخذت ملكة تتأمل شوارع المدينة المنتظمة ومتاجرها المكتظة بالبضائع ذات الألوان الزاهية.. محطة القطار الضخمة من أبرز معالم المدينة فهي ملتقى طرق القاطرات القادمة من الصعيد مدينة حلفا القديمة، حيث يطوي القطار صحراء قاحلة ولا تدركه مدينة إلا أبو حمد ثم يمر القطار جنوباً طاوياً المسافات إلى الخرطوم، عاصمة السودان.. كانت ملكة تسير ساهية عندما دوت فرامل سيارة مندفعة خلفها، كادت العربة تدهس ملكة، سقطت على الأرض وسط زوبعة من الغبار، نزل السائق، رجل موفور الصحة، يبدو أنه من أعيان المدينة.. كان الانزعاج بادياً عليه، انحنى الرجل على ملكة التي أخذت ترتجف رعباً أو غضباً، هل كان مقدراً لها أن تنتهي رحلة البحث عن ولدها هنا؟‍ ومن أول خطوة .. أو غرقاً بالأمس.. يبدو أن الطريق أصعب مما كانت تتصور، ركع الرجل جوارها وأخذ يربت على كتفها برفق.


- أرجو أن لا تكوني أصبت !!


نهضت ملكة وسوت ملابسها وأخذت تنضو الغبار عنها والرجل واقف جوارها وقد اعتصره الألم، نظرت ملكة إليه، تبدو علية الطيبة والسماحة لذا غيرت ملكة رأيها فقد أزمعت تلقينه درساً لن ينساه ولكن لم تتركه من عتاب.


- ماذا دهاك .. هل تقود سيارتك مغمض العينين ؟!


جاهد الرجل الابتسام وأخذ يحملق فيها في ذهول محاولاً امتصاص غضبها.


- ابداً يا أختاه، كنت في عجلة من أمري، زوجتي أدركها المخاض، وإني في طريقي لإحضار قابلة المدينة الشؤم.


استغربت ملكة من كلام الرجل ونعته لقابلة المدينة بالشؤم.


- ماذا دهى قابلة مدينتكم هذه؟!- كلما أحضرها تضع زوجتي بنت حتى غدا لدي سبع بنات ولا مولود ذكر.


- لا عليك أني اتقن مهنة التوليد ويمكنك أن تتفاءل فقط الأرزاق من عند الله…


- ونعم بالله … ونعم بالله ..


غمرت السعادة الرجل. هذه المرأة الغريبة لا بد أن تكون ساقتها الأقدار لأجل حكمة ما، إنها تتقن مهنة التوليد، ابتسم الرجل ابتسامة عريضة وفتح لها باب العربة لتجلس جواره وانطلق بها إلى بيته العامر الذي يطل على النيل.. بهر البيت ملكة فهي لم تشاهد بيوت بهذا البهاء والاتساع.. كان البيت بحجراته الواسعة الكبيرة وأثاثه الفاخر أشبه بقصور ألف ليلة وليلة.. كانت النسوة متكومات داخل ردهات وهن ينظرن إلى حاج عثمان والمرأة الغريبة اللذين دلفا معاً داخل البهو الكبير، نظرات النسوة ملؤها الحقد والحسد ينظرن إلى الحجرة المغلقة التي ينبعث منها أنين امرأة أدركها المخاص. كانت عيون النسوة مليئة بالحقد، لأن حاج عثمان، كلهن يتمنينه زوجاً لهن حتى ولو تزوج إحداهن أو ثلاث منهن مع زوجته المسكينة المغلوبة على أمرها في الداخل.. حاج عثمان رجل ثري له المال ولكن ليس له البنون بالإضافة إلى أنه رجل شهم وفيه كل ما يعجب المرأة من مقومات الرجولة والاخلاق الأصيلة.فهمت ملكة ضمناً وهي تشق اكوام النساء العوانس الحاقدات، ماذا يعني أن تلد هذه المرأة التعسة بالداخل بنتاً أخرى ستنتظرها المعادلة الصعبة إما الطلاق أو الزواج من امرأة أخرى .. كان الله في عونها.دلفت ملكة إلى داخل الحجرة واغلقت الباب.. كانت رائحة المطهر القوي تعبق في الحجرة، نظرت ملكة إلى المرأة التي ظل انينها يطغي على اللغط المنبعث من أولئك النسوة في البهو وهن يتداولن أمرها حتى يصل ذلك إلى مسامع حاج عثمان الذي ظل كلامهن يؤخزه كوخز الإبر، فهو يحب زوجته مريم ولا يرض لها بديل، لكن من يستطيع أن يقنع أمه التي تزعمت هذا الوفد النسائي العظيم ويبدو أنها ستفرض عليه ما تريد فرضاً..في الحجرة كل شيء نظيف ومرتب، الطست المليء بالماء الساخن، الضمادات البيضاء، المقصات وأدوات القطع والخياطة، أوجست ملكة خيفة وهي تركع بين فخذي المرأة "تباً لهذا البلد اللعين.. الذي يذبح المرأة بالخفاض الفرعوني ويجعل من بوابة الخروج من ظلمات الرحم الثالث إلى عالم الشهادة صعباً وأحياناً تزهق روح المرأة قبل أن تقذف بمولودها إلى العالم، غسلت ملكة يديها بالماء الحار ومسحتهما بالزيت الذي وضع على إناء في منضدة جوارها ثم أدخلت يدها في النفق المظلم، وبرز رأس الطفل وأخيراً تمكنت ملكة من اخراجه، كتلة حمراء من اللحم مخضبة بالدماء ولا حول له ولا قوة. كانت صرخته باستقبال الحياة قوية تردد صداها في المنزل وتجاوبت معها النسوة في الفناء بإطلاق زغاريدهن الطويلة الشامتة .. غسلت ملكة الطفل في الماء الطاهر، بعد أن قطعت حبله السري، ثم اخرجته وحدقت بين فخذيه.. امتلأت عيناها بدموع الفرح وارتسمت على شفتيها ابتسامة ظفر واطلقت زغرودة جلجلت في الحجرة. ثم نظرت إلى وجه المرأة الشاحب وابتسمت لها مشجعة، كانت المرأة تهمس بكلام.. ادنت ملكة اذنها من فم المرأة.


- ارجوا أن يكون ولد !!نعم المولود ذكر والحمد لله.رددت مريم في صوت واهن.


- الحمد لله .. كان سيتزوج من أخرى.


مسحت ملكة حبات العرق عن جبين مريم الشاحب مواسية لها.


- لا عليك ارتاحي الآن وقرى عيناً.. دعيني أخرج وأزف النبأ السعيد..


نهضت ملكة وفتحت باب الحجرة، كان الرجل يجوس وسط النسوة كالأسد الجريح وما أن لمح الباب يفتح حتى اندفع نحوه وواجه ابتسامة ملكة العريضة.


- مبروك .. أصبح لك غلام تفخر به.


لم يحتمل الرجل المفاجئة، طفرت الدموع من عينيه وظل يحدق في ملكة في امتنان، نظرة إنسان انقذته امرأة من مصير محتوم.. رباه من أين جاءت هذه المرأة التي تحيل كل ما تلمسه ذهباً، كان الرجل من فرط سروره يتمنى لو تطلب منه ملكة أن يحضر لها نجمة من السماء.. حتى يجزي لها صنيعها، لكنها فقط آثرت الصمت، ذلك الصمت المشوب بالحزن وطفقت تحملق في أكوام النسوة الحاقدات وقد خسر جوادهن الرهان.. كن يرمقن ملكة شذراً.. ظل الرجل النبيل يحدق في ملكة.


- انت امرأة مبروكة.. لا بد أن السماء ارسلتك لنا.


- بارك الله فيك.. أنا لا أريد منك إلا أن تأخذني إلى محطة القطار الذي يقودني إلى الخرطوم.


لمح الرجل نظرة الإصرار على الرحيل التي كانت تشع من عينيها فأذعن لها.. انطلق بها بسيارته إلى محطة القطار.. اشترى لها تذكرة في الدرجة الأولى، جلست ملكة على النافذة والرجل السعيد يحجل أمام نافذتها كالغراب، دق جرس المحطة مؤذناً برحيل القطار واطلق القطار صفيراً طويلاً وتحرك رويداً رويداً كان الرجل يسير على الرصيف بمحاذاة نافذتها والقطار تزيد سرعته تدريجياً وكأنما تذكر الرجل شيئاً.. صاح بصوته الجهوري.


- ماذا أسمي الولد؟


رفعت ملكة عقيرتها حتى يطغى صوتها على دوى عجلات القطار ونداءات الباعة المتجولين ولغط المسافرين والمودعين.


- اسموه محمد .. الله يبارك فيه.


ثم ابتعد القطار والرجل يلوح لها بكلتا يديه حتى غاب في الأفق.. استوت ملكة جالسة في الغرفة الفارهة التي أكرمها بها الرجل، انتابتها الهواجس وتوزع خاطرها بين أسرتها التي تركتها خلفها وابنها الذي أصبح في طي المجهول في الخرطوم، حيث الموت يكمن في كل مكان..ظل القطار يطوي الفلوات القاحلة، والمحطات تتوالى تباعاً وعجلات القطار تثير في دورانها الحصباء والغبرة. أغلقت ملكة النافذة و أغمضت عينيها.


*****


الفصل الرابع


كانت ملكة تغفو مع الإهتزاز المنتظم للقطار ودوي العجلات يدق أنغام رتيبة كبندول الساعة القديمة لم تكلف ملكة نفسها متعة النظر من النافذة.. فقد أوصدتها بعد احتدام الغبار.. القطار المكتظ يتلوى كالثعبان في الفيافي الموحشة والظلام قد بدأ يلف الكون بغلالة رقيقة.. صراخ الأطفال في العربات المتهالكة المظلمة يتداعى إلى مسامع ملكة بين الفينة والفينة مهيجاً أشجانها. ممرات القطار مكتظة بالركاب وتسلق نفر غير قليل منهم على سطوح العربات.قطار كريمة !! قطار الشمال الثاني الذي ينقل المسافرين عبر مئات الأميال من مدينة كريمة في الشمال إلى عاصمة البلاد الخرطوم.. لم يكن خيال ملكة يتسع لهذه المسافات الشاسعة التي يطويها القطار.النجوم تلمع في الأفق خلف زجاج النافذة الأحمر كأنها عيون تسخر من ملكة التي فرقتها الهواجس… غفت مرة أخرى ولم تستيقظ إلا على صوت حركة كثيرة خارج القطار المتوقف على ما يبدو منذ مدة طويلة.. فتحت ملكة النافذة وشاهدت مدينة حديثة وعمران يفوق تصورها.. بهرتها الأنوار الكهربائية في المحطة.. "هل هذه الخرطوم؟!".. لم تكلف ملكة نفسها مشقة السؤال. تناولت صرة ملابسها ونزلت من القطار "هنيهات وانطلق القطار مواصلاً سفره، نظرت إلى القطار الراحل في حيرة حتى غاب عن ناظرها. ثم طفقت تتجول في المحطة المكتظة بالناس وتتلفت في توجس كعادة أهل القرى عند دخولهم المدن الكبيرة. اقتربت من شاب موفور الصحة يتحدث مع فتاة جميلة في مكان منزوي، حاولت ملكة تستفسر منها إذا كانت هذه المدينة الخرطوم أم لا.


- معذرة يا أولادي.. هل هذه محطة الخرطوم.أجابها الشاب الذي استدار في دهشة بالغة.


- لا … هذه عطبره .. الخرطوم ليس بعد.. اخطأت يا والدة بنزولك من القطار.


عقدت الدهشة لسان ملكة "يا لها من غبية، لماذا لم تسأل قبل رحيل القطار؟" .. خافت أن يخدعها أحد الخبثاء في المدينة كما تعود أهل القرى.. لكن يا لها من بلهاء فقد خدعت نفسها.. وهذا الشاب يبدو عليه الاحترام لم يقل سوى الحقيقة.. لمح الشباب الحيرة البادية على وجهها الذي كساه القنوط أيضاً، عادت الأقدار تعابثها مرة أخرى، نظر إليها في عطف مواسياً ثم التفت إلى فتاته بنظرة ذات مغزى.- لماذا لا نأخذها معنا البيت ؟!


- أجل لا بد من أن نأخذها معنا .. هذه القروية المسكينة.


نظرت ملكة إلى هذا الثنائي العجيب في امتنان. شكرت الله الذي سخر لها هذين الضيفين الودودين والقاهما في طريقها.


- هيا بنا يا أماه إلى البيت وغداً لناظره قريب.


- أسمي ملكة بارك الله فيكم ..


وتحركت معهما، لاحظت ملكة بحاسة الأمومة التي لا تخطئ أن الشاب والفتاة يعانيان من مشكلة، خاصة وأن الحزن كان يشوب صوت الفتى قبل أن تقطع لهما حوارهما بظهورها المفاجئ. انطلق ثلاثتهم خارج المحطة التي عمها الهدوء بعد رحيل القطار، كانت سيارة الشاب الحكومية تقف عن كثب، ركبت ملكة أولاً ثم الفتاة وجلس الشاب على عجلة القيادة وانطلقت العربة تشق شوارع المدينة الهادئة، ثم عبر الجسر المقام على نهر عطبره ولاحت أنوار مصنع الاسمنت لعيون ملكة مثيراً فضولها القروي.. لاحظ الشاب ذلك وتحدث باسماً.


- هذا مصنع اسمنت عطبره.. أنا أسمي عصام وأعمل مهندساً فيه وهذه الفتاة تدعى حنان وتعمل في المعمل المركزي … و…


ارتبك الشباب وعجز عن مواصلة حديثه ولكن نظرات ملكة المطمئنة حثته على استرسال معها في الحديث.


- كل ما في الأمر أني أحب هذه الفتاة.. وعازم على الزواج منها ولكن أمي لها رأي آخر وتقف حجر عثرة في طريقي.


التفتت ملكة إلى الفتاة التي أغرورقت عيناها بالدمع ثم نظرت إلى الشباب الذي لاذ بالصمت.


- لماذا لا تريد أمك ذلك؟ رد الشباب في أسى


- كانت هناك مشاكل ونزاع حاد بين المرحوم والدي ووالد حنان وعلينا نحن أن ندفع ثمن ذلك.


واردفت حنان من خلال العبرات التي خنقتها


- أم عصام تريده أن يتزوج بنت أختها.. لذلك تتذرع بهذا العذر الواهي.


أثارت هذه القصة المؤثرة اشجان ملكة.. وهي تعرف ما ذا يعني أن يكون هناك قلبين عاشقين في محنة.. كيف لا تعرف ذلك وهي امرأة عركتها الحياة وصقلتها التجارب.. كانت تجلس بين الشابين وتفكر في طريقة تربط بها جسور المحبة الممتدة بين العاشقين الصغيرين.- إذا كانت هذه مشكلتكما اعتبروها محلولة.أدهش رد ملكة الجرئ وبنبرتها الواثقة عصام حتى أنه كاد يدهس قطه كانت تعبر الشارع في تكاسل أمام العربة المنطلقة وانحرف عنها عصام في آخر لحظة وطوح بالسيارة، اطلقت حنان صرخة ذعر خافته.. ولاذت ملكة إلى صمتها الحكيم مرة أخرى.. والعربة منطلقة وعصام وحنان في حيره من أمرهما " ما سر هذه المرأة الغريبة؟!".. بعد وقت قصير تسألت ملكة.


- ما اسم المرحوم والدك يا عصام ؟!


- اسمه خضر عبد الجواد.- وأنت يا حنان


- عبد الله نصر الدين وهو لا يزال على قيد الحياة.


- حسناً.. قرا عيناً، خذني يا عصام إلى أمك.. أبيت ليلتي معها وغداً الصباح تجد أمك قد أذعنت لك..


أطلق عصام صيحة تفاؤل عظيمة.. كان يثق في كلام هذه المرأة الحديدية التي تتكلم بثقة مفرطة لم يعهدها في أحد من قبل أن أهل القرى أذكياء، فقط ينقصهم التعليم، وما يضيره لو أنه ركن إليها حتى لو مجرد تفاؤل!!.


- إذا وافقت أمي.. سأتزوج فوراً وسيكون لي معك شأن آخر.


- إن شاء الله يا أبني.


ظلت السيارة منطلقة في الشارع الاسفلتي ولاحت مدخنة المصنع عن بعد.. اندفعت السيارة وتخطت بوابة المصنع وتوقفت أمام منزل عصام، منزل حكومي مطلي بالجير الأبيض، كانت هناك زهور حمراء تطل من السور " ما هذه المنازل الجميلة التي لم تر ملكة مثلها .. نزل ثلاثتهم من العربة، ودعت حنان ملكة وبنظرة أمل ورجاء وجهت لعصام نظرة وداع جسدت فيها كل أمانيها. أخذ عصام يتابعها بنظره حتى دخلت إلى بيتهم.. دلفا إلى داخل المنزل، ظل عصام يحيطها بمظاهر الود والترحاب، لم تجد ملكة صعوبة كبيرة في اختراق أسوار قلب أم عصام التي كان يبدو عليها إنها من النساء الذي يفرض رأيه بالقوة حتى ولو على جثث الآخرين. أدركت ملكة صعوبة المهمة التي تنتظرها. تأملت ملكة البهو الفخم. كانت هناك صورة لرجل في العقد الرابع من عمره مجللة بالسواد، يبدو أنه والد عصام المرحوم.. تناولت ملكة طعام العشاء مع الأسرة الصغيرة في صمت وفي المساء استلقت ملكة المتعبة على فراشها تشاهد التلفزيون، ذلك الصندوق السحري في دهشة، بدأت تدخل عالم المدينة وأجهزتها العجيبة كانت والدة عصام تنظر إلى ابنها الذي يحملق في التلفزيون في شرود وعقله بعيداً، تنحنحت أم عصام- هل زرت خالتك في عطبره ؟!- لا لم أذهب ولن أذهب.. أنا غير مستعد للزواج.. كان رد عصام الجازم بمثابة رأيه الدائم في عدم رغبته للاقتران بإبنة خالته التي تفرضها عليه أمه، جالت هذه الخواطر في ذهن ملكة وهي تتظاهر بالنوم.


- يا عصام يا ولدي.. أنا أريد مصلحتك.


- إذا كنتي تريدين مصلحتي دعيني من هذا الأمر.


- كيف أتركك وقد وصاني المرحوم والدك !!


جالت الدموع وتساقطت من عيني عصام، عندما نطقت أمه اسم والده الذي كان يوقن تماماً أنه لن يرضى بهذا الزواج بالإكراه ، إن أمه تشده الحلقة الضعيفة، معزة والده الراحل.. ما ذنبه هو وما ذنب حنان.. الأباء يزرعون الحصرم والأبناء يضرسونه كان الحوار المؤثر بين عصام وأمه يترامى إلى أذني ملكة المرهقة كأنه قادم من واد بعيد وقد اختمرت الخطة الجهنمية في رأسها ولم تمض سويعات حتى كانت تغط في سبات عميق، نوم امرأة تحمل هموم العالم على كتفيها.. لم يبارحها قط جولان وتشتت خواطرها بين بيتها القابع في الشمال وابنها الضائع في الجنوب وملكة لا تعرف كم تبعد هذه المدينة.. التفتت أم عصام إلى ملكة التي كانت تغط في نوم عميق وقد انتظمت أنفاسها.- نامت المسكينة .. يبدو أنها قادمة من مكان بعيد.


- نعم يا أماه وهي لا تعرف الفرق بين عطبره والخرطوم.


وكعادة النساء وفضولهن رددت أم عصام


- يبدو أن ورائها سر كبير، كان الله في عونها.كانت هذه كلمات أم عصام الأخيرة رددتها وهي تتثاءب، نهض عصام في تثاقل وأغلق التلفزيون واطفأ النور، ثم ذهب إلى حجرته واستلقى في فراشه يحملق في السقف "هل تحل هذه المرأة الغريبة مشكلته العويصة؟!" أتمنى ذلك، أغرورقت عيناه بالدموع وتسرب النوم إلى أوصاله.. تعالى آذان الفجر في الحجرة الأخرى هبت ملكة مذعورة تتمتم بتعاويذ قرآنية والآذان يجلجل في المكان، هبت معها أم عصام واندفعت نحوها وجلست جوارها مذعورة.


- ماذا بك يا أختي؟ أجابت ملكة مبهورة الانفاس


- بسم الله الرحمن الرحيم.. انه الرجل ذو الثوب الأبيض.


دنت منها أم عصام أكثر وقد تملكها الفضول الممزوج بالفزع.. اردفت ملكة في نبرة آسره.


- نعم ! نزل من قصره المنيف وقال لي أنه غير سعيد لأنه ابنه غير سعيد.


اتسعت عينا أم عصام من فرط الدهشة من هذا الكلام الغريب من المرأة الغريبة.


- ماذا قال الرجل؟!


- قال أنه يدعى خضر عبد الجواد


اطلقت أم عصام شهقة خافتة وانهارت باكية على كتف ملكة، بكاء أرملة ظلت وفية لزوجها حتى بعد انتقاله الحسي إلى عالم الغيب و اردفت ملكة بصوتها الساحر


- قال يجب أن يتزوج ابنه من من يريد حتى يرتاحومن بين شلالات الدموع الغزيرة التي سكبتها عينا أم عصام أعلنت الإذعان ورفعت الراية البيضاء وتمتمت.


- نعم .. فاليتزوج عصام من يريد.بان الارتياح على وجه ملكة وابتسمت ابتسامة ظفر ورددت متسائلة.- من هو الرجل ذو الثوب الأبيض؟ أجابت أم عصام في أسى وهي تكفف دموعها.


- إنه زوجي يرحمه الله، توفي وعصام في العاشرة من عمره.ورددت ملكة مواسية


- لا تحزني الرجل ذو الثوب الأبيض في نعيم..


تبددت الأحزان من وجه أم عصام وبان عليها الارتياح، نهضت من جوار ملكة وخرجت تصلي، ثم عادت إلى فراشها مرة أخرى تنام. نهضت ملكة وصلت بعدها ثم عادت للنوم هي أيضاً سعيدة بعد تكللت مجهوداتها بالنجاح.


* * *


أشرقت الشمس معلنة صباح يوم جديد، حضر عصام يحمل أواني الشاي إلى أمه وضيفتها.. ترامى إلى أذنيه حديثهما الودي عن زواجه المرتقب، دخل إلى البهو وتحاشى النظر إلى أمه والتي رمقته بنظرة حب بالغ ممزوج بالندم من ذكريات الليلة الماضية.. التفت عيناه بعيني ملكة فأبتسمت له مشجعة، تنفس الصعداء.. جلس يشرب الشاي في صمت، التفتت أم عصام إلى ابنها ورددت في نبرة حب بالغ.


- لقد وافقت يا أبني على زواجك من حنان.هب عصام كالملسوع واندلق الشاي الساخن على أصابعه وهو لا يصدق اذنيه.. "هذه المرأة التي يشع منها الغموض وتجللها الحكمة فعلت ذلك !!" احتضن عصام والدته وهي تربت على رأسه في حنان.


- نعم يا أمي سأتزوج حنان وليكن ذلك بعد غد.ولم تكد ملكة تسمع قرار عصام حتى اطلقت زغرودة طويلة ردد صداها المكان..


- نعم يا ابني خير البر عاجله..وقد كان ..


كانت أنوار الزينة تجلل المنزل كحبات اللؤلؤ وأم عصام تدور كالنحلة بين المدعوين ومعها تلك المرأة الغريبة التي أثارت فضول واعجاب المدعوين بلباقتها وحضورها الدائم، كان عصام الذي لم تسعه الفرحة وحنان العروس الجميلة التي تعهدتها السعادة بصورة مذهلة لا تعرف حتى هذه اللحظة كيف استطاعت هذه المرأة حل مشكلتهما المزمنة في عشية وضحاها.. إنها حكمة الله المتجلية في كل مكان.. إنها سعيدة وقد تزوجت من تحب .. ظلت الأفراح ممتدة طوال الليل وحتى الخيوط الأولى من الفجر في الصباح كانت ملكة تجلس عن كثت وقد كساها الهم.. الذي ما فتئ ينتابها كلما خلت إلى نفسها، لاحظت أم عصام الوجوم الذي يخيم على ضيفتها الطيبة، همست بذلك لأبنها عصام الذي أقبل مبتسماً وجلس جوار ملكة.


- ملكة العزيزة … جاء دوري الآن لأسدي لك صنيعاً.تنبهت ملكة من شرورها وابتسمت في وجه الشاب.


- بوركت يا ولدي .. خذني إلى محطة القطار المسافر إلى الخرطوم ولا تسألني لماذا؟


- حاضر لن اسألك.. ولكنك أعظم امرأة عرفتها في حياتي.نهض من جوارها..


ودخل إلى المنزل وارتدى ملابسه على عجل.. سرعان ما دار محرك السيارة في الخارج وابتعدت إلى الطريق الأسفلتي في طريقها إلى محطة القطار في مدينة عطبره.خرجت حنان العروس الجديدة من غرفة نومها ولمحت ملكة التي لا زال الاكتئاب مسيطراً عليها تقبع بعيداً في طرف الفناء الذي لا زالت آثار الحفل المنصرم تخيم عليه، الكراسي مبعثرة هنا وهناك وبعض المدعوين لا زالوا نائمين في الفناء وأم عصام توقظهم.. اقتربت حنان من ملكة.- صباح الخير.تنبهت ملكة من شرورها وتأملت العروس التي ترفل في أثوابها.- أهلا يا بنتي أجلسي لتسمعي كلماتي الأخيرة.


- خير.. إن شاء الله


- أوصيك بأم عصام خيراً، عامليها كأمك تماماً، لقد ضحت هذه المرأة بزهرة شبابها في تربية ابنها عصام حتى غدا رجلاً وهي لا ترضى أن تأخذه منها امرأة أخرى.. وإذا كان لا بد من امرأة فقد اختارت أخف الضررين بإصرارها السابق على الزواج من ابنة أختها.. أرجو أن تتفهمي ذلك ..


كان حديث ملكة الحكيمة المؤثر يمس شغاف قلب حنان التي ظلت حتى اللحظة لا تجد نفسها تطاوعها على حب أم عصام فقد كانت حجر عثرة في طريق سعادتها.. ومع ذلك أذعنت حنان لنصائح ملكة.


- نعم يا أمي ملكة، سأعاملها كوالدتي تماماً حتى أثبت لها عملياً أني المرأة المناسبة لابنها عصام.


- بارك الله فيك يا بنتي.حضرت أم عصام من الداخل تحمل أواني الشاي، جلست النسوة الثلاثة يتجاذبن أطراف الحديث.. أعلن نفير سيارة في الخارج عن عودة عصام. دخل المنزل وفي عينيه خيبة أمل وردد في قلق.- توقفت القاطرات، نتيجة الإضراب عن العمل الذي شل المرفق.كان هذا الكلام يقع على أذن ملكة كالإبر.. فهي لا تفقه في السياسة ولكنها عرفت ضمناً أنه لا يوجد قطار يقلها إلى الخرطوم في الوقت الراهن وهذا سيضاعف عذابها .. انهارت باكية.. كان بكاؤها مراً ازعج الأسرة الطيبة التي التقت حولها مواسية. . ولكن عصام اسعفها مواصلاً حديثه.


- جهزت لك مقعد في الحافلات التي تسلك طرق برية وعرة.. مقعد أمامي أكثر راحة.- هل سأسافر إذاً؟


- غداً صباحاً إن شاء الله.لم تصدق ملكة إذنيها.. إذا ستسافر ومن خلال وجهها المبلل بالدموع ضحكت في سرور، أسعد أسرة الكريمة وأخذ يحقدون في صانعة الفرح المقيم.. ملكة تعود إليها سجيتها.. وأردف عصام.


- سيقلك الباص إلى مدينة شندى أولاً .. هناك سيكون هذا العنوان مكان إقامتك.. أصدقائي في المدينة جماعة الأشباح..ادخل عصام يده في جيب سترته وناولها الورقة ثم دخل إلى حجرته وعاد يحمل رزمة أوراق وناولها ملكة قائلاً:


- بما أنك امرأة ذكية جداً، قررنا ضمك إلى المناضلين


.عاد عصام مرة أخرى يتحدث بالألغاز.. لكن سعادة ملكة بالرحيل جعلتها تقبل كل الشروط.


- هذا منشورات خطيرة، أخفيها تماماً، وعندما تصلى مدينة شندى أطلبي عربة أجرة واعطى السائق الورقة التي بها العنوان وستجدين الأمور تسير على ما يرام، سيرحب بك الشباب واعتبريهم كأبنائك تماماً. أنا شرحت لهم كل شيء في الرسالة وسيقومون بتوصيلك إلى الخرطوم إلى حيث تريدين.


كان لكلام عصام مفعول السحر في أذني ملكة، لم تشعر يوماً في حياتها أن لها أهمية كما تشعر الآن، فهي تعشق المخاطر منذ صغرها، كانت تجازف بعبور النيل سباحةً أيام تحديها لبعلها العنيد محمد أحمد..


* * *


أزفت ساعة الرحيل في صباح اليوم التالي، كانت ملكة تقف في موقف الباصات السفرية في أبهى حلة بعد أن أهداها أهل المنزل السعيد كل عن حدة قطعة ملابس جديدة. ركبت ملكة الباص الذي كان صوت محركه الدائر يصم الآذان، لم تمضي هنيهات حتى كان الوداع المر ورحلت ملكة كالطيف وتركت خلفها الأسرة السعيدة التي أوشكت الأقدار أن تعبث بها. مع أزيز الباص الذي كان يطوي السهول والوديان والطرق الوعرة غفت ملكة وهي تحلم بالأيام القادمة التي ستكون حبلى بالمفاجئات السعيدة أو المفارقات المحزنة..عرفت ملكة بتجاربها الجديدة أن للحياة وجهين، جانب حلو وجانب مر، هاهي الآن تتقدم نحو الخرطوم، ودخلت عالم جديد مليء بالألغاز والأوراق الخطيرة التي تحملها.. لو أنفقت عمرها كله في القرية لما سمعت به أو رأته.. كان الشيء الوحيد الذي يذكرها بعالم السياسية هو الراحل ود الزين الذي مات منذ أمد بعيد..ظل الباص يطوي الأرض وجميع الركاب لاذون بالصمت الرهيب، كانت تلك الأوقات العصيبة في نهاية السبعينات عندما بدأت البلاد تهوي نحو القاع بخطر واسعة وكثرت الاضطرابات والإضرابات وقد شل إضراب عمال السكة الحديدية كل البلاد وغدى السودان أشبه بشيخ هرم تيبست مفاصله ملقي على قارعة الطريق ينتظر الموت البطيء القادم من المجهول.


*****


الفصل الخامس


وصلت العربة مدينة شندى والشمس تصلي الأرض بشواظ من النار، نزلت ملكة دون أن تتلفت كثيراً هذه المرة كعادة أهل القرى، فقد غدت أكثر تمرساً على حياة المدن.. اتجهت صوب موقف سيارات الأجرة واستقلت أحداها بعد أن أعطت السائق الورقة التي بها العنوان.. انطلقت العربة تشق شوارع شندى المتربة، مثيرة في سيرها عاصفة من الغبار.. وصلت السيارة إلى العنوان المطلوب.. نزلت ملكة وهي تحضن صرة ملابسها بقوة، خاصة بعد أن عرفت أهمية الأوراق والمنشورات التي تحملها.. اقتربت من الباب الحديدي المطلي باللون الأحمر وقرعته برفق، قرعات رتيبة، بدأت حركة غير عادية تدب داخل المنزل الهادئ الذي كان يبدو شبه مهجور من فرط الهدوء المخيم عليه.. انفتح الباب واطلت منه عينان مذعورتان لشاب في مقتبل العمر، اعتاد مداهمة رجال الأمن، عندما لمح الزائرة ذات المظهر الساذج اطمأن قلبه، وابتسمت له ملكة مشجعة.


- السلام عليكم.


- أهلاً يا والده.. تفضلي بالدخول.


قال الشاب ذلك بهدوء لا يخلو من الحذر وأفسح لها الطريق وما كادت تتوسط الفناء حتى قفز ثلاث شباب آخرين من على حائط المنزل المجاور.. أثار ذلك فزع ملكة لأول وهلة.. ضحك الأربعة وأخذوا ينظرون إلى ملكة في دهشة لم تدم طويلاً..


- ءأنتم جماعة الأشباح؟


باغت هذا الاستفسار الشباب الذي فتح الباب


- نعم .. من أين عرفتي هذا الاسم السري.


- ارسلني لكم عصام عبد الجواد، مهندس في اسمنت عطبره.


- عصام أبو خير.. يا هلا بك.


ذابت جميع ثلوج الشك في نفوس الشباب وكان فرحهم بوجود ملكة بينهم عظيماً ودخلوا إلى حجرة العمليات، كانت بها آلة كاتبة وأوراق طباعة وشعار مكتوب على قماشة وأربعة أسرة، جلست ملكة على إحداها تتأمل هذه الخلية النشطة في اعتزاز ثم فتحت صرت الملابس وأخرجت المنشورات وسلمتها إلى الشاب الذي فتح الباب.. فض الشباب المظروف المرفق مع المنشورات وأخذ يقرأ وبين الفينة والفنية ينظر إلى ملكة في اعجاب شديد ثم ردد في انبهار.


- هذه المرأة عظيمة.. كما يقول عصام.


التفت الشاب إلى ملكة في اعجاب شديد معرفاً نفسه


- نحن مجموعة الأشباح، أن بكور، وهذا عمر شوكة وهذا عثمان أبو العاص وذاك على أبو جلب.


كان اعجاب ملكة بهذا العقد الفريد عزيماً.. أولاد في سن ابناءها يتعاطون السياسة ويركبون المخاطر.. ما الذي يدفعهم إلى هذا ؟! سؤال عويص لم تجد له إجابة.


- بارك الله فيكم يا أولادي.


- نامي الآن… واستريحي يا أماه..


أومأ لها بكور في عطف وانهمك في عمله على الآلة الكاتبة، كان يسعل بصورة متقطعة إثارة شفقة ملكة، يعاني من داء الربو اللعين.. جعله يسعل طوال الليل ويدخل ذلك الدواء البخاخ العجيب في فمه ويستنشقه بعنف حتى تهدأ أنفاسه، جلس عمر صاحب الخط البديع يكمل ما بدأه على قطعة القماش المشدودة أمامه.. عبارات موجهة ضد السلطة.. ظلت ملكة تنظر إلى هذه الألغاز في فضول قروي.. أبو العاص يجمع قصاصات ورق من صحف قديمة وخرج علي للصلاة في الفناء الخارجي.. تردد في نفس ملكة الطيبة أكثر من سؤال حائر من هؤلاء؟! أين ابائهم وامهاتهم؟ … ما طبيعة العمل الذي يقومون به .. الغاز.. الغاز..


* * *


قطع طرق مدوي على باب الفناء حبل أفكار ملكة التي اغمضت عيناها في استسلام للنوم، تلفت الشباب إلى بعضهم في حذر وهرع كل منهم يحمل كل ما يمكن أن يدينهم وقفزوا من الحائط إلى المنزل المجاور ومعهم الآلة الكاتبة والمنشورات.. خرج بكور وفتح الباب لرجال الذين يعرفهم جيداً. اندفع الرجال داخل المنزل يجوسون كالكلاب المسعورة يبحثون في كل مكان دون أن تثير ملكة النائمة فضولهم..وفي المنزل المجاور اكتشف بقية الأصدقاء انهم نسوا الشعار القماشي مطوياً جوار ملكة النائمة.. دب الذعر في أوصالهم، هم عمر أن يقفز عائداً وليكن ما يكون ولكن رفيقيه المذعورين تشبثا به . قد تملكهم خوف شديد على صديقهم في الداخل، والمرأة الغريبة.. كانت عيونهم المذعورة تذرف الدمع وهم يبتهلون أن لا يقع الشعار تحت أيديهم.. هدأت هواجسهم فجأة نتيجة للهدوء الذي ساد المنزل بعد انصراف رجال الأمن. سمعوا صافرة الأمان التي أطلقها زميلهم.قفز ثلاثتهم السور عائدين ، صرخ عمر الذي لم يعرف ماذا حدث


- بكور !! لقد نسينا الشعار.- الشعار!! ..


-أي شعار؟!


كان رد بكور الهادئ بمثابة الماء الذي انصب على النار.


- نسينا الشعار في الحجرة ألم يراه رجال الأمن؟!


- لا أدري! لم يكن هناك شعار.


دخل الجميع الحجرة حيث كانت ترقد ملكة نائمة، دار اللغط بين الأصدقاء حول الشعار الذي تبخر في الهواء هل هناك قوة خفية أخذته ؟!... المرأة الغامضة قطعت قول كل خطيب استوت جالسة واخرجت الشعار من تحت وسادتها وناولته إلى بكور، حدق فيها الأصدقاء وقد ألجمتهم الدهشة..


- هل تعنون هذه القطعة الملونة من القماش؟ لم يصدق الرفاق أعينهم .. هذه المرأة فعلاً امرأة خارقة هذه القروية تفعل أشياء عظيمة تفوق التصور.. غمرت الأصدقاء سعادة عارمة أخذوا يدورون حول ملكة ويهتفون باسمها.كانت ملكة سعيدة لسعادتهم الغامرة وهي لا تدري عظمة العمل الذي قامت به، شد ما كان يحزنها لماذا يفني هذا الشباب الغض عمره في المخاطر، نظرت إليهم متسائلة وقد عاد كل منهم إلى عمله.


- اخبروني يا أولادي.. هل أنتم الشيوعيون؟!


- نعم نحن هم .. أرجو أن لا تفهميها بصورة مغلوطة، لسنا كفار ولا ملاحدة.


- حاج إبراهيم في قريتنا يقول عليهم كفار وملاحدة وقد سعد كثيراً عندما تم إعدامهم قبل سنين مضت.


بان الحزن والتأثر على الأصدقاء.


- نحن يا والدة نحارب استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وبما أن استغلال البسطاء يتم من قبل رجال الدين، ظننا الناس أننا نهاجم الدين.طاف في ذهن ملكة طيف حاج إبراهيم الذي تبغضه وتعرفه جيداً من صباها الباكر رددت في نفسها إن هذا الشاب يقول الصدق.


- إنك محق فعلاً يا أبني فيما تقول وأنا أدري بحاج إبراهيم.


- نحن نهدف يا أمي إلى التوزيع العادل للثروة والتنمية المتوازنة. وإذا نظرنا إلى علاقات الانتاج السائدة …


و قاطعته ملكة ضاحكة.


- يا أبني أرجوك لا تتحدث إلي بالألغاز وكلام المدارس أنا امرأة أمية.ابتسم بكور وحدق في ملكة التي تذكره دائماً بأمه الراحلة عندما كان يناقشها في الماضي، طيب الله ثراها…


- نعم سأتكلم بلغة بسيطة، أنت يا ملكة امرأة ذكية ولكنك لم تجدي فرصة عادلة لتنالي قسطاً من التعليم وذلك لأنك عشت في قرية نائية لا تعيرها الحكومة التفاتاً. امرأة ذكية مثلك لا تعرف كيف تسافر من قريتها إلى الخرطوم وقد عانيت الأمرين في طريقك إلى هنا، كما ذكر لنا عصام..ظل كلام بكور يقع في قلب ملكة مباشرة، فعلاً قد قال الحقيقة، عدم التعليم يعطل مواهب الإنسان ويجعله ينقاد خلف من هب ودب، لا يعرف الإنسان الجاهل كيف يميز بين الصديق والعدو،


حتماً هذا الشاب يقول الحقيقة طاف في خاطرها شريط طويل من الذكريات المؤلمة منذ رحيلها من القرية حتى وصولها شندى والمعاناة الشديدة تذكرت رجال الحكومة، أصحاب البدلات العسكرية اللذين زودوا القرية بالوابورات والمعدية والمدرسة الوحيدة .. في تلك السنين الغابرة.. قارنت في خيالها بين زوجها وأخيه عبد اللطيف عم أولادها الذي له منصب كبير في الحكومة، ويمتلك سيارة وذلك لأنه تلقى تعليماً عالياً.. ولكن على حساب من ؟! في هذه البلاد لا توجد فرص عادلة كما قال هذا الشاب النحيف.. ومنذ تلك اللحظة بدأ ذهن ملكة يتضح على أشياء جديدة.. عالم الوعي والنضال من أجل التغيير، ذلك العالم الذي يحترق فيه الإنسان كالشمعة ليضيء للأخرين الطريق. وقد زادها ذلك إصراراً للذهاب إلى الخرطوم والعودة بإبنها صابر لينضم إلى هذه المجموعة التي تريد أن توفر الحياة الكريمة للناس ويكون لها ابن تفخر به، كم تفخر أمهات هؤلاء بهم.. ظلت هذه الخواطر تطوف في ذهن ملكة حتى بعد أن انصرف عنها بكور وشرع في مواصلة عمله على الآلة الكاتبة، استلقت نائمة مرة أخرى وعم الهدوء الذي كان لا يعكره سوى دقات الآلة الكاتبة الرتيبة وسعال بكور المتقطع.. بين الفينة والفنية.. "فعلاً أنهم أشباح" ابتسمت ملكة وهي تعانق الأحلام.


* * *


في الصباح خرجت ملكة مع هذا العقد الفريد من الشباب إلى موقف الباصات التي تقل المسافرين إلى الخرطوم، المحطة النهائية من رحلة العزاب، الشباب في قمة الانسجام مع ملكة التي أحبوها من كل قلوبهم.. ملكة قد اعتادت حمل المنشورات السياسية.. ها هي تحمل منشورات سياسية جديد من مجموعة الأشباح بغية توصيلها إلى مكتبة شهيرة في الخرطوم، كتب لها الرفاق عنوانها، كما أخبروها بأنها متى ما وصلت إلى هذا العنوان سيقوموا بتوصيلها إلى حيث تريد.. لم تعد ملكة تخشى التوهان أو الضياع بعد الآن، فقد غدت أكثر تمرساً على حياة المدن.أطلق الباص نفير القيام، صعدت ملكة إلى الباص وسط صيحات الشباب وهتافاتهم.. كانوا أشبه بمظاهرة في المكان ينشرون البهجة والحبور في كل الناس حولهم من نافذة السيارة أشارت ملكة لبكور يقترب منها وأسرت في أذنه.


- إذا أردتم تفادي رجال الأمن أقتنوا كلاباً شرسا، يكون منبه طبيعي لقدوم الغرباء غير المرغوب فيهم. حتى لا يفاجئوكم بغتة وأنتم غافلون..


أدهش هذا الاقتراح بكور واقترب من بقية الأصدقاء ليخبرهم ماذا قالت ملكة.. ضحك الأصدقاء.. ورفع بكور صوته حتى يطغى على صوت المحرك الدائر.


- نعم انه كذلك لا يخيف الكلاب إلا الكلاب.تحرك الباص مبتعداً والأصدقاء يلوحون بأيديهم البيضاء حتى غاب في أطراف المدينة ..


كان الوداع مؤثراً .. انطلق بها الباص مرة أخرى يشق وهاد هذا البلد المترامي الأطراف لم تكن هذه الرحلة شاقة كسابقتها.. إذ لا تبعد مدينة شندى عن الخرطوم كثيراً، كما أن الطريق أقل وعورة.. والباص من النوع السياحي الفخم الذي لم تشهد له ملكة مثيلاً يبدو أن الحضارة تزداد كلما اقتربت من الخرطوم. أزيز الباص الخافت المنتظم وصوت الراديو المشروخ الذين يذيع أغاني من ذلك النمط الذي لا تعرفه ملكة كثيراً.. وبعد مسيرة ثلاث ساعات لاحت في الأفق البعيد المنازل عديدة الطوابق.. ظهرت الخرطوم، توقف الباص عند نقطة التفتيش، وشعرت ملكة بالرعب يسري في أوصالها.. ماهذا ماذا يريد هؤلاء الجنود اللذين يحملون البنادق سريعة الطلقات؟؟ سرعان ما تبددت مخاوفها، عندما عرفت إنه اجراء روتيني عادي.. تفتيش لأمتعة الرجال وليس النساء، حتى أن الجندي لم يأبه لها أثناء تجواله داخل الباص.. نزل الجندي وأشار للسائق بالمرور.. انطلق الباص وامتطى الطريق الأسفلتي المبتور عند أطراف المدينة.. بارح الباص الإهتزاز والأرجحة العنيفة منذ أن لامست إطاراته هذا الشريط الأسود السحري الذي يمتد إلى داخل المدينة الغامضة.


*****




الفصل السادس


مدينة الخرطوم، غابات من الأسمنت.. المدينة التي تشبه جلد الفهد.. مناطق بيضاء مشرقة ومناطق سوداء قاتمة، الثراء الفاحش والفقر المدقع يفصل بينها خيط واهي.. الدور الفخمة التي يسكنها كبار رجال الدولة وبطانتهم من الأثرياء الطفيليين اللذين نمو كالنبت الشيطاني في تلك الحقبة الكالحة والتحول الكبير إلى الأسوأ.. الاكواخ المنتشرة للنازحين من الغرب والشرق نتيجة لكارثة الجفاف والتصحر التي قضت على الأخضر واليابس.. أقاموا في معسكرات النازحين في هوامش مدينة أم درمان، بعضهم يمتلك كوخاً من الخيش والكرتون والبعض يفترش الأرض ويلتحف السماء، سوء التغذية السمة البارزة وسط الأطفال اللذين تتدلى كروشهم وتلمع أعينهم ذكاء.. أما أبناء الجنوب الأكثر تعاسة، اشتعلت الحرب الأهلية من جديد نتيجة لعبث السياسيين القذرين بعد أن ارتدت الحكومة ثوباً جديداً آن ذاك.. تجمعوا أيضاً في معسكرات بائسة في الخرطوم، غابات من الأسمنت انتقل إليها الانسان بكامل موروثه الحيواني.. إنها الأنظمة الشمولية التي تخرج اسوأ ما في النفس البشرية.. الحافلات المكتظة بالركاب كعلب الكبريت في ذلك الجو القائظ، عربات كهلة تجاهد في طرق الخرطوم وشوارعها منذ عهد الاستعمار تقل الركاب من قلب الخرطوم إلى الضواحي البعيدة.. وفي نفس الوقت العربات الفارهة من فصيلة المرسيدس حكومية أو غير حكومية تنهب الطرقات بكميات يخطئها العدد.. الدراجات النارية تعوي تعلن عن ضيف جاء إلى البلاد أو مسئول خرج من البلاد.. ضجيج.. ضجيج ولا نرى طحيناً.. رجال الأمن يداهمون الأحياء الفقيرة بحثاً عن المنشورات.. طلاب الجامعات يحرقون الإطارات، يعلنون رفضهم للبنك الدولي وسياساته المدمرة كان هذا في بداية الثمانينات.. الجوع يزحف بإصرار نحو السواد الأعظم من الناس، تفشت الدعارة السرية وجميع الأمراض الاجتماعية التي تنجم من مثل هذه الأوضاع.. البنوك التجارية المشبوهة نمت كالأورام السرطانية واستشرت في العاصمة وكل أنحاء البلاد.. وأخذت تمتص عرق ودماء المزارعين.. استنفذ أهلنا في الغرب ما في بيوت النمل من حبوب ونزحوا صوب أم درمان ينتظرون الموت البطيء فقد كان الموت الوسيلة الوحيدة للهروب.. كانت الخرطوم فعلاً أشبه بجلد الفهد، بقع بيضاء وبقع سوداء والساقية طاحونة الأنين تدور.هذه هي الخرطوم التي دخلتها ملكة لأول مرة في حياتها بحثاً عن ابنها صابر.. ظلت سيارة الأجرة التي اقلتها في موقف الباصات تشق طرقات الخرطوم، كحلت ملكة عينيها بكل هذا التناقض العجيب للعاصمة السودانية آنذاك.. توقفت السيارة آخيراً أمام مكتبة فخمة بشارع الحرية وأشار السائق لها بالعنوان.


- هذه مكتبة دار الفكر.. حسب العنوان.


نقدت ملكة السائق أجره واستدارت منطلقة بخطى واثقة إلى داخل المكتبة حيث كان يجلس رجل في العقد الرابع من عمره وسط ارتال الكتب يدون في مفكرته أرقاماً، يبدو عليه الاهتمام الشديد، حيته ملكة في أدب.


- السلام عليكم.


رفع رجل رأسه من خلال نظارته الطبية وجه إليها نظرة عدم اكتراث ويعزى ذلك لمظهرها القروي.


- اهلاً وسهلاً.


- أني قادمة إليك من الأشباح في شندى.


اتسعت عينا الرجل من الدهشة، نهض الرجل وحياها بحرارة، جلست ملكة على الكرسي وناولت الرجل خطاب بكور فضه الرجل على العجل وبدأ يقرأه، بان الاهتمام الممزوج بالدهشة في وجهه.. كان يوجه نظرة بين الفينة والفينة إليها فأخذت تنظر إليه في اعتزاز، نهض الرجل مرة أخرى وحياها بحرارة وإجلال وهو يضحك في حبور، يبدو أن رسالة اصدقاءه كانت حافلة بالأخبار.


- لقد أطلق عليك أصدقائي أسم حركي.


- ماذا تعني باسم حركي.


- اسم سري.. الأم العظيمة.


ضحكت ملكة لهذا الاسم الجديد.


- جعلتوني شيوعية مثلكم وأنا امرأة جاهلة لا أكاد أفقه حديثاً..


جلس الرجل وألقى بظهره على مسند الكرسي وأردف في نبرة خطابية.


- أنت لست جاهلة.. بل أنت امرأة أمية وهناك فرق شاسع بين الجهل والأمية.


أصبح هذا النوع من الحديث يستهوي ملكة فأومأت موافقة وتابع الرجل حديثه.


- هناك فئة من الناس أمية لا تجيد القراءة والكتابة ولكنها تسير الحياة بالحنكة والذكاء الاجتماعي وهناك فئة من الناس جاهلة بصرف النظر إذا كانت عادية أو تحمل شهادات جامعية والجاهل انعكاساته ضارة بالمجتمع ولا تنسى مقولة أهلنا "القلم ما بزيل بلم".


ظل الرجل يتحدث بأسلوب بلاغي رصين، و كلامه يقع على قلب ملكة مباشرةً.. ملكة المرأة القروية التي غدت أكثر وعياً.. واصل الرجل كلامه المؤثر.


- انظري إلى حكومتنا هذه، تعج بالبروفسيرات، نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً، كعادة العسكريين الأغبياء، عندما يفلسوا في آخر سنوات حكمهم يأتون بكل أفاك زنيم من المدنيين يسوسون لهم البلاد والعباد، وكان هذا السقوط المريع الآن ولا ندرى ماذا يخبئ لنا المستقبل من مفاجآت غير سارة.ظلت ملكة تستمع للرجل في أدب جم، فقد تعلمت حسن الاستماع منذ بداية رحلتها الطويلة، كان الكلام ينحفر في ذاكرتها ولا ينمحي، تنبه الرجل أنه استرسل في الحديث أكثر مما يجب فلاذ بالصمت.. ومن الحقيبة الجديدة التي أهداها لها الأشباح أخرجت المنشورات وسلمتها له.. أخذ الرجل المنشورات ووضعها في عناية في درج سري على مكتبه ثم نظر إلى ملكة مبتسماً.- اخبرني الرفاق انك تبحثين عن منزل عم أولادك، ما اسمه.


- عبد اللطيف أحمد الكنزى.. المحامي.وقع الاسم على أذن الرجل وقوع الصاعقة واصابه ارتباك شديد، فطنت له ملكة.


- هذا الرجل يحتل منصب خطير الآن في تشكيل الحكومة الجديدة.لم تصدق ملكه أذنيها، هل الأمور تطورت إلى هذا الحد؟ .. عبد اللطيف عم أولادها أصبح من رجال الحكومة. وهي التي كانت ستخبره برحلتها الشاقة وبالتفاصيل المملة، تنبهت ملكة من شرودها، وابتسمت ابتسامة صفراء وقد خلا وجهها من التعبير، نهض الرجل ونادى سائقه الخاص الذي كان يجلس أمام المكتبة يتأمل السيارات المنسابة على الطريق في عدم اكتراث، امره بتوصيل ملكة إلى ضاحية كبار رجال الدولة… انطلقت السيارة مرة أخرى في شوارع الخرطوم الصاخبة وأخذت تبتعد نحو الضاحية البعيدة.. كانت جنة عدن تلوح أمام عينا ملكة، المنازل عديدة الطوابق، تحيط بها الحدائق الغناء وتشدو فيها العصافير الملونة، قطعة من الفردوس على الأرض، لكنه فردوس زائف، ظلت ملكة تتأمل هذه البيوت في احتقار، لم تعد قروية تبهرها الدور الفخمة، بل غدت امرأة واعية تقاربه بين هذا وذاك لماذا تسكن الفئة المتنفذه في هذه البيوت والسواد الأعظم من الناس في حالة شبه تشرد.. أصبحت ملكة ذات بصيرة نافذة شحذتها التجارب، توقفت العربة أمام القصر المنيف الذي كان عدد العربات المتناثرة أمامه بعدد الكلاب التي تحرسه.. الكلاب المستوردة من الخارج وتعيش في مستوى أفضل بكثير من الناس في الضواحي الشعبية، هناك جندي يقوم بالحراسة. يطل من نافذة كبينته الخشبية ويحمل في يده بندقية سريعة الطلقات.. نزلت ملكة من السيارة واندفعت إلى داخل المنزل دون أن تأبه للجندي الذي عقدت الدهشة لسانه، لم يدر هل يتابع المرأة الجريئة أم العربة التي أتت بها ثم انطلقت بعيداً كأنها تهرب من هذا المكان الآثم.. دخلت ملكة البهو الكبير ووجدت عبد اللطيف وزوجته فاطمة وسط قطع الأثاث والرياش الفاخر يشربان الشاي في أواني فضية.. الجمت المفاجئة عبد اللطيف عندما رأى ملكة تقف أمامه والدموع تنهمر من عينيها مدراراً، اندفع الرجل وزوجته نحوها في إشفاق وساعداها على الجلوس وهي تنتحب بحرقة..


- لماذا أخذت ابني يا عبد اللطيف؟شعر عبد اللطيف بتأنيب الضمير لدى سماعه كلمات ملكة المشحونة بالوجع.


- أنا آسف يا ملكة لم يسعفني الوقت.. كيف حضرت إلى هنا؟


- هذه قصة طويلة دعك منها الآن.قالت ملكة ذلك، أخذت تتلفت بحثاً عن ولدها صابر، فطن عبد اللطيف إلى ذلك.


- صابر في المدرسة، أدخلناه مدرسة خاصة حتى ينال التعليم الجيد.ثم التف إلى زوجته الطيبة وانتهرها كالمعتاد


- هيا أخبري الطباخة تجهز لها طعام أنها تبدو جائعة..


نهضت فاطمة ودخلت إلى داخل القصر وجلس عبد اللطيف يواسي ملكة ويعتذر لها.. اعلن نفير سيارة في الخارج عن وصول صابر وهند.. ودخلا إلى البيت.. الهبت المفاجئة مشاعر صابر وهو يرى أمه بهيئتها المتواضعة تجلس وسط الثراء الفاحش، اندفع صابر وهند وارتميا في أحضان ملكة التي عبثت بها الأشجان واندفعت دموعها .. كان صابر سعيد برؤية أمه.. نظر عبد اللطيف إلى الساعة واستأذن ملكة منصرفاً.- أريد أن أذهب إلى المستشفى لزيارة أمنا آمنة.تنبهت ملكة أنها في غمرة الأحداث لم تسأل عن حماتها.- كيف حالها الآن ؟!- قليل من الأملاح في المثانة، لا أدري لماذا تصر على البقاء في البلد القديمة وقد نزح عنها كل الناس.تمتمت ملكة في أسى.- التمسك بالأرض شرف عظيم، تعرفه الأم آمنة.ثم التفت إلى ابنها صابر وهي تمسح على رأسه.- سأزورها مساءاً مع صابر.كانت هذه آخر كلمات وبعدها انصرف عبد اللطيف، وصعدت فاطمة وابنتها هند إلى الطابق الأعلى جلست ملكة مع ابنها يتناولان طعام الغداء، أخذ صابر يتأمل ملابس أمه العادية في امتعاض.


- ما هذه الأسمال التي ترتديها يا أماه؟


يبدو أن ابنها أخذ في التحول إلى مسخ بصورة سريعة.. ومضت هذه الخاطرة في ذهن ملكة سريعاً ثم تلاشت واجابته في اقتضاب.


- منذ متى كانت ملابسي فاخرة.. انا مزارعة وليست وزيرة.


شعر صابر بالقلق لزيارة أمه، ظل يحاول اخفاءه بصعوبة، نهض وغسل يديه، وانطلق نحو آلة الأرغن وأخذ يعزف عليه لحن جميل وملكة تنظر إليه في دهشة. التفت إلى أمه.


- اشتراه لي عمي عبد الطيف منذ حضوري.. انظري كم هي آلة عظيمة وليست كالطمبور المتهالك في القرية.ظلت ملكة تسمع كلام ابنها وقد أخذ يتضاءل أمام ناظرها، ما دهى هذا الغلام؟! كانت تخاف عليه من مثل هذا.. أن يصاب بهذا الانفصام الخطير..".


- صابر يا ولدي .. هل طاب لك المقام هنا؟


نهض صابر من الآلة الموسيقية واتجه نحو النافذة وسرح بخياله بعيداً ثم استدار.


- نعم ولا يا أمي.


- ماذا تعني؟


- لا أدي ماذا أقول.. إذا قلت لك لست مرتاحاً أكون كذبت وإذا قلت لك مرتاح أكون كذبت أيضاً.


- هذا يعني أنك ستعود معي بعد زيارة جدتك، كما تعلم أني في عجلة من أمري.


- لا يا أماه لن أرجع.. أنا جئت من أجل أهداف محددة أريد أن أرفع مستواكم المعيشي وهذا لن يتحقق إلا بنيل الشهادات العليا. كما فعل عمي عبداللطيف.


- يجب أن تعرف أن عمك عبد اللطيف هذا صنيعة والدك الذي ضحى من أجله وخرج إلى العمل مبكراً وانفق على عمك بعد وفاة جدك طيلة سنوات دراسته حتى نال الدرجات العليا التي تراها الآن.


كان كلام ملكة يوخز صابر كالإبر.. فهو غلام صاحب طموحات كبيرة ولكنها للأسف طموحات مريضة.. وانبرى صابر قائلاً في يأس.


- لن تفهميني إطلاقاً يا أماه !!


- ماذا تريد أن أفهم..؟! الثراء الذي هبط عليك فجأة جعلك تزدري مظهري.. هل تريدني أن أفهم ذلك؟! أني أخشى اليوم الذي تنكرني فيه.. يا ابني الخرطوم ليست بلدنا.


لم يطق صابر هذا التقريع واندفع نحو أمه واحتضنها وهو يبكي.


- أنا آسف يا أماه إذا كنت قد آذيت شعورك.


- إذا كنت تقدس أمك عد معي، ليتك تعرف كم عانيت للوصول إليك، يا أبني نحن أهل الشمال لا نستطيع العيش في مدن بلا نخيل..


- لكن يا أمي أنا أريد مساعدتكم وأريد حل مشاكلكم.


- لن تساعد أحد يا أبني غير نفسك.. لقد مررت على شباب في سنك يريدون حل مشكلة البلاد كلها.. لا تقل هذا يا عزيزي أرجوك عد معي.


لاذ صابر بالصمت الممزوج بالإحباط، نهضت ملكة بعد فراغها من الغداء وحملت الأواني إلى المطبخ رغم اعتراضات الطباخة الشديدة فهي لم تعتاد أن يخدمها أحد.. جلس صابر مرة أخرى على آلة الأرغن وعزف عليها ألحان متنافرة عكست اضطراباته النفسية الشديدة. لقد خلق ظهور أمه المفاجئ على مسرح حياته صراعاً داخلياً شديداً في دهاليز نفسه البادية في الانشراخ.. ماذا يفعل ؟! البقاء في المدينة والحياة الرغدة والمستقبل المشرق أم العودة إلى القرية البعيدة المدفونة في الرمال حيث الملل والحياة الخاوية التي لا تلائمه.


*****


الفصل السابع


كان الليل قد خيم على المدينة.. المستشفى الخاص يتلامع بأنواره الزاهية.. الغرف الفخمة المطلية باللون الأبيض والزهور التي تغطي المكان تجعل المريض لا يعرف "هل مات حقاً ودخل الجنة أم لايزال على قيد الحياة ؟!".. وقف صابر وأمه عند فرش الجدة المريضة، رددت المرأة العجوز في صوت واهن.


- كيف حال الولد محمد أحمد والأولاد؟


- الجميع بخير ويقرؤنك السلام.نظرت الجدة نظرة حب عميق إلى صابر.


- هل جاءت أمك لتأخذك منا؟!


لاذ صابر بالصمت الحزين، نظر إلى ساعته وتناول صندوق الدواء جوار جدته وتناول منه كبسولة ورفع رأس جدته على ساعده وناولتها ملكة كوب الماء، ابتلعت الجدة حبة الدواء بصعوبة واستلقت مرة أخرى. رن جرس بانغام جملية معلناً انتهاء الزيارة، دلف صابر وأمه إلى خارج الغرفة ومن ثم إلى خارج المستشفى.. وصلت السيارة إلى المنزل الذي كان يلفه الهدوء في ساعة متأخرة، تناولت ملكة العشاء مع ابنها وصلت العشاء ولم تجد مناصاً من النوم الذي زادت اضطراباته وطافت بها الأحلام إلى القرية والتحول المفاجئ الذي حدث لإبنها صابر.. ظلت تمر في أحلامها في شكل كوابيس مزعجة.. رأت ابنها يبتعد عنها في صحراء تعوي فيها الرياح في محيطات لا نهائية من الرمال وهي تناديه وصوتها يذهب أدراج الرياح.. سبب لها ذلك آلام شديدة جعلتها تواقة للرحيل بأسرع فرصة وقد مضى على فراقها للقرية ردحاً من الزمن خالته حقباً طوال..


* * *


استيقظت مبكرة كما أعتادت البكور في الريف وجلست مع رب الأسرة في الشرفة المطلة على الشارع الذي تنساب فيه السيارات الفارهة تنهب الطريق نهباً وأمامها درزينة من الدرجات النارية تعوي مبددة هدوء الصباح عن المدينة التي لا زالت تتثاءب لاستقبال يوم جديد..قطعت ملكة حبل الصمت والإحراج الذي خيم على عم أولادها منذ ظهورها المفاجئ..


- لقد قررت العودة اليوم.. وانت تعرف ظروفي جيداً.


كان عم عبد اللطيف يخشى هذه اللحظة ويتحاشاها رد في خنوع.


- إذاً ستأخذي صابر معك.. ارجوك لا تفعلي فقد ملأ علينا هذا البيت بالفرحة وفاطمة تحبه كأبنها تماماً.. قد خطت مستقبله بيدي.. هل تريدي أن تهدمي ذلك في لحظة؟


كان كلام عبد اللطيف يعبث بمشاعر ملكة ويجعلها في حيرة بين عقلها وقلبها. وغلبت عليها عاطفة الأمومة.


- أنت وزوجتك يا عبد اللطيف مكان حبي وتقديري وأنا أعلم أنكم بحسن نية تريدوا لنا خيراً ولكن..


ظل عبد اللطيف يعتصره الألم، لم يستطيع أن يتصور هذا القصر عديد الطوابق من غير صابر..


- هل هذا رأيك النهائي ؟!


فكرت ملكة قليلاً وجمعت كل رابطة جأشها لتتخذ القرار الصحيح حتى لا تتجني على ابنها فأجابته:


- هذا شيء يقرره صابر بنفسه.


ما أن سمع عبداللطيف ذلك حتى تهللت أساريره.. أنه يستطيع اقناع صابر وهو المحامي الضليع، عبد اللطيف رجل حصيف وذو خيال واسع سيبني لصابر قصور من الأحلام لن يرى خلفهاً ابداً طيف قريتهم القاتم.. المستنقع الذي خرج منه.. نهض عبد اللطيف في تثاقل إلى داخل المنزل إلى غرفة صابر، وجده يرقد ساهماً.. يحملق في سقف الحجرة، نهض صابر واستوى جالساً مفسحاً مكاناً لعمه عبد اللطيف يجلس جواره .


- ألا تريد الذهاب إلى المدرسة اليوم؟!ظل صابر ذاهلاً ولكنه رد بصورة آلية .


- أمي يا عم عبد اللطيف!! عز علي أن أتركها ترجع وحيدة.


- لا تنزعج سأحجز لها مقعد في طائرة مروى ومن هناك تستطيع أن تصل البلدة في أقل من ساعتين..


هيا انهض وارتدي ملابسك دعني أوصلك المدرسة وأعود لأفرغ من أمر أمك..


- ليس الأمر كذلك يا عمي.. لا بد من اقناعها.. تعطل تفكيري تماماً.


كان صابر يردد ذلك ويعتصر رأسه بين يديه، ثم هب فجأة واتجه نحو الدولاب وأخرج ملابس المدرسة وشرع يرتديها وفي ذهنه تدور فكرة واحدة، "عندما يعود من المدرسة سيقنع أمه بأن تتركه يبقى وسيودعها في المطار بكل ما تجود به عيناه من دموع". لم تسع الفرحة عبد اللطيف عندما رأى صابر قد عدل عن العودة مع أمه.. فأردف باسماً.


- في العطلة القادمة سنذهب كلنا إلى لندن وستحضر لإخوانك هدايا لم يحلموا بها قط..


كان صمت صابر الحزين يخيف عبد اللطيف، لذا آثر أن يلوذ بالصمت.. نزلت هند تنادي أبيها وخرج عبد اللطيف وصابر إلى البهو، ثم دلف ثلاثتهم إلى الشارع وركبوا السيارة المرسيدس وانطلقت بهم نحو الطريق الاسفلتي.. كانت ملكة لا زالت تجلس ساهمة الشرفة عندما شاهدت السيارة تمتطي الطريق الاسفلتي وبها طيف ابنها صابر وابنة عمه.. "ماذا جرى؟؟ ذهب صابر إلى المدرسة حتى دون أن يودعها .. بماذا اقنعه عبد اللطيف؟! " ،شعرت ملكة بأن الأشياء بدأت تتداعى، نهضت في تثاقل ودخلت إلى حجرتها، حملت حقيبتها الصغيرة على عجل.. وهربت من القصر الذي كان خالي من سكانه إلا من ذلك الجيش الكبير من الخدم والحشم، خرجت إلى قارعة الطريق حتى دون أن تلتفت ورائها إلى الجنة الموعودة التي تركتها واقتربت من الطريق الاسفلتي، بعد جهد جهيد عثرت على سيارة أجرة استقلتها وقد غمرت الدموع عينيها، دموع الهزيمة ومن خلال دموعها كانت تودع مدينة الخرطوم برؤية ضبابية، المدينة التي تشبه جلد الفهد، المدينة التي ضاع فيها إبنها صابر.. وصلت محطة القطار وركبت قطار الشمال.. تحرك بها القطار بعد نصف ساعة وملكة غارقة في أحزانها وتلعن في سرها المدينة التي ابتلعت العديد من أهل القرية الطيبين.. عثمان ود البشير الجذار ومن قبله ريا بنت المرحوم عبدالقادر.


* * *


كان للمرحوم عبد القادر سبع بنات جميلات، كبراهن ريا، غرق عبد القادر في حادثة المركب الشهيرة الذي راح ضحيته العديد من أهل البلدة. غرق عبد القادر وزوجته في الحادث وتركا ريا وشقيقاتها على كف القدر، مرت تلك الأيام الكئيبة على القرية، كانت ريا من أجل فتيات القرية.. جمالها الغجري يبعث الرعب والعذاب في قلوب الرجال والشباب على حد السواء، بنت السبع عشر بيعاً تبخرت أحلامها في مواصلة التعليم، حبها العذري لسعيد ولد الشيخ عبد الباسط لاقى نفس المصير.. صبرت قليلاً وعندما كبرت اخواتها وأخذت مطالبهم تكبر لم تعد تسعفها النقود التي كان يجود بها محمد أحمد خلسة دون أن يعلم بها أحد من أهل البلدة حتى لا يجرح شعورها، هذه الإغاثة البسيطة فتحت جسور المحبة والتقدير من ريا له.. ثم جاء اليوم الذي اختفت فيه ريا من البلدة دون أن يعرف لها أحد أثراً، صدم اختفاؤها المفاجئ أهل البلدة وكالمعتاد أخذت تدور حولها الأساطير منهم من يدعي أنها غرقت في النيل ومنهم من قال أنها هربت مع رجل.. مع من؟؟ سعيد ولد الشيخ عبد الباسط لازال في القرية يواظب على صلواته في المسجد.* * *بعدة مدة ظهرت ريا في رمضان، كانت ترفل في حلة زاهية كأنها أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة، بدأت أثار الغمة تغزو بيتهم المتواضع وتحسنت صحة اخواتها كثيراً، بعد أن تكررت زيارتها السنوية إلى البلدة.. أصبح الكل يعرف أن ريا تعمل ممرضة في مستشفى خاص في الخرطوم.. يجود لها النزلاء وذويهم بالهدايا الثمينة لتفانيها في خدمتهم.. كان لريا القدح المعلى في تهجير العديد من شباب القرية إلى دول النفط لعلاقاتها الواسعة بالكبار في الخرطوم، وماذا يعني أهل القرية من هذا الأمر طالما هناك يد قوية أضحت تنتشل ابناءهم من كابوس الفقر المدقع.. ومضت الأيام دواليك حتى جاء يوم غريب في رمضان.. كانت دائماً تأتي في رمضان تصوم شهرها وتؤدي فروضها في المسجد.. هذه المرة كانت أشبه بالشبح، جسدها دب فيه الهزال وشحب وجهها الذي كان يشوبه شعور بالذنب عظيم.. وفي الليل اشتدت عليها حدة المرض، فأخذت تهذي وأمرت شقيقاتها أن يحضروا لها محمد أحمد، الرجل الوحيد الجدير بثقتها، أخبرته بكل شيء أنها تعاني من مرض سري وأنه منذ هروبها من القرية، استقلت القطار إلى الخرطوم، هناك تلقفتها قوادة شهيرة وبدأت معها مشوار السقوط، كان لجمال ريا الغجري الدور الفعال في فنون اللعبة وخصصتها للكبار وأصحاب السيارات الفارهة.. إن هروبها من القرية بسبب حاج إبراهيم، اعتدى عليها في مخزن الدكان عندما جاءت تستقرضه مال.. لذلك رفضت أن يتزوجها سعيد أو يعرف سرها.. رفضت ريا كل محاولات محمد أحمد أن يأخذها إلى مستشفى المدينة في الجوار وآثرت أن تموت وسرها معها.. كان لها ما أرادت، فاضت روحها في صباح العيد وكان يوم موتها مهيباً خرج فيه كل أهل القرية، وصلى عليها صالح الغرقان وصديقه محمد أحمد، أعلن محمد أحمد أنه سيعتكف أربعين يوماً يترحم عليها، فرحت ملكة آنذاك بأن الرب تاب على زوجها وترك عادته الرديئة شرب الخمر.. لكن خاب ظنها وفي ليلة ابتلع التمساح فيها القمر، علا صياح أهل البلدة وأخذوا يضربون الصفائح والدفوف، حضر محمد أحمد مخموراً يترنح ويسب ويسخط بكلماته المشهورة.- تعساً لأولئك النسوة، بائعات الخمور، منذ أصبحن يغششن بوضع الماء الزائد في الخمر، غضب الرب وما فتئ يصب لعناته على القرية.. لأنه لا يحب المطففين..


* * *


ظلت هذه الخواطر والذكريات تنساب على مخيلة ملكة التعسة والقطار ينهب بها الأرض نحو الشمال، تذكرت ملكة كيف أسدل الستار على هذه المأساة برحيل سعيد الولهان الذي فقد حبيبته ريا وهو لا يعلم سرها، منذ ذلك اليوم أصبح حاله لا يسر أحداً في القرية، يهيم في طرقات القرية زاهلاً نحيلاً، وجاء اليوم الذي شهد رحيله، سافر بإحدى شاحنات والده إلى جنوب البلاد، قيل أنه استقر هناك وتزوج أبنه رث قبيلة الشلك واسلم على يده العديد من أبناء الجنوب وطاب له المقام إذ لم يعد للقرية معناً بعد رحيل ريا الأبدي، ريا التي انطفت كالشمعة، ريا التي أحرقت نفسها لتضيء للآخرين، يرحمها الله، يرحم جميع أهل القرى اللذين ضلوا طريقهم في متاهات المدينة الفاجرة، المدينة التي تشبه جلد الفهد،.كانت ملكة تردد ذلك والقطار يتلوى كالثعبان ويقطع الوهاد إلى الشمال إلى قريتها الوادعة طيبة.. مضت السنين وأصبحت رحلة ملكة الفاشلة إلى الخرطوم في طي الذكريات.


*****


الفصل الثامن


في ذلك الصباح وأشعة الشمس الذهبية تتسلل بين أوراق شجر النخيل الجافة.. أسراب من الطيور المهاجرة تلوح في الأفق بعيد، كانت ملكة تجلس تحت الشجرة التي تساقطت أوراقها ولم تعد ذات قيمة افتقدت الظل والإخضرار.. ظلت ملكة تحملق في ذهول في مزرعتها التي أدركها الجفاف وكادت تصبح صعيداً زلقاً.. لاح في الأفق ابنها شريف وصديقه كمال ابن التاجر إبراهيم وهم يرتديان زي المدرسة الثانوية في البلدة المجاورة. كان حمارها الهزيل يرقد عن كثب يلوك الأعشاب الجافة في امتعاض. جلس شريف وكمال جوار ملكة ووجهها يقطر بالإحباط، نظرت لها متسائلة.


- ماذا حدث .. الا توجد مدرسة اليوم؟!


أجابها شريف في حنق شديد وهو يمسح العرق الذي كان يتصبب منه.


- لا يوجد خبز اليوم ولم يتمكن العديد من الطلاب الحصول على وجبة الإفطار.


تنهدت ملكة في أسى وأخذت تحملق بعيداً.- إلى متى سيستمر هذا الحال.. الجفاف ساد المكان، احترقت المزارع عن بكرة أبيها، انعدم الوقود الذي يحرك ماكينة رفع المياه من النيل.ثم أردفت ملتفتة إلى كمال في نبرة عتاب.


- إني لا أرى سبباً واحداً يجعل والدك يخزن الوقود ويبيعه في السوق الأسود .. أنه الثراء الحرام بعينه..


أومأ كمال موافقاً في حياء شديد، فقد كان وهو نفسه غير راضي عن تصرفات والده التي تتسم بالأنانية والجشع، فهو يقوم بإحتكار كل شيء من الدقيق إلى البترول.


- أنا آسف جداً لكم جميعاً.. أنه أبي على كل حال.


ابتسمت ملكة في ود وهي تنظر إلى كمال الذي فاض الدمع من عينيه.. انها تعلم أن كمال ولد طيب.. حدقت ملكة بعيداً حيث كان يقف شاب نحيف وطويل القامة يقف عند سور المدرسة يكتب بالطلاء على الحائط.


- من ذلك عند سور المدرسة ؟!


-اظنه معاوية ود الزين.


التفت كمال وشريف ناحية المدرسة ثم انبرى شريف قائلاً في نبرة اعجاب.


- نعم أنه هو، يعمل مع البعثيين..


اردف كمال في توجس


- إنه مخلص كوالده المرحوم.. أني أخشى عليه أن يسمع بنشاطه رجال الأمن في المدينة..


أردفت ملكة في اعتزاز.


- انه كأبيه شجاع ..


كان والده رمز للوطنية والإخلاص طيلة حياته القصيرة في قريتنا، زينب أيضاً امرأة فاضلة.أخذ شريف يقلب صفحات كراسته حتى عثر على منشور.- قام معاوية بتوزيع هذا البيان ليلة أمس على طلاب المدرسة.تناول كمال الورقة وأخذ يقرأ لملكة التي كانت تستمع بشغف بعد أن تعلمت هذا النوع الجديد من الحياة.. نهض ثلاثتهم بعد اشتداد الهجير.. عبرو المزرعة الجافة وعند مشارف سور المدرسة حيوا معاوية الذي استدار إليهم مبتسماً.. ظلت ملكة تتأمله في اعجاب وطاف بذاكرتها عندما حضر الزين وزوجته زينب إلى القرية في ذات ليلة من ليالي يوليو الحارة. كان معاوية طفل رضيع، منذ أن حلت هذه الأسرة في القرية وحديث أهل القرية عنها لا ينقطع، كان الزين يعمل مدير للمدرسة الابتدائية.. رجل بمعنى الكلمة، ظل ملاذ القرية في أحلك الظروف.. حتى جاء اليوم المشؤوم.. ودع الزين أهل القرية في طريقه إلى الخرطوم، عندما تصعدت الأزمة السياسية في منتصف الستينات.. واندلعت ثورة اكتوبر . لم يدر الزين أنه كان يودع اسرته الصغيرة ويودع القرية الوداع الأخير، استشهد الزين في مظاهرات ثورة اكتوبر.. أصابه عيار ناري، مات متأثراً بجراحه وسطر للقرية تاريخ مشرق.. ومضت السنين وقامت زينب الحزينة بتربية ابنها معاوية، تربية وطنية على نهج والده لا يرضى بالظلم.. وقد كان.


*****


الفصل التاسع


ظلت شمس الظهيرة تصلي الأرض بشواظ من نار.. جلس محمد أحمد على عنقريب متهالك في برندة دكان حاج إبراهيم.. الذي كان يغلق أبواب متجره على عجل، يبدو أنهما ظلا يتحدثان لفترة طويلة.. في الموضوع المزمن، الجازولين.. أخذ محمد أحمد يترجاه أن يجود له ببرميل حتى لا يفشل المحصول.


- يا حاج إبراهيم.. أني أعلم تماماً والكل في القرية يعرفون أنك تبيع حصلة البلدة من الجازولين في السوق الأسود.. اعطني برميل واحد على الأقل.


نظر حاج إبراهيم إلى صديقه اللدود في امتعاض، كان يكره صراحة محمد أحمد الجارحة، فأنبرى له قائلاً:


- أنت لا تفتئ تتهمني بالباطل، أنا رجل أخاف الله وأنت رجل سكير.


- نعم أنا أتعاطى الخمر، هذا شيء شخصي وأنت تضر أهل البلدة.


- أنت المخمور دائماً، ماذا تقول يوم يحشر الناس عندما تسأل فيما انفقت عمرك؟!


- إن الله يغفر الذنوب جميعاً إلا حقوق الناس.


- سبحان الله هكذا تقول !!


- تعساً لك .. وماذا ستقول أنت ؟!


باغت الاستفسار حاج إبراهيم وبان الامتعاض على وجهه.


- ماذا أقول؟


- نعم .. هل ستعترف بأنك تتلاعب بأقوات الناس وتستغلهم ؟!


- عفا الله عنك أيها السكير.


- يمكنك أن تنكر ذلك أمامي الآن، لكن هناك لن يسعك الإنكار لأنه يعلم تماماً ماذا كنت تصنع.


بلغ الاستياء مداه بحاج إبراهيم، إنه لا يرضى أن يواجهه أحد بأعماله المنكرة ولكنه تقبل ذلك من صديقه لشيء ما.ادخل يده في جيبه وأخرج رزمة كبيرة من النقود وهو ونظر إلى محمد أحمد في ود.


- دعك من هذا.. أنا لم أدعوك له.. أود محادثتك في موضوع عائلي.


نظر محمد أحمد إلى غريمه في توجس.


- ماذا تريد ؟!


- هدئ من روعك، لماذا أنت حانق علي هكذا ؟!


- قلت لك ماذا تريد ؟!


- هون عليك، أنت تعلم مدى حبي لك، حتى أني احتمل اهاناتك لي دون خلق الله أجمعين.


- تعساً لك .. لابد أنك عازم على أمر جلل.


ابتسم ابراهيم إبتسامة عريضة ومد رزمة النقود إلى صديقه .


- خذ هذه المصاريف، حتى تتحسن الأحوال.نهض محمد أحمد في غضب وازاح النقود بعيداً.


- لا أريد نقودك القذرة.. أريد جازولين.


أعاد حاج إبراهيم النقود إلى جيب جلبابه الواسع، حاول رسم ابتسامة على شفتيه.. فقد كان يبيت أمراً جعله يحتمل كل الإذلال الذي أذله له محمد أحمد.


- يا عزيزي .. كنت أريدك في موضوع هام، شغل بالي منذ مدة.


رمقه محمد أحمد في ارتياب، بعد أن لاحظ تغيير في نغمة الحوار، وظهور نبرة جديدة.


- إياك أن تكون في مزمع على إدخالي معك في أجهزة الحكومة الخربة.رد حاج إبراهيم في صبر نافذ.


- ابداً.. انه موضوع عائلي.باغت الرد الغريب محمد أحمد ، أخذ يحملق في صديقه في ذهول.


- ماذا تعني بموضوع عائلي؟!تنحنح حاج إبراهيم ورد في خنوع.


- أريد تزويج ابنتك محاسن.نظر محمد إلى صديقه كالمشدوه.


- لمن .. لابنك كمال؟!


- لا ليس لإبني.. أريد أن أتزوجها لنفسي.وجه محمد أحمد إلى صديقه نظرة احتقار.. إذا هذه كانت المناورة، واطلق الساحر تعاويذه.


- اسمع أيها المتعجرف.. ابنتي محاسن في سن بنتك ايمان ثم أنك متزوج من امرأتين..


كان رد حاج إبراهيم على غير ما يتوقع محمد أحمد، في خنوع شديد.


- إذا غديت صهري، سأفتح لك مخازني تعب منها ما تشاء الجازولين.. الدقيق، السكر، بل سأشتري لك زجاج الخمر التي تحبها بنفسي.- قلت لك دعك من هذا!!


- لماذا أنت حانق علي هكذا؟! .. شاور ابنتك قد ترضى بذلك والشرع أباح الزواج من أربعة.


كانت هذه آخر كلمات حاج إبراهيم، قبل أن يستأذن صديقه اللدود اللحاق بصلاة الجمعة في المسجد الذي كان يتعالى منه الأذان.. نهض محمد أحمد مطرقاً.. يفكر في هذه المعادلة الصعبة، لقد عرف هذا اللعين كيف يلعب على أوتار قلبه، خاصة أن العرض الأخير كان مغرياً، ظل محمد أحمد يقلب الأمر في رأسه " لماذا لا يحاول أبنته، قد تكون راضية .. هذا الرجل الذي سيكفل لها حياة كريمة، عجز هو نفسه أن يكفلها لأبنائه.. هذا العرض سينقذها من الفقر وويلاته، كما أنقذ صابر، الذي تتوارد الأنباء بأنه يصعد في سلم الحياة الاجتماعية بسرعة.. ظلت فقط رسائله تقول ذلك.. " إذا كان لا بد من تضحيات فلا بد أن يضحي أحد ما" .. فاليؤجل هذا الأمر إلى المساء.. وانطلق في طريقه إلى هوامش القرية..


* * *


عند الغروب دفع باب منزلهم ودلف إلى الداخل في تثاقل. كأنه يحمل العالم على كتفيه، جلس على حافة العنقريب الذي كانت تجلس عليه ابنته محاسن، تحيك قطع الملابس الممزقة.. استلقت ملكة على فراشها في الفناء بين ولديها وليد وزينب، كان يبدو عليها الإعياء وقد استسلمت لمداعبات ابنها وليد بشعرها الطويل.. نظر محمد أحمد إلى ابنته محاسن في توجس، لابد من إلقاء قنبلته الآن. التفتت محاسن إلى والدها في قلق.. شعرت أن والدها اليوم يتصرف بطريقة غير طبيعية ولا بد أنه يبيت أمراً.


- محاسن أبنتي، أنت أدرى بالشظف الذي نعيشه.


أزاحت محاسن القميص التي تحيكه جانباً ووجهت نظرة متسائلة إلى والدها.. لم تخمن بعد ماذا يقف خلف هذه المقدمة، من سياق الأمر يبدو أن الأمر سيكون في غير صالحها.


- ماذا تعني يا أبي؟والقى محمد أحمد قنبلته التي نسفتهم جميعاً.


- طلب حاج إبراهيم الزواج منك.


شعرت محاسن كأن هناك خنجر انغرز في صدرها.


- حاج إبراهيم! لا يا أبي لا أصدق ذلك..!!


نظر إليها والدها في إشفاق.


- نعم .. أنه رجل ثري، سوف ترفلين في نعيم، قلما يجود الزمان بمثله إن فتيات كثيرات يحلمن بهذا.


قال محمد أحمد ذلك ثم وجه نظرة تحدي إلى ملكة التي استوت جالسة تحملق فيهما في ذهول مشوب بالسخط.. اردف محمد أحمد.


- أخبريها أيها التعسة، ماذا يعني الزواج من حاج إبراهيم.


كانت هذه عادته دائماً يصب لعناته على زوجته المسكينة.


- لن ألزمها بزواج إبراهيم قسراً حتى ولو كان له مثل ما أوتي قارون.. ثم إن إبراهيم هذا لص قذر !!


جاء رد ملكة المتحدي نصلاً بارداً يشق صدره. انه يقبل أن يتحداه أي شخص إلا ملكة، هذا مالا يقبله أو يرضاه، ثارت فيه نخوة الرجولة واستبد به الغضب الشديد.


- أخرسي أيتها البلهاء.. الجدران لها آذان.ردت ملكة في تحدي.


- أنا لا أخشاه ولا أخشى أي مخلوق يدب في هذه الأرض إذا ابنتي قالت لا هذا يعني لا ...


نهضت محاسن من جوار والدها والدموع تنهمر من عينيها واندست في صدر أمها تنتحب بشدة.. نهض والدها يرغي ويزبد وقد عصف به الغضب.. ها هي زوجته العنيدة تلقي قفاز التحدي في واجهه..


- تعساً لكم جميعاً .. أنا رجل هذا البيت وإن لي الكلمة العليا سيكون الزواج شاءت أم رفضت.


استدار محمد أحمد منصرفاً ليواجه على باب الخارجي ابنه شريف وصديقه كمال، قادمين من الخارج، تسمر الصديقان في فناء المنزل وقد شعرا ببرودة الجو المكهرب الذي يعم المنزل كما كان عويل محاسن يصم الآذان، نظر شريف إلى شقيقته في توجس وقف كمال جواره مطرقاً.


- ماذا بها يا أماه.. لماذا تبكي شقيقتي محاسن.


رفعت محاسن رأسها ونظرت إلى كمال الذي وقف في ارتباك.


- أبوك حاج إبراهيم يريد أن يتزوجني يا كمال.اكتسى وجه كمال بالغضب الشديد.. "اللعنة!! محاسن التي يحبها منذ الصغر، يريد أن يتزوجها والده، "يا لسخرية الأقدار". استدار كمال منصرفاً، تاركاً خلفه جو من الوجوم ملبد بالغيوم، جلس شريف جوار شقيقته يطيب خاطرها.. أنه يعرف أنها صفقة تجارية جديدة يعد لها حاج إبراهيم الذي لا تنتهي ألاعيبه..نهضت ملكة وتلفحت ثوبها وخرجت صافقة الباب خلفها تحصد الأرم "إذاً أراد حاج إبراهيم تدمير حياتها وأسرتها" اندفعت ملكة تشق طرقات القرية المظلمة قاصدة بيت حاج إبراهيم، ما أن أقتربت من المنزل حتى ترامى إلى أذنيها الشجار العنيف الدائر بين كمال ووالده.


- يا أبي ما تفعله عمل مشين.. إن محاسن في عمر أختي إيمان.


- قلت لك مراراً لا تدخل في شؤوني الخاصة.


- إنك لا تهمك إلا مصالحك فقط.


- تشتم أباك يا كلب .. أخرج وأغرب عن وجهي لا أريد أن أراك ثانية.


- نعم سأرحل.. وسيأتي يوم تدفع فيه ثم كل ذلك..


كانت هذه آخر كلمات كمال واستدار منصرفاً.. التقى بملكة في الخارج نظر كمال إليها خلال الدموع الغزيرة التي غطت عينيه . ثم اشاح عنها واندفع في طرقات القرية، دخلت ملكة المنزل لتواجه حاج إبراهيم الذي كان لا يزال ثائراً يخور كالثور استدار إليها إبراهيم، جاهد نفسه ليبدو أكثر تهذيباً أمامها إنه يعرف ملكة تماماً.. رفيقة صباه، يحبها بجنون في ذلك الزمن الغابر.. أجمل بنات القرية ولكم أزله حبه لها ظل لا يعرف لماذا اختارت محمد أحمد غير المبالي، محمد أحمد معشوق النساء في القرية، رجل عنيد وغير آبه، كثيراً ما كانت فتيات القرية يتسللن ليلاً إلى شاطئ النهر يراقبنه وهو يتعرى عن ملابسه تماماً وجسده الأسمر يتلامع تحت ضوء القمر، يلقى بنفسه بالنيل، كان الوحيد الذي يستطيع عبور النيل سباحةً.. يعبر إلى البر الشرقي ويقضي لياليه الماجنة ويعود في الفجر ظافراً منتشياً من غزواته النسائية، كم كان يحسده.. ولا يدري لماذا تتعلق به الفتيات، بل يجعل ملكة تتزوجه، مسجلة الضربة القاضية له وهو الشاب الثري ابن سر التجار منذ عهد التركية السابقة. جالت هذه الخواطر في عقل إبراهيم المنكدر، حدق في ملكة التي نظرت إليه في احتقار جعلته يشعر بضآلته أمامها.


- ما هذه اللعبة الجديدة التي جادت بها قريحتك المتعفنة ؟!


نظر إليها حاج إبراهيم في حب وخنوع


- أي لعبة تعني يا عزيزتي.. ارجو أن تقدري موقفي.


وجهت إليه ملكة نظرة باردة كالثلج.


- أنت متزوج من امرأتين ألا يكفيك ذلك، أم أن هذا الزمن الرديء يتسع للزواج من ثالثه.. كان الأجدى بك أن تزوجها كمال ابنك.


قفز حاج إبراهيم كالملسوع عند سماع كلماتها الأخيرة.


- كمال ! ذلك العقرب.. لقد طردته الآن لم يعد أبني .ردت ملكة في إزدراء.


- أنت العقرب وليس هو ابتلع ابراهيم إهاناتها بصعوبة وقد اشتعل حبه القديم لها.. ملأ الشبق عينيه، اقترب منها يرتجف.


- يا عزيزتي لماذا كل هذا أريد الزواج منها على سنة الله ورسوله.نظرت إليه في تحدي.


- إبراهيم لا تتحداني.. أنت تعرفني جيداً.نفذ صبر إبراهيم تماماً وانفجر فيها غاضباً.


- أنت لا شيء .. أصبح الأمر من شأن الرجال وأنت مجرد امرأة.


- امرأة!! ستعرف من أنا.. وتركع أمامي متوسلاً كما كنت تفعل في الماضي.


اشعل هذا الكلام المؤلم فتيل الغضب وانفجر فيها وقد تحول كل حبه القديم لها إلى كراهية عارمة.


- أخرسي.. اخرجي من هنا أيتها اللئيمة.


استدار إلى داخل احدى الحجرات وصفق الباب خلفه بقوة، لمحت ملكة أوراق على منضدة ودفاتر تركها إبراهيم، أخذتها وكانت تحس بحسها الوطني إن لهذه المستندات أهمية، وسيأتي يوم تشهرها في وجه إبراهيم وهذا اليوم ليس بعيد وقد غدا قاب قوسين أو أدنى، أخذتها ودستها في طيات ملابسها وانصرفت في هدوء.. تسللت إلى بيتهم وتفقدت أولادها للنائمين ثم اتجهت نحو فراش بعلها اللدود كانت تفوح منه رائحة الخمر يغط في نوم عميق، أخذت تتأمله بحب عظيم، إنها تحب زوجها حب لا ينتهي رغم الشراسة التي تتسم بها تصرفاته، كان يختبئ داخله إنسان أصيل والروح السودانية الطيبة. قد لمست ذلك بحسها الأنثوي الذي لا يخيب ابداً، تزوجته رغم أنف الجميع.. سحبت ملكة غطاءه عليه لتقيه برد الأسحار.. عادت إلى فراشها واستسلمت للنوم.


* * *


أرسل القمر الحزين أشعته الفضية تتسلل بين أوراق أشجار النخيل وتلقي ظلال موحشة على الشاطئ الممتد في الأفق، كان هناك شبحان صغيران لرجل وامرأة، يسيران معاً وقد القت عليهما الظلال الشاحبة معاطفها، لم يكن هذان الشخصان سوى محاسن وكمال، لقد نزل عليهم الخبر البغيض نزول الصاعقة، كاد يخنق الحب الذي ولد بينهما منذ الصغر، تنهد كمال واطلق زفرة حارة، كان يسير مطرقاً إلى الأرض.


- طردني أبي.. قررت أن أترك القرية.


نظرت إليه محاسن في توجس.


- لا يا كمال لا ترحل وتتركني وحدي.. هل تريد أن يتزوجني أبوك.


- أبداً .. أبداً عندما عرفت هذا الخبر أظلمت الدنيا في عيني تمنيت أن يكون كابوس مزعج استيقظ لأجده تبخر..


توقفا عن شجرتهما المفضلة.. وقد تيبست أغصانها مثل كل شيء هذا البلد الذي خبث، وجهت محاسن نظرة حب طويلة إلى كمال حافلة بالشجن.


- أنت كل ما عندي في هذه الدنيا سأرحل معك.


باغت هذا الاقتراح كمال وبدأ عليه الإنزعاج.. كان يعرف ماذا يعني أن تهرب فتاة عذراء في هذا المجتمع المتخلف، الأساطير التي ستروج وتملأ البلدة، صديقه شريف.. الذي يحبه .. ستكون طعنة في الظهر وملكة ومحمد أحمد كل هؤلاء " رباه ما هذه المعادلة الرهيبة التي تدور في رأسه الآن، في كلا الحالين الخاسر الوحيد هو".


- لا يا محاسن.. يجب عليك البقاء، ضميري لا يحتمل الاضرار المعنوية التي تحيق بأهلك.


لكن محاسن التي اكتسبت العناد من والديها.. كانت مصرة على الرحيل معه مهما كلف الأمر.


- لم يعد يهمني ماذا يقول الناس.. سيتكلمون فترة ثم ينسوني.


- إذا كان هذا رأيك النهائي، دعيني أخبر شريف علىالأقل.


- لا .. لا دعه ، انهم سيفهمون وضعي جيداً وينسوني مع مرور الزمن كما نسوا صابر.. دعنا نذهب قبل أن يدركنا الفجر.


كانت هذه آخر كلمات محاسن وهي تبتعد مع كمال صوب المرسى حيث كان ينبعث غناء عبد الجواد المراكبي بصوته شجي.. ظلا يسيران بخطى سريعة بعيداً عن مرمى نظر شريف الذي حضر يبحث عن شقيقته، عرف شريف ما سيفعل صديقه واخته.. سيهربا.. ويتزوجها كمال في مكان ما في دنيا الله الواسعة، أدرك أن هذا الحل المؤلم هو الحل الصحيح وما كان بالإمكان ابدع مما كان.. ظل هذا الصراع الحاد يعتمل في نفس شريف الطيبة، كانت تتنازعه رواسب المجتمع المتخلف الذي يعيش فيه ونظرته الواعية لمفهوم الزواج، هذه المفاهيم التي غزت رأسه من الكتب التي يمده بها صديقه معاوية من مكتبة والده، تغلب عليه الشعور الثاني. قفل راجعاً وعيناه تذرفان الدمع المر. عاد إلى المستنقع والأيام المملة الرتيبة التي تتوالى مخلفة وراءها خيوط واهنة من الذكريات.


*****


الفصل العاشر


كانت العصافير تملأ الجو تغريداً في ذلك الصباح البهيج في مباني جامعة الخرطوم العتيدة.. صابر وهند يسيران في أروقة كلية القانون والسعادة لا تسعها انتهاء المشوار الطويل وبرزت مشاريع والعمل والزواج أمامهما طريق ممتد في معالم لا نهائية.. جلسا في الكافتريا الهادئة يحتسيان عصير الليمون ويتسامران في المواضيع التي تهم كل خطيبين.. حدقت هند في قطعة الثلج التي كانت تدور في كوبها مع اهتزاز يدها المستمر


- أنتهت أيام الدراسة السعيدة يا صابر..


وجه إليها صابر نظرة حب عميقة، إنها ابنة عمه وزواجه منها أضحى من البديهيات التي لا تقبل الجدل.. منذ أن انتشله عمه عبد اللطيف من قريتهم الكئيبة لم يعد مرة أخرى ولم تجدي توسلات أمه آنذاك بالعودة معها.. كان يرسل خطابات من حين إلى آخر، صابر إنسان طموح.. لكن طموحه من ذلك النوع الخطر الذي يجعلك تتخلى عن كل شيء يربط بالماضي.. إن قريته كانت بمثابة الشوكة في أحلامه الوردية التي ظل يخطط لها وينسق لها سنين عديدة.. كثيراً ما كانت هند تناوشه بتذكيره لأهله وأسرته في القرية فيبين الامتعاض على وجهه ويعاتبها على ذلك..- نعم مرت الأيام كالخيال والأحلام.هند التي يعرفها جيداً تطرقت إلى الموضوع الذي يكره سماعه.


- هل ستعود إلى أهلك في طيبة ؟!


نظر إليها في عتاب.


- لم يعد لي أهل غيركم.. لك أن تتصوري إذا كنت لازلت هنا ماذا كنت أفعل الآن؟!


ضحكت هند وهي تتخيل صابر يعمل في المزرعة أو يدفع أمامه قطيع من الأغنام إلى المراعي جوار البلدة.


- ولم تأتي أمك ثانية منذ أن رفضت الرجوع معها.


- أرجوك يا هند، دعك من هذا .. أنا صابر صهر المستشار عبد اللطيف، لا داعي تذكريني بأشياء عفى عليها الزمن.


انفقا الساعات يتحدثان في مشاريع زواجهما المرتقب، سيفتح مكتب محاماة مستغلاً نفوذ عمه الجبار حتى يصبح محامي كبير يشار له بالبنان ثم ينجبا أطفال أصحاء متعافين يقومان بتربيتهم بالطريقة الحديثة، تعلم اللغة الانجليزية في الثالثة واللغة الفرنسية في الخامسة، سبحا في أحلامها طويلاً حتى تعالى آذان الظهر، نهض متجهين إلى مسجد الجامعة لأداء الصلاة مع بقية أفراد تنظيمهم، كان انضمام صابر إلى هذا التنظيم اليميني لشيء في فؤاد أم موسى.. في سبيل طموحاته المريضة ألقى جانباً كل ثقافته الاشتراكية التي تلقاها في سنين طفولته الأولى على يد المرحوم ود الزين، عندما كان ود الزين يقوم بتعليم أهل البلدة من جميع الفئات مبادئ الأفكار الاشتراكية، كانت اشتراكية ود الزين صوفية نابعة من وحي الآية الكريمة (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).. لا زال صابر يذكر أن ود الزين لا تفوته صلاة في المسجد، كان لكلامه مفعول السحر في نفوس أهل البلدة اللذين يكنون له كل احترام.. أفزع صابر خاطر آخر.. تذكر عندما عاد عثمان ود البشير بعد أن تخرج من جامعة الخرطوم، جاء وهو يرتدي ملابس التخريج الغريبة التي جعلته أشبه بالخفاش، كانت مثار ضحك أهل القرية والأدهى من ذلك أن كلاب أبيه الجزار لم تعرفه فأخذت تطارده وتعوي خلفه وهو يجري ويتعثر وينظر إلى الجميع في إزدراء، تعثر وسقط على التراب وعضه أحد الكلاب في مكان حساس جعله يتلقى علاج السعر المؤلم في مستشفى المدينة، ومنذ تلك الحادثة لم يعد ابداً إلى البلدة.. وأصبحت قضية يتداولها أهل البلدة على كالأساطير.. صابر لا يريد أن يلقي هذا المصير البشع. آثر أن يسدل الستار على الماضي الذي راح وانطوى.. لا بد أنهم في القرية قد نسوا صابر وبدأوا يتداولون أسطورة جديدة.


* * *


هروب محاسن مع كمال كانت الأسطورة الجديدة التي لاكتها السنة أهل القرية، كان أكثر الناس تأزماً محمد أحمد " ما فتئ أطفال القرية يطاردونه عند عودته من الخمارة التي تقع على هوامش البلدة، يتعلقون بملابسه ويقذفونه بالحجارة وهو يترنح ويصيحون خلفه" أين ذهبت ابنتك يا سكير؟! . لم يكن ينقذه منهم إلا زينب التي كانت تطارد الأولاد وتبعدهم وتأخذ بيده توصله إلى البيت وتستمر في الدفاع عنه أمام ملكة التي تصب كل لعناتها عليه وتنعيه بأنه السبب في هروب محاسن. أما شريف المسكين فقد آثر الصمت الرهيب الذي يبعث الرعب في قلب أمه ملكة، كانت تحس بأن شريف يخبئ أمر ما.. سر لا يريد إطلاعها عليه، في ذات مرة استيقظت ملكة من نومها مذعورة تبكي نهض شريف وجلس جوارها، أخبرته أنها رأت في الحلم أن محاسن ماتت، طيب لها خاطرها وأخبرها بأن محاسن بخير وهذا الأحلام المزعجة ناجمة من الهواجس التي تنتابها، لم يشأ أن يخبرها بهروب محاسن مع كمال وهي تظن أنها غرقت في النيل..كما أنه لم يشأ أن يخبرها برسالة كمال التي وصلته بعنوان المدرسة في المدينة المجاورة. الرسالة كانت حافلة بالاعتذار، عرف شريف أنهما تزوجا ويسكنان في أم درمان مع الإخوان الجمهوريين ومرشدهم الجليل الأستاذ محمود محمد طه* .. أخفى شريف كل ذلك عن والدته..


* * *


كأن المصائب تتوالى تباعاً، انفتح الباب الخارجي فجأة في تلك الليلة بشدة ودخل محمد أحمد يترنح منهوك القوي وقد غطته الدماء وملابسه ممزقة، نظر إليهما شذراً ثم اندفع نحو فراشه وانكفأ عليه وأخذ يئن. نظرت ملكة إلى زوجها في هلع واستوت جالسة واندفعت نحوه مع ابنها شريف.


- رباه ! من الذي فعل بك هذا ؟!


كان يهزى ولا يكاد يعي ما يقول، ركع شريف عند رأس والده وأخذ ينظر إليه في اشفاق، أحضرت ملكة ماء وخرقه أخذت تمسح بها الجروح العميقة التي كانت تغطي جسده.. رفع محمد أحمد عينيه المخمورتين المحمرتين إلى وجه ابنه شريف ثم مد يده الدامية وريت بأصابعه المرتعشة على شعر أبنه وردد في أنين خافت .


- بارك الله فيك يا ولدي.. تخلى عني الجميع وبقيت أنت يا شريف، لم أغضب عليك قط.. اني راضي عنك تمام الرضا.


ملأت الدموع عينا شريف ومد يده يطيب على يد والده المضرجة.


- من فعل بك هذا يا أبي ؟!!


رد والده في إعياء شديد


- رجال الأمن الذين حضروا من المدينة.. القصة طويلة يا أبني وشرع يسرد القصة الغريبة.. عندما كان عائداً من الخمارة سمع صراخ زينب تقول أن رجال الأمن أخذوا ابنها معاوية وعندما رأت محمد أحمد اشارت له نحو السيارة نصف النقل حيث تكور ابنها بين أرجلهم.. اندفع محمد أحمد نحو العربة يسب ويلعن قفز اثنان من السيارة وأوسعوه ضرباً بالجنازير والهراوات والقوه على السلك الشائك المحيط بالمزارع، ظل محمد يسرد القصة وشريف يستمع إليه كالمشدوه.


- أخذ رجال الأمن معاوية، لا زال منظرها وهي تعدو خلف العربة عالق في ذهني حتى الآن.


- معاوية!! عضو الحزب القومي المحظور.. إلى أين أخذوه يا ترى؟!


-لا أدري يا ولدي تعساً لهم.. دعني أنام في الصباح سأخبرك بكل شيء فإني جد مرهق الآن وأشعر بآلام شديدة.


نهض شريف من عند والده وقد استغرقته القصة تماماً حتى أنه لم يشعر بوالدته التي نهضت من جوار زوجها المثخن بالجراح واندفعت خارجة تبحث عن زينب.ظل شريف ساهراً حتى لحظات السحر الأولى.. كان هذيان والده الجريح يطن في أذنه كوخز الإبر " إنها قادمة .. نورا !! جاءت لتأخذني، اني أراها بضفائرها الطويلة وجسدها الناحل ووجهها الملائكي كم انتظرتك طويلاً.. وداعاً يا ابنائي.. سامحوني.. إن الحياة أشبه بالقطار وها أنا قد وصلت محطتي الأخيرة.." أخذت شريف غفوة، رأى فيها والده يسير بملابس بيضاء مع جمع من أهل البلدة اللذين غرقوا في حادث المركب الشهير، كانت معهم ايضاً ريا ترفل في أثواب كأميرات ألف ليلة وليلة، يتقدمهم ناعي القرية ود مريوم يمتطي حماره الذي كان أبيض اللون.. كان الموكب يشق طريق محفوف بالعصف والريحان وهم يرددون " الحمد لله الذي أورثنا الجنة".صحى شريف فجأة على عويل نساء يصم الآذان، جاءت النهاية التي لم يكن يتوقعها، بل كان يرفضها تماماً.. مات محمد أحمد متأثراً بجراحه، يبدو أن الجراح كانت أكثر عمقاً مما يتصور، ظل يدور في ذهنه المشوش سؤال واحد "أحقاً مات أبي؟!".كانت ملكة تجلس عن كثب تولول وقد تكوم حولها لفيف من نساء القرية الثاكلات، انزوى وليد وزينب في أقصى فناء المنزل يحملقان في ذهول في أفواج المعزين اللذين امتلأ بهم فناء المنزل.خرج شيخ صالح من غرفة الميت بعد أن قام بغسله وأمر الرجال أن يحملوا الجثمان إلى المقابر إلى قبته البيضاء التي تقف شامخة عن أطراف البلدة.شيخ صالح الفرقان.. لا أحد يعلم من أين!: ولكنه ظهر يوماً في البلدة.. عدة أساطير أكتنفت ظهور المفاجئ في القرية..الرجل الغامض الطويل القامة الذي ينبعث من عينيه ضوء أزرق، يحمل فروة من جلد الكباش على عاتقه، شعره مجدول كالحبال ويسترسل على ظهره، التفت حول عنقه سبحة ذات ألف حبة منظومة من ثمار الهجليج، تتلوى كالثعابين أثناء سيره المتوثب في طرقات البلدة.. قالت جدة شريف لأمه الحرم.. أن ود مريوم شاهده يهبط من السماء عند شجرة الدوم في طرف المقابر، ممطياً فروه من جلد الكباس كأنها بساط الريح كان ذلك أثناء تجواله ليلاً هناك، وشد ما أفزعه ذلك الضوء الأزرق الذي ينبعث من عينيه، كما روت جدة شريف أن الرجل شيد ضريحه عند طرف المقابر من الطين وزينه بجريد النخل. كان نزول هذا الرجل بركة على أهل البلدة، جاء في أيام رجال الحكومة أصحاب البدلات العسكرية المزينة بنياشين والأنواط الممتلئين حماساً.حصلت البلدة على معدية حديثة تقلهم إلى البر الشرقي وحصدت القرية محصولاً وفيراً بفضل الطلمبات الحديثة.. كان يأومه الرجال والنساء عند الكرب، يأتيه الرجل ملدوغاً من حية أو عقرب يمسح الرجل على مكان اللسعة ويتلو آيات من الذكر الحكيم فيشفى الرجل. تأتيه المرأة العقيم، يضع يده على رأسها ويذكر اسم الله، والله يفعل ما يشاء وتلد المرأة مولوداً ذكراً أو أنثى، عندما تنتهي أيام النفاس تأتي المرأة بمولودها لينال بركة الشيخ صالح.. وتمتد كراماته في علاج العمى والشلل وامراض المناطق الحارة الأخرى، كان شيخ صالح من أولياء الله الصالحين وطريقته على قدم عيسوى.. فأضحت كرامته على نسق معجزة عيسى عليه السلام. لا أحد يستطيع تقدير عمره الذي قد يمتد ألف عام، قالت ملكة أن حاجة آمنة الأم الكبيرة عندما رأت شيخ صالح في البلدة أصابها فزع شديد، قالت رأته في منامها في الآيام الغابرة في مدينة حلفا القديمة عندما كانت حامل بأبنها الأول محمد أحمد، أخبرها بأن تسمي مولودها محمد أحمد وأن هذا المولود سيرحل عندما يكبر ويقيم في ديار الرياطاب وسيبارك الله فيه وفي ذريته.. كما عرف شريف من والدته أن شيخ صالح هو الذي اسماه شريف.. كثيراً ما يأتي شيخ صالح للغداء معهم، الأولاد يفرحون لزيارته، يتراقصون حوله، يعبثون بأصابعهم الصغيرة في غدائر شعره المجدول كالحبال أو يتحسسون حبات المسيحة الطويلة وهو يبتسم في ود ناثراً ذلك الضوء الأزرق الذي ينبعث من عينيه في أرجاء المنزل.


* * *


طافت كل هذه الذكريات الحافلة بالشجن في مخيلة شريف المكلوم وهو يرى شيخ صالح يخرج من الباب إلى المقابر وقد انطفأ ذلك الضوء الأزرق الغامض من عينيه.. في مقابر البلدة تمت الصلاة على الجثمان، أم المصلين الشيخ صالح. ثم أمر بدفن الرجل داخل قبته الجميلة المطلية بالجير الأبيض. بعد انتهاء الدفن، جلس شريف عند قبر والده يبكي بكاءاً حاراً، نعى فيه أشياء كثيرة، ماتت أشياء كثيرة داخله بموت ابيه الذي كان يحبه حباً شديداً نعى في والده بؤس الحال والتردي الذي اطبق عليهم من كل مكان بكى فيه مأساة زينب أم معاوية التي قبعت جواره عند شاهد القبر.هرع عدد من رجال البلدة إلى شريف وزينب ليأخذوهم معهم، نهض شريف وتراجع يترنح وتشبثت زينب بشاهد القبر وتركها القوم داخل القبة تنوح وتلعن هذا الزمن الردئ الذي اخذ منها شبابها بموت زوجها ود الزين واخذ منها عقلها بغياب ابنها معاوية …أخر شمعة تضيء بها دروب عمرها، عند طرف القرية التفت شريف إلى القبة البيضاء التي تتلامع مع أشعة الشمس وودع والده الوداع الأخير بنظره تقطر أسى وردد في نفسه المكلومة "آه آه آه مسكين محمد أحمد بنى قبره بنفسه"، طافت الذكريات مرة اخرى بعقل شريف المشوش إلى ذكرى يوم اغبر حضر أحد ضيوف حاج إبراهيم من المدينة ، كان من رجال الدين السلفيين، خطب بعد صلاة المغرب، وقف رجل يخطب في الناس ويندد بالشرك الذي حاق بالبلدة ، الشرك الذي يتمثله ضريح الشيخ / صالح الغرقان الذي يقف في خجل عند طرف المقابر ، استعان الرجل بكل آيات الويل والثبور وعظائم الأمور في بث الرعب في قلوب أهل البلدة البيضاء، اخذ يصرخ بكل ما أوتي من قوة حتى دب الذعر في قلوب بعض ضعاف النفوس وخرجوا بعد الخطبة وحملوا معهم المعاول والفؤوس وتبعهم عدد غير قليل من الأطفال اللذين لم يبلغوا الحلم بعد .. توجهوا نحو الضريح .. هناك وجدوه مستلقيا على الارض شاخصاً ببصرة إلى السماء ، وذلك الضوء الأزرق المنبعث من عينية يشق الفضاء ويمتد إلى مواقع النجوم ، تراجع القوم وقد أوجسوا خيفة لكنهم تماسكوا مرة اخرى اذا كان لازال صدى الخطة المخبفة لرجل المدينة ذو الثوب القصير يتردد في نفوسهم، اندفعوا كالسيل الجارف وانهالوا على الضريح تكسيراً وتحطيماً حتى ساووه بالأرض تماماً .. ظل شيخ صالح راقداً بلا حراك شاخصاً في تأمله الغريب في السماء كأنه لا يسمع ضرب المعاول وهمهمة الرجال والأطفال المذعورين، فاض الدمع من عينية وانطفا الضوء الأزرق.. انسحب الرجال بمعاولهم وأطفالهم دون أن يعيروا أدنى التفات إلى الرجل الراقد عن كثب ، ولم تنتهي تلك الليلة عند ذلك ، مر محمد أحمد مروره المسائي على صديقه شيخ صالح، بهت محمد أحمد عندما لم يجد الضريح قائما، خيل له انه لازال به قليل من السكر ولكنه حدق بكل ما أوتى من قوة .. فعلاً لا يوجد الضريح، لقد اختفى ذلك المعلم الذي يشكل بوصلة لمحمد أحمد في رحله عودته إلى البلدة … لمح محمد أحمد الجسد المسجى جوار الحطام، اندفع نحوه متوجساً قبع جوار الرجل.. وجده يتنفس وردد في نفسه "الحمد لله لا يزال على قيد الحياة "
- شيخ صالح من فعل هذا ؟
أراذل القوم والأطفال فعلوها !!- تعساً لهم الملاعين .. لا تبتئس يا عزيزي غداً نبني لك قبة اكبر وارحب ونطليها بالجير الأبيض الذي يجعلها تتلامع مع ضوء الشمس والقمر ويراها القاصي والداني.
- بارك الله فيك يا محمد أحمد .
ساعد محمد أحمد صديقه على النهوض وقاده وهو يترنح إلى منزلهم .. هناك حكى لأولاده كل شيء عن الفعلة المنكرة التي قام بها ضعاف النفوس في البلدة وفي الصباح حمل محمد أحمد أدوات البناء واخذ معه ابنيه شريف وصابر وأخذ يسير في طرقات القرية وينظر إلى أهلها في احتقار وتحدي ، في المقابر استغرق بناء القبة الجديدة ستة ايام وفي اليوم السابع تم طلبها بالجير وزينها شريف بآيات قرآنية وعاد الشيخ صالح إلى ضريحه الجديد سعيداً ووقفت القبة مرة اخرى شامخة متحدية وأهل القرية ينظرون إليها في ارتباك بعد ان انحسرت أخر جرعة من الهوس شبعهم به رجل المدنية وأوصى محمد ولديه بأن لا تغفل لهم عيناً عن القبة مرة اخرى.. عاد شيخ صالح يمارس تطبيبه لأهل البلدة وعادت المياه إلى مجاريها . كل هذه الذكريات ناء بها ذهن شريف المكلوم على فقد أبيه حتى وصل مع المعزيين إلى المنزل والكل يدعو له بالصبر والسلوان وان لله وأنا إليه راجعون ..


* * *


مضت الأيام ثقيلة وترك غياب محمد أحمد فراغاً موحشا في المنزل الكئيب الذي خيم عليه الصمت الحزين وقد امتدت أطراف المأساة إلى وليد وزينب اللذان كانا يملان، البيت عبثاً وضجيجاً ، جلسا منزويين في ركن بعيد ، جلس شريف أمام أمه التي كانت تعد له حقيبة السفر .. لقد طفح الكيل ألان وقررت ملكة أن تبدأ معركتها مع الطغيان أخرجت المستندات التي آخذتها خلسة من منزل حاج إبراهيم دستها في الحقيبة، أخبرت ابنها بعنوان عصام في مصنع الأسمنت في عطبره .. كان شريف في طريقه إلى الخرطوم ليعلم صابر وعمه بوفاة محمد أحمد ملكة قد قطعت الأمل في عودة ابنها الضال صابر .


* * *


في ذلك الغروب الحزين وقفت ملكة عند الشاطي النيل تودع ابنها شريف الذي كبر ألف عام، اندفع شريف إلى المعدية لنقله إلى البر الشرقي، أخذ شريف يلوح لأمه وهي تلوح له حتى غابت المعدية في الظلام الذي يلف المكان ثم استدارت ممتطية حمارها الهزيل تحت أشجار النخيل المتيبسة .. من خلف الأشجار لمحت زينب المجنونة تجري بين الأشجار تنوح وتندب ابنها الغائب، كان صوتها موحشاً يمزق السكون، اصبح نواح زينب سيموفنية اعتاد سماعها أهل البلدة فظلوا يتحسرون لحالها وعاجزين عن مد يد العون لها، حتى حاج إبراهيم رغم نفوذه الكبير في الحكومة لم يد لها يد العون وهي تنوح عند بابه كل يوم في طريقها إلى المقابر حيث اعتادت النوم جوار قبر محمد أحمد.. اضحى الموتى أجدى من الأحياء وهي لا تشك أبدا من ولاية محمد أحمد وتكن له كل الاحترام والتبجيل ولم تنسى موقفه النبيل وانه فقد حياته من أجلها .. ظلت ملكة تحمل لها الطعام في المقابر وزينب لم تكن يوماً امرأة عادية ، هي و أسرتها الصغيرة تجسد تاريخ السودان الذي لم يكتب ، مات زوجها حتى اقتلع الدكتاتورية الأولى وفقدت ابنها في سبيل اقتلاع الدكتاتورية الثانية والحبل على الجرار ، الجوع والإرهاب والموت هو الثالوث الذين طحنت رحاه هذا الشعب الأصيل.
*****
الفصل الحادي عشر
في ذلك الصباح المشرق كان الدخان الأبيض يتصاعد من مداخن مصنع أسمنت عطبره وشريف يسير في الطريق الفرعي الذي يقود إلى مساكن الموظفين .. توقف أمام باب المنزل المنشود ضغط على الجرس الذي كانت تعلوه لافتة أنيقة مكتوب فيها اسم صاحب المنزل مهندس عصام عبد الجواد .. سمع شريف وقع أقدام صغيرة خلف الباب وانفتح الباب ، أطلت منه طفلة وابتسمت له ابتسامة حلوة ودعته للدخول ، دخل شريف المنزل الأنيق وواجه عصام أمامه ، عصام الذي طالما حدثته عنه أمه ، كانت تقف عن كثب حنان زوجته ، وهذه الطفلة التي فتحت الباب لابد أنها ملكة الصغيرة ابنتهما ، فقد وعدوا ملكة إذا انجبوا بنت يسموها بأسمها ، دعا عصام شريف للجلوس بعد أن تعرف عليه ، كان الحديث ذو شجون وحافل بالذكريات ، دار الحديث عن الأوضاع المتردية في البلاد ، التي وصلت تحت الصفر .. أعطى شريف عصام المستندات التي جعلت وجه عصام يتهلل فرحاً .. هذا ما كان ينقصهم ، وثائق لإدانة رموز الفساد في النظام الآيل إلى السقوط .. تتطرق الحديث عن أشباح شندى.
- ما هي أخبار الأشباح في شندي ؟!
تنهد عصام في آسى وسرح بخياله بعيداً ، ظل شريف يحملق في وجهه في توجس .
- كانوا أربعة بكور وعمر وعثمان وعلي .
- نعم حدثتني عنهم أمي كثيراً حتى كدت أراهم بخيالي.غطت الدموع عيني عصام ولا زال في شروده .
- في الأيام العصيبة الأخيرة اعتقل رجال الأمن بكور وعمر أثناء توزيعهم للمنشورات في المدينة وتم نقلهم إلى سجن كوبر بالخرطوم ، مات بكور في السجن لم يتحمل صدره الضعيف رطوبة السجن وليالي يناير الباردة ، كان يعاني من داء الربو اللعين ... تم إطلاق سراح عمر بعد اختلال قواه العقلية .. ستجده الآن في شندى يقيم مع والدته .. ترك عثمان ثروة والده وأنضم للحركة الشعبية .. أما علي فقد آثر الانزواء في قريتهم النائية في غرب السودان معلماً للصبية .. هذا كان حال مجموعة الأشباح يا شريف .
كان شريف يستمع إلى هذه الإجبار المؤسفة فاغراً فاه في دهشة ، لم يصدق ان كل هذا حدث لأصدقاء أمه وتمتم في أسى :-
- يبدو فعلاً ان الحديث ذو شجون .
- لا تخبر ملكة عنهم حتى لاتفجعها فيم، كانت تحبهم كثيراً يا شريف .
- نعم سوف لن اخبرها .
- أما اذا أردت عنوان عمر تناول عصام ورقة من الدفتر وجلس على إحدى المناضد وسطر عليها العنوان وناوله لشريف ، تناول شريف الورقة ودرسها في جيب سترته.. حضر الغداء اخذ شريف يتناول الطعام في صمت فقد استغرقته المآساة تماماً كثيراً ما كانت أمة تخبره عنهم في كل المناسبات حتى غدا عدد كبير من أهل البلدة يعرفهم .. يعرفون هؤلاء الجنود المجهولين اللذين أرادوا ان يصنعوا لملكه المرأة الأمية الذكية .. سودان جديد..* * *في صباح اليوم التالي استأذن شريف الأسرة الصغيرة في السفر ، في محطة القطار اخبره عصام ان يبلغ ملكة تحياته عند عودته ويخبرها بأن المرحومة أم عصام كانت تدعو لها دائماً بالخير حتى انتقلت إلى الرفيق الأعلى قبل عامين ودعت لها في الارض المقدسة أيضاً كما حذره عصام من التعامل مع الغرباء فقد بلغ السيل الزبا .. تحرك القطار من محطة عطبره يئن ويتوجع وقد اكتظ بالمسافرين كالمعتاد توالت المحطات تباعاً حتى وصل القطار مدينة شندى ظهراً ، نزل شريف، استقل عربة أجرة إلى العنوان ، كانت شوارع المدينة مليئة بالمارة المذعورين ودوريات الشرطة في كل مكان أضحى الحال ينحدر بسرعة شديدة أو شك الطوفان ان يثور وتوقفت السيارة ونزل شريف قرع الباب برفق لحظات وفتحت الباب أم عمر ظلت تنظر إليه في توجس، في ذلك الزمن لآياتي الغرباء بخير ولكنه عندما عرف نفسه لها رحبت به ترحيب حار بالزائر الحبيب ، دخل شريف إلى غرفة الضيوف الضخمة وقد غطى الغبار لأثاث ، دخلت أم عمر إلى غرفة داخليه ثم عادت تقود ابنها ذائع النظرات، كث اللحية، ممزق الملابس ، جلس عمر أمام شريف وحاول الابتسام لكنه عجز عن ذلك واخذ يحملق في شريف بعينين شاهدتا الكثير من الأهوال ، أحدها احتضار رفيق عمره بكور بين يديه قال عمر في صوت واهن.
- أنت ابن ألام العظيمة ملكة .. صابر.
- أنا شريف شقيق صابر الأصغر .
- كيف هي فقط انقطعت أخبارها عنا ؟!
- انها بخير واوصتني ان أقريكم السلام والتحايا العطرة .
- لم يعد هناك أحد تقريه السلام يا شريف *
تهدج صوته وبدأت المرارة تجتاج كيانه فخنقته العبارات وانهار باكياً في نشيج مكتوم نهض شريف وجلس جواره مربثاً على كتفه ومواسياً .
- أتحلى بالصبر يا أخي .. إنها سنة الحياة.
- نعم بالله ولكن ذهبت جهودنا أدراج الرياح .. الكابوس لازال جاثماً على البلاد، مات بكور بين يدي بعد أن صب علينا رجال الأمن الماء البارد .. كان يتشهد ويردد ان الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب .. ولكنها غابت .
- هذا طريق حافل بالتضحيات وانتم مصابيح الطريق، انطفأ يكور وأنت لازلت تضيء .
- أشكرك يا شريف .. ان زيارتك لها ابلغ الأثر في نفسي .
- رحم الله بكور .
- فليرحمنا الله جميعاً . أنا لله وأنا إليه راجعون .
- سأزورك يا عمر في رحله العودة .
- على الرحب والسعة
- تذكر يا صديقي ان توقد شمعه خير من ان تلعن الظلام .. أتمنى عندما أعود أجدك انخرطت في صفوف المناضلين الشرفاء مرة أخرى.
- أعدك بذلك فقد أحزنني فقد أصدقائي جملةً .
- الأيام كفيلة بأن تزيل الأشجان كما يزيل الصابون الأوساخ عن الثوب الأبيض .
قضى شريف يوماً حافلاً مع عمر ووالدته فاطمة التي أسعدتها زيادة هذا الشاب الغريب الذي بعث الحياة في ابنها .
* * *
في الصباح نهض عمر واغتسل.. أزال شعثه وتطيب وارتدى ملابس نظيفة وذهب مع شريف إلى محطة القطار.. ركب شريف القطار مرة اخرى وتحرك به يطوي الارض طياً إلى الخرطوم المدينة التي تشبه جلد الفهد .. في الخرطوم كان إيقاع الزمن الراكد كبندول ساعة حائط قديمة يشعر شريف الانقباض، كان الجو مكهرب ومشحون بالتوتر معظم المرافق متوقفة وبقاياً المظاهرات والإطارات المحترقة تغطي الشوارع المقفرة، لاحظ شريف كل هذا من نافذة السيارة التي استقلاها إلى الضاحية الثرية إلى بيت عمة الضخم الذي لاح على البعد كانت الأنوار تتلألأ وسيارات عديدة تغطي الشارع يبدو ان هناك مناسبة عظيمة لا يعرفها شريف، تقدم شريف بعد ان نزل من سيارة الأجرة التي لفظته واقترب من البوابة دفعه جندي بغلظة.. كان ذلك فعل زواج شقيقة صابر من هند ، وصابر كالفراشة ينتقل بين المدعويين ، لمح شقيقه شريف عند الباب الخارجي المشرع ، اتجه نحوه وحياه ودعاه بالدخول إلا ان شريف اعتذر واثر البقاء في الخارج .
- أبي توفى منذ أسبوع .
نزل الخبر على صابر كالصاعقة وطفرت الدموع من عينيه وخيم عليه حزن عميق ثم نظر إلى شريف .
- سأحضر لاحقاً ان شاء الله
وودع اخوه الذي قفل عائداً ، عاد يستقبل المدعوين.. ابتعد شريف من ذلك الجو الصاخب وهو يلعن كل شيء في سره.. أدهشته المفارقات التي تعج بها هذه البلاد العجيبة يموت الملايين جوعاً والكبار يتناولون الأطعمة الفاخرة ويتناولون الأنخاب غير آبهين لما يحدث في الأصقاع النائية ، هؤلاء هم البرجوازيون كما ينعتهم ود الزين وهذه هي أخلاقهم سحقا لهم جميعاً .. صابر شقيقه الذي تحول إلى مسخ مشوه يرتدي الملابس الغربية الفاخرة التي يوازي ثمنها سعر محراث يكفي لحرث قريتهم كلها .. دمعت عينا شريف وظل سائر في الطريق الإسفلتي المظلم عندما تذكر كلام والده الأخير "هرب الجميع ويقيت أنت معي يا شريف ".تذكر المشاكل بين أبويه كان يصلح بينهما رغم ان كل منهم عنيد، ظل يسترضيهما معاً حتى ولو على حساب نفسه " لايهم لقد مات والده وهو عنه راض وهذا اقصى بما يكسبه إنسان في هذه الدنيا الفانية ، رضا الله ورضا الوالدين". طافت بمخيلته ذكرى الليلة التي اختفى فيها شيخ صالح من القرية وحل بها البؤس والشقاء كان أخر من شاهده راحلاً شريف.. حكى لامه ملكة انه في تلك الليلة ذهب إلى قبر والده ليترحم عليه في منتصف الليل.. وجد الشيخ صالح قائما يصلي وعندما فرغ من صلاته وسلم لمح طيف شريف عند باب ألقبه ناداه وأجلسه جواره أحتضنه الشيخ وهمس في اذنه .
- شريف اسم على مسمى .
شعر شريف بالسكينة وانزاح عنه ذلك الإحساس بالحزن العميق الذي مزق وجدانه، ربت شيخ صالح على ظهره.
- كنت باراً بأبويك .. ان والدك كان صاحب مقام.
نظر شريف إلى الرجل في توجس عندما نهض من جواره وجمع حاجياته للرحيل نهض شريف وامسك بيده طرف أثواب الرجل الخضراء الفضفاضة وهو يبكي بشدة .
- ابقي معنا يا شيخ صالح لا ترحل .
نظر إليه شيخ صالح في حنان بالغ وأزاح يده يرفق .
- لا مقام لي هنا بعد رحيل محمد أحمد.
استدار الرجل بقامته الفارعة كشجر النخيل، وانطلق بخطى واسعة تحت ضوء القمر الذي كان يلقي ظلال موحشة داخل القبة. خرج شريف خلف الرجل الذي طفق يخطو مسرعا، ظل شريف يناديه ورجل يقترب من شجرة الدوم التي تقع عند أطراف المقبرة، لم تسعف أقدام شريف الصغيرة المتعثرة اللحاق بالرجل وعند الشجرة التفت الرجل، وغمر الضوء الأزرق المنبعث من عينيه المكان وجاء صوته الساحر من الجهات الأربعة.
- أبقى أنت يا شريف في البلدة وسيكون لك شأناً عظيماً.واستدار منصرفاً .. اقسم شريف لأمه قسماً مغلظاً أن ذاك انه شاهده بأم عينه صاعداً صواب السماء .
******
الفصل الثاني عشر
أشرقت شمس ذلك اليوم المشهود .. تدافعت أسراب الحمام في الفضاء .. كان يوماً تاريخياً خرجت فيه الشمس وهي تبتسم للأرض.. هب الشعب بكل فئاته ودق أخر مسار في نعش النظام العسكري... خرجت جموع المواطنين في الشوارع فرحة ترقص في الشارع وتهتف ان الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب ..سقط سجن كوبر... أخرج الشعب جميع أبنائه المعتقلين سنين عددا وكما دائماً على الباغي تدور الدوائر دارت الدائرة على رموز واركان النظام البائد فكان المتغال عبد اللطيف عم صابر وبدأت معاناه صابر مع هند التي ظلت تعيره بأنه وقف عاجزاً أمام المتغال والدها وانه لم يمد له يد العون وكانما نست كل ما درسته في القانون في تلك اللحظة لم تفلح توسلات امها الطيبة فاطمة في أن تردها إلى صوابها "إذا كان عبد اللطيف مذنب سينال جزاءه العادل وإذا كان يرىء فالديمقراطية كفيلة بالإطلاق سراحه" لكن هند التي أصبحت تمقت صابر كل المقت استمرت في غيها أخذت تعيره بأصله الفقير وبفضلها عليه وفي جلسة النطاق بالحكم على والدها بعشر سنوات سجن.. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، لم يعد صابر يتحمل اهاناتها المتلاحقة صفعها وخرج من المحكمة ، زالت الغشاوة عن عينيه ، استيقظ ليرى حطام الفردوس الزائف الذي كان يعيشه.. خيل له انه كان نائما ويعيش في حلم طويل ممتع ثم أستيقظ ليجده تغير.. أصبح الآن يحتقر هند واباها ويحتقر نفسه واليوم الذي دخل فيه هذا القصر ويأسف على اليوم الذي رفض فيه العودة مع أمه الطيبة ملكة .
* * *
ركب صابر سيارته ذات الدفع الرباعي وانطلق بها في الشارع لا يلوي على شيء عادت فاطمة إلى المنزل ووجدت ابنتها تبكي ، كانت فاطمة مثل زوجة فرعون في هذا القصر التعس ذاقت الأمرين من زوجها الأناني وابنتها المتعجرفة، ولولا وجود صابر لذهب عقلها منذ أمد بعيد.. هاهي الآن تراه يطير من يدها وزوجها سيقضي سنواته في السجن وبقيت وابنتها في القصر المصادر من الحكومة الجديدة يضربان أخماس بأسداس ...
*****
الفصل الثالث عشر
لبست القرية حلة زاهية في تلك الليلة .. لقد عادت الديمقراطية للبلاد ونفضت الاحزاب الغبار القديم وبرزت في الساحة .. كانت الشعارات الجميلة المتباينة تزين طرقات البلدة ومكبرات الصوت تعلن عن العديد من المؤتمرات التأسيسية لجهات عديدة تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. كان شريف يقف على منصة "حزب الاستقلال الوطني" الذي ينتمي إليه والشعارات التي تدعو للسودان الجديد تغطي المكان، صور مرشح الحزب عصام عبد الجواد تملأ الساحة وتزين المنصة .
- انتخبوا ابن المنطقة المهندس عصام عبد الجواد من أجل حقوقكم الضائعة نحن لدينا من المستندات ما يزج خصوما في السجون .
ملكة تجلس مع جموع أهل البلدة تستمع إلى ابنها الذي وقف شامخاً وصوته القوي يجلجل في المكان ، شريف عضو اللجنة الدائمة في حزب الاستقلال الوطني ، ظلت ملكة تحلم بهذا اليوم الذي يتبوأ فيه أحد ابناء محمد أحمد هذا المنير الحر.. هاهو شريف يجسد أمالها وأحلامها يقف أمامها الان .. شريف الذي آثر البقاء في البلدة مصدقاً لنبوة شيخ صالح الغرقان .. كان صوت شريف القوى الاسر يرجرج المكان والجميع يستمعون له بحب عميق
* * *
افتريت السيارة الباترول تشق طرقات البلدة يكسوها الغبار ، تطاردها أسراب الكلاب كانت تسير مترنحة عاكسة الاضطرابات النفسية التي يعاني منها سائقها.. أوقف صابر السيارة ونظر من النافذة إلى شقيقه شريف في المنصة يخطب في الجموع الحاشدة.. كانت كلمات شريف تترامى إلى اذنية وتنكأ جروح عميقة في نفسه .. قديماً قالت العرب الجياد الأصلية تظهر عند نهاية السباق .. سباق المسافات الطويلة .. شريف قد ربح الجولة انصهر مع أهل القرية طيلة السنوات العجاف الماضية وهم جالسين يستمعوا إليه في حب حقيقي لم يعرفه صابر.. حب القرية لإبنائها المخلصين .. ملكة أمه تجلس مع المواطنين وشقيقته زينب التي تركها صغيرة غدت ألان كاعب حسناء تجلس جوار أمها "أين محاسن وكمال بل اين صديقه معاوية؟؟" غابت عنه فترة بل حقبة من عمر البلدة التي رفضها في لحظة من لحظات الشيطان.. عندما سيطرت عليه نزعاته الذاتية.. لم يشعر بالعار في حياته كما يشعر الآن.. اندفع بسيارته بعيداً توقف أمام باب بيتهم.. نفس المنزل .. كل شيء في مكانه كأنه غادره بالأمس عدا فراش والده الخالي في أقصى الفناء وليد شقيقه كان مستلقى يطالع صحيفة "السودان الجديد" وليد الذي تركه طفل كبر وانخرط في الحزب أيضاً استوى وليد جالساً يحدق في الزائر الغريب الذي دفع باب البيت دون ان يقرعه وجلس قبالته ..وجه صابر نظره حب طويلة إلى شقيقه جسدت كل التعاسة التي يعانيها .
- أنا صابر يا وليد !! هب وليد والقى الصحيفة جانباً واحتضن شقيقه في حب جارف.
- أهلاً يا أخي، لم اتعرف عليك لأول وهلة. سأذهب لأنادي أمي.
خرج وليد تاركاً صابر يتأمل المنزل في حزن بالغ، نظر إلى صورة السيد علي الميرغني معلقة في مكانها المعهود، الطمبور القديم في مكانه معلق إلى الجانب الآخر، لم تمضي لحظات وانفتح الباب دخلت ملكة، هب صابر واندفع نحوها ازاحته بعيداً
- ماذا تريد يا صابر لا مكان لك معنا الآن !!
نزل عليه الكلام كالصاعقة.. استدار نحوها في انهيار تام.
- لقد عدت يا أمي!!
حدقت فيه ملكة وقد فاضت عيناها بالدموع
- عودتك كانت متأخرة .. اختفت أختك محاسن ولم تعد، مات والدك ولم تعد، فما الذي جاء بك الآن؟
- ارجوك ارحميني يا أماه.
- عود من حيث أتيت.. الكلب نفسه لا يعض على يد التي اطعمته.- لكن يا أمي..!!
- عود إلى منزل عمك وصهرك وابق معهم هناك.
كان كلام ملكة الأخير بمثابة النهاية لصابر.. استدار منصرفاً انهارت ملكة تبكي بحرقة.. أنه ابنها ولا يمكن اسقاطه بسهوله.. دخل شريف إلى المنزل ووجد أمه تبكي وبدت عليه الدهشة العميقة كيف تبكي أمه في يوم كهذا.. الم تنتهي أيام الدموع بعد.
- من كان صاحب السيارة يا أمي؟!
- كان أخوك صابر .. دعك من هذا، ماذا فعلت؟!
جلس شريف جوار أمه ساهماً لحظات " صابر !! ما الذي أتى به الآن؟ " طرد شريف هذه الخواطر المزعجة، ليس هناك وقت للعواطف .. الوقت للعمل.
- قمنا ببث تحذير ضمني إلى أعوان حاج إبراهيم ولا بد أنهم أخبروه بالمستندات التي بحوزتنا.ابتسمت ملكة من خلال دموعها واحتضنت ابنها شريف بقوة لقد عوضها الله فيه، والده محمد أحمد وكل الأشياء الجميلة التي فقدتها في حياتها.. اردف شريف مواصلاً حديثه.
- إذا فزنا في هذه الدائرة ونفذنا مشاريعنا الخدمية، سنضمن دائرة مقفولة مدى الحياة، لقد وافق الاتحاديين على دعم مرشحنا لإسقاط حاج إبراهيم.
- نعم يا عزيزي أتمنى أن يكون ذلك، عادت لنا الحياة مرة أخرى وذكرى الإنجازات القديمة.
- نعم يا أمي ستقوم بإعادة تأهيل كل المشاريع القديمة. جلست ملكة ساهمة ورددت في أسى.
- كما تمنيت يا ولدي وكم من أمل مر الخداع.. أن أعرف ماذا حدث لابنتي محاسن، لم يطاوعني قلبي، ابداً انها غرقت في النيل..
نظر شريف باسماً إلى أمه وقبل أن يلقي بالسر.. انفتح الباب ليعلن آخر مفاجئة سعيدة في تلك الليلة، دخلت زينب وقد طفح وجهها بالسعادة وخلفها كمال ومحاسن، كانت محاسن تحمل طفل صغير.. هبت ملكة وشريف في دهشة بالغة يسلمون على الضيوف بالأحضان والدموع التي سالت انهاراً.
- محاسن بنتي إنها لحظة كان يحرسها ملك، لقد كنت في سيرتك منذ لحظة انه قلب الأم.. سبحان الله.اللقاء حاراً حافلاً بالشجن والدموع، كان حزن محاسن شديداً عندما عرفت وفاة والدها.. ظل كمال يقف بعيداً لا يستطيع النظر إلى صديقه الذي جلس كالمشدوه، لم يعد يحتمل كل هذه المفاجئات التي تساقطت تباعاً.. حملت ملكة الطفل بين يديها تتأمله في حب بالغ وهالها أن ترى ضوء أزرق خافت ينبعث من عينيه المكحولتين، الضوء الغامض الذي ذكرها شيخ صالح .. الرجل الذي شاهده شريف يصعد إلى السماء..
- سبحان الله .. ما أجمله .. ما اسمه؟
- اسمه صالح يا أمي.. إننا كنا نقيم مع الإخوان الجمهوريين في أم درمان، أمرني مرشدهم الأستاذ محمود بأن أسميه صالح. ليتك تعرفي يا أمي كيف فجعنا في إعدام هذا المفكر العظيم..
- نعم يا ابنتي.. امتدت آثار الفجيعة إلى هنا.. اخبرنا شيخ صالح أن هناك جريمة بشعة ارتكبت في حق رجل صالح وانذرنا بفواجع شديدة في المستقبل.. لماذا لم تخبريني يا بنتي بمكانك؟ انفطر قلبي عليك..
- سامحيني يا أمي.. لقد عدت.
- نعم يا بنتي والعود أحمد.
* * *
نهض شريف وكمال إلى الفناء الآخر للمنزل واستلقيا في الفرشين اللذين اعدتهما لهما زينب وأخذا يتسامران، ردد كمال في نبرة اعتذار.
- أنا جد متأسف يا شريف..
- ابداً لا داعي للأسف ليس كان بالإمكان ابدع مما كان.
- تزوجت شقيقتك فور وصولنا أم درمان.
- أعلم ذلك، دعك من هذا الحديث، شريف اليوم ليس كشريف في الماضي.
كأنما شعر كمال أن شريف كعهده دائماً أراد أن يطيب خاطره، أدار كمال دفه الحديث إلى ناحية أخرى
ما أخبار ابي يا شريف
- بخير .. ويرشح نفسه مع حزب الجبهة الوطنية.
- والدي يا شريف يرشح نفسه !! سبحان الله.
- يا كمال بالرغم من الصداقة التي بيننا ويجمعنا اليوم شيء أعظم .. ألا أن والدك بمثل الخط المعادي لنا ونحن لدينا مستندات تكفي لزجه بالسجن.استوى كمال جالساً كالمسلوع، أخذ يحدق في صديقه.
- السجن!! لا يا شريف امهلني لحظة.
- ليس لدي مانع يمكنك أن تتفاهم معه وتقنعه بالانسحاب أو العدول عن رأيه، نحن يهمنا أن نكسب الانتخابات وليس غرضنا الأضرار بوالدك.
- اشكرك يا شريف، دعني اذهب إليه الآن.
نهض كمال وخرج من الباب الخلفي، يشق طرقات البلدة المظلمة التي كان يلفها الهدوء إلا من الرياح الخفيفة التي كانت تعبث بالشعارات المعلقة في كل مكان.. دخل منزلهم الهادئ بعد غيبة طويلة، لم يتغير شيء، عدا الصمت الرهيب الذي يلف المكان، وغطيط زوجة أبيه النائمة في أقصى الدار، كان والده يصلي عن كثب، انتظره كمال حتى فرغ من صلاته.
- من هناك ؟
- أنا كمال يا أبي.
انبسطت أسارير حاج إبراهيم وهم بالنهوض.. إلا أن كمال اندفع نحوه واحتضنه في شوق جارف وجلس معه على فرشه الصلاة، لم يصدق حاج إبراهيم عودة ابنه كمال الذي طرده في ساعة من ساعات الشيطان.
- ابني كمال، اين ذهبت؟! منذ خروجك من البيت توالت على المصائب رحلت أمك وابنتها وتركتني أعاني الأمرين مع تلك العجوز النائمة التي أذاقتني الهوان.
كان كلمات إبراهيم المؤثرة النابعة من قلبه تسقط على أذن كمال برداً وسلاماً.
- ألا زلت يا أبي تسيطر على المسجد والبترول في البلدة ؟!
- نعم وإني أرشح نفسى في الانتخابات مع الجبهة الوطنية.
- يا أبي ما شأنك بالسياسة، أحمد الله انهم لم يزجو بك في السجن مع رموز النظام المباد.
- نحن نريد تحكيم شرع الله.
- ماذا تعرف انت عن شرع الله يا أبي .. هل نسيت أنك كنت تحتكر أقوات الناس.. يا أبي إن الإسلام سير في الوادي المقدس ليس كل يتناوله على هواه.
- لقد أصبحت عالم يا ابني.
- هل نسيت يا أبي محمد أحمد الذي مت قهراً بعد فرار ابنته بسببك، المزارع الجافة التي سيسألك الله عنها وأنت المسؤل على الجازولين؟!
- رحم الله محمد أحمد المسكين.
- لا بد أنك تشعر بالذنب حياله.. هل تعرف له عيباً سوى تعاطيه الخمر؟
كان لكلام كمال مفعول السحر في أبيه الذي بدأ ينهار تدريجياً..
- يا أبي الحق أولى أن يتبع .. استغفر ربك للتكفير عن الماضي.
انفجر حاج إبراهيم باكياً وهو يضم ابنه بقوة، ويعبث في شعره، كانت كلماته تقطر بالندم، ذلك الندم والعار الذي يشعر معه الإنسان كأن هناك خنجر انغرز في خاصرته.
- لم يكن محمد أحمد رديئاً يا ولدي.. أنا كنت ظالم وأناني !!
- في الماضي كنت تظن الدين صلاة وصيام فقط ونسيت أن الدين المعاملة والتعاون على البر والتقوى.. غاب عنك كل هذا وأعماك الجشع وأخذت تجمع الأموال لتكسب الدنيا والآخرة وخسرتهما معاً..
- كفى يا ولدي لم أعد أحتمل كل هذا.. من أين لك هذا الكلام؟
‍‌‍‍‍‍‍‍‍- إذا ستسمع كلامي هذه المرة.
- نعم يا ولدي كنت حكيماً، ولم أعرف قيمتك إلا عندما فقدتك.
- إذا حضر هؤلاء يا أبي أعلن عن انسحاب من الانتخابات كفاك تلوثا يا أبي ..
- لا يا ابني، ليس هكذا تورد الإبل.. سأعلن انسحابي بعد قفل باب الترشيح وأوجه كل من يريد أن يدلي بصوته لي أن يحوله إلى عصام عبد الجواد.
- نعم وبذلك تكون كفرت ماضيك في حق أهل البلدة الطيبة.
- نعم يا ابني آن الأوان لكي أعتكف لألقى ربي بقلب سليم.
- هذا هو عين العقل.كان حاج إبراهيم يتمتم في أسى.
- ليتني استمعت لنصائحك في الماضي.
- قلت لك يا أبي ( من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) ألم يكن ذلك ضرباً من الدين أيضاً.
- نعم يا ولدي هذا أصل الدين وميزانه الدقيق.
بينما كان كمال يناقش والده تداعى إلى مسامعه نواح زينب وهي في طريقها إلى المقابر في ذلك الليل البهيم، اتسعت عيناه بالدهشة وردد في ذهول
ما هذا الصوت يا أبي ؟!
- هذه زينب أم معاوية.. منذ أن اعتقله رجال الأمن وهذا حالها.. اتخذت المقابر مسكناً.
- أخذه رجال الأمن !!
- نعم يا ابني وكل ذلك بسببي أنا !!استوى كمال جالساً وهو يحدق في والده في دهشه.
- ماذا تعني يا أبي ؟
- أبرقت لرجال الأمن في المدينة وأخبرتهم بنشاط معاوية السياسي في البلدة وإنه هو الذي يكتب على الجدران. ألجمت المفاجئة لسان كمال وحملق في والده الذي أدلى بهذا الاعتراف الخطير.
- أبي أأنت فعلت هذا . قل لا ؟!!
انهار حاج إبراهيم باكياً وتمتم..
- نعم فعلتها يا ابني.. وما خفي أعظم.. وريا بنت عبد القادر ‍!!- ريا يا أبي !!
- لا استطيع أن أخبرك بكل شيء .. فاليرحمني الله ‍‍!!
أخذ حاج إبراهيم يبكي بحرقة.ردد كمال في أسى ونظر إلى والده في إشفاق.
- فعلاً يا أبي أنت تستحق رحمة الله .. نهض كمال وودع والده بعد أن ألقى عليه قنبلته الأخيرة "إنه تزوج من محاسن بعد أن هربا معاً وتركه فاغر فاه في دهشة‍‍ .." إذا هرباً معاً، الحمد لله على كل حال، كاد يدمر حياة ابنه بيده.. تباً لتلك الأيام القذرة..
*****

الفصل الرابع عشر
اندفعت عربة صابر في طرقات البلدة في طريقها إلى المقابر.. كانت أضواء مصابيحها القوية تبدد العتمة، أوقف صابر العربة عن كثب ونزل يشق المقابر الموحشة يبحث عن قبر والده سمع نشيج مكتوم ينبعث من قبة شيخ صالح، أوجس خيفة لحظات ثم اندفع نحو باب القبة، وقف صابر يتأمل مدهوشاً المرأة الثاوية عند القبر "من هذه المرأة ؟!" استطاع بعد برهة من نواحها أن يعرفها "انها زينب أم معاوية، صديق الطفولة.. هل مات ولدها ايضاً ؟!" .. سمعت زينب الخطوات عند الباب والتفتت ورأت شبح صابر على ضوء القمر، تملكها رعب شديد واندفعت نحوه كالنمرة الشرسة فحاد عنها بصعوبة وخرجت لا تلوى على شيء وتلعنه وتنعته بأنه أحد رجال الأمن اللذين أخذوا ابنها وغاب صوتها بعيداً، اقترب صابر من قبر والده، جلس يسكب العبرات وقد اعتصره الألم، كان يشعر بالضياع وأن لا أحد يريده.
- أبي الحنون كم افتقدتك، لم يعد لي أحد في الدنيا، تخلى عني جميع الناس، بما فيهم أمي، أرجوك أن تغفر لي يا أبي كنت ابناً عاقاً، لم أفهم حقيقتك، كنت يا أبي في القرية كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسك. ليتك لم تمت يا والدي، كنت غفرت لي بنفسك المتسامحة .
ظل صابر يندب حظه العاثر عند قبر أبيه في المقابر الموحشة ونعيب البوم يملأ المكان، ويزيد من كآبة صابر، نهض وخرج من القبة يشق المقابر في طريقه إلى السيارة. ركب السيارة واستدار بها نحو الصحراء وانطلق، توقف تفكيره تماماً، "لم يعد يعرف من هو !! وإلى اين يذهب، لم تكن هناك جدوى لبداية جديدة.." مع ازدياد اضطراباته الداخلية.. كانت سرعة العربة تزداد ومؤشر السرعة يقترب نحو المائة واربعون.. ظلت مصابيح السيارات القادمة في الاتجاه المقابل في هذا الطريق الوعر تلقي ظلالاً موحشة على وجه صابر المتكدر.. انتهت كل المعادلات التي تحفزه على البقاء على قيد الحياة و لم يعد يذق طعماً لها، فقط المرارة والسيارة منطلقة كالسهم. كان لا بد من حل واحد.. ضغط على دواسة الفرامل وأدار المقود بحدة، طارت السيارة في الهواء وهوت في الوادي السحيق
*****
كانت هذه الليلة من أطول ليالي القرية، بعد انصراف صابر، جاءت محاسن تحمل وليدها إلى قبر والدها، جلست تبكي داخل القبة وتطلب الغفران.- اغفر لي يا أبي لو كنت أعرف أنك سترحل ما هربت، وبقيت معك لأودعك الوداع الأخير.ظلت محاسن ثاوية عند القبر، اقترب رجل ممطياً حماراً من باب القبة، كان حاج إبراهيم .. نهضت محاسن وقد تمكلها الفزع الشديد، تنظر إلى القادم الجديد.- أنا ابراهيم يا بنتي، لا تخافي !! سامحيني لقد اخطأت في حقك وفي حق المرحوم والدك !!وجهت له نظرة احتقار وهرولت عائدة إلى القرية تحمل وليدها الذي أخذ يبكي بشدة.. نزل حاج إبراهيم من الحمار، دخل إلى القبة، ركع جوار القبر يندب حظه العاثر ويتمسح بشاهد القبر وقد خنقته العبرات.
- أعفو عني يا محمد أحمد ، كنت أنت الغني بنفسك العالية وكنت أنا الفقير بمالي القذر، إن لم تعفو عني فعلي لعنة الله والناس أجمعين!! يرحمك الله يا محمد أحمد لقد انتصرت علي مرة أخرى !!
نهض حاج إبراهيم ومسح الدموع التي فاضت من عينيه مدراراً وخرج من القبة إلى الظلام الشاحب الذي يلف المكان بعد أن مال القمر إلى الأفول مؤذناً بالساعات الأولى للفجر .. كانت الرياح تعبث بأوراق أشجار النخيل المتيبسة مصدرةً صوتاً كالفحيح، مضى الرجل يشق القبور على ظهر حماره وعند طرف المقابر خيل له انه سمع صوتاً مألوفاً يتردد في اذنيه " عفوت عنك .. عفوت عنك " اطلق الرجل زفرة حارة وتمتم "اللهم أعشنا في سلام وامتنا في سلام وادخلنا دارك دار السلام"، دلف بحماره إلى القرية التي كان يخيم عليها الصمت إلا من نباح الكلاب الذي كان يتداعى من بعيد.
*****
الفصل الخامس عشر
كان الماء ينسلب عذباً رقراقاً.. يتلامع كالمرآة السحرية مع اشعة الشمس الذهبية الغاربة في القناة، في ذلك الأصيل المشهود من أيام القرية التي بدت تدب الحياة في أوصلها تدريجياً.. كانت زينب تجلس عند حافة القناة عند مشرع المعدية تعب الماء عباً، وصلت المعدية إلى الشاطئ وبدأ القرويون يتدافعون للنزول إلى البر دافعين الدواب أمامهم.. نزل شاب طويل القامة نحيف تبدو عليه آثار السفر والعناء، نظرت زينب من خلف الشجيرات إلى ذلك القادم الغريب، لم تكن تعرف انه معاوية فلذة كبدها الذي فجعها فيه رجال الأمن، عاد معاوية كأنه كبر ألف عام، دلف معاوية يشق طرقات القرية المتربة.. مر جوار منزل ود البشير الجزار، كان يعمل معه صبي جزار أحياناً في الماضي، هرعت الكلاب الشرسة لاستقبال صديقها القديم معاوية، تعرفت الكلاب الوفية على اليد التي كانت تطعمها في الماضي، الكلاب التي لفظت عثمان ود البشير وجعلته يترك البلدة نهائياً، استقبلت معاوية استقبال الأبطال.كان شريف وكمال يقفان أمام منزلهم، لمحا معاوية قادم عند نهاية الزقاق
- من القادم الجديد يا كمال؟!
نظر كمال إلى الرجل القادم من بعيد تتراقص حوله الكلاب
-يا إلهي.. انه معاوية!!كان اللقاء بين الأصدقاء الثلاثة حافل بالشجن، الزمن الذي فرقهم الأمس عاد يجمعهم الآن، تعالى صوت ملكة من داخل البيت، كانت تستفسر عن القادم الجديد، لم تسعها الفرحة عندما خرجت وواجهت معاوية القادم من المجهول، كانت حرارة اللقاء شديدة، حتى انهم لم يفطنوا إلى زينب التي اقبلت تشق الطريق المترب في طريقها إلى المقابر غير آبهة بهم، التفت معاوية إلى أمه في استغراب، اصبح شكلها مفزع، تمزقت ملابسها واسود لونها وتساقط جل شعرها الطويل الجميل، تعرف معاوية على أمه، القى حقيبته الصغيرة واندفع خلفها يناديها.- أماه .. أنا معاوية !!وقفت زينب بغتة وقد رن صوت ابنها في أذنها كالجرس عله أوقظ ذاكرتها النائمة، والتفتت تحدق فيه ملياً وهو يوسع الخطى نحوها، ثم انصرفت عنه تنوح "ولدي معاوية أخذه رجال الأمن… ولدي لن يعود".. شعر معاوية كأنما هناك خنجر انغرز في صدره، عرفته الكلاب الوفية ولم تعرفه أمه.. انهار معاوية باكياً " ما الذي حدث في هذه الدنيا ؟! " اقترب منه كمال وشريف يطيبا خاطره وعادا به إلى البيت.- لا عليك يا معاوية، كانت الصدمة فوق احتمالها، ملكة ستتكفل بها فهي لا تثق بأحد غيرها منذ وفاة أبي.
- هل مات محمد أحمد ايضاً ؟!
- نعم يا معاوية مات أبي والحديث ذو شجون هيا بنا الآن .
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
دخلوا إلى المنزل، وتهالك معاوية على عنقريب دافناً رأسه بين يديه. جلس الصديقان قبالته يحدقان فيه في أسى عميق..
* * *
اندفعت ملكة خلف زينب التي ولت مبتعدة في طريقها إلى مكانها المعهود، المقابر.. وقد بدأ الظلام يلف المكان بعبائته السوداء المرصعة بالنجوم.. عند قبر محمد أحمد جلست المرأتان تندبان وتنوحان.. كان نواحهما يشق صمت المقابر الموحشة ممزوجاً بنعيب البوم وحفيف الأشجار، أشجار النخيل والدوم المتيبسة.. وأنين الساقية البعيدة.. كانت هذه سيموفنية الخراب الذي خيم على هذا البلد الذي خبث..
تمت بحمدالله
السودان - كريمة 18/1/ 1988م













#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية-عازف الكمان-
- لم تنهار الاشتراكية بعد...
- سيرة مدينة:سباق المسافات الطويلة
- أركاماني المؤسس الأول للدولة السودانية المدنية 270- 260 ق.م.
- مقالات سودانية:الإسلام كنظرية نقدية
- سيرة الرجل الذى ناضل لكل الاجيال
- صباح الخير عام 2008
- الحوار المتمدن والثورة الثقافية
- اللعنة التي حلت بالمكان
- الفكرة الجمهورية...حياة الفكر والشعور
- تراتيل الصحابة
- سنت جيمس
- مثلث حلايب والرابطة التجارية لدول البحر الأحمر
- خيال مآتة برتبة جنرال
- متى يعلنون وفاة الشمال
- كن اباذر...!!!!
- حكاية لم يروها النهر
- قائمة السفاح(يونس محمود)
- حب الناس العاديين
- تداعيات الزول السوداني في اليمن


المزيد.....




- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - الساقية...(رواية سودانية)