يوم المحزنة 8 آذار المشئوم


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 1852 - 2007 / 3 / 12 - 12:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

قبل أربع وأربعين سنة، وفي مطلع الربيع ولد الشتاء، فكان انقلابا في دورة الفصول التاريخية، ولعلع البلاغ رقم واحد المشئوم صباحاً، وكنا نسمع الراديو، وظننا أنه حدث عابر، وسحابة صيف قائظ، ولم يكن يخطر في بالنا أن الحوت البعثي، سيلتقمنا في بطنه إلى يوم يبعثون، بعد أن لم نعد مسبحين؟!

ومع هذا اليوم المشئوم، كان العديد من تعساء الحظ، قد ولدوا للشقاء.

أكتب هذه الأسطر بعد مرور وقت طويل على هذا الحدث الجلل، ونحن في نفق مظلم، لا نرى نهايته، ولا أمل في الخروج منه..

ما زلت أتذكر عامي 1961 و 1963م، التي سميت بالانفصال، شعرنا فيها بنسمات من الحرية، والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة، ثم خسف بها الزلزال البعثي، فانقضت وكأنه حلم وردي قصير سريع..

بعدها أطبق الظلام، وسكت الأنام، و شخر الجميع، في زنازين من المعتقلات، في ظل حارس مسلح بكلاشنكوف.

أكاد لا أصدق أن يصل الأمر بنا إلى هذا الدرك الأسفل من النار؟

كيف خسرنا وطننا؟ وكوتنا غربتنا؟ فلم يعد وطن ومواطنة، ولم يبق في الوطن إلا منافق ومنسحب ومقتول وسجين وهارب..

واليوم يعيد الأبناء الدورة من جديد، على يد المجرمين، فيدخلون السجون، ويعيشون كالعبيد، وينالون قسطاً من العذاب في أقبية المخابرات.

وكأن شيئا لم يتغير، وكأن العالم لم يتقدم شعرة.

ويصبح من يفتح الانترنت فيقرأ مقالتين ونصف، ويرسلها لشخصين ونصف، يحكم ثلاث سنوات بالحبس، بيد قضاة هم رجال أمن توشحوا عباءات الحقوقيين، بعد أن لم يبق قضاء وحق وواجب..

عجيب هذا العالم الذي نعيش فيه، من حيث السرعة، فيمكن أن يتباطأ الزمن، فلا يتحرك، ويمكن أن يسرع فلا يحس به من أحد، أو يسمع لهم ركزا؟

ونحن توقف الزمن عندنا، أيام دولة الحمدانيين الثانية بدون متنبي.

وتلك الأيام نداولها بين الناس.

بدأ سفر الخروج بالنسبة لي يوم 13 يناير 1975م، فعشت في ألمانيا، ثم دخلت العالم العربي، بدون أن أدخله، ثم يممت وجهي شطر الغرب، وقلت إني مهاجر إلى ربي، كما قال إبراهيم من قبل، صاحب الحجة البالغة.

وقلبت وجهي في سماء كندا، فاتخذت منها وطنا جديدا، كما وقع لنبي الله أيوب، حينما أبدله الله أهله ومثلهم معهم، رحمة من عنده وذكرى للعابدين.

لم تكن الأحداث الدامية قد وقعت، ولكن مؤشراتها كانت واضحة؛ فالتوتر يرتفع، والاحتقان يزيد، والنفوس تغلي، ثم كانت نكبة مدينة حماة، حينما ذبح من أهلها عشرون ألفا أو يزيدون؛ أكثر من حلبجة صدام؟!

ولكن الإعلام شيطان أخرس، فهو يرفع أقواما، ويذل آخرين، حسب التبعية والرضا.

أما ملفات الطاغية فتبقى محفوظة حتى يوم الغضب عليه.

وسبحان الله، فقد يموت طاغية في عزة وشقاق، محمولاً على عربة حربية، وعباده من القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، من حول قبره، يلطمون الخدود ويبكون، كما كان يفعل أهل مصر القديمة مع جثة الفرعون بيبي الثاني.

ونحن نتأمل ونتألم. وسبحان مجري السحاب وهازم الأحزاب.

لقد كنت يوما في حارة عتيقة، في دمشق العتيقة، المملوءة بالغبار والفقر والوسخ والفوضى وجزيئات الأمن، فدخلت مسجداً أصلي؛ ففوجئت بقبر (أم) صلاح الدين الأيوبي فيه، فتأثرت جدا.

ولكن المفاجأة الحقيقية كانت خارج المسجد، حيث وقعت عيني، على أثر تاريخي للأمراء الأيوبيين، وقد تحولت إلى مبولة؟!

نعم بحق فكل من احتقنت مثانته، جاء فبال هناك بفائض من البول على رؤوس الأمراء؟

وقلت لو لم يكن قبر (الخاتون) في الداخل لأصبح أكثر من مبولة.

فهذه هي مصائر الجبارين من الملوك والأمراء.

ويجب أن نعلم أن صلاح الدين الأيوبي، لم يزيد عن جنرال عسكري ناجح، تمتع بإتقان فن الحرب، وأخلاقية عالية، شهد له بها الغرب قبل الشرق، ولكنه وبتوقيع من يده الكريمة، تم قتل (السهروردي) عالم حلب.

ومن سلم القدس صلحا للصليبيين، بعد تعب صلاح الدين حربا، كان أخوه العادل من بعده بدون حرب، سلمها بالبريد المضمون للملك فردريك الثاني؟!

وأبرز ما حدث بعد نكبة البعث حتى الآن، هو استعمار حالك، وهلاك مبين، وإفساد للحرث والنسل، وتدمير للبنية والإنسان والشجر، وهلاك مئات الآلاف من الناس في تدمر وسواها، وذل مقيم، وفقر مدقع، ونهب منظم للبلد، واعتقالات لا نهاية لها، وهبوط في قيمة العملة ألف وأربعمائة في المائة 1400%، ونزوح الملايين، من الأكراد والعرب والتركمان، وظلم للنفس أكبر، هربا من الجبار، وكانت قيمة الدولار أقل من أربع ليرات سورية، والآن تجاوزت الخمسين، ولولا تدفق أموال الهاربين، في شلال من ذهب، لأهلهم المنكوبين في الداخل، لانهارت بأشد من انهيار سد (الزيزون) في البلد المنكوب.

إن من يريد أن يخدم الإلزامية يكفيه رشوة ضابط همام فيخدم في الجيش بدون خدمة، ومن يريد أن يأخذ شهادة القانون فتسعيرة المادة عشرة آلاف ليرة أي 200 دولار، وهكذا يصبح القاضي المرتشي بشهادة مزيفة بقيمة عشرة آلاف دولار؟؟ فما أرخص الإنسان السوري..

إنها أحداث يجب أن تسجل للتاريخ، وتتلى على أولادنا، وأولاد أولادنا من بعدنا، مع الدموع والحسرات، كما يفعل اليهود حتى اليوم مع تيتيوس الروماني، وتدمير القدس، حتى يحذروا ثعابين الطوائف، ومرض الحزبية، وتسلط العسكر، ووطأة الديكتاتور.

لقد أصبح الرغام سادة الأنام، وتحول أهل البلد إلى عبيد، فهم على أبوابهم يتسولون، وأصبح رئيس الفرقة العسكرية غير الموثوق، رهن إشارة ضابط صغير (حزبي) في أمرته، مما يذكر بظاهرة السرطان.

ما هو السرطان؟؟

السرطان هو ظاهرة تمرد عجيبة، تزحف فيها الخلايا، من أمكنتها إلى أمكنة أخرى، بالانتشار، وهي تقود انقلابا مسلحا في تمرد في الوظيفة والزمان والمكان.

وخلايا الأمعاء الغليظة في سرطان الكولون مثلا، تترك مكانها، لتصبح في الدماغ.

ومثلها أوضاع العالم العربي؛ فمن كانت مهمته الحراسة يصبح سجاناً، ومن كانت مهمته الخدمة، يتحول إلى قائد لامع، ومن كانت مهمته الحماية يتحول إلى لص شريف، بدون شرف.

دخلت النكبة عارمة إلى كل بيت، فليس من عائلة أو قبيلة أو عشيرة أو بناية أو شارع، إلا وأهين أحد من أبنائها، بشكل وآخر، ولم يبق إلا من شرد أو هرب أو قتل أو ما زال السجن مأواه.

إنها كارثة عارمة مثل تسونامي، خلفها زلزال اجتماع بقوة عشرة ريختر..

وجاء أولئك الثوريون؛ قد رفعوا الأبواق ضد الأنظمة الرجعية فهم ينفخون، ومن أجل إعادة فلسطين فهم يزعقون، وتحت شعارات مثل الوحدة والحرية والاشتراكية فهم يهتفون.

فأصبحوا رجعيين أكثر من الرجعيين، وتحول رجالات الحزب إلى ألعن أنواع الإقطاعيين، في يد أحدهم مسدس روسي، وتحته سيارة مرسيدس ألمانية، وبين أصابعه كابل صيني فتارة به يضربون، وتارة بالكهرباء يلسعون.

أما وقضية فلسطين فتحولت إلى استجداء سلام، ممن ليس عندهم سلام.

قالت مجلة در شبيجل الألمانية عن الوضع: إنها ليست مافيا أو مافيات؛ داخل الدولة، بل تحولت الدولة كلها إلى مافيا منظمة للرعب والنهب؟؟

وتحت دعوى الأمن نشروا الرعب؛ بفروع أمنية، نمت بأشد من تنين، يقذف باللهب من تسع عشرة رأس؛ فقتلوا الأمن والحياة، واغتالوا الحريات، وكان فيمن نسف الناس في لبنان، بمحارق من سيارات مفخخة، وخرجوا من الباب مدحورين؛ فهم يتسلقون الجدران والحيطان مثل لصوص الليل، على ظهور حزب الله عائدين.

والله أمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها بالشرعية..

ولكن أين الشرعية...

لقد أماتوا الإنسان في صحراء تدمر ألف ميتة قبل الممات، وتحت الحرية اغتصبوا كل حرية، وأسسوا الاستبداد، بأشجار تنبت من أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، وتحت مسمى (الاشتراكية) أقحموا الناس في جهنم السياسية، فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون.

وبحجة فلسطين أورثوا أولادهم الملك، وانقلبت الجمهوريات إلى ملكيات، وهي بدعة بدأت تعم العالم العربي، من حلكو ونصيب، إلى الصعيد، وعدن وطرابلس، وهو انقلاب في مخطط الزمن، وعكسا في اتجاه التاريخ؟!

أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أمن يمشي سويا على صراط مستقيم؟

وتحت الوحدة ترسخت الطائفية، وتحول القطر الواحد إلى أقطار، منه من انفطر، ومنه من هو في طريق إلى الانفطار العظيم.

وإنه لنبأ لو تعلمون عظيم.

إنها أجراس إنذار لقوم مصابين بالصمم..

والعراق اليوم أصبح ثلاثا، وقد يصبح خمس عشرة، كما تحولت الصومال تحت حكم المجرم (البري) البربري إلى دويلات لا عد لها.

وعندما تتفسخ الجثة، فإن مسلسل الانشطار لا نهاية له، إلا في مستوى البناء الذري لو كانوا يعلمون.

وبدأ نظام الحكم في التحول إلى كائن عجيب يذكر بقصة (فرانكنشتاين)، الذي جُمِعه طبيب أسطوري، جسدا على كرسيه ثم أناب.

فهو يتكون من نصفي دماغ من عائلتين. وقلب طائفي، و عمود فقري من ضباط طائفيين، يمسكون بكل المفاتيح الحساسة، والفرق العسكرية، و19 جهاز أمني، يحس بدبيب كل نملة، وطنين كل نحلة.

وأما العضلات والعظام، فهي من أولاد الأقليات.

وأما الحشى فهي من بورجوازية المدن المنحلة.

تتعامل مع النظام على طريقة المغني (صباح فخري) الحلبي طعماني وطعميتو، وأما الجلد الذي يغطي هذا الكائن الأسطوري فهو حزب البعث.

وهو كما نرى مجموعة متنافرة من الأعضاء في جسد كله ذي عوج.

وجسد مثل هذا ضد الحياة لا يعيش، ولكن ليس قبل ولادة البديل..

والآن وبعد مرور 44 سنة يشعر الإنسان، أن الجبار نجح في تخليد اسمه على نحو ما، كما فعل من قبل هتلر وتيمورلنك وبول بوت وصدام وستالين وهونيكر وخوجة وفرانكو شاوسسكو.

وكل السفاحين، مقروناً برعب فرق الحشاشين للاغتيالات في العواصم الأوربية، والمخابرات، والقتل، والجلد، والفلق والحبوس والإفراديات، والهزائم العسكرية، والفوضى الطائفية، وانحلال البلد، وبوار التجارات، وهلاك النفوس، في قنوط مقيم، وهبوط العملة، وكساد السياحة، والانفكاك عن العصر، وتدمير التراث، بنهب سجادات وثريات المسجد الأموي في حلب، وتحويل البلد كله، إلى سجن كبير، يضم مواطناً مسكينا ويتيما وأسيرا.

هذا الجبار حكم البلد، كما وصفه الكاتب الألماني (بيير مان) بدون ضمير ورحمة..

انقلابي حتى العظم مدرب على قتل المواطنين، ناشر وباء الطائفية، استطاع أن يضع البلد لمدة أربعة عقود، في براد مثلج، تحت الصفر أربعين، ألعن من صقيع سيبريا شرق أوسطية.

ومات الجبار، وبقي من عصابته يتابع الرحلة، ، من الأوغاد كما في تعبير (إدوارد سعيد) من يدير دفة سفينة قراصنة محطمة، يقتات على الحطام والهزائم والفقر وذل المواطن..

ذكرى للغافلين والنائمين في أي غابة يعيشون.

إن الألم له فلسفة فهو يطهر.

والمعاناة تفتح العيون على واقع ليس فيه راحة.

وكما يقول (كافكا) في قصته (التحول) أن المواطن ينام ليستيقظ؛ فيجد نفسه قد أصبح خنفسة.

والمواطن الذي يدخل المعتقل ليس كمن خرج.

وكتبت في يوم على جدار زنزانتي الإفرادية، في معتقل كركون الشيخ حسن :"ليس من دخل السجن كمن خرج".

"ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق".

كان ذلك عام 1969 م وزوجتي حامل في شهرها الخامس، وجنينها يضرب بأقدامه الصغيرة بطن أمه معلنا القدوم إلى الحياة، حيث وطن بلا حياة، يضم حفار قبور، وعنصر مخابرات، يحرس المقبرة، وجثث تتوافد في عالم، الكل فيه ميت، من هو فوق الأرض، وما تحت الثرى.

ومن يعيش في السجن الكبير، يجب أن يستوعب حقيقة أن يفتح كتاب النبات، فيدرس وظائف النبات، فإذا ولج الغابة البعثية، عليه أن يضع كرامته وعقله على الحدود، ثم ينحني تسعين درجة فيدخل ذليلا صغيرا قليلا، يواجه القلة والذلة والوسخ والفوضى، ويتنفس بعمق جزيئات من عناصر (الأمن)، ويمارس نشاط النبات؛ فالنبات لا يقرأ؟!

وعلى المواطن (الصالح) أن لا يقرأ، إلا ضمن ما يقرأه له الحزب القائد.

إن لكل أمة ذكرى حزينة، مغموسة بالدموع؛ فالشيعة يجلدون أنفسهم حتى النزف والإغماء، في ذكرى قطع رأس الحسين، على يد يزيد اللعين.

وهكذا يحتفل الصرب بالشموع عند أمسل فيلد ويبكون.

واليهود يتذكرون سبي بابل، ومذبحة الماسادا، ونكبة القدس عام 70 م على يد القائد تيتيوس الروماني، الذي هدم المعبد، ومزقهم شر ممزق، فأصبحوا أحاديث، وما زالت العائلات اليهودية، تصيح في الذكرى؛ ليلتصق لساني بحلقي؛ إن لم أذكر الهولوكوست ومذابح كييف وأوسشفيتز.

إنها المعاناة، ومن نار المحرقة ولد الشعب اليهودي.

إنه الألم المقدس.... ولقد خلقنا الإنسان في كبد.

وهكذا يشعل أهل المغرب الشموع عند سجن (تزما مارت) ليتذكروا أولئك الذين قتلوا ألف قتلة قبل الموت.

وهكذا يجب أن يفعل أهل سوريا، عند سجن تدمر المشئوم، فيرفعوا في المستقبل نصبا من رخام، عليه أسماء كل من قضوا نحبهم هناك، بين العقارب والأفاعي من بني الإنسان.

وأن يجتمعوا كل سنة، في يوم الحزن الأعظم، حينما تمر الذكرى المشئومة لـ 8 آذار، يوم الانقلاب الملعون، الذي قلب حياتنا إلى محزنة، وحريتنا استبدادا، وعزنا ذلا، وسورية إلى مقبرة، ونور عيوننا إلى ظلام، فنحن نعيش عالم القبور، في ظلام دامس، إذا أخرج يده لم يكد يراها.

إنه انقلاب قلبنا، فأصبحنا نمشي على رؤوسنا.

ومن يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً.