شِدّة الشِعر في فيلم هالة العبدالله


ناهد بدوي
الحوار المتمدن - العدد: 1815 - 2007 / 2 / 3 - 11:27
المحور: الادب والفن     

تهمس لنا هالة بهدوء وسكينة:
تعالوا نطل على الأيام
تعالوا نطل على البلاد
تعالوا نطل على الجراح
في باريس في الحي الثالث عشر وفي استوديو في الطابق الواحد والثلاثين شاهدنا فيلمها* على شاشة تلفزيون.
قالت لي أخته ذات يوم هل رأيت كل هذا التعقيد حتى تصلي إلى هنا مصعد وأدراج وأبواب؟ عندما اشترى حسان هذا البيت منذ زمن بعيد لم يحسب أننا في يوم ما سنختير.
بعد الفيلم قلت لعليا كلامك صحيح ولكنك نسيت كلمة واحدة وهي "هنا" أي انه لم يعرف انه سيختير هنا.
نسيت يا عليا أن هذا الصبي الأشيب الذي جلس أمامي أثناء مشاهدة الفيلم، يتألم من ديسك زرعه العمل الطويل في ظهره ومن غربة زرعها الوطن في قلبه، لم يكن يظن، ولم يكن يريد، ولم يرضى بجنسية غير سوريته ولم....ولم...ولم.......
على نفس خط النظر مع الفيلم كنت أراقبه يجلس غارقا في الكرسي وفي عبق الفيلم، فوق التلفزيون علق صورة أمه عندما كان صبيا، تنظر إليه الآن وتقول: ويلي، هل مازال ذلك الصبي، فلذة روحي، يتألم حتى الآن.
بعد الفيلم صار يقول ويكرر: لا أعرف لماذا أشعر أن أحدا عزيزا جدا قد مات.
سأعترف لك يا حسان أنني كنت أرى في عينيك طفلا منتشيا شقيا كلما حدثتك عن الشام وعن شوارع بستان الرئيس والشعلان والجبة وسوق الجمعة.
كنت أطيل الحديث والتفاصيل كي أقبل ذلك الوله الواضح في عينيك وأنت تسألني هل مازال بياع الفلافل في تلك الزاوية؟ هل ماتزال إعدادية جول جمال في مكانها في ساحة عرنوس؟
هل مازال بائع الصحف الرباط عند القنطرة في مفرق الشهدا؟.
انك تنعي الآن ذلك الشاب الذي كان ينبغي له أن يكمل سيرة عشقه، التي بدأها في مقهى الكاندل، في تلك الشوارع وتلك الزوايا. ذلك الشاب لم تعوض عنه كل ليالي صخب الشباب في اسبانيا ولا في باريس.
في الجهة المقابلة جلس الرسام حاضنا شاعرته. لقد تقاعدت من عمل العيش الذي سرق منها قصائدها. فرحت بحريتها، لمعت عيناها، ورفعت أكمامها وقالت حسنا الآن سأبدأ قصيدتي.
قال لي صخر ذات حديث، تلك البلاد ليست وطنا، تلك البلاد ليست حلما، لقد حضننا هذا البلد، عذبنا، لكنه في نفس الوقت أعطانا ما لم تعطه لنا بلادنا، ولدينا هنا الكثير الكثير من الأصدقاء الفرنسيين.
عيون صخر كانت كالخوخ الأحمر بعد مشاهدة الفيلم. كان خوخه يفضح توهمه. كانت دموعه تفضح مكابرته ومحاولة الاندماج والنسيان.
أحجار الشاطئ في قرية البصيرة التي رآها في الفيلم كانت كافية لأن تعود به طفلا يركض على ساحل البحر ويصرخ بأعلى صوته هذا لي، هذا البحر لي هذه السماء لي هذه الأحجار الملونة لي وحتى هذه الأوساخ لي.
كيف عرفت ياهالة، أيتها الشقية، أنني خبأت في ذلك البيت العتيق على الشاطئ ريشتي وألواني ورعشات روحي.
وتتساءل عائشة ذاهلة العينين: حقا كيف سأبدأ ومادة الخلق تركتها في تلك الجزيرة؟.
أما نحن سلامة وأنا، لم نكن هناك، لم نكن معهم، كنا ننتمي لغربة أخرى، كنا معلقين في الفراغ الذي تركه العثمانيون في الجزيرة. كنا مع الولد الذي أطلقته هالة في الجزيرة آنذاك كي يتوج نفسه سيدا للمكان وسيدا للزمان ولكنه لم يفعل شيئا.
جلسنا تحت الطاولة ولم ننظر في العيون.
حقا لماذا تركنا المكان فارغا لكل طامع سبيل؟.
حقا لماذا لم ننظف أيقونتنا؟
حقا لماذا حصدنا كل هذا الخراب؟
حقا لماذا غرّبنا أبناءنا الأبهى؟
حقا لماذا لم.....لماذا لم..
كنت أعيد اكتشاف الأشياء والأصدقاء، أعيد اكتشاف حضور المرأة، وأعيد اكتشاف نكهة الوجد وسطوة التدله وشدة الشعر.
جلست أكتب عن أبطال الفيلم، كتبت عن المشاهدين. إمارة أخرى من إمارات إبداع الفيلم، يفتح زاوية رؤية جديدة لما نعيشه كل يوم.
يجد كل مشاهد للفيلم شيئا منه فيه.
حتى المختلف المولود في أقاصي القطب الشمالي سيبحث مع هالة عن وشم الزمن على روحه. وسيعد خيبات عمره مع أوراق اللعب في يدها وستهزه سنواته المحدودة أمام اتساع زرقة الحلم.
من شدة الصدق والحب تسلل الفيلم إلى العالمية مثل النسمة الخفيفة.
خشيت أن يكون مشهد استقبال يوسف في المطار هو النهاية السعيدة للفيلم ولكن لم تخطئها هالة، بقيت النهاية مفتوحة تنتظر حسان وسلطان وفاروق وعبد الحميد وسركيس وغزوان وصبحي وزكريا ومحمد وآلاف غيرهم ينتظرون أن تفتح لهم بلادهم حضنها كما فتحته يومها مرة وعادت وأغلقته.
وهالة التي كانت تعيد إخراج الفيلم من زاويتنا، جلست يسرقها السحر والغرابة وهي تشهدنا نقتحم عليها فيلمها عنوة، ونتربع في بؤرته، نسرق أدوار البطولة. نعطيه ألوان جديدة.
تفرك عينيها ويفرك قلبها وجدا.
هنيئا لها.
استطاعت أخيرا أن تكتب قصيدتها


• "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"*
فيلم من إخراج هالة العبد الله وعمار البيك شارك في عدة مهرجانات سينمائية من أهمها مهرجان فينيسيا.
العنوان مأخوذ من قصيدة للشاعرة السورية دعد حداد
"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها
وتبكي من شدة الشعر"