أفكار حول دور آخر ممكن-رسالة إلى غبطة البطريرك الماروني نصرالله صفير


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 1794 - 2007 / 1 / 13 - 10:40
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

السيد البطريرك
ترددتُ كثيراً قبل أن تنضج لديَّ فكرة مخاطبتك، علانيةً، عبر جريدة يومية. ومن المرجَّح جداً أن لا يكون اسمي يعني لك أي شيء، ذلك أن المناسبتين الوحيدتين اللتين سبق أن وضعتاني على حد أدنى من التماسّ معك تعودان إلى زمن ممعن في البعد، وكنتُ لا أزال في مطلع المراهقة: أتيتَ، في الحالتين، منتدباً من سلفك الراحل البطريرك معوشي، لترؤس جنازتي جدي، ثم أبي، وتلاوة الرقيم البطريركي، وإلقاء كلمة تأبين في كلٍّ من تينك المناسبتين الحزينتين.
تغيرت أشياء كثيرة في ما بعد، وباتت لدي قناعات أخرى بخصوص الحياة والموت، والمعتقدات الماورائية. بيد أنني لا أزال أشعر بعميق الاهتمام بمصير الناس الذين يتشاطرون الإيمان ذاته مع آبائي وأجدادي، رجوعاً إلى مئات السنين، في الوقت عينه الذي يشمل فيه هذا الاهتمام، والقلق الشديد أيضاً، مصير باقي المواطنين، من شتى المذاهب والطوائف، ومصير الوطن بأسره، بالتأكيد. وأظن أن هذين الاهتمام والقلق يتيحان لي أن أخاطبك، ربما باسمهم، لا بل حتى باسم أمثالهم على امتداد هذا الشرق، ولا سيما أنك، بحسب تعريف المهمة المنوطة بك، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق. أي أن مواقفك تؤثر حتماً، ليس فقط في مصير موارنة لبنان، بل أيضاً في مصير مسيحيي الشرق، أجمعين.
في كل حال، لو أنك تهتم فقط بقضايا الدين، لما وجدت أدنى حاجة لمخاطبتك، لكنك تهتم كثيراً، وكثيراً جداً، بقضايا السياسة، وحتى الاقتصاد أحياناً، إما مباشرة، عبر مقابلات إعلامية (على غرار تلك التي أعطيتها ليل الثلثاء 26 كانون الأول الماضي، على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال»)، أو تصريحات صحفية، أو عظات دينية كثيراً ما يغلب فيها الموقف السياسي، وذلك في أيام الآحاد والأعياد، أو بصورة أقل مباشرة، عبر ما يصدر عن مجلس المطارنة الموارنة الذي تترأسه عادة، ولا يكف عن أخذ مواقف دورية في الشأن السياسي.
لأجل ذلك لا أجد فقط أنه حقٌّ لي، بل أعتقد أنه واجب عليَّ، بوجه أخص، أن أضع أمام غبطتك الحقائق التالية:

1. لقد كانت هنالك دائماً، وعبر التاريخ، كنيستان، الأولى والأقوى هي الكنيسة التقليدية، التي تساند الوضع القائم، وتساهم في حمايته، وتوفير الغطاء له، مع ما يعنيه ذلك من دعم لقوى العسف والعدوان والاستغلال في هذا العالم؛ والثانية، الأضعف إلى الآن، وهي الكنيسة الشعبية، المتمثلة، في العقود الأخيرة، بكهنةٍ وقلةٍ من الأساقفة الطامحين إلى التغيير الثوري، والمنضوين في ما يعرف، في أميركا اللاتينية، بوجه خاص، بلاهوت التحرير. وقد يكون المطران غريغوار حداد، على مستوى لبنان، يمثل من بعض النواحي حالة قريبة، وإن أقل جذرية، في النضالات الاجتماعية التي خاضها ويخوضها مع الفقراء والمظلومين في بلدنا، وبوجه أخص في كفاحه الطويل لأجل فصل الدين عن الدولة، وإقامة مجتمع ودولة علمانيين، على أنقاض مجتمع المحاصصة الطائفية والتذابح الأهلي المتكرر.
الكنيسة الشعبية هذه كان بين رموزها الأكثر سطوعاً وتأثيراً ذلك الكاهن الكولومبي، الذي سقط وهو يشارك في الكفاح المسلح ضد سلطة بلده الرأسمالية التابعة لواشنطن وللاحتكارات الأميركية الشمالية، وذلك في العام 1966، أي قبل عام واحد من مصرع تشي غيفارا في أدغال بوليفيا. والكاهن المنوه به، الذي لعب دور ملهم أساسي لهذه الكنيسة، هو كميلو تورس؛ وكان قد اعتبر، في الكتابات الهامة والقيِّمة جداً التي تركها، أن «واجب كل مسيحي أن يكون ثورياً». وكانت أفكاره، كما ممارسته، عميقة الأثر في كهنة كثيرين آخرين، من بينهم كهنة ثلاثة هم دومينغو لاين، وخوسيه أنطونيو خيمينيز ومانويل بيريز. هؤلاء كان قد سامهم في احتفال رسمي باذخ، في تموز 1966، في كنيسة سيكستين، البابا الأسبق بولس السادس، من ضمن 70 كاهناً تم اختيارهم من المدارس الإكليريكية الأوروبية لكي يعملوا كمرسلين في أميركا اللاتينية ويحدّوا من صعود الموجة الثورية، واختراقها أسوار الكنيسة هناك.
بيد أن لاين وخيمينيز وبيريز الذين سبق أن تقاسموا، في فرنسا، «الحياة البائسة، والعمل المتعرض لفرط الاستغلال والاضطهاد العنصري للمهاجرين من إسبانيا وبلدان أخرى من جنوب أوروبا وشمال أفريقيا»، وباتوا يشعرون بالنفور من الطقوس، متسائلين «لماذا الذهاب إلى قداس الأحد في كنيسة إذا كنا نعيش قداساً أعمق في متنَّكات المهاجرين؟!»، سرعان ما وجدوا أنفسهم، بعد انتقالهم إلى أميركا الجنوبية، ومعاينة الوضع الشعبي هناك، يلتحقون، هم أيضاً، بالكفاح المسلح في كولومبيا، في «جيش التحرير الوطني»، الذي سبق أن قاتل تورس في صفوفه، معتبرين على حد تعبير أحدهم، دومنغو لاين، أنهم اختاروا الثورة الاشتراكية «لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لكي نجتث من الجذور أسباب استغلال الإنسان للإنسان».
وقد ردّ أحد الكهنة الثلاثة، مانويل بيريز، الذي بات القيادي الأهم، لاحقاً، في الجيش المذكور، ردّ حتى نهاية حياته، في العام 1998، على من كانوا يؤكدون بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن الاشتراكية لم تعد على جدول الأعمال في أميركا اللاتينية، بالقول: «نعتقد أنها باتت أكثر راهنية بكثير مما في السابق، ولكننا واعون أن الأمر سيكون اشتراكية خاصة بأميركا اللاتينية (...) وهذا يبيّن لنا أنه لا يمكن أن ننسخ نماذج الآخرين، وأننا سنكون متنبّهين جداً لتصحيح الأخطاء التي ارتكبت خلال بناء الإشتراكية». وقد أعلن أن هذه الأخيرة تدافع، من حيث الجوهر، عن الديمقراطية، مضيفاً: «إننا نرفعها إذاً كراية. ولهذا السبب ينبغي أن نعمل كثيراً لأجل الديمقراطية المباشرة للشعب خلال المساهمة في بناء الاشتراكية».
هذا ولا بد من توضيح أن خيار الكهنة المنوّه بهم كان يعبّر عن الحدود القصوى لما أمكن أن تصل إليه الكنيسة الشعبية ولاهوت التحرير، ضمن ظروف سابقة شهدت باستمرار تدخلات سافرة، وبشتى الأشكال، بما فيها العسكرية منها، من جانب الإدارة الأميركية، وذلك لنصرة الحكومات الجائرة والمستبدة العميلة لها، في أميركا اللاتينية، أو على العكس لإطاحة حكومات وطنية وديمقراطية متقدمة.

2. وبالطبع، ومن دون أن تكون هذه الرسالة دعوة لك، يا غبطة البطريرك، للانتساب إلى كنيسة الشعب هذه – فدون ذلك عقبات كأداء – لا بد من أن تسجّل ما يلاحظه عديدون بخصوص مواقف كثيرة لغبطتك تترك انطباعاً قوياً بأنك حسمت بصورة نهائية خيار الانحياز إلى الموقع المعاكس. وهو ما قد يشكّل خذلاناً حقيقياً، ليس فقط لشعوب المنطقة جميعاً، بل أيضاً وبصورة أٍساسية لشعبك الخاص، في مرحلة صراع عالمي وإقليمي ومحلي مستميت، في مواجهة الإمبراطورية الكبرى المعاصرة، وهي إمبراطورية شر بامتياز.
ولسوف أقتصر على ذكر البعض فقط من تلك الملاحظات، وهي التالية:
‌أ- غياب موقف جذري ضد الصهيونية العالمية وإسرائيل، وهو موقف تمكّن من اتخاذه آخرون، في الوسط المسيحي في هذا الشرق، كالمطران الكاثوليكي هيلاريون كبوجي، قبل عشرات السنين، وكبابا الأقباط الحالي في مصر، الذي حظّر على أبناء رعيته التطبيع مع تل أبيب والحج إلى الديار المقدّسة طالما بقيت تحت الإحتلال، على الرغم من أن الدولة المصرية تبادلت الإعتراف مع إسرائيل، وأقامت معها علاقات مكتملة.
‌ب- غياب موقف، ولو نقدي ضمن الحدود الدنيا، حيال رأس الإجرام العالمي بحق الشعوب، المتمثّل بالإدارة الأميركية الراهنة. لا بل تلاحقت زياراتك لواشنطن في الأعوام الأخيرة، ولقاءاتك مع قادتها الحاليين، وبالتحديد في الحقبة التي شهدت ذروة الإستباحة الأميركية للمنطقة العربية، والتنكيل بشعوبها، سواء مباشرة، كما في العراق، أو بالواسطة، كما في لبنان وفلسطين. وكانت آخر تلك الزيارات، خلال الحرب الإسرائيلية الهمجية الأخيرة، المدعومة أميركياً، على لبنان، الذي عدت إليه على مروحية للجيش الأميركي، حطّت بك تحديداً في حرم السفارة الأميركية في عوكر!
‌ج- إتخاذك مواقف عديدة تنحاز عبرها، في خضمّ الصراع الذي يقسم البلد حالياً، إلى أحد طرفي هذا الصراع، كما ظهر بوجه خاص خلال المقابلة التي أجرتها معك، في أواخر الشهر الماضي الإعلامية مي شدياق، في برنامجها «بكل جرأة». ومن ذلك:
- تنديدك بالاعتصام الجماهيري الحالي في وسط بيروت، معتبراً أن «الإضراب المستمر والخيام المرفوعة تنذر بشرّ ولا تطمئن»، في حين لم تتخذ موقفاً مشابهاً خلال اعتصام قوى 14 آذار في المنطقة عينها، على امتداد أشهر عديدة.
- كلامك على المعتصمين، في برد هذا الشتاء، وتحت أمطاره ورياحه، كما لو كانوا مرتزقة، يقبضون أجراً لقاء مشاركتهم في الاعتصام!
- إدانتك ما ترى أنه تدخّل سوري-إيراني، في حين ترفض إدانة التدخل الأميركي والأوروبي.
- تدخّلك في الخلاف القانوني حول شرعية أو عدم شرعية الحكومة الحالية، لصالح هذه الحكومة.

في كل حال، فما أوردته أعلاه، لا يعني، بالضرورة، أني أنحاز إلى مواقف الطرف المقابل لذلك الذي يبدو أنك تمنحه دعمك ومساندتك. على العكس، فإن أرضية اللقاء معه تقتصر، بالنسبة لي، على الموقف الوطني ضد إسرائيل والإدارة الأميركية، بانتظار ولادة تيار جماهيري، في تاريخ لاحق، يتجاوز الانشطارات الراهنة، ويناضل باستبسال وصدق لأجل الفصل التام بين الدين والدولة وإنجاز العلمنة الشاملة للمجتمع، بالتلازم مع تحقيق عدالة إجتماعية فعلية تضع حداً لكل مظاهر القهر والاستغلال، ومع إرساء سيادة واستقلال حقيقيين للدولة والوطن.

أيها السيّد البطريرك
في ختام المقابلة التي أجرتها معك «المؤسسة اللبنانية للإرسال» في 26 كانون الأول الماضي، تحدّثت عن الهجرة، وقلت إنها «تشمل الجميع»، وإن المسيحيين «في غالبيتهم يسافرون ولكن ليس وحدهم». وأظن أنه بقدر ما يمكن أن تصبح مواقفك، ومواقف الكنيسة التي تقودها، أكثر ارتباطاً بالمصالح الحقيقية لشعبك – وهي نفسها مصالح كل مواطنيك، إلى أي ملّة إنتموا – يمكن أن يسهم ذلك عندئذ في أن يجد هؤلاء ملاذاً آمناً وكريماً في وطنهم، وأن يكفّوا بذلك عن البحث الدائم عن أوطان أخرى.