نقد المنهج الاعتباطي عند د. التيزيني في كتابه -بيان في النهضة والتنوير العربي-


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 1759 - 2006 / 12 / 9 - 10:30
المحور: ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن     

أدّعي أن المنهج المعتمد في كتاب الدكتور التيزيني السالف الذكر هو "منهج اعتباطي" وليس تاريخي/ اجتماعي كما يدّعي . ذلك أن المنهج التاريخي/ الاجتماعي يعني تفسير التاريخ مادياً أي تفسير بنية بعينها تفسيراً تاريخياً /اجتماعياً ، بكلام آخر : تفسير خصوصية البنى الاجتماعية في الأقطار العربية في نشأتها التاريخية كأثر لتصادم التوسع الإمبريالي الغربي (الأوربي) مع البنى المحلية ذات السمات ما قبل الرأسمالية . وهذا يعني منهجياً أن ندرس أولاً شكل التوسع الأوربي الغربي اعتباراً من الثلث الأخير للقرن التاسع عشر بما فيه الكولونيالية الاقتصادية، وندرس في الوقت نفسه البنى العربية ما قبل الرأسمالية في تشكيلها الخراجيّ، بما فيها نظام الإقطاع الضريبي و الجفالك. وندرس بعدها أثر الصدام والتفاعل اللاحق بين التشكيلتين الإمبريالية الرأسمالية والخراجية العربية ، والنتائج الطبقية والاجتماعية لذلك. وقد أعطت دراسات فيليب خوري [أعيان المدن والقومية العربية- سياسة دمشق 1860-1920] وأيضاً ، في كتابه الكبير: سوريا و الانتداب الفرنسي؛ سياسة القومية العربية [1920-1945 ] ، وحنا بطاطو (في كتابه "العراق") ، وإريك دافيز (تجربة بنك مصر من 1920-1941 ) نموذجاً لهذه المنهجية التاريخية/ الاجتماعية في القراءة.
المنهج التاريخي/الاجتماعي يعني بالضبط أن نقرأ التوسع الإمبريالي الغربي وتأثيره في البنى المحلية وهذا التأثير على وجه الحصر هو الخصوصية الطبقية للمجتمعات العربية في تطورها التاريخي ؛ وحين يقوم الحديث عن نهضة عربية مفترضة أو عن مشروع نهوض تنويري كما يفترض التيزيني لا بد من البدء بالحديث عن موجة التوسع الإمبريالي الجديدة وسياساته الجديدة (تسمى هذه الساسات إيديولوجياً بالعولمة) ودراسة الطبقات في كل قطر عربي مستهدف بالدراسة والتحليل ، من ثم يتم الحديث عن إمكانيات هذه المجتمعات في النهوض وفي التنوير وفي التحول إلى حطام سواء أكان مفتوح أم مغلق أم نصف مغلق . إذاً يكون التركيز على البنية الطبقية في سوريا أو مصر على سبيل المثال كحالات عينية ثم نرصد أثر التوسع الإمبريالي الذي يكون قد حُلل في بداية الدراسة ، وبالتالي يظهر لدينا ما هي الطبقات الاجتماعية التي لها مصلحة تاريخية واجتماعية في التنوير والنهوض وما هي تلك التي تشكل وضعاً إمبريالياً داخلياً ؛ أي لها مصلحة في تأبيد ما هو قائم وفي تعميق الأوضاع الإمبريالية وبالتالي الوصول إلى الحطام التاريخي أي إلى التفتيت والتجزئة والتخلف، وبالتالي العجز و مؤازرة الغزو الاستعماري الجديد . فالطبقات المسيطرة في الأقطار العربية على سبيل المثال لا تضع المجتمعات العربية في حالة عجز عن المقاومة فحسب، بل هي تؤازر الغزو الاستعماري الجديد. لنلاحظ كيف تعاطى الدكتور التيزيني مع هذا المنهج التاريخي/ الاجتماعي والذي هو منهج العلم التاريخي/ الاجتماعي ("مادية تاريخية") أو ما يسمى أيضاً بالمنهج الماركسي أو المنهج المادي في التفسير التاريخي.
في التمهيد يكثر التيزيني من الحديث عن التاريخية ويحول البنية المفتوحة إلى بنية معوّمة ، أي يحولها إلى بنية خارج شرطها الإمبريالي . ودليل ذلك أن التيزيني لا يمهد للبنية العربية بحديث عن آليات اشتغال الإمبريالية في العالم وفي المنطقة العربية خصوصاً . بالتالي لا يؤسس بحثه بشكل منهجي بالمعنى المادي التاريخي، ولهذا تظهر عوارض الاعتباطية و الثقافوية في حديثه مباشرة فهو لا يتحدث عن الطبقات الاجتماعية في سوريا أو أقطار عربية ، ولا عن الطبقة المرشحة للقيادة ولا عن العواقب التاريخية والاجتماعية لغياب مثل هذه الطبقة وبالتالي الدوران بحلقة مفرغة من الناحية التاريخية؛ هو يتحدث عن مستلزمات ثقافوية حيث يقول: " الفصل الثالث سنكرسه للبحث في مشروع النهوض والتنوير بمحاوره الكبرى، التي نراها ماثلة في "منظومته المفاهيمية" أولا وفي "إشكاليته" ثانياً ، وفي بعض المداخل الكبرى والحاسمة ثالثاً ، والتي تقود إليه ويشترطها هو ، مثل الثقافي والسياسي والاقتصادي " وقد يتخيل القارئ أن التيزيني يتحدث عن مشروعين؛ مشروع نهوض من جهة ومشروع تنويري من جهة أخرى إلا أنه يوضح لاحقاً أن الحديث يدور عن مشروع ثقافوي فكري تنويري : مشروع نهوض تنويري حسب قوله ص 17 . واللبس الآخر هو الفصل بين المنظومة المفاهيمية والمداخل الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تقود إليه ويشترطها . وهنا أتصور أن التيزيني يتصور مشروع النهوض التنويري كأنه بدهية مسبقة ثم يحاول حشد العناصر اللازمة لقيامه ، وهذا قلب للأشياء ، فبدلاً من تحليل البنية الاجتماعية السورية والمصرية تحليلاً طبقياً وفي تاريخية هذه الطبقات ونشوئها عبر منهج ثبتت فاعليته في الدراسة التاريخية الاجتماعية يأتي التيزيني ليرصف المنظومة المفاهيمية جنب الإشكالية ثم جنب المداخل التي تخص السياسة والدولة ويأتي الاقتصاد ليعفي التيزيني من ذكر الطبقات ودراستها وموقعها في المجتمع السوري أو المصري على سبيل المثال. ثم يعوّم بطريقته الخاصة مفهوم الحدث الاجتماعي المنفتح: "الحدث الاجتماعي في ديناميته المتدفقة –خصوصاً من حيث هو بنية مفتوحة – غير قابل للاستنفاد" مقتبس ص 10 هل هذا القول يؤسس لفعل تاريخي منتج ؛ أي هل القول بانفتاح الحدث التاريخي يفترض بدهياً أنه منتج لمشروع نهوض، ونحن العرب الذين عانينا من هذا الانفتاح طوال عصور الانحطاط ! هذا قول غير كاف . وهو يدخلنا في مقولة الخصوصي المنفلت . لأنه لا يعير دروس التاريخ الاجتماعي والسياسي أي اهتمام ؛ فإذا كان منفتح فما هو شكل هذا الانفتاح وإلى أين يقود؟ هذا ما تبينه دراسة مفصلة للطبقات الاجتماعية في تشكلها التاريخي في المجتمعات العربية. ومن هنا قول التيزيني النقدي تجاه طرحي الخصوصية من فوق أمن تحت وكأنه ينفي فكرة الخصوصية العربية التي هي قائمة بالفعل مع أنه يعترف بها لاحقاً. وسبب هذا التعويم "التاريخي" وغياب ما يسمى بالخصوصية التاريخية للمجتمعات العربية هو غياب مفهوم الإمبريالية كمدخل لقراءة وبيان مشروع النهضة والتنوير العربيين ، وغياب مفهوم الطبقة الاجتماعية والطبقات ودورها التاريخي من حيث موقعها الاجتماعي . لهذا يفقد نقد التيزيني المحق لأصحاب الخصوصية الجوهرانية يفقد أهميته لغياب هذين المدخلين في التحليل من بنيته الفكرية . لأنه سيرد البعض على الحدث المنفتح والبنية المفتوحة بأنه قد ينفتح نحو المزيد من الخراب والتشرذم .
هكذا يتحول المنهج التاريخي عند التيزيني إلى منهج سردي ترقيعي عديم الفائدة على مستوى التحليل التاريخي والاجتماعي.
"ومرة أخرى تقابل البنية بالتاريخ ، مما يضع يدنا على المشترك بين الوجهين المذكورين " 15 هذا هو المشترك بين النزعتين التي تجعل العرب فوق التاريخ، وتلك التي تجعلهم أقل من التاريخ أي تحته، أي غياب التاريخية ، لكن ما هو الفرق بينهما؟ هذا ما لم يبينه التيزيني في "بيانه" وأقول أن الأول متمترس بتراثه نتيجة عنف التهديد الإمبريالي وغياب أي مشروع لمواجهة هذا التهديد ، فهو مقاومة سلبية وعاطفية منفعلة ، والرأي الثاني رأي دونيّ متماه بالغرب الإمبريالي ، ونظرته العنصرية المتعالية تجاه الشعوب العربية، ولهذا السبب فهو يشبه أراء المستشرقين ودعاة الاستعمار من الإمبرياليين . من هنا الشبه الذي قدمه التيزيني بين بعض آراء الجابري مع أفكار رينان .
بخصوص الحطام العربي المفتوح ، يطرح التيزيني أقوالاً ملتبسة : "أن هذا الأخير-أي هذا الحطام – ليس حالة مطلقة ، قاطعة ، وإنما هو حالة تاريخية" 16 ما معنى كلام كهذا؟ أن يكون الحطام تاريخياً يعني أنه يجمع في إحدى جهاته كتلاً اجتماعية قادرة على المبادرة التاريخية عبر نزوعها للتجميع والوعي التاريخي والنقدي ؛ في هذه الحالة نقول إن هناك كتلة تاريخية تؤسس للنهوض والتقدم نحو المستقبل . أما أن نقول إن الحطام مفتوح هكذا بالإطلاق هذا معناه اللعب على الألفاظ ومنها كلمة مفتوح. ألا يجوز أن ينفتح هذا الحطام على حطام آخر وعلى نظم طائفية سياسية منخرطة في المشروع الأميركي الشرق أوسطي والذي يمكن تشبيهه بـ "السّحن داخل الكيس الإمبريالي" . إذا لايكفي التعبير عن حطام بأنه مفتوح . نقطة أخرى هناك فرق بين أن يكون الحطام العربي موضوعاً للقراءة والنقد والمساءلة ، وبين أن يكون تاريخياً أو لا يكون هذا تقرره القراءة التاريخية/ الاجتماعية.
نقطة منهجية بخصوص طريقة فهم عبارة الأيديولوجيا وتعليقنا على صياغة هذا الفهم . جيد لدى الباحث التدقيق بمفهوم خطير كمفهوم الأيديولوجيا نظراً لتعدد دلالاته في الاستعمال الفكري والسياسي والتاريخي الخ.. يحدد التيزيني مسألة الأيديولوجيا : "بمثابة تأويل المعارف بمقتضى المصالح " ومن ثم فالأيديولوجيا حسب التيزيني هي "وعي تسويغ المصالح" 17 قد تكون المصالح مع جهة تقدم التاريخ ، من ثم ليست دائما بالضرورة وعياً اجتماعيا زائفا " 17 التيزيني محق في قوله أن الأيديولوجيا ليست دائماً و بالضرورة وعياً اجتماعياً زائفاً " لكن العيب في الصياغة الأولى . وهنا أقول : اعتماد الفكر بمقتضى المصلحة يكون من جهتين؛ الأولى تبني الفكرة قبل انجاز العلم التاريخي بالواقعة أو الظاهرة يؤدي إلى فكرة زائفة هدفها حجب الظاهرة الاقتصادية الاجتماعية عن النظر العام . بالتالي يكون لها وظيفة تضليلية بوعي أقل أو اكثر من قبل أصحابها ومنتجيها. والثاني تبني الفكرة العلمية إثر إنتاجها وهنا للفكرة دور كاشف لحقيقة البنية الاجتماعية الاقتصادية ، بالتالي لها فعل ثوري وتاريخي وإذا ما استولت على كتل اجتماعية صاحبة مصلحة في التغيير التاريخي /الاجتماعي تحولت هذه الفكرة العلمية إلى أيديولوجية تقدمية وثورية . هنا نصيغ عبارة هيغل القائلة: " إذا كان الحق مجرداً ، فهذا يعني أنه غير حق . إن العقل الإنساني يتجه نحو العياني .." 7 دفاتر فلسفية -3 بالطريقة التالية إذا كان الحق أو العلم التاريخي الاجتماعي عياني ويصب في النهاية في مصلحة الطبقات التقدمية صاحبة المصلحة في التغيير فهو ثوري ؛ الحق ثوري بطبيعته ، وتقدمي .
تقدم في المسوغات التاريخية لمشروع نهوض تنويري براهين هي إقرارات : إقرار بوجود عمق تاريخي للأمة ، وإقرار بوجود تجارب سابقة لديها في النهوض. وكلمة السر هنا هي الأمة ؛ ما هي الأمة؟ تظهر النزعة الثقافوية هنا نتيجة عدم رؤية مشروع النهوض السياسي في قلب مشروع النهوض ومن غياب العلاقة الضرورية بين مشروع النهوض السياسي / الطبقي وبين المشروع التنويري الناقد للتراث العربي بما فيه التراث الديني نقداً جذرياً وهنا نشير إلى الموقف الغامض من نقد التراث القومي ونقد الفكر الديني يكتب التيزيني: "تتحدد علاقة المشروع العربي العتيد بالأيديولوجيا الدينية ،ذات الحضور الكثيف في العالم العربي، في ضوئه ومن موقفه هو بصفته مشروعاً حضارياً عربياً . فهو في هذه الصفة يمتص تلك الأيديولوجيا وفق احتياجاته العمومية والخصوصية" ص82. لم يعد مع هذه العبارة وجود لمشروع التنوير العربي الذي يفترض قراءة نقدية للتراث القومي العربي ومنه التراث الديني، ولم يعد الأمر أمر علم تاريخي /اجتماعي يفترض إنتاجه نقد الأيديولوجيات السائدة بما فيها الأيديولوجيا الدينية ، بل بات المطروح هنا وبآلية تلفيقية بل ترقيعية مشروعاً حضارياً عربياً يمتص ما يحتاجه من هذه الأيديولوجيا الدينية ،ولا أدري ما المقصود بكلمة يمتص، وفق احتياجاته العمومية والخصوصية إلا وفق احتياجاته الاستراتيجية ووفق احتياجاته التكتيكية والانتهازية. هذا هو القول الترقيعي للتيزيني في مشروعه المتقلب، والذي انتهز الغموض الذي يلف كلمة حضارة. ومن هذا المنطلق يخرج التيزيني بالوعظ الكاسح التالي : "وفي هذه الحال –أي مع هذا الترقيع والامتصاص الودي- يكف النظر إلى الديني على أنه رجعي ، إلا إذا تخلى عن نسبيته وأصر على إطلاقيته. كما يكف النظر إلى القومي على أنه شوفيني مغلق إلا إذا أصر على أن يجسد "خير الأقوام والشعوب"" 82 . في هذا الوعظ الكبير يطلب من الفكر الديني أن يخرج من جلده ، وكذلك الفكر القوموي . إن غياب محورية المشروع السياسي/الطبقي ومسألة نمو هيمنة طبقة وعلاقة ذلك بالتنوير والنهضة العربيين يدل على الطرح الاعتباطي لمسألة النهضة ومسألة التاريخية عند التيزيني. فعلى مدى يزيد على الألف عام كانت هذه المقتضيات موجودة : العمق التاريخي وتجارب النهوض السابقة ومع ذلك لم تكن دائماً تسوغ التنوير أو النهوض التنويري. ونتيجة لهذا التهافت في العبارة تتحول العبارة عن التيزيني إلى دوران في المكان يصيب القارئ بالدوار . مثال ذلك، قول التيزيني: "إن أحد الأدلة على مصداقية احتمال تحقق نهضة جديدة في حقل أمة من الأمم ، ... وجود احتمالات حدوث مثل هذه النهضة فيه، دون أن يكون ذلك بالضرورة قد انتهى إلى نهضة محققة " 18 ويظن القارئ أننا أمام فتوحات فكرية (مكّية) أيضاً عندما يقول التيزيني : ما عنيناه بالعمق التاريخي للأمة الذي يرتبط بمفهومي التاريخ والتراث!
إن الحديث عن نهضة ثانية (منتصف ق 19) ونهضة ثالثة (بعد الحرب العالمية الثانية ) أمر مزعوم بالفعل . ذلك أن "النهضة الثانية المزعومة " ترافقت مع التوسع الاستعماري في المنطقة العربية ، بينما ترافقت المزعومة الثانية مع قيام دولة إسرائيل وتشخيص المشروع الصهيوني . لقد بدأت ردات الفعل السياسية/الطبقية في مصر في ثورة عرابي ثمانينات القرن التاسع عشر ، من ثم في ثورة 1919 وفي ثورة 1952 وفي سوريا في الثورات السورية بين الحربين وفي ثورة 1963 . خلال هذه الأحداث يمكن الحديث عن ردات فعل عربية على التدخل الاستعماري الإمبريالي الأوربي ، لكن لا يمكن الحديث عن نهضة عربية لأن المسيرة مسيرة تدهور مستمر بالرغم من الاندفاعات المؤقتة . من هنا يمكن الحديث عن يقظة العرب نتيجة صدمة الحداثة البورجوازية الأوربية القادمة مع الغزو الاستعماري الغربي. أيضاً يمكن الحديث عن فكر نهضوي إصلاحي وإذا شئتم تحديثي لكن لا يمكن الحديث عن نهضة بل عن ردات فعل تجاه التوسع البورجوازي الأوربي في المنطقة العربية .
عندما يتحدث التيزيني عن الصدام بين المشروع الصهيوني (جهود اليهود الخفي لإقامة دولة في فلسطين) وبين يقظة الأمة العربية يستخدم تعبير الصراع بين الشعبين ، أي يأخذ مفهوم الشعب العربي بدلالة الأمة وليس بدلالة الدولة القطرية العربية. وهنا يغيب مرة أخرى البعد السياسي/ الطبقي لمفهوم الشعب . وبالتالي تغيب مسألة الأوضاع الإمبريالية الداخلية في الأقطار العربية من التحليل. ومن هنا يكمن السر في كلمة الشعب العربي.
يشير التيزيني إلى الرابطة العضوية بين المشروع الصهيوني والإمبريالية وهذا مهم ومهم أيضا لو كان أشار إلى الرابط العضوي بين الإمبريالية والأوضاع الداخلية في الأقطار العربية ولو كانت الإمبريالية فاتحة التحليل بخصوص مشروع مقترح للنهوض التنويري. كما يشير بحق إلى ارتباط ظاهرة تزايد تهويد المسيحية بتعمق الظاهرة الإمبريالية في الرأسمالية ؛ أي تزايد اقتباس الأيديولوجيا الإمبريالية من المتاع الأيديولوجي اليهودي و المسيحية المهوّدة.
وكون التيزيني لم يبدأ تحليله بشكل منهجي ومنضبط بقراءة الإمبريالية الراهنة وآليات اشتغالها فقد جاء حديثه عن العولمة لاحقاً ومضطرباً أيضا . فلنرصد مقاربته لـ مقولة "العولمة" يقول التيزيني: يلاحظ أننا - في التعريف المقدم للنظام العولمي – ننطلق من النظر إليه بمثابة نظام system أو من حيث هو تجسيد لنمط اقتصادي واجتماعي سياسي، وليس من واحد من منتوجاته ونتائجه. ومن ثم ، فهو –في آن واحد- امتداد للنظام الرأسمالي في مراحله الليبرالية والاستعمار والإمبريالية ، وقطع معه . إنه امتداد يسمح بكشف نسبه التاريخي، وقطع معه يتيح وضع اليد على عناصر الجدة فيه الواردة في تعريفه. وهذا ما انتبه إليه برهان غليون ، حين رأى أنه "لا يمكن فهم المرحلة الجديدة من الدمج العالمي إلا باعتبارها استمراراً وتعميقاً للمرحلة السابقة الإمبريالية"
يلاحظ المدقق أن عبارة التيزيني لا تشبه البتة عبارة غليون : غليون يقول بصريح العبارة أن ما يسمونه العولمة ليس سوى استمرار وتعميق للظاهرة الإمبريالية من حيث هي آلية دمج عالمي ، إذاً هي استمرار وتعميق هذه الآلية الإمبريالية في الرأسمالية . أما التيزيني فيقول إن نسب العولمة هو الرأسمالية في مظاهرها الرئيسية ؛ الليبرالية والإمبريالية وضمنها الاستعمار ، وهذه الإشارة كي نشير إلى نسبها أما هي فظاهرة جديدة ، وحتى نقبض على هذه الجدة علينا أن نعترف أنها قطع مع نسبها الرأسمالي . ما جمعه التيزيني بيده اليمنى ضيعه بيده اليسرى كمن شرب الماء بعد الحلوى: أكلت حلاوة وشربت ماء كأني لا أكلت ولا شربت . إن تعمق الظاهرة الإمبريالية واستمرارها يترافق هنا في الظاهرة الجديدة مع ثورة علمية تقنية في الاتصالات والمواصلات ما يجعل سهولة في التحرك لفروع الشركات الاحتكارية وتواصل ثقافي أكثر كثافة مما يجعل من ردات الفعل الثقافية ظاهرة حاضرة . نقتبس من لينين : إن الاحتكارات والطغمة المالية والنزوع إلى السيطرة بدلاً من النزوع إلى الحرية ، واستثمار عدد متزايد من الأمم الصغيرة أو الضعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنية أو القوية – كل ذلك خلق السمات المميزة للإمبريالية التي تحمل على وصفها بالرأسمالية [المتعفنة]. ويظهر ببروز مشتد ميل الإمبريالية إلى إنشاء "الدولة صاحبة المداخيل"، الدولة المرابية ... ومن الخطأ الظن أن هذا الميل إلى التعفن ينفي نمو الرأسمالية بسرعة ،لا، إن هذا الفرع من فروع الصناعة ، هذه الفئة من فئات البورجوازية ، هذه البلاد أو تلك تظهر في عهد الإمبريالية بقوة كبيرة لهذا الحد أو ذاك تارة هذا الاتجاه وتارة الاتجاه الآخر . وبالإجمال تنمو الرأسمالية بسرعة أكبر جداً من السرعة السابقة ؛ إنها تنمو ، ولكن هذا النمو ، ولكن هذا النمو لا يغدو أكثر تفاوتاً وحسب، بل يتجلى هذا التفاوت كذلك بوجه خاص في تعفن البلدان الأقوى بالرساميل . لينين الإمبريالية ص 169
لقد اشتدت المضاربة وظهرت الولايات المتحدة كقوة كبيرة وقائدة للنظام الرأسمالي بعد الحرب الثانية ، وجاءت السياسات الليبرالية الجديدة والمترافقة مع تعاظم لدور رأس المال المضارب ولعدوانية الإمبريالية الأميركية وبالتالي اعتمادها سياسة التدخل المباشر بعد قيام الثورة الإيرانية بدلا عن سياسة التوكيل لتعطي المرحلة الجديدة سماتها المميزة .
الولايات المتحدة تقود الهجوم الإمبريالي المضاد لاستعادة ما فقده النظام الرأسمالي بعد الحرب الثانية ، مستفيدة من تفكك الدولة السوفيتية ومن الثورة التقنية في الاتصالات والمواصلات ومن التفوق التقني العسكري ، وهي تميل نحو سياسات أكثر يمينية بداية ثمانينات القرن العشرين ، مهمشة السياسات الكينزية ، ودور الدولة في الرعاية والتدخل الاجتماعي . وهي تنتقل من التنافس لاقتسام العالم إلى السعي لدمج عالم تسحنه باستمرار وتمزقه : جمع أشلاء العالم ، إنها توضب البيت الأوربي للهجوم على باقي العالم للسيطرة عليه والتحكم بتحركاته .
سمير أمين يخلط بين عالمية الرأسمالية وبين مصطلح العولمة الجديد في الاستعمال.
يقول التيزيني في نقد رأي أمين: "ربما أشكل الأمر على أمين حين نظر إلى العولمة على أنها "ظاهرة ليست حديثة في تاريخ الرأسمالية " فخلط بين تنسيب الظاهرة المذكورة وبين تموقعها التاريخي . فهي فيما نرجح – ذات نسب رأسمالي (إمبريالي استعماري ليبرالي) ، ولكن تموقعها التاريخي يأتي في المرحلة الراهنة القائمة على أنقاض الكينزية في رأيها بضرورة الدولة الرأسمالية ؛ وعلى أنقاض مبدأ تشظية العالم اقتصادا وسياسة والمتمثل بـ فرق تسد وذلك بصيغة وحد تسد ، ولم يكن ذلك ممكنا مع تعددية الأقطاب "الأسواق"" هامش ص 35
سمير أمين يخلط بين العالمية والعولمة فالرأسمالية منذ نشوئها عالمية النزوع ، والتيزيني بدوره يخلط بين الإمبريالية كمرحلة استراتيجية في الرأسمالية وغير قابلة للرجوع عنها وبين الكينزية كسياسة من سياسات (تكتيك) الإمبريالية والتي تحولت عن بعضها بداية الثمانينات إلى سياسات ليبرالية جديدة . ويقع التيزيني بزلة قلم حين يقول أن المرحلة الجديدة أي السياسات الجديدة لا تقوم على ضرورة الدولة وأعتقد أنه يقصد تدخل الدولة لأن الدولة الرأسمالية الإمبريالية ضرورية حتى في السياسات الجديدة وهذا ما تظهره الجيوش الأميركية في العراق وغيرها.
إن التيزيني الذي أبعد مفهوم الإمبريالية وتعمقها واستمرارها كمدخل لدراسة إشكالية النهضة العربية أوصله هذا إلى تقطيع أوصال منهجه فقد بقيت المنظومة المفاهيمية خارجية عن التحليل وظهر الاستبداد على أنه ظاهرة سورية ، وظهرت العولمة ظاهرة جديدة تعود بنسبها إلى الرأسمالية ، لكنها في قطيعة معها. وظهرت بنية الواقع العربي الداخلية خارجية عن الفعل الإمبريالي على امتداد أكثر من مئة عام . إن تفسير المشاريع الإصلاحية والنهضوية بالبنية الداخلية العربية بات مستعصياً كون البنية الداخلية العربية لم تفسر ولم تؤخذ كأثر لتفاعل التوسع الرأسمالي الغربي مع البنى المحلية ما قبل الرأسمالية . فقد ظهر في تحليل التيزيني الخارج قوة عارية ذات جبروت تواحه ببنية داخلية عربية كأنها خارجة من بكورتها الداخلية للتو . وكأنها ليست في الأساس نتيجة تفاعل وصراع عمره مئة عام بين الغرب الإمبريالي وبين البنى التقليدية العربية ! إن هذا الفصل الميكانيكي بين البنية الداخلية والنظام الإمبريالي يجعل غياب النظام السياسي العربي من التحليل أمراً من تحصيل الحاصل وعندما يستدرك البحث هذا الغياب يعوضه في آخر الفصل الأول بهجوم مفتعل على "الدولة الأمنية" في سوريا وعلى الفساد والمفسدين. وباعتبار البحث تغيب عنه مسألة التحليل الطبقي عن البنية العربية الداخلية فإنه يتم ترقيع البحث بعبارات إنشائية عن حوامل أو حامل مشاريع النهوض المتخيلة كعبارة من مثل : "إن أمر النهوض قد يكون دخل حيز التأمل والتفكر الجاد . ويبرز ذلك في أن النظام العولمي ، الذي تقوده الولايات المتحدة منذ ولادته حتى الآن ، ربما قام- عبر تدخله في بلدان ذلك "العالم الثالث" وغيره تدخلاً استفزازياً وأحياناً استعمارياً كاسحاً وبصيغة "التحدي والاستجابة "- بدور المحرض ، بإذلال وإهانة ، على القيام المعقد بإعادة نظر شعوبها ومفكريها وسياسييها في الاستحقاقات التي تواجههم . أما الأخيرة فتقوم على إنجاز مشاريع نهضوية ذات أهداف استقلالية سيادية وبنائية ، في آن واحد. ومن شأن ذلك أن يضع يدنا على أن الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي لتلك المشاريع في البلدان المذكورة ربما يتجه نحو التماهي مع خصوصية المشروع النهضوي ، أو يتقاطع معها ، أو يقترب منها : من أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليمين الوطني والقومي والديمقراطي " ص 47 ويقول أيضاً : ""إن الأمة العربية " بأقصى يمينها الوطني و القومي الديمقراطي وأقصى يسارها الوطني والقومي الديمقراطي تمثل والحال كذلك ، الحامل الاجتماعي الأعظم لمشروع نهوضها " ص 90 يريد التيزيني القول إن العقبة أمام مشروع النهوض تتمثل في البورجوازية الكبيرة والإمبريالية الرأسمالية . ونرى بسهولة أن الانقسام الاجتماعي السياسي في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق بخصوص الموقف من المشروع الأميركي ومن أشكال المقاومة لهذا المشروع والموقف من البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الشعبي والدعوات إلى حكومة وحدة وطنية يدحض فرضية كون هذا الحامل العجيب مؤهل لمثل هذا المشروع النبيل.
تحولات الحامل الاجتماعي عند التيزيني:
1- الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي لتلك المشاريع (النهضة والتنوير)..: من أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي إلى أقصى اليمين الوطني والقومي والديمقراطي ص 47 : الحامل يظهر هنا بشخص حزب سياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الوطني والقومي الديمقراطي!
2- في الصفحة 90 يظهر الحامل الاجتماعي بشخص "الأمة العربية" هكذا بين مزدوجتين : "إن "الأمة العربية " بأقصى يمينها الوطني والقومي الديمقراطي وأقصى يسارها الوطني والقومي الديمقراطي تمثل والحال كذلك (ضمن لعبة التحولات) الحامل الاجتماعي الأعظم لمشروع نهوضها." . هنا يتحول الحزب السياسي إلى "الأمة العربية" . في هذا التحول لا تعود الأمة العربية بحاجة إلى من يحملها من الأحزاب السياسية من اليمين إلى اليسار بل باتت هي نفسها ذاتاً تحمل نفسها ؛ أي باتت تحمل نفسها بنفسها!
3- في التحول الثالث ، وبعد أ ن تكف الأمة عن أن تكون متلقياً وموضوعاً للمهمة النهضوية التنويرية فحسب، لتنتقل إلى مستوى من ينتجه ويطوره ويعيد إنتاجه، أي تنتقل إلى مستوى ذات منتجة للنهضة والتنوير . وهذا ما ظهر في التحول الثاني للأمة من موضوع إلى ذات لا بل إلى شخص أيضاً! هذا التحول يقتضي حسب التيزيني توافر عاملين اثنين هما: الإرادة السياسية ، وولادة المثقف العضوي النهضوي. بكلام آخر حتى تتحول الأمة إلى شخص ومن ثم إلى ذات حاملة لنهضتها وتنويرها ، عليها أن تحوز على الإرادة السياسية وعلى المثقف العضوي النهضوي. الأمة الذات والشخصية الحاصلة على عامليها المذكورين تشكل كتلة متبلورة سماها التيزيني بالكتلة التاريخية النهضوية. وقد يتسآل القارئ: وهل هناك بالتقابل كتلة تاريخية انحطاطية؟ وأقول له نعم هناك كتلة كهذه!
الكتلة التاريخية النهضوية في هذا التحول الثالث تتحول بذاتها إلى برلمان تاريخي حيث تمثل فيه القوى الحية الفاعلة في "الحامل الاجتماعي النهضوي" !
لاحظ أيه القارئ: الكتلة التاريخية النهضوية لا تمثل إلا القوى الحية في الحامل الاجتماعي النهضوي. هكذا يظهر حامل اجتماعي نهضوي غير ممثل في الكتلة التاريخية النهضوية ، وهذا أول صدع أو تصدع في الحامل الاجتماعي النهضوي : قسم نشيط ممثل في الكتلة التاريخية وقسم خامل بليد غير ممثل في الكتلة التاريخية النهضوية!
يرصد التيزيني حركة في القسم الحي والفعال من الحامل وهي جدلية المثقف سياسياً والسياسي مثقفاً ، لكن حذار من التسطيح فالموضوع المرصود أعمق من ذلك : فهذا المثقف قد تحول إلى مفكر وذاك السياسي إلى عامل . وهكذا نفاجأ وتحت وقع جدلية أكثر عمقاً بولادة المفكر عاملاً والعامل مفكراً . لقد وصلنا في هذا التحول العميق إلى قاع "الحامل الاجتماعي النهضوي " لأن تعمقاً أبعد يقودنا إلى الحضيض، وهذا لا يليق بمشروع النهضة التنويري النبيل. تراجع ص 98 من كتاب التيزيني لتثبيت الاقتطاف والاستشهاد.
هنا أيضاً نشهد انقساماً آخر في في المثقفين ناجم عن خصال على المثقف أن يتحلى بها لكي يكون عضوياً ونهضوياً: أن يستجيب لشرائط التقدم التاريخي الانساني ؛ أن يكون إنساني النزعة وتاريخي المنزع. وإذا تحلى بذلك حسبت نقطة إيجابية لصالح المشروع العربي في النهضة والتنوير" ص 99 وهنا نلمح نكوص في اشتراط صفات المثقف : يمكن أن يكون أي مثقف نهضوياً ، لكن تمتعه بالتاريخية والإنسانية يكسب المشروع النهضوي نقاطاً إضافية! بهذه الإضافة الملتبسة نستطيع القول حسب تحولات التيزيني أن جميع المثقفين العرب عضويون ، لكن من تمتع بالاستجابة للتقدم التاريخي الإنساني أكسب المشروع النهضوي امتيازاً إضافياً.
4- هنا تظهر استحالة: وأقصد بالاستحالة التحول من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى : بعد أن يعطي المثقف العضوي النهضوي نصير التقدم التاريخي الانساني امتيازاً يعود ليسحبه : مع ذلك هذا المشروع هو شأن الأمة برمتها لأنه مشروعها ولأنها حامله " 99 أي أن الانقسام يتلاشى هنا ليظهر شخص الأمة من جديد مزيلاً جميع الفروق بين التقدميين والرجعيين وبين العنصريين والإنسانيين، وهذا يحصل بضربة واحدة من نرجسية أمة تريد أن تنهض وأن تحمل مشروعها بذاتها كشخص يحمل معولاً ليزيل الركام من أمامه.
5- في اللحظة الخامسة يتحول الحامل انتروبولوجياً إلى رجال ونساء يدركون بوعيهم التاريخي ، أن الخروج من واقع انحطاطهم (حطامهم) يقتضي امتلاك آلية هذا الفعل وقانونياته وحدوده: لأن النهضة حسب التيزيني : "فعل تاريخي ينجزه حامل اجتماعي" 101 على هؤلاء الرجال وتلك النساء أعضاء الحامل الاجتماعي أن يمتلكوا آلية الفعل النهضوي وقوانينه وحدوده . وأن يتبصروا بالظروف المعقدة الاقليمية والدولية المتفجرة والقابلة للاشتعال؛ أي عليهم إدراك حدود فاعليته ، عليهم عدم الشطط لكي لا يشعلوا المنطقة أو يفجروها؟!
لكن لماذا هذا التحذير الشال للهمم الرجال والنساء؟ أعتقد أن القص منه تحذيرهم من أن نهضة بلا تنوير سوف تشعل المنطقة وقد تفجرها تماماً . وهنا تلميح غامض من التيزيني إلى فرضية مفادها أن التيار السياسي الديني قد يحمل مشروعاً للنهوض لكنه محفوف بالمخاطر كونه غير تنويري، بالتالي يغامر هذا التيار في ااشعال المنطقة وربما تفجيرها.
6- في التحول السادس ينقسم الحامل إلى ثلاثة حوامل: حامل ثقافي مباشر ، وحامل قومي اجتماعي. وحامل سياسي . والهدف من ذلك إبقاء الأمة كذات وشخص موحدة وقسم المثقفين إلى قسمين : قسم مخترق ، وقسم عضوي نهضوي. بهذا التحول نشهد ظهور ثلاثة أشخاص : الثقافي ، والقومي-الاجتماعي، والسياسي! ويقف المثقف النهضوي متحيراً مردداً قول القران: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنّ عليه الليلُ رءا كوكباً قال هذا ربيّ فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رءا القمر بازغاً قال هذا ربيّ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالين* فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربّي هذا أكبر فلما افلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون* " [الأنعام 76-77-78]
ملاحظة أخيرة : وردت كلمة تضايفية كمرادفة لـ جدلية ، في سياق بحث العلاقة بين النهوض العربي والتنوير.. في إشارة للتماثل بين النهوض االعربي والنهوض الأوربي: وهذا التماثل استدعى تحولاً سابعاً للحامل الاجتماعي النهضوي يجري في سياقه إعادة بناء الفئة الوسطى شيء ما يشبه الطبقة الثالثة في فرنسا زمن الثورة الفرنسية: لنستمع إلى التيزيني وهو يشرف عل فعل خلق وتكوين الطبقة أو الفئة الثالثة التي سوف ينيط بها مسؤولية مشروع النهوض والتنوير العربي: "من شأن ذلك الإشارة إلى ضرورة إعادة بناء الفئات الوسطى –الفئات الميسورة اقتصادياً والمستنيرة عقلياً – يمكن أن تمثل مهاداً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً للمشروع المذكور، وكذلك رافعة هامة له وحاضنة محفزة فاعلة" 115 لقد وصلت تحولات الحامل إلى نهاد الزواج أو السرير وما علينا إلا المباركة بهذا الزواج السعيد بين النهضة والتنوير من جهة وبين الفئات العربية الوسطى الميسورة وغير المستنيرة عقلياً والتي سوف تلد لنا أطنان من حلاوة الجبن والكنافة النابلسية . إن القياس الآلي على تجربة أوربا في النهوض ينسف التجربة التاريخية الاجتماعية للبشرية اعتباراً من كمونة باريس حتى اليوم مروراً بالثورات الاجتماعية للقرن العشرين برمتها. بالتالي يضع التيزيني في صف المنشفية السياسية والاجتماعية.
آخر ظهورات "الحامل الاجتماعي النهضوي" عند الدكتور التيزيني : صاحب محل حلاوة الجبن؟! إنه قدر غاية في القسوة والتشفي.
- والكلمة وردت في ترجمة أنور عبد الملك لكتاب جون لويس : "مدخل إلى الفلسفة " في الفصل الثاني عشر في معرض الحديث عن فلسفة هيغل ، وجاءت التضايفية كترجمة للكلمة الإنكليزية relatedness والتي تعني القرابة أو الترابطية . وضفته ضِيافة : نزلت عليه ضيفاً ، كـ تضيفته. وكلمة التضايفية مفيدة للإشارة إلى نسبة الفكر إلى الواقع وعلاقته به ، بينما الترابطية مفيدة للإشارة إلى نسبة أمر ما أو شيء إلى محيطه وعلاقته به. راجع جون لويس: "مدخل إلى الفلسفة" ترجمة أنور عبد الملك دار الحقيقة بيروت ، الطبعة الرابعة 1983 ص 136 ، وأيضاً راجع القاموس المحيط للفيروز آبادي الطبعة السادسة 1998 مؤسسة الرسالة بيروت ص 830