الارتدادات الإقليمية والأممية للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 1752 - 2006 / 12 / 2 - 09:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أظهرت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان مفارقات واضحة : وهي "تفوق" جيوب مقاومة عربية على الجيش الإسرائيلي بالمعنى العملياتيّ والأخلاقي . لكن هذه "الجيوب " ليست سوى رأس جبل الجليد الممتد من إيران عبر سوريا إلى لبنان وفلسطين .
القتال الذي خاضه حزب الله اللبناني في مواجهة الجيش الإسرائيلي أحدث تداعيات تقنية عسكرية واستراتيجية إقليمية وأممية لجهة "الخرق التقني" الذي أحرزه الحزب ، بالتالي ارتدادات ذلك على أية مواجهة مقبلة بين الجيش الأميركي و قوات حرب عصابات . أيضاً لمواجهة حزب الله اللبناني للعدوان الإسرائيلي تداعيات وارتدادات على بنية قوات "العصابات" التي تواجه الجيوش الأميركية في أكثر من مكان حول العالم .
لن تقدم الولايات المتحدة على مهاجمة بلدان أخرى من ما سمته "الدولة المارقة" أو "دول محور الشر" من دون دراسة وتدقيق نتائج الحرب الأخيرة، على الأقل في المستوى التقني العسكري واستراتيجياته. فالصاروخ الذي دمر البارجة الإسرائيلية هو صيني الصنع ، والصاروخ الذي دمر الدبابة الإسرائيلية – الأميركية ميركافا من الجيل الرابع هو صاروخ روسي مزود برأس مزدوج .
لا شك أن هذا الارتداد الاستراتيجي / التقني- العسكري سوف تكون له ارتدادات سياسية أكثر حسماً على المستويين الإقليمي- العربي من جهة والأمميّ من الجهة الثانية ، وهي عودة نشاط الجماعات الماركسية المحاربة للإمبريالية الأميركية ولحكومات محلية ليست سوى وضع إمبريالي داخلي . هذا هو المؤشر الأول.
كان التفوق التقني العسكري الأميركي الساحق ، ومع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الدولة السوفييتية قد فرض على الكثير من الحركات الثورية ذات النزعة الاشتراكية إعادة حساباتها، خاصة الحركات المعتمدة تكتيك حرب العصابات والكفاح المسلح . لكن المواجهة الأخيرة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل والاختراقات التقنية لحزب الله قد أعادت الحياة إلى مثل هذه التكتيكات ؛ لقد دمج حزب الله أشكال متفاوتة من القتال في حربه الجديدة للعصابات ؛ حرب عصابات "مهجّنة" وجديدة ؛ وهي إدخال تقنيات حديثة على الشكل التقليدي لحرب العصابات . لكن الفرادة هنا هي علاقة جماعات مقاتلة بـ "شعب" يجمعها معه اعتقاد ديني- طائفي ، إضافة إلى غياب الحدود أحياناً بين "المدني" و"العسكري" بالنسبة لمناصري الحزب ، مع وجود نواب في البرلمان اللبناني لهذا الحزب المقاتل. يضاف إلى كل ذلك خبرة هذه الجماعات المقاتلة في مواجهة الإسرائيليين ، واستفادتها من جميع الدروس السابقة
ما من شك أن حزب الله في شكله الحالي هو أحد معطيات دينامية الثورة الإيرانية وارتداداتها على الوضع العربي المهترئ . لكن علينا التأكيد أن الصراع العربي الصهيوني أقدم من الثورة الإيرانية ، وأن الشيعة في جنوب لبنان هم أيضاً مع معاناتهم من الغزوات الإسرائيلية أقدم من الثورة الإيرانية.
لقد كان لاندفاعة الثورة الإيرانية معطيين أساسيين : 1- إظهار فساد وتداعي النظام السياسي القطري العربي ، و إظهار عجزه ، لا بل تواطؤه أحياناً في الصراع العربي مع الصهيونية وإسرائيل.
2- تحول في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط من سياسة التوكيل إلى سياسة التدخل المباشر .
أما المؤشر الثاني والذي هو محور حديثنا هنا فهو المفهوم الجديد لـ (حركة التحرر الوطني والقومي) . فقد أخذ مفهوم حركة التحرر الوطني والقومي بعد الحرب العالمية الثانية دلالة بدهية في أنه توجد جماعة قومية أو محلية تسعى بشتى السبل بما فيها الكفاح المسلح لطرد المحتل وإنجاز التحرر السياسويّ من الاستعمار . وكان المتعاملون مع المستعمر – بفعل الديناميّة في التحرر القومي التي أطلقها الانتصار السوفييتي على النازية الألمانية- يتهمون بالخيانة العظمى وبشكل بدهيّ أيضاً . لكن مع انتهاء الحرب الباردة ، وبعد زوال "الشرعية" السوفييتية ، وتفكك الدولة السوفييتية البيروقراطية ، وبعد دورة من التحول الاقتصادي- السياسي أصابت دولة حركات التحرر القومي والوطني في مصر وليبيا والجزائر والعراق وسوريا والسودان والصومال ، الخ.. وبعد أن اندمج البعض منها في الاقتصاد الإمبريالي أو تفككت دولته أو تحول إلى نظام استبدادي عصبويّ ، وبعد أن راحت تفقد هذه النظم شرعيتها جزئياً أو كلياً عبر فقدها المتنامي لدلالاتها العمومية ، وبالتالي تحولها إلى فريق ثاني خاص ، بات مفهوم التحرر القومي والوطني يأخذ أبعاداً جديدة خاصة مع الغزو والاحتلال الجديدين من قبل الإمبريالية الأميركية . وراحت هذه "الأوطان " تنقسم إلى فريقين مع وقع الشعار "الديمقراطي الإمبريالي" : الأول فريق ذرائعي تبريري يرى في الاستعمار الإمبريالي المتجدد تحت القيادة الأميركية أداة فعالة للتخلص من الاستبداد السياسي ، واحتكار السلطة السياسية والثروة من قبل فريق بعينه في البلد المعني . وقد أطلق بعض التحركات ذات الطابع الجماهيري ("ثورة" الأرز في لبنان، وانتفاضات بعض الأحزاب الشيعية في العراق، والسلطة في قطاع غزة، وتصريحات بعض المعارضين السوريين خاصة المتواجدين في الخارج ) . ونلاحظ أن هذا الفريق يحتل السلطة السياسية في لبنان والعراق وقطاع غزة مدعوماً من النظام الإمبريالي .
والفريق الثاني : وقد وقع في مفارقة. فالشعارات والتحديثات التي أنجزت وقامت فترة صعود (حركات التحرر الوطني والقومي- الاجتماعي) باتت تتآكل وتفقد مع الوقت بريقها . وطروحات بعض "المعارضين" تلمح إلى إمكانية وشرعية معاقبة السلطات القائمة بالاستعمار ، أو على الأقل، الاستعمال الضمني لهذا الضغط "الخارجي" أي الإمبريالي من أجل إحداث تغيير "ديمقراطي" ومن أجل كسر احتكار السلطة والثروة .
هذا الوضع المنقسم إذا ما تأملنا وجهته ملياً ، وإذا لم تعمل الأطراف المتصارعة لتدارك الوضع فهو يقود مباشرة إلى مشروع الطائفية السياسية الذي تسعى إليه الإمبريالية الأميركية عبر ما تسميه "مشروع الشرق أوسط الجديد" ، أي يقود إلى بلدان منقسمة على نفسها وبالتالي هي مشاريع حروب أهلية طائفية وليست مشروع دول وطنية كما يتبجح الجباعي ويتوهم في مقالته "حرب الخاسرين"، بالتالي هي مشاريع تسهل عمل واندفاع المشروع الأميركي في الشرق الأوسط.
إن التآكل الذي أصاب (حركات التحرر الوطني القومي – الاجتماعي) التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية مقروناً بزوال الشرعية السوفييتية البيروقراطية قد مهد الطريق للإمبريالية العالمية تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية لإعادة الكرّة في الغزو والاحتلال وتحت شعارات "الديمقراطية" و"الحرية " و "التدخل العسكري الإنساني " بحجة حماية الأقليات القومية والدينية وضرب الاستبداد!؟ وذلك بهدف استعادة ما خسرته من مواقع بعد الحرب العالمية الثانية.
وباعتبار أن الانقسامات السياسية الراهنة مركبة في أغلب الأحيان على انقسامات طائفية ودينية و إثنية وأحياناً قومية فإن المجتمعات العربية مقبلة على جولات من العنف الفاسد والدوران الفارغ في المكان ؛ دوران مزيل للعقل وللفعل العقلاني. وهنا تقع مسؤولية تاريخية ووطنية على أحزاب وقوى اليسار بكافة أشكاله خاصة الماركسي والشيوعي منه في ممارسة دور، قد يكون هو الأهم في تاريخ هذا اليسار .
لقد كشفت الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان حجم الانقسام في المجتمعات العربية . فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني تدعم نظم عربية وجماعات سياسية محلية ، وبشكل سافر جهود العدوان الإسرائيلي على لبنان !