تأملات في جاذبية الموت للمهزومين


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 1672 - 2006 / 9 / 13 - 09:24
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

"كلنا فدا السيد نصرالله"، يقول كثرة من الجنوبيين في لبنان كما نرى على شاشات الفضائيات.
يفدونه أو لا يفدون، دعونا نسأل عن سحر الفداء هذا.
اكتشف جيل من الشرق أوسطيين سحر كلمة "فدائي" في النصف الثاني من عام 1967، لأسباب بات تكرارها مبتذلا لكثرة ما أثيرت. ومع هذا، وباختصار، أذكّر الأجيال الشابة بهزيمة ثلاث جيوش عربية مجتمعة أمام ما ربينا على اعتباره قزما إسمه إسرائيل.
تنطوي كلمة الفدائي، بالطبع، على الموت، أو بتعبير أدق: الإستعداد للموت إن اقتضت الضرورة وإن لم تنطو على معنى الرغبة بالموت من جانب من يقوم بعمل الفداء هذا. بل أذكر، حتى اليوم، أن معظم أغاني الفدائيين (ويتشرف الكاتب أنه كان في صفوفهم) كانت تدور حول الوعد بالحياة، لا الموت للإستمتاع بحور العين ولا للتعشي مع الأنبياء. أغنية تقول "وحملت رشاشي/ لتحمل بعدي الأجيال منجل"، لم تكن نتاج وعي، أو فكر "يساري متطرف"، بل كانت من أغاني حركة فتح في نهاية الستينات.
ولأن الفدائي بات سلطة، ولأن الفداء صار وظيفة ومهنة لها جدول رواتب معلوم ومحدد، ولأن ولأن... انحطت المفردة وانحطت دلالتها، وانحط الفداء حتى بات يعادل الإرتزاق. صار شعار "بالروح، بالدم، نفديك يا..." قابلا للتركيب على أي أسم مناداة ابتداء من "نفديك يا شهيد" (كيف تفدي الشهيد إن كان الفداء يعني بالتعريف افتداء حي بحياة من يهتف؟) إلى شعار، أراه عبقريا، ظهر في العراق إثر سقوط صدام وصعود مئات الزعماء الجدد: "بالروح، بالدم، نفديك ياهو الكان" (نفديك أيا كنت): سخرية لاذعة تبين الدرك الذي انحطت إليه شعارات الشهادة والفداء.
ومع هذا، تظل مفاهيم الأضحية/التضحية، الشهادة/ الفداء ذات جاذبية وسحر رومانسي لنا حتى أننا ننسى "وظيفة" الشهادة، إن صح القول.
إليكم مثالا: في فجر بارد بتاريخ 14/2/1949، وفي ما يعرف اليوم بساحة المتحف ببغداد (مقابل المتحف العراقي) جيئ بالشيوعيين يوسف سلمان يوسف (المسيحي الكلداني) وزكي بسيم (السني العربي) وحسين محمد الشبيبي (الشيعي العربي) و ساسون حسقيل (اليهودي العراقي) ليعلقوا على المشانق، وليراهم "الرائح والغادي". صاروا مثالا للتآخي العراقي، لكن الأهم، أن الحزب الشيوعي العراقي صار يسمى "حزب الشهداء". اية هالة أنعمت عليه!! (في عام 1979، كان الكاتب شابا مناضلا في باريس حين زار جناح الحزب العراقي في مهرجان اللومانيتيه الشهير قادة الحزب الشيوعي الفرنسي مع ضيوفهم المتميزين، فقال المضيفون: هذا حزب لايعاني من البيروقراطية، لا لأنهم جيدون، بل لأن قياداتهم تقتل على الدوام." (علي أن أضيف من تجربة متواضعة، أن القتل الدوري لم يمنع الإنتهازية والوصولية).
بعد ذاك، ترنمنا بأغنية (من بين عشرات تشبهها) "مثل المطر للكاع (للأرض)، دم الشيوعي". هل تصدقون؟ الموت الذي كان تضحية قصوى لا نريدها إلا إذا اضطررنا مكرهين، بتنا أسيرين له، لأن الناس تحبنا هكذا: شهداء أي أبطال!!! (منع الحزب هذه الأغنية لحسن الحظ في السبعينات والفضل للقيادي عبد الرزاق الصافي).
فلنعد إلى ما ابتدأننا به: لبنان.
الحبيب مارسيل خليفة لا يزال يترنم "بالأخضر كفّناه".
في هذه الحرب الأخيرة، ما العلاقة بين الموت/الشهادة/البطولة وبين النصر العسكري؟
لنعد، ولابد أن نعود، إلى تلك النقطة المفصلية في تأريخ المنطقة: هزيمة 1967. احتلت اسرائيل أراض من ثلاثة دول عربية، فكان جواب النظام العربي السائد آنذاك (وكان قوميا عربيا): لا يهم. المهم هو الصمود. هكذا دخلت مفردة جديدة انهزامية (لكن لها صوتا ظافرا) في الخطاب العربي الرسمي. الصمود ليس فعلا. إنما هو مجرد أن أظل واقفا أثناء تلقي اللكمات.
هل بدأت العلاقة تتضح؟
انتصرنا في لبنان. لم نحرر أرضا، بل أننا نقبل الآن بانتشار قوات دولية تزيد بسبعة أضعاف على الأقل عما كان موجودا قبل "الإنتصار", وستكون لها صلاحيات قتالية لم تمتلكها قوات حفظ السلام الحالية. لم نجلب أموالا لبلدننا، بل ساعدنا على هروبها، لكننا ندفع بالدولار. واعجبي، أن حزب الله يدفع بالدولار فيما لايزال 100 ألف من مقاتلي الحرب العراقية–الإيرانية الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر بعد 18 عاما من انتهاء الحرب وفقا لإحصائيات رسمية إيرانية، أي كرم إيراني هذا؟؟؟
انتصرنا لأننا لم ننهزم.
ومن بوسعه ألا يقف إجلالا لهؤلاء الأبطال الذين جابهوا الماكنة الوحشية لإسرائيل.
إنما السؤال: وماذا بعد؟
حزب الله قتل 150 عسكريا إسرائيليا و51 مدنيا منهم 30 فلسطينيا (إن كنتم لاتزالون تسموا "عرب إسرائيل" فلسطينيين). كم استخدمنا لغة (أو لغو) الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، فمن يجرّم حزب الله؟ رئيس بلدية أجاب قناة العربية حين دعا السيد نصر الله "عرب إسرائيل" لمغادرة أراضيهم تحسّبا للصواريخ بالقول: هذا ما أرادت إسرائيل فعله منذ أكثر من خمسين عاما: أن نهجر أرضنا وديارنا. جوابي (والإقتطاف من رئيس البلدية الفلسطيني): نحن مزروعون في وطننا.
في المقابل، 1200 قتيل مدني لبناني، بنية تحتية مدمرة، حصار على لبنان، وأهم من هذا: إقرار دولي، بل ولبناني، بأننا لا نستطيع فرض سلطة الدولة من دون وجود مكثف لقوى عسكرية أجنبية.
لكننا انتصرنا. كيف؟
لأننا لم ننهزم.
إلى أي درك من الإنحطاط وصلنا إذن؟ ومن أي درك ينطلق السيد نصر الله في دغدغة مشاعر سامعيه؟
إثر هزيمة 1967 كان الجرح (وما يزال) غائرا: لماذا توسل العرب، بعد هزيمتهم، لإيقاف إطلاق النار؟ لم لا يستمروا في القتال؟
تتالت الهزائم حتى نسينا أهداف الحروب ومقتضياتها، فبتنا نطلب الحرب بأي ثمن، ومع أي كان!!
في عام 1980، أعلن صدام حسين الحرب على إيران: طريق القدس يمر عبر طهران!!
لست هنا في مجال تحليل تلك الحرب: مسبباتها، أبعادها ونتائجها الكارثية، بل أود التذكير بالتثقيف العقائدي الذي رافقها وتلاها.
"ليس المهم أن نحدد أسباب الحرب" كتب منظّر حزب البعث آنذاك. "الحرب هدف بحد ذاتها"، إنها "اختبار لرجولة الأمة". انتهى الحديث عن التحرير. باتت الحرب، لشعوب مهزومة، هدفا بذاتها. أكثر من هذا، وهو ما أكده صدام حسين في أكثر من مناسبة، لم يعد الإنتصار يقاس بالنتائج، بل بمجرد أن لا نكرر ما سبق، أي ألا نسعى لإيقاف الحروب. ذلك هو الإنتصار.
انتهت الحرب العراقية- الإيرانية، أطول حرب بين بلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من دون أي تغيير سياسي. ومع هذا اعتبر صدام حسين العراق منتصرا لمجرد أن من وافق على وقف إطلاق النار أولا كان "العدو الإيراني". لايهم في هذا السياق الحديث عن مليون قتيل وجريح أو عن الإنهيار الإقتصادي-الإجتماعي للعراق الذي سببته تلك الحرب.
وأعود إلى (و اختتم ب) ما ابتدأت الحديث عنه: حرب لبنان الأخيرة. لم أسمع أحدا طوال الثمانينات لم يعلن عشقه للعراق، ولا أسمع اليوم من لا يعشق لبنان ويتغنى بإرزه وشموخه.
الأمر المشجع، والمختلف اليوم، تصاعد الأصوات الجريئة (مع أن الشعبوية السائدة تحاول خنقها) التي تتساءل عن حرب أدت إلى المزيد من انتقاص السيادة (برضا أو إذعان حزب الله)، لكننا لانزال ندعوها انتصارا.
لقد قاتلنا/ هذا يكفي. لا تسألوا لماذا يا أصحاب الألسن الخشبية (وفقا للسيد نصر الله الذي لم يضيع وقتا في استثمار انتصاره لتهديد من لا يؤيده).
من قال ان "المحررين" يناصرون الحرية؟؟؟