فقد المناعة ضد الاستبداد - خطر انزلاق العراق من الطغيان إلى الفوضى وخطر ظهور صدام ديني؟


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 493 - 2003 / 5 / 20 - 05:50
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     


 
وقف الخطيب في بغداد وكأنه (ميرابو) في الثورة الفرنسية يوجه تهديده للأمريكيين وزعق في جمهور اعتاد الهتاف بحياة القائد إلى الأبد: أيها الأمريكيون اخرجوا وإلا أخرجناكم على رؤوس الرماح؟ فزعق الجمهور خلفه الله أكبر؟ وجدير بالذكر أنه خلال 35 سنة من حكم صدام لم يسمع المواطنون في خطبة الجمعة إلا الدعاء للسلطان أن يشد بالحق أركانه. ولنتصور الخطيب أيام صدام وهو يقول له كما فعل الممثل في حفلة توزيع جوائز أوسكار في أمريكا فخاطب بوش: إن الأمة لا تريدك واذهب إلى بيتك؟ ثم يرجع الخطيب إلى بيته؟
إن خطيبنا (المسلم) لم يستطع فتح فمه إلا تحت المظلة (الأمريكية). وإن الأمة (المسلمة) العراقية كانت تقيم الأوثان حتى جاء عسكر الأمريكان فحطموا الأوثان فجعلوها جذاذا؟ إن الخطيب صمت دهرا لينطق هجرا. كما يفعل السكران الذي ما زال تحت تأثير الغول.
(الإيدزAIDS) أو مرض(فقد المناعة الكسبي) في الطب يعني مرض الأمراض. ومع أي مرض ينشط الجهاز المناعي بواسطة الكريات البيض للقضاء على الجرثوم الأجنبي. ولكنه في الإيدز لا يبقى جهازا مناعيا. وينقلب في وظيفته من جهاز دفاعي إلى جهاز استعماري منتج للفيروس. والكريات البيض المخصصة بالأصل للدفاع تصبح محطات إنتاج للمستعمر. وإذا انهار الجهاز المناعي دفعة واحدة انهار سد يأجوج ومأجوج الواقي أمام كل أنواع الكائنات المدمرة بما فيها السرطان فهم من كل حدب ينسلون.
 والمجتمعات يمكن أن تصاب (بالإيدز السياسي) وتتعرض لمرض (فقد المناعة ضد الاستبداد). وإذا كانت (الوحدات) الإمراضية هي الفيروس والجرثوم. فإن الوحدات في الأمراض النفسية الاجتماعية هي (الأفكار).
والعالم العربي اليوم مصاب بمرض فقد المناعة ضد الاستبداد ولذا فهو مستباح داخلياً وخارجياً كما أظهر العراق ذلك بوضوح. فمع انهيار الجهاز المناعي الثقافي أصيب بالسرطان (البعثي) داخلياً. وهو يتعرض للاجتياح الجرثومي (الأمريكي) خارجياً. وعندما يصاب الجسم بالتحلل الداخلي تهرع إليه طيور السماء وديدان الأرض. فهذا قانون وجودي.
وهناك حقيقة لا يستوعبها الناس ولا يشرحها المثقفون وتتجاهلها الفضائيات بإصرار وتعمد وتجهيل أن ما حصل في العراق يخضع لثلاث معادلات: (أولا)ً أن العراقيين كانوا في حالة عجز داخلي كامل ويأس مقيم أن صدام وعائلته سيحكمون العراق كما حكمت العائلة الأليخانية بعد هولاكو العراق 120 سنة أخرى. وهي ليست مرضا عراقيا بل عربيا فالكثير من الجمهوريات تستعد للتحول إلى الملكيات. وهو انقلاب معقول لولا أنه مثل إنسان الاسكيمو الذي يريد أن يلبس في فبراير جلابية مواطن في العراق ولا يشعر بالبرد.   وظهر العجز واضحا في التخلص من الأصنام الحجرية فلم ينفع العراقيون حماسهم بقدر احتراف الآلة العسكرية الأمريكية في نقض الصنم.
و(الثاني) أن من خلَّص العراقيين هي قوى خارجية وهي التي مكنت الخطيب أن يتحدث بعد أن أصيب بالخرس نصف قرن من الزمن. وهي التي مكنت عدسات التصوير أن تنقل وبالصورة الحية ولأول مرة بدون كذب وتزييف انطلاق الآلاف يهتفون ضد أمريكا التي يحميهم جنودها من أنفسهم؟ وهو الذي مكن الخطيب أن يهيج جماهير جاهلة لم تستفد من خطبة الجمعة منذ أيام المماليك سوى الدعاء للسلطان والحديث عن الجنة لشعب يعيش خاشعا في غابة. فأطلقت لسانه من عقال الخوف فهو يدين بفك عقدة خوفه للغزاة. ولكن الاعتراف بهذا أصعب من قص الأنف بالمقص بدون تخدير؟
 وفي الوقت الذي ينسحب الغزاة سوف يقفز صدام جديد تهتف له الجماهير بالدم بالروح نفديك؟ وهي حقيقة موجعة ومأساة مزدوجة لمحنة ثقافة مزورة تضافرت فيها المافيا الدينية والسياسية على تجهيل المواطن.
و(الحقيقة الثالثة) وهي الأشد مرارة أن هذا العجز (لم يرتفع بعد). ومن يظن أن العبد عندما يحرر يتحول إلى سيد بكل وظائفه النفسية يثبت جهلاً مريعا في قوانين النفس الإنسانية. وعندما كنت أنا مسجونا لأشهر طويلة مع عشرة أشخاص في غرفة صغيرة لم أستطع المشي بعد الإفراج عني لأني مفاصلي كانت قد تيبست. وهذه قضية معروفة في الطب العلاجي في المريض الذي كان مربوطاً إلى سريره لفترة طويلة. ونحن نعرف من قوانين (الفيزيولوجيا) أن كل عضو لا يستخدم يضمر. وهذا يعني اجتماعياً أن المريض العراقي الذي ينطق الآن يقذف بعبارات جنونية مثل التي نطقها خطيبنا الذي يلعب بالعبارات بأشد من اللعب بالنار.
إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة؟
إن هذا الجنون مبرر لسببين: (1) ردة الفعل الهائلة من احتقان سابق حسب القانون الثالث في الميكانيكا الذي ينص على أن كل فعل له رد فعل يكافئه في القوة ويخالفه في الاتجاه. وهذا القانون يختلف في علم الاجتماع. فالاحتقان يفجر من القوة أكثر من المحتقن وعلم الاجتماع ليس مثل الرياضيات. وهو يفسر تدمير كل شيء في العراق فلم تسلم المكتبات والمتاحف. والمكان الوحيد الذي نجا كانت الأسود الجائعة خلف الأقفاص في حديقة الحيوانات. ومن حماها كانت مخالبها بعد أن تحول العراق كله إلى غابة ووحش؟
(2) صعوبة استعادة الوظيفة المتوقفة. وعندما تتيبس المفاصل لفترة طويلة فهي تحتاج لفترة نقاهة أكبر وتمرينات مكثفة لاستعادة الحركة. ومرور وقت طويل على مفاصل لا تتحرك يدخلها حالة (الجسأ) أي التحجر ويصبح التماثل للشفاء واستعادة دور الوظيفة مشروعا محفوفا بالشكوك؟
وألمانيا حينما اشترت ألمانيا الشرقية الشيوعية ندمت على فعلتها لأنها أخذت بقايا شعب ألماني ميت ملفوف بعلم جرماني. وتخلصت رومانيا من شاوشسكو ولكن بينها وبين دخول العصر أحقابا. والشعب العراقي ومعه الشعب العربي مشلول منذ أيام كافور الأخشيدي يدخن الأرجيلة على أحلام رحلات السندباد. وعندما جاء نابليون إلى مصر عام 1798م كان الزمن متوقفاً عند سفح الأهرام منذ أيام الفرعون بيبي الثاني. وعندما دخل الأمريكان العراق ربيع 2003م لم يتغير الأمر كثيرا فما زالت شهرزاد تكافح عن رقبتها برواية القصص للسلطان شهريار. فالطاغية كان يستمتع كل ليلة بجارية ويعدمها في الصباح. وكثير من الممالك العربية ما زالت تحكم بنفس طريقة المماليك أيام الناصر قلاوون. وتحت مظلة الحكم المملوكي تتعانق المافيا الدينية مع المافيا السياسية.
وهناك من المثقفين من قام بالتنظير نيابة عن الأنظمة الشمولية وحذرها من المساس ببنية النظام السياسي وأنها ستتعرض لنظرية (الدومينو). وأن الخطأ القاتل الذي ارتكبه جورباتشوف كان في إصلاح البنية السياسية. وأن المساس بالكود الوراثي السياسي سيقضي على الخلية وأن المحافظة على النظام الشمولي هو أم الوصايا.
وفي قناة فضائية صرخ المتحدث (الكردي) أريد مخابرات كردية تضربني ولا أريد عربيا يكرمني. ونحن نريد حكماً عربيا (بعثيا) غير ذي عوج والمهم أن يكون حكما عربيا لقوم يجهلون. ولو رفع الأوثان وأذل الأوطان؟
إن الاستعمار يأتي أو يحدث بسبب القابلية للاستعمار وقد يكون خارجياً أو أسوء داخليا غير منظور. والاستبداد البعثي الذي زال عن العراق لا يعني أنه تخلص من (القابلية) للاستبداد. وإمكانية أن يقفز على رقبة الشعب العراقي صدام جديد وارد باسم جديد. بسبب عدم الولادة على نحو عفوي كما في قوانين الطبيعة. والديموقراطية لا يمكن فرضها على الناس بقوة السلاح فهذا ضد الديموقراطية. وقد تكون العملية القيصرية إنقاذا للأم ولكن قد يكون الجنين خديجاً يحتاج لحاضنة ولفترة طويلة. وعندما يأتي الاستعمار فهو ليس قضاء الله الذي لا يرد وتجري الأمور وفق قانونها الخاص الذي يعاقب المغفلين وينتقم من المجرمين. وكان كيد الشيطان ضعيفا. ومجيء الاستعمار يشبه الصفعة التي توقظ من السبات وتعطي الأمل في أن التغيير قانون وجودي إن لم يحصل من الداخل فسوف يتم من الخارج. وقانون التدافع وجودي. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. والكون يقوم على الصيرورة. وهو أس الأفكار في تعاليم البوذية.
إن أخطر ما يواجه العراق الآن بزوغ شمس بن لادن التي غربت في أفغانستان. وتحت المطالبة بالدولة الإسلامية قد تدخل الديكتاتورية من الباب الذي خرجت منه وتحت عباءة إسلامية وهي حجة الجبابرة في التاريخ وتحت اسمها أخضعوا رقاب العباد. ويمكن في جو الفوضى أن يلمع نجم مزيف لصدام تحت مسمى ديني. وليس أفضل من أجواء الثورات والفوضى العارمة  لخروج لينين وستالين. وكما قال عالم شيعي من العراق: علينا إقامة دولة علمانية. وفصل الدولة عن الدين حفاظاً على الدين. وكفانا 14 قرنا من مصادرة الإسلام تحت أنظمة استبدادية شتى والحكم باسمه.
يجب الحذر من كلمة (دولة إسلامية) ويجب أن نطهر أنفسنا من حمى الشعارات. لأن كل المقتل جاء منها. وكل ألوان الاستبداد جاءت تحت مسمى الدولة الإسلامية. والنظام العباسي أقام ديكتاتوريته باسم الشريعة وآل البيت. وهو الذي فعله النظام الفاطمي في مصر لمدة قرنين وهو الذي مكن العثمانيين من التلقب بالخلافة. والطالبان كانت دولة إسلامية تحكم بالشريعة فقطعت الرؤوس والأطراف ووأدت المرأة وذبحت الشيعة ونفت العقل إلى المجهول ودمرت آثار إنسانية بدعوى الأصنام فانتقمت أمريكا لبوذا فدمرت الطالبان تدميرا. وجرب العرب الدولة الإسلامية في السودان فعلق (محمود طه) بتهمة الردة على حبل المشنقة فتدلى وعمره يناهز السبعين وهم الذين ارتدوا عن العدل ولم يرتد الرجل. وأخيرا وضع مؤسسها على يد تلاميذه في الإقامة الجبرية وكان محظوظا أن يحافظ على رأسه حتى اليوم. وفي يوم وقف رئيس العيارين (أبو ليث الصفَّار) فاجتمع حوله الأتباع في خراسان وأراد بناء دولة إسلامية فلما حذروه من بيعة الخليفة سحب سيفا ملفوفا بخرقة وصرخ في الجموع: ما أجلس الخليفة في بغداد على العرش هذا السيف فعهدي وعهده واحد. وتحت كلمة (باسم الشعب) ذبح الشعب. كل المظالم وقعت على الشعب باسم الشعب. وباسم  الحرية ألغيت كل حرية. ولا حرية لأعداء الشعب. وباسم الأمن أنشئت أجهزة الرعب. وباسم الثورة على الفساد قطع كل لسان ينتقد الفساد. وتحت شعارات (الحرية والوحدة والاشتراكية) تم تكريس الاستبداد والتفرقة والفقر. وفوق العلم العراقي كتب (الله أكبر) والأكبر كان صدام. وفي يوم أمر الله نبيه أن يهدم مسجدا (ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل).
إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات وأنها لا تزيد عن توابيت جوفاء  تشحن أو تفرغ بالمعنى حسبما نهوى. وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وأن الجمهور كما يقول الفيلسوف (كريكجورد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار.
جاء في كتاب (شطرنج القوة) لروبرت غرين ص (352) قصة البومة التي أصبحت إلهاً. أنه في ليلة مظلمة غارت نجومها أراد اثنين من الخلد أن يتسللا في جنح الظلام فصرخت بهما البومة أنتما مكانكما؟ فارتجفا في خوف وذهول كيف يستطيع أحد أن يبصر في الليل ثم هرعا إلى حيوانات الغابة فقالا إن البومة إلهة؟ فجاء طير كبير فقال لها كم مخلباً أخفي؟ قالت اثنان فرجع وقال إن البومة أعظم وأحكم حيوان في العالم لأنها تستطيع أن ترى في الظلام وتجيب على كل سؤال؟ فصاح ثعلب أحمر ولكن هل تستطيع أن ترى في النهار مثل الليل؟ فضحكت حيوانات الغابة من هذا السؤال السخيف وهجموا عليه وأصدقاءه فطردوهم من الغابة. ثم ما لبثوا أن أرسلوا إلى البومة يتشفعون إليها أن تكون زعيمتهم إلى الأبد؟ وعندما ظهرت البومة بين الحيوانات كانت الشمس في أشد سطوعها فأخذت تسير ببطء وترنح مما أعطاها المزيد من مظهر الوقار؟ وراحت تحملق بعينين واسعتين بلهاء فأعطاها هالة من الأهمية الرهيبة. وصرخت دجاجة إنها إلهة؟ فردد الجميع نعم إنها إلهة؟ وتبعوا البومة أينما ذهبت. وعندما بدأت تتعثر وتصطدم بالأشياء فعلوا نفس الشيء وهم يظنون أنها عين الحكمة؟ وأخيرا جاءت إلى شارع عريض وراحت تحملق في منتصفه بذهول ولا تكاد تبين فلاحظ صقر مرافق للموكب شاحنة تقترب بسرعة خمسين ميلاً في الساعة فصرخ: هناك خطر قادم؟ وسألها من حولها ألا تخافين؟ فردت البومة: ممن؟ وكانت هادئة لأنها لم تر الشاحنة فصرخت المخلوقات كلها: إنها إلهة ولا شك؟ وكانت تردد الهتاف بالدم بالروح نفديك يابومتنا الغالية؟ وبعد لحظات دهست الشاحنة البومة ومعها معظم الموكب. أما من نجا من الباقين فاحتار كيف تموت الآلهة؟
فهذه هي قصة صدام والأمريكان والشعب العراقي؟