عندما يقدس الأشخاص؟


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 1622 - 2006 / 7 / 25 - 12:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

عندما يقدس الأشخاص يعبدون من دون الله فتزعق الجماهير لهم بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم. وما لم نتخلص من عبودية البشر فلن نعبد الله حقا. وتحطيم أصنام البشر صعب. فهي أعقد من تماثيل صدام التي أصبحت ملعبا للصبيان. وهناك في التاريخ من البشر الذين لا يلمسون مع أنهم بشر يخطئون ويصيبون.
نحن نفرح بذكرى حطين ولكن قد نصدم إذا عرفنا أن (الناصر صلاح الدين الأيوبي) هو الذي ذيل بتوقيعه على إعدام (شهاب الدين السهروردي) لآراء قالها؟ وأخذ لقب الشاب القتيل في التاريخ.
ويحكي تفاصيل الواقعة (ابن أبي أصيبعة) في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) ص 641 فيقول ما مختصره عن السهروردي: "كان أوحدا في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفلكية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحداً إلا بزّه، ولم يباحث محصلاً إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله. فلما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء كثر تشنيعهم عليه. فاستحضره السلطان الظاهر ابن صلاح الدين والأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام. فتكلم بكلام كثير بان له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر فقربه وأصبح لديه مكين. فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين. وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر، وإن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد. وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل يقول فيه"إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أن يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه" ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أنه يترك في مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك. وهناك رواية تقول أن الملك الظاهر أرسل إليه سرا من خنقه. وكان ذلك في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب (586 هـ ـ 1190م).وكان عمره ست وثلاثون سنة. وقال عند وفاته وهو يجود بنفسه:
قل لأصحابي رأوني مـيتا فبكوني إذ رأوني حزنا
لا تظنوني بأني ميـــــــت ليس ذا الميت والله أنـا
أنا عصفور وهذا قفصـي طرت عنه فتخلى رهنا
لاترعكم سكرة الموت فما هي إلا انتقال من هنـــا
ودفن الرجل بظاهر حلب ووجد مكتوبا على قبره:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة مكنونة قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمتــــــــــه فردها غيرة منه إلى الصـــدف


هناك حقيقة أولية بسيطة تقول أن البشر غير معصومين. ولكن هذا كلام نظري فالواقع يقول أن هناك بشر معصومون. متعالون فوق الخطأ ودون النقد لا تخضع تصرفاتهم للتحليل ولا شخصياتهم للمس. وهو ما يحصل حينما نتناول شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي أو معاوية بن أبي سفيان. ولو كان الرجل حاضراً لعذرني أكثر ممن سوف يهاجمني فالرجل كان متسامحاً وعلى خلق عظيم. ولكنه مع هذا يبقى بشرا يخطيء ويصيب ويرتفع وينزل وفي أعماله التفاوت. وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. وحتى الرسول ص فيه الجانب البشري الذي يقول فيه أنتم أعلم بأمور دنياكم، وفيه جانب خاص من تلقي الوحي فيقول: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء" و"قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك".
واختلاط الإلهي بالبشري يدفع الأشخاص إلى رتبة القداسة فلا يلمسون ولا يخضعون للنقد والتحليل وهو خطر على الشخص وخطأ في الفكرة. وأكبر خطأ تورطت فيه الكنيسة تحويل عيسى من الناسوت إلى اللاهوت فاختلفوا في حقيقته وما زالوا مختلفين. وعندما يصبح الإنسان (البابا يوحنا) المعصوم فقد دخل في دين الكنيسة وفتح الطريق لخروج مارتن لوثر. وهي مشكلة الشيعة مع الأئمة. والدروز مع الحاكم بأمر الله الفاطمي. واليزيديون مع يزيد بن معاوية الذي نصبوا له مقاما في جبل سنجار كما فعل آخرون أمكنة للحسين والست زينب. وهو ما حدث مع السنة في شخصية صلاح الدين الأيوبي.
ونحن عندنا القدرة أن ننتقد الآخرين ولكننا نعمى أمام أخطائنا. والقرآن كان يتنزل ويتحدث عن الصحابة أن منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة. ولم يكن الصحابة حول الرسول ص من طبقة واحدة متشابهة بل كانوا طرائق قددا وحلقات وطبقات. فمنهم القريب الملتصق الذي لا يزيده قربه علما. ومنهم البعيد الذي يحضر بين الحين والآخر ولكنه جيد الالتقاط للمفاهيم العميقة فهذا هو الفرق بين صحابي وصحابي.
وفي يوم بدت خيبة الرسول ص كبيرة في صحابي جليل هو ابن لبيد فقال له ثكلتك أمك يا ابن لبيد لقد ظننتك أفقه من بالمدينة. لأن الرسول ص كان يظن أنه يفهم جيدا فلما امتحنه في موضوع تبين له أنه لم يستوعب جيدا. وهذا متوقع في أشخاص من بيئة أمية تسري في دمائهم روح قبلية يتلقون رسالة عالمية.
والناس معادن كمعادن الذهب والفضة إذا فقهوا. والعبرة بالجهاز المستقبل أكثر من المرسل. وبجانب آذاننا تئز آلاف الموجات فلا نسمع شيئا رحمة من ربنا. ومن كان عنده (ريسيفر) ديجتال استقبل المحطات الفضائية بأجلى الصور. ومن اعتمد نظام الكابل القديم جاءت الصورة كيوم رملي عاصف. وهذه الحقيقة البسيطة الأولية يعترف بها الناس حينما يتناظرون ويتناقشون ولكن (اللاشعور) هو الذي يحكم 95% من تصرفات الناس مقابل 5% للشعور. ولذا كان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عاديا في (الشعور) مقدسا في (اللاشعور). ومن يصاب بالصدمة حين يوضع على مشرحة النقد يفعل ذلك تحت ضغط منعكسات اللاوعي. وهو أمر معروف في علم النفس.
والعقد والعواطف والتصرفات والخبرات والمواقف والميول يتحكم فيها اللاشعور أكثر من الشعور. وحينما نتكلم لا نفكر بما نقول بل تتدفق الأفكار تحت ضغط الوعي والبقية يفعله اللاوعي. فنحن لا نفكر في مخرج الكلمات هل هي من الأضراس أو الحلق أو طرف اللسان.
وهذه الحقيقة أن البشر يصعدون وينزلون ويصيبون ويخطئون هي التي تمكننا من فتح الصفحة النقدية للتاريخ فنرى الصحابة بشرا ونبصر أخطاءهم ونستفيد منهم. لأن العمل البشري يمكن تقليده والعمل الإلهي فوق طاقة البشر فلا يقلد. وربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. وهنا بيت القصيد. أي فهم الإنتاج الرائع أنه عمل بشري يمكن تصنيعه وإعادة إنتاجه وتكراره لأنه دخل ضمن قانون الأشياء. وفهم سنة الشيء تمكن من تسخيره.
وهي نقطة انتبه لها سيد قطب في كتابه (هذا الدين) فاعتبر أن الإسلام يعمل في حياة الناس ليس بطريقة الخوارق بل بقانون بشري. وهو أمر يمكن إعادة تصنيعه كما حصل مع الصحابة الذين ارتفعوا إلى قمة إنسانية نادرة. وكذلك الإنجاز الفذ الذي حققه صلاح الدين. أن يفهم كإنجاز بشري قابل للإعادة والتصنيع والتكرار. وبذلك نحرر العمل البشري من البعد الإلهي فيتحول إلى قانون أرضي قابل للفهم والإنتاج. وعمر ر انتبه إلى خطئه في تولية (زياد ابن أبيه) ولاية العراق فعزله فسأله: ألعجز أم لخيانة قال: ليس لهذا ولا لذاك ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس. وهذا العبارة يفسرها ابن خلدون في (المقدمة) أن فرط ذكاء الحاكم ليس في مصلحته. وهي نفس مشكلة أوبنهايمر في لوس ألاموس مع مشروع صناعة السلاح الذري حيث كان يستبعد المتحمسين غير المؤهلين ويريد الأذكياء فقط. لأن الأذكياء يتعبون مع الأغبياء. ونحن في مواقف كثيرة ندرك أن المشكلة الاجتماعية هي تعامل الذكي مع الغبي، أو بكلمة أدق غير المؤهل والجاهل مع المتعلم. كما ساورت الشكوك عمرا حول خلع معاوية من إمارة الشام، وفي زيارته لبيت المقدس علاه بالدرة لما رأى من مظاهر التشبه بالبيزنطيين. وربما لو فعل عمر مع معاوية ما فعله مع أخيه زياد لاختصر معركة صفين وانقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض. ولكن شاء الله وما قدر حصل.
وهذا التمييز الحاد بين (الشخص) و(الفكرة) ينطبق على كل واحد منا سواء كان (صلاح الدين الأيوبي) أو (يزيد بن معاوية) ولكن ليس عندنا ذلك الوعي الحاد للتفريق بين الإلهي والبشري. والشخص والفكرة. وبتعبير (مالك بن نبي) الفكرة المجسدة والفكرة المجردة.
والمجتمع في رحلة صعوده يتخلص من (الأشياء) إلى عالم (الأشخاص) ليقفز في النهاية إلى عالم (الأفكار). وينتكس المجتمع بالعكس حينما يرجع من عالم الأفكار إلى عبادة الأشخاص كما هو حال العالم العربي سواء حاليا أو عبر التاريخ مع شخصيات بشرية من نوع صلاح الدين. والقرآن يقول أن ما يدخل النار طاعة السادة والكبراء. ويبقى الحساب في الآخرة فردي فلا يغني مولى عن مولى شيئا. ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى فهذا مفهوم تأسيسي أصلي. والصنم (شيء) والبدائيون عبدوا الشجر والحجر. والتوحيد (تجريد) والوثنية (تجسيد). والتوحيد قفزة في الوعي وليس مسخا للعقول وتشددا في الدين وانكبابا على الجزئيات. وحرفية بالنصوص. ومن تعلق حرفيا بالنصوص كان مثل حشرة العت التي تمر على السطور بدون حضور. وينقل عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله: لا تعرفوا الحق بالرجال اعرفوا الحق تعرفوا أهله. ولكننا كما يقول مالك بن نبي نربط الأفكار بالأشخاص فنحرم من الفكرة الجيدة إن جاءت من عدو ونتورط في فكرة سخيفة طالما جاءت من صديق. ولكن الفكرة غير الشخص. وما لم نسلخ الفكرة عن الشخص فلن نستفيد من الأفكار ولن نعرف قدر الناس. واليوم هناك من ينحاز مع صدام لأنه عربي وسني ربما؟ والقضية ليست عربية ومذهبية بل إنسانية. ومن ظلم كان ظالما. والعدل أقرب للتقوى ولو على الوالدين. وقراءة التاريخ بهذه الروح النقدية هي التي تقربنا من الحقيقة. واعتبر (ابن خلدون) أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد (النقل) ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسية وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولم يقس الشاهد بالغائب والذاهب بالحاضر فلا يأمن فيها المرء من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وهو ما وقع لكثير من أئمة النقل ومن كتب في التاريخ. وينقل ابن خلدون ست أخطاء منهجية عن مؤرخين كبار. وهذه الروح النقدية اللوامة هي التي تنجو يوم القيامة فتستحق أن يقسم بها الله" لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة"
وأنا شخصيا قمت في يوم بتجربة استبدال (الأفكار) (بالأشخاص) فنسبت فكرة لمالك بن نبي إلى سيد قطب وبالعكس. وقدمت فكرة مالك بن نبي على أنها لسيد قطب لشاب متحمس من شباب الإخوان المسلمين فاستحسن الفكرة وأطنب في مدحها وكيف أنها من درر الحكم. ثم قمت بالعكس فعرضت فكرة لسيد قطب على أنها لرجل شيوعي فاستاء منها وعابها. فلما أظهرت اللعبة استاء وغضب. وهكذا فكلنا يخضع لقانون التحيز. ولعلنا كما يقول توينبي المؤرخ قد يكون أحدنا أقلنا تحيزا فيما لو انتبه إلى قانون التحيز.
ونحن نضحك من صاحبنا ولكننا كما يقول الوردي نقع في نفس المطب. والرجل في أصله شيعي. ولكنه كان يضحك على الشيعة والسنة وفي النهاية يضحك على نفسه. ومن استطاع أن ينتقد نفسه ويذكر عوراته كان ناضجاً. وفي يوم تقدمت مجلة المعرفة السعودية بسؤال لبعض الكتاب عن (محطات الفشل) وكنت فيمن سئل فكتبت لهم ثماني محطات فشل في حياتي. وغاندي كتب أدق التفصيلات عن حياته في كتابه (تجاربي مع الحقيقة) ومنها أسفه لتلك الليالي التي كان يهرع للقاء زوجته ووالده في سكرات الموت يحشرج. ويقول المثل العربي"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وصلاح الدين الأيوبي لو اجتمعنا به وهو يأمر بقتل السهروردي لتذكرنا بعض حكام العرب وتغير انطباعنا عنه. ولكن تصور أمرا كهذا هو أصعب من قطع الأنف بالمقص وبدون تخدير.