الإنسان بين الملائكة والشياطين


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6646 - 2020 / 8 / 14 - 03:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الإنسان ذلك الكائن الطبيعي من مجموعة متنوعة ومترابطة ومتشاركة في نظام كوني واحد لا ينفرط طالما أن الكل يمارس طبيعيته بشكلها المرسوم أصلا، وهذه الطبيعية تأتي من كونه نشأ وخضع منذ البدء بين مصدري جذب وتنافر أساسيين فأستجاب لهما بذات الفرض وبذات القوة التي كونتهما والتي هي أيضا مستجيب طبيعي أصلي لوجودها، أي أن الإنسان لم يكن مختارا وملا مضطرا ولا مسيرا في هذا القرار بقدر ما كان طبيعيا وواقعيا لتفاعلات قانون الجذب والتنافر بشكل طبيعي وأعتيادي وكما هو والمفروض فيه، فهو كائن طبيعي عليه إدراك حقيقة واحدة أن الحياة فيها وجود حقيقي وهذا الوجود تحكمه قوانين ناظمة لا تخطيء ولا تستغفل منها ما هو واجب ومنها ما هو مسئولية فهي بالتالي ألتزامات بدية حتمية، وكلها تخضع لمنطق الجذب والتنافر وأمها خيار واحد ووحيد، فأما أن تكون متفاعلا معه فتسلك كل طرقها وخطوطها العامة، أو تكون غير فاهم لها فينتهي بك المطاف في لحظة العجز عنها لتهلك ويذهب وجودك المستجيب هباء منثورا كأنه لم يكن.
عوامل الجذب والتنافر هذه وحسب فهمها هي أساسا قائمة على ثنائية الخير والشر الحق والباطل السلبي والإيجابي وكل إنسان يرجعها إلى دلالة خاصة به ويمنحها تسمية ما لكنها جميعا تخضع لقاعدة واحدة هي الحركة (لو أجتمع الضدان أو أنفرد أحدهما بالوجود تتوقف الحركة وتنتهي ديناميكية الفعل فيها، وبالتالي ستسقط في الأحادية المعطلة التي تعني الفناء الأبدي)، الفهم الديني يرجع ذلك لمفهومي الخير والشر وصراعهما بأعتبار أن الشر يمثله الشيطان وقواه وأنصاره، والخير يمثله مجموعة كبيرة من المسميات والصور تبدأ من الخير المطلق لتتفرع بعده إلى الملائكة والكتب والأنبياء والرسل والصالحين... الخ، ولو سلمنا بهذه المقولة سينفضح زيف الأطروحة الدينية كلها كما هي تقول أن الشيطان هو من خلق الله ومن صنعه، وما صراعه إلا صراع عاجز عن السيطرة على ما خلق لأن عاجز عن حسم الصراع هذا وهو القادر على كل شيء بالرغم من ضعف الشيطان وكيده، والحقيقة التي لا يريد أن يصرح بها المؤمن المتدين، أن هذه الصورة هي تفسيره ومن صنعه وعليها بصماته البشرية ليفسر قانون التجاذب والتنافر الكوني لكن دون أن يصرح بذلك.
الشيطان عند المؤمن المتدين هو عنصر الشر المطلق وهو عدو الإنسان الأول والأخير ولا بد من محاربته بكل الوسائل والسبل للوصول إلى رضا الله والفوز بها يساعده في ذلك بقية المجموعة المتفرعة من أصل الخير الكلي (جند الله ووسائله)، وهو بالتالي من يصنع قواعد وحدود الخير والشر ويصنف ما هو خير مطلوب وما هو شر محذر منه ومحظور وليس الوجود الطبيعي لهما في الواقع مما صاغه أو واستنبطه من التجربة، فهو مثلا يصف الملائكة بأنها قمة الإيجابية في الوجود لأنهم لا يعصون لله أمرا ولا يسألون وهم الأقرب لإرادة الله وتنفيذها من كل الكائنات، وبالتالي فهم قمة الإيجابية التي يجب على الإنسان في وجوده الحياتي أن يقترب من حدودها الملائمة له، ولأنهم يمثلون كامل الخير وكامل الحق وكامل المنطق فهم إيجابيون بهذه الصفات، ولكن لو رجعنا إلى حقيقة هذه الأطروحة سنجد أن هذه المواصفات هي سلبية بالمطلق لأنها مخلوقة هكذا وتعمل طبيعيا دون تدخل ممن يحملها، فهم بها مثل الروبورت الذي يعمل وفق برنامج مسيطر عليه لا يمكنه الدخول للنظام والتلاعب به ولا يمكنهم التخلف عن الأوامر البرمجية المحددة سلفا لهم، فهم مجرد كائنات سلبية منزوعة الإرادة ومنزوعة الفعل الذاتي وغير منتجة وغير قادرة على التفلت من الخضوع الحتمي للبرنامج.
أما الشياطين وبنفس المنطق الديني والصورة المطروحة فيه كمطلق للشر السلبي والعدو اللدود للإنسان وعلى الأخير أن يفهم ذلك ويعمل كل ما يمكن لأن يتخذ منه عدو طبيعي حتى يصل لرضاء الله والفوز بالنتيجة، فهم حسب قاعدة الفعل الذاتي والتصرف الحر المسئول يكون الشيطان هو العنصر الفاعل الإيجابي الأكثر قدرة على التحرك في النظام الكوني والتأثير فيه، هو يعمل وفق ما يراه مناسبا له ومتناسبا مع حركة الوجود التي لا تتوقف على أوامر خارجية منتظرة أو مأمور بها على سبيل فرض القوة، عليه وجودهم بهذا الحال هو الوجود الضروري للأستمرارية الوجودية الكونية، ولولا وجودهم لتعطل الكون عن الحركة والفعل والأستمرار الأبدي، فهم إذا في القمة من الإيجابية الفاعلة والأساسية، ووجود عنصر الشيطان هو ضمن معادلات التوازن التي تتحكم بها قوانين الجذب والتنافر، ولو خلي الوجود منهم لقلبت كما يقولون في التعبير الديني، فهم العنصر المقابل ولا نقل الأفضل فكلاهما مطلوب وكلاهما إيجابي في حفظ المعادلة الوجودية، ويكون دور الإنسان هنا الأستفادة من طرفي الصراع لا أن ينحاز وينصر أحدهما لأن نهايته تكون مع أنفراد أحدهما بالوجود لينفرط القانون الكوني كله.
هذا الكلام ليس تزكية للشيطان ولا ذما للملائكة بقدر ما هو شرح للواقع الوجودي بصورة فلسفية بعيدة عن مسميات يراد منها إيهام الإنسان بأنه عنصر فاضل وعليه أن يتبع الفضيلة ويتجنب الخطيئة، إنها محاولة الإنسان لفهم قواعد الحركة الوجودية بدون تزييف وتغطية بعناوين مرمزة وأكتشاف حقيقة الحقيقة التي دائما ما تغطت بمنطق الدين لتخفي وجهها عن الإنسان، الإنسان ككائن عاقل عليه أن يدرك ذلك بأنه ضروري ويتصرف بحيادية بين الحدين فهو لا يمكنه مهما فعل أن يكون ملاكا لأن فيه فطريا وتكوينيا وتكيفيا القوة على الفعل والخيار من خلال العقل، كما لا يمكنه أن يكون شيطانا بأي حال حتى لو أراد لأن مواصفاته التكوينية تختلف في القوة والفعل والهدف، هنا نطرح قضية العبادة ونوعها وتوجهها فلا عبادة الملائكة ممكنة ولا عبادة الشيطان ميسرة بل حق العبادة أن تفهم ما هو اليقين، فالعبادة تعني الأنحياز للمعبود وبالتالي محاولة نصرة وأنتماء لأحد طرفي قانون الجذب والتنافر ويعني هذا السعي للانفراد بالوجود الذي يعجل من حالة التوقف ثم الفناء، التعبد الحق والحقيقي يكون بالمحافظة على التوازن هذا وإدامة فعله للأرتقاء بالواقع، وتحقيق أفضل مستوى من السعادة كنتيجة وجودية له على مسارات الحياة وهذا هو الدين واجب الأتباع.
علينا إذن أن نفهم الدين في النهاية ما أكتشفناه كما هو أو نقل إلينا أو وصل لنا عبر التأريخ الديني والأجتماعي هو في النهاية مجرد تفسير لقانون الوجود بشكل ما يقترب أو يبتعد عن المطابقة أو التماثل مع الحقيقة، منه ما قد لامس جزء من الحقيقة ومنه من عبر عن جزئية وأهمل الكثير، ولكننا كبشر عقلانيين أن لا نضع جميع بيضنا في سلة الدين وأن نستمر في البحث عن بيض أخر وسلال أخرى لنكون على قدر كبير من الواقعية ولنثري حياتنا بخيارات أخرى قد تنوع لنا المسارات وتفتح طريقا لفهم الحقيقة، لقد وضعنا الدين وطائفة أخرى في قائمة المحاسبين عن أعمالهم بالجزاء الدنيوي والأخروي، ولكن لم يضع في هذه القائمة لا الملائكة ولا الشياطين عن أعمالهم لأنهم وحسب النص الديني مجرد أدوات للرب لتنفيذ رؤيته (لأملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين) أو قيل لنا هكذا، المهم أن نؤمن أن العبادة في أي أتجاه كان هي أستلاب لعقل الإنسان ومصادره لحقه في أن يبحث بالطريقة الأكثر مناسبة له والأكثر واقعية بدون حلم الجنة والنار.
هذه النتيجة التي وصلنا لها لا تعني بأي صورة من الصور أنها دعوة للكفر والألحاد ولا دعوة لنقض الدين ومتبنياته، فالدين كمعرفة بشرية وثقافة أخلاقية تبقى ركيزة مهمة من ركائز الوجود والعقل متى ما أستثمرت بالشكل الذي يجدد شروط الحياة ومنها السير الحثيث نحو حدود الحقيقة بكل أوجهها خاصة وأنه جزء من هوية الإنسان التكوينية، إنها فقط دعوة للبحث والتأكد في متابعة قوانين الوجود بكل تفاصيلها دون أنتقائية أو حذر حتى لو أدت في البداية إلى الشعو بالأبتعاد أو الأغتراب عن الجزء الروحي فينا، فهي بالأخر ستفتح كل الزوايا والممرات التي تقودنا للدين الحقيقي الذي يعني فهم كامل للقانون الوجودي، فقانون الدين الحقيقي هو التفسير الكامل والإدراك الكلي والأصولي لترابط حركة الكون بدأ من جوهر المادة وأنتهاء بربط الكل في منظومة الوعي بالوجود وبالحركة الكونية العامة، وما عدا ذلك تبقى شكلية الدين الراهن وجوهريته المطروحة مجرد تصورات ذهنية جزئية لا تقود إلا للمزيد من الخراب والخسارة.
عندما يشير الدين لله وانه هو وحده من يملك كل المفاتيح الكونية والوجودية بما فيها الحركة الضرورية والحتمية، إنما يشير إلى معادلة مرموزة متعلقة بالكلية المطلقة التي تحكم كل شيء من خلال قانون الجذب والتنافر الذي ملخصه (أن الأشياء الحسية والأعتبارية لا يمكنها الحركة والفعل ما لم يكن في جوهرها التكوني قوة بالقوة للحركة، وبدون وجود هذا الأس لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستطيع أي قوة قاهرة أن تجعله يتحرك ما تتغير قوانينه الأولى)، وأن الله هنا هو القوة بالقوة التي تحرك الوجود كاملا وصورتها المعلنة والتي صورها العقل البشري وصنعها في ذهنه ونسب لها سر الحركة والبقاء ليبرر لنفسه ويفسر لها الكثير من المفاهيم والقضايا الإشكالية التي رافقت وجوده، والغالب في هذه التصورات أنها أوهام أو لنقل أنصاف حقائق عن منطق الوجود، فالوجود قديم وأزلي ولا نهائي أبدي حتى تتغير قوانينه وتتغير صورة الحركة فيه أو يختل قانون الجذب والتنافر فتضطرب الحركة وينهار النظام الكوني، وكل هذا الواقع نسب لله على أنه هو المحرك وهو واضع القانون وهو وحده من يستطيع أن يوقف الكون أو يغير معادلات الحركة كيفما يشاء وأنى يشاء.
الأطروحة الدينية تتحدث بهذا الأتجاه الذي شرحناه ولكن بأسلوبها ونسقيتها الخاصة ملبسة أيضا بنوع من الترميز والتخفي عن القول المباشر، وكأنها تدعو الإنسان لأن يتولى الأكتشاف بنفسه لتتخلص من حراجة طرحها وشكل النتيجة في النهاية، هذا الخفاء والترميز أحيانا الحدث عن الغيب شيء سلبي يعرقل العقل الإنساني من إدراك جدية البحث ويعطل فيه الشعور بالحرية في إدراك الضروري بما هو ضروري وحتمي ليواجه الحقيقة بقوته وحده، لذا نجد أحيانا كثيرة أن الأطروحة الدينية طاهرا تخالف الأطروحة العلمية المجردة وحقائق التجربة العملية، ولكنهما متفقتان بما يعرف بخلف المرموز وما تحت النور، فبالرغم من أن الأطروحة العلمية بتأريخها أنها وليدة تجربة لم تكتمل بعد وما زالت ترسي أسسها بأنتظام ولا منتهية في بلوغ البلوغ الذي يؤهلها لقبول النتيجة الصادمة، لكنها أيضا تطرح ثمارها بشكل تدريجي ومع أرتكاب بعض الأخطاء التجريبية لكنها تصحح وتواصل في سعيها لبلوغ لحظة العلم اكامل ليدرك العقل عندها أنه في مواجهة كشف كل قوانين الوجود ومنها أن الدين كان جزء من المسيرة هذه.
إذن نحن امام صراع العقل والمعقول في الوجود مع الحقيقة كي يعريها العلم ويكشف تفاصيل الرمز والغيب والمخفي الذي لم يعد له دور أو ضرورة، وأن الحقيقة التي تتجلى في النهاية كعنصر ديني مثلا ليست هي صراع الشيطان والرحمن وإنما هما تفصيله جزئية من صراع أكبر أو تناقض أكبر ضمن أطار قانون الجذب والتنافر الكوني وأثره على حياة الإنسان ووجوده، عندها يكتشف هذا الكائن عندما يرى الطريق الذي سلكه ومن خلفه في تلك اللحظة أنه كان طريقا طويلا ومتعبا مليء بالأوهام والألغام منها ما تفجر ومنها ما لم ينفجر لسباب ما، وإنه خدع كثيرا لأنه لم يلتقط لحظة جنون حقيقية لتحرير عقله من خرافة الواقعية والعقلانية التي صاغها السؤال الأول، لماذا أنا موجود؟.