قراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح10


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6635 - 2020 / 8 / 3 - 04:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في جدل الهوية المجتمعية

الهوية بمعناها الفلسفي هي الطابع الفريد أو البصمة الفريدة والحقيقية التي تجعل فردًا من الأفراد مميزًا عن غيره، وهي شعور الفرد بذاته وإحساسه بفرديته وقدرته على المحافظة على قيمه ومبادئه وأخلاقياته وسلوكياته في المواقف المختلفة، أما الهوية الأجتماعية والتي تبتعد عن محددات الذات والفردية كونها صفة موضوعية أو مرموز جمعي خارجي، فهي (الصورة النمطية التي يأخذها أو يتبناها شعب أو مجتمع من مجتمعات الشعوب عن غيره دون، لتكون بصمة عامة وظاهرة خاصة به دون الدخول بمعرفة الحقائق والجذور)، فهي إذا الصورة الظاهرة للمجتمع من قبل الغير، قد تتوافق مع تصور المجتمع لهويته أو تختلف معه، لأنها أي الهوية أشبه بالمرأة التي تعكس شكلية المجتمع خارجا وليس من خلال حقائق الذات، فنقول مثلا المجتمع العربي ذو هوية بدوية بالغالب مع كونه أصلا مجتمع ولدت فيه الحضارات المدنية الأولى.
هذا الوصف بهذه الهوية يعكس صورة غير طبيعية عن العرب ومجتمعهم وإن قلنا الغالبية فيه ولم نعمم، لكنه في الحقيقة رسمنا صورة خارجية شكلية عنه وقد تكون غير مطابقة لواقع الحقيقة لو علمنا مثلا أن المجتمع البدوي كنظام أجتماعي وأقتصادي لا يشكل اليوم نسبة مهمة من التركيبة الديموغرافية للمجتمع العربي، ولا حتى سابقا بالرغم من أن الجغرافية العربية بالعموم هي جغرافية بدوية، السبب يعود إذا ليس لقوة النظام الأقتصادي البدوي بقدر ما هو تأثير النظام الأجتماعي الغالب على الشخصية الفردية والشخصية الأجتماعية للفرد والمجتمع العربي، هذه النقطة كثيرا ما يتساهل فيها دارسو الأجتماع وخاصة ممن يرددون مقولة صراع الحضارة والبداوة، وأظن أن طغيان هذه المقولة له أسباب غير علمية وغير منهجية روجتها أفكار عقد أجتماعية معادية للعرب وللمجتمع العربي.
نعود إلى الفكرة الخلدونية التي قسمت المجتمع العربي بين نمطين اجتماعيين يمثلان كلية الهوية العربية والإسلامية، وهما المجتمع الحضري (المدني الأقلي) والمجتمع البدوي (الأكثري)، ويرى أن التجاور والتفاعل بينهما ليس طبيعيا خاليا من التحسس البيني كما في المجتمعات الأخرى التي تتنوع فيها الطبيعية السكانية، بل هي علاقة صراع قيم وصراع ممتد من نمطية العلاقة الناشئة بين الجغرافيا وبين الإنسان منفعل ببيئته الخاصة وخاضعا لمتطلبات الجغرافية لوحدها بما تفرضه من قيم، هنا يفرز الصراع نتائج تعتمد على قدرة البيئة والجغرافية على فرض النتيجة.
وعليه يؤسس الدكتور الوردي لنفس الفكرة ويتابعها ويعطيها أيضا طابعا وبعدا أكثر شمولية من فكرة الخلدونية المحدودة نتيجة عوامل مضافة لم تكن لها وجود في حياة ابن خلدون، أو مما لامسها في تحليلاته وتنظيراته وقراءاته واستقراءاته للواقع الأجتماعي في مرحلته وما سبق، وهي عوامل الصراع البيني الخارجي الوافد على المجتمع المدني (الحضري)، فإن كان الصراع عند الفكر الخلدوني ينتهي بحدود المدينة وبيئتها وجغرافيتها المحدودة الخاصة على قضايا بالغالب أقتصادية أو مصلحية تفرض بالقوة، فهي عند الوردي ازدواج قيمي داخل المدينة اولا ينتج خلالا في طول وعرض الهوية الأجتماعية للمدينة أولا، ومنها تنتقل ضمن الدولة الحديثة ثانيا، وهي عنده الوردي كنهاية وتطبيق نتاج صراع الحضارة العراقية مع محيطها البدوي (الجزيرة العربية) اولا، ثم هو صراع بين العراق والحضارة الغربية الوافدة ثانيا إثر غزو العراق في الحرب العالمية الاولى.
القراءة الخلدونية التي قرأها الدكتور الوردي بروح أكثر قربا من السيكولوجيا منها من علم الأجتماع أعطت له بعدا مركبا وأفردت لها حضور خاصا، مزج من خلالها ما يمكن أن يجعل الموضوع المبحوث أكثر قدرة على الانكشاف وأصبر على إيراد النتائج الكلية، هذه القراءة يقول عنها الباحثون في فكر الوردي أن تأثيرات الدراسة الأكاديمية العليا في تكساس مع ولع وإيمان الوردي بالمقدمة التأريخية من جهة وإيمانه بالمدرسة الفرويدية مكنته من أن يصهر هذه المعطيات في رؤية موحدة أو يعيد قراءته المقدمة انطلاقا من المنهج التجريبي (فرانسيس بيكون)والمنهج الوضعي (اوغست كونت) الذي يشكل من نواح معينة امتدادا للتجريبية هذا المزيج الانتقائي الفريد أملته ضروراته وأهمية وخطورة الموضوع وريادة الوردي فيه* .
لقد تأثر الوردي كثيرا في مجال تحديد الهوية الأجتماعية للشخصية العراقية بالمنهج الامريكي في دراسة علم الاجتماع، هذا المنهج المتحرر شيئا ما عن المدرسة الأوربية التي تنتمي إلى جذور أوربا الفلسفية والمعقدة، فرسم بحرية وبأسلوب أكثر تلقائية حدود الهوية الخصوصية التي لا يرى فيها ثبات ولا يمكن الجزم باستمراريتها مع الزمن، فلكل زمان هيئة اجتماعية ولكل أوان ملامح لها بأبعادها الخاصة، ومن هنا فإن احتفاظ الشخصية الاجتماعية بمميزات تقليدية يبقى في حده الأدنى الذي يحافظ على جزئيات لا يمكن ان تقاس عليها عمومية الشخصية.
فلكل مجتمع معين خصوصيته ،ولكل مجتمع عموميته وما من مجتمع يشبه غيره بحذافيره، بل ما من مجتمع يشبه نفسه قبل قرن او قرنين إلا في حدود ضيقة قابلة للتجديد كما هي قابلة للحذف، الذي لا يمكن أن يدركه الكثيرون اليوم من أنصار وعاشقي فكر الوردي، أنهم يناقضون مدرسته عندما لا زالوا يصرون على مقولات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ويعتبرون أن التمسك بها هو وصف صحيح لا يمكن ان يخطئ الآن، ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ولا يرون بأسا أن يطلق على الهوية العراقية نفس تلك اوصاف التي تبناها الوردي بناءا على قراءته المقرونة بزمنها وزمنه هو.
نعود لدور الهوية في رسم ملامحها نتيجة الصراع البدوي الحضري عند الوردي، فهو لا يرى في البداوة نمط اقتصادي أو مرحلة تكوينية لها اشتراطاتها في موضوع الصراع، بل يعرفها إنها قيمة حضارية واجتماعية مفرقا بينها وبين مرحلة الرعي البدائي، فالبدوي ليس راعيا عند الوردي وليس همجيا أو غير متمتع بثقافة خاصة، بل أنه يحتفظ للبدوي بمعايير فرضتها النشأة التعصبية (الأنا) المعتدة بنفسها أكثر من اعتدادها بالأنا الجماعية (الأنوية) ** أو الــ (نحن)، فبرغم أن البدوي يعيش لأجل الجماعة وفي وسطها لكن الفضاء المفتوح وعدم وجود القيود السيادية المتمثلة بسلطة الدولة هي التي منحته الاعتزاز المتضخم بالأنا وليس بالأنوية.
هذه الشخصية البدوية بتحررها الطبيعي من قيود المدينة ومن حدود السلطة نصبت لنفسها حق أن تكون خصما وحكما في النزاع، فهي تقيس الأمور وفق مقياسها الخاص وتعد كل ما هو خارجها ليس أصيلا ولا منحازا للحق، لذا فإن البدوي عندما يؤمن بالدين لا يؤمن به حاكما له وعليه، بل يجعل من إيمانه بالدين سلطة له لا تقارن مع أي قراءة أخرى لأنه يرى في نقسه المثال للنقاء والصفاء، وأنه بهذه الصورة يكون أقدر على أن يفهم الدين من أبن المدينة التي تؤثر في قناعاته المؤثرات الحسية والشهوية، مما يلوث عنده صورة الله وحقيقة الدين، لذا فإن ابن المدينة مهما أظهر من تدين لا يمكن أن يكون على مثل دين النبي محمد صل الله عليه وأله وسلم البدوي كما يعتقد هو.
إذا البداوة في فكر الدكتور علي الاجتماعي هو أسلوب ثقافي واجتماعي أرتبط بقيم الصحراء وبأصالتها المحافظة، ولكنه لا ينتمي لنمط معيشي أو اقتصادي مميز عن غيره، وهذه القيم لها قابلية التوارث والانتقال بين الأجيال التي تتحرك وتتوالد ضمن نفس المؤثرات الإرثية المتوارثة دون أن تتحرر من الأنا والأنوية، كما أنها لا يمكن التخلص منها بسهولة بمجرد أن تنتقل من البدو الى حاضرة المدينة في مواجهة واقع مختلف، كما أن البداوة هذه لا يختص بها العرب وحدهم بل أشار الدكتور الوردي على أن غالبية المجتمع الإيراني مثلا هو مجتمع بدوي،
حتى المجتمع الريفي الذي يمتهن الزراعة والصيد والرعي يعد مجتمعا بدويا في نظر الوردي لأن صبغته الثقافية لا تقل تمسكا بالقيم البدوية من مجتمع الصحراء وأطرافها، وحتى سكان المدن الذين هاجروا من مواطن الريف والبادية برغم مرور العشرات من السنين وتوالد اجيال منهم داخل المدينة لا زالوا يحملون الإرث البدوي ويجاهرون بالحفاظ عليه، فهم بدو بالوراثة ما لم يتخلوا عن قيمهم القديمة ويؤمنوا أن المدنية والمدينة تختلف في قيمها وتقاليدها وحركتها وجوهر علاقاتها على مفهوم الأنوية قبل حكم الأنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حسب على الوردي، فان فرويد استطاع الكشف عن قناع الانسان المصطنع وجعله عارياً. وان المفكرين قبله كانوا يعتقدون بأن الانسان ذو عقل واحد يسيطر على أعماله ويوجه سلوكه، فإذا انحرف أرجعوا السبب الى عقله وناشدوه ان يعقل ويتعظ، وان لم يفعل اعتبروه مستحقا للعقاب. أما فرويد فقد اكتشف ان في الانسان عقلا ثانيا غير العقل الواعي وأطلق عليه العقل الباطن أو اللاشعور وأعتبره مهما لفهم الطبيعة البشرية. ومن هنا أصبح الانسان عند فرويد ليس خيراً محضا وليس شريرا محضا وإنما هو خير وشرير في آن واحد، اعتبر فرويد اللاشعور من أهم العوامل في تكوين شخصية الانسان والكشف عن خفايا النفس البشرية وأنه الأساس الوحيد الذي يقوم عليه السلوك البشري، لأن الانسان لا يسلك في حياته اليومية بناءً على ما يمليه عقله وإرادته، وإنما بناءً على دوافع خفية كامنة في النفس البشرية تدفعه نحو ما يقوم به من سلوك دون أن يشعر بذلك. (موجز للمحاضرة التي قدمت في "مئوية علي الوردي" التي اقيمت في الجامعة الامريكية ببيروت احتفاء بمرور مئة عام على ولادة الدكتور علي الوردي في 14-15 مارس 2014 وقدمت بحوث عديدة لمناقشة أفكاره واطروحاته الاجتماعية. وقد نشر البحث باللغة العربية في المجلة العالمية للدراسات العراقية المعاصرة، International Journal of Contemporary Iraqi Studies,Volume 8 Number 1, intellect Journal,USA 2014، كما نشر البحث باللغة الإنكليزية في مجلة دراسات عربية معاصرة في لندن:
**يرى الوردي ان الانسان ليس أنانيا وإنما هو أنوي.. فالأنانية هي حب الذات وهي إحساس فردي، بينما الأنوية إحساس اجتماعي، أي الشعور بالذات التي تجعل الانسان دائم السعي لإشباع غرائزه على حساب الآخرين وتبرير ذلك بحجج عقلية ونقلّية. والانسان ليس حيوانا عاقلا كما اعتبره الفلاسفة القدماء، وإنما هو أنوي يحب الأنا ولا يحب الحق والحقيقة. والعقل قاصر عن الإمساك بالحقيقة المطلقة لنقص في بنيته ومحدودية قدراته ولذلك لا يمكن الثقة فيه. وقد ابتكر العقل مكيدة أبشع من مكيدة العقل والحقيقة، لأن هدفه ليس اكتشاف الحقيقة والتمييز بين الخير والشّر، وإنما هو اكتشاف كل ما ينفع في الحياة ويضّر الخصم. (المصدر السابق)