الوردي وقراءة في نتائج التشريح الاجتماعي للشخصية العراقية ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6631 - 2020 / 7 / 30 - 04:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

تناقض الشخصية العراقية
أسباب وظواهر.
يرى كثير من الباحثين والناقدين أن المنهج التحليلي عند الوردي قد تأثر الى حد كبير بنظرية ابن خلدون في مقدمته في علم الاجتماع، وخصوصا منهجه في فلسفة التاريخ وتطبيق ذلك المنهج على المجتمع العراقي، وان اهتمام الوردي بصاحب المقدمة يعود الى فترة مبكرة من حياته، كما شكلت شخصيته وأطروحاته العامة وأفكاره الفلسفية والاجتماعية محور رسالته لنيل الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950، وكونه دارس ريادي لعلم ومنهج ليس له جذور ولا حضور في الواقع الثقافي والفكري العراقي، وليس هناك من دراسات حقيقية بمعنى تمسكها بالمنهج العلمي الرصين، أخذ الدكتور الوردي مهمة الريادة في هذا المجال متحملا عبء إفهام وترسيخ هذا المنهج العلمي في بيئة قد تكون طاردة أو غير قادرة على إستيعابه.
والحقيقة أن مثل حالة الدكتور الوردي قد لا تكون الفريدة في عالم البحث العلمي ليس في العراق وحده ولا في العالم العربي، ولكن على المستوى العالمي نجد الكثير قد لاقوا نفس المصاعب وإن بدرجات، والباحث العلمي المؤسس دائما ما يبني منهجه على مرتكزات سابقة ومنهاج من سبقه دون أن يجعل من ذلك إنعكاسا روحيا لها بقدر ما يسخر هذا المنهج لدراسة حالة قد تحتاج له، فالدكتور الوردي مثله مثل رواد العلوم أحاط ذلك بمزيج من علمية المنهج وخصوصية الحالة المدروسة أو المعرضة للبحث، هذا ما أشارت له الباحثة منى شكري في دراستها عن الوردي فتقول (أن تأثره الأعمق كان بابن خلدون خاصة نظريته حول "صراع البداوة والحضارة" التي أعاد صياغتها، فضلاً عن تأثره بمنجزات علم الاجتماع الأمريكي المتحرر نسبياً من المدرسة التقليدية، فارتكز عليهما في تفسيراته التاريخية ودراسة المجتمع العربي والعراقي، على وجه الخصوص، فحلل أغلب مناطق العراق باستثناء الكردية منها بسبب عدم إلمامه بلغة أهلها، حسب قوله، وتوصل إلى أن صراع البداوة والتمدن هو الذي يفرز ازدواج الشخصية العربية الذي بدوره ينتج ما أسماه "التناشز الاجتماعي" .
إلا أن ما يتعلق بدراسة الشخصية العراقية بمقوماتها وشواهدها وأساليب التعبير عنها ووصفها عليما بعد إخضاعها للتشريح العلمي والمعرفي، كانت أهم إنجازات الدكتور الوردي، وأفرد لها وقتا طويلا ومباحث عدة مستندا إلى تجربته العلمية البحثية وفق منهج علمي رصين، قد نتفق أو نختلف معه في التحليل والنتائج ولكن يبقى جهده وريادته في هذا المجال هي الأحظى بالاهتمام والتقدير والإعجاب في الوقت الذي لم تكن هناك أي جهود علمية تذكر في هذا الأتجاه.
ملخص هذه النظرية جسدها في مقولته الأولى عن فهمه لشكلية الشخصية العراقية في محاضرته التي ألقاها في قاعة الملكة عالية في نيسان عام 1951، وأشار فيها الى أن شخصية الفرد العراقي تتسم بالازدواجية، وذكر الوردي في هذا الصدد نصاً (نجد أن العراقي المسلم هو من أشدّ الناس غضباً على من يفطر برمضان علنا ولكنه هو من أكثرهم افطارا و أن العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته، وأنه أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى) .
المنهج الوردي في حقيقته يمثل أنتفاضة الوعي العاقل المدرك بقراءته للواقع وبين أن هناك خلل بنيوي وتكويني أساسي وراسخ في الشخصية العراقية، تفصح عنه سلوكيات متفردة تلتصق به دون أن تكون في غالب الأحيان على رأي الدكتور الوردي من الطبع العام للسوك الإنساني المماثل والمقارب له، أنه أفرد صورة خاصة للأنا، في تقييمي الشخصي لها أنه مبالغ في فرادتها وفيها تجني حقيقي للجانب المشرق أو الوجه الأخر من هذه الشخصية دون أنكار أن الكثير من التشخيصات كانت حيادية وواقعية.
تميز الدكتور الوردي بحساسيته المفرطة في قراءته للواقع، أنه يلتقط الظواهر ويدرسها مجهريا ويفكك روابطها ليعيد ترتيب قراءتها، ثم يقرر في ضوء هذا المنهج وبالمقارنة مع أسس علم الأجتماع تقيما علميا واعيا لها، ولولا قدرة الحس والتشخيص العالية التي يتمتع بها ما كان له القدرة على الدخول إلى أعمق الزوايا وأدقها في شخصية الفرد العراقي، مما أتاح له أن يفهم الكثير من الخبايا والتفصيلات الدقيقة بأسلوب المعايشة القريبة، والنزول إلى الحاضنة الأجتماعية هذه الظاهرة أو تلك.
النقد الذي وجهه الدكتور الوردي في جانب منه حقيقي نلتمسه بالسلوكيات لتي تفرزها ظاهرة التدين، وهذه الظاهرة وإن كانت قديمة قدم الوجود الإنساني للبشر عموما إلا أنها لا تمثل علامة فارقة للشخصية العراقية فحسب، بل هي مشترك اجتماعي يتقاسمه كل بني آدم في كل المجتمعات ، ولا أستثني مجتمعا محددا خارج هذه الصورة إلا ما تجلى بشكل محدد وموصوف في المجتمعات التي تبنت العلمانية وتحت تأثير العوامل التأريخية لتي أفرزتها العلمانية كنقيض حاد وجوهري للفهم الديني التقليدي من توظيف الدين والتدين في حركة المجتمع وضبط المفاهيم العامة له.
لقد ولدت الحداثة أصلا ليس كمنتج فكري انقلابي منعزل عن استحقاقات حتمية، ولكن كانت قبل ذلك إرهاصات كونتها نظريات فلسفية بشر بها البعض كأنها حتما تأريخيا لا بد من تبلوره بالصورة التي عرفناها الآن، بل اجزم أنها ولادة حقيقية للاستجابة الضرورية لحركة المجتمعات وسعيها للتحرر من ربقة الماضي كزمن والماضي مكان، وهذا الجزم ليس أتيا من جهل بالمعطيات ولكن استدلالا من النتائج المجسدة واقعا ومن مظاهر التحول الحتمي في المجتمعات التي عرفت مفهوم الحداثة أولا.
هذا المجتمع في تحوله الطبيعي من هذه الكيفية الجيوفكرية والذي فقدت فيها الهوية الفكرية تميزها المنفرد وخصيصتها المحدودة وضاع فيه الوعي الجمعي بين عشرات التيارات الفكرية والفلسفية والدينية، نراه يتحول تدريجيا بفعل ارتدادات الثورة الصناعية والتكنولوجية العلمية التي مضى عليها أكثر من قرن من الزمان نحو استجابة بدية لهذه الارتداد من نفس قوة التأثير، وليس من خارجها وتحديدا من التنظير المجرد بل أن هذا التنظير هي وليد الارتداد أيضا.
في المجتمع العرقي خاصة وعموم المجتمعات العربية والإسلامية لم تلعب الحركة الفلسفية ولا تأثيراتها الجيوفكرية دورا هاما في صناعة الشخصية ولا في صقل صورة مثالية، وبقيت الفلسفة منزوية في أدراجها لا تستطيع الخلاص من نظرة المتدين السلفي الذي مارس الرقابة والتعرض الحازم والحاد لها، بل أعتبر أن مجرد التفكير فيها ضربا من الكفر والإلحاد والزندقة مما أضعف دورها مع غياب دعم فكري أو مؤسساتي لها، والسبب يعود لسيطرة الفكر المحافظ على مركز القرار السلطوي في المجتمع.
نقطة مهمة أخرى هو غياب المؤسسة الأكاديمية المستقلة التي تروج وتمهد الطريق للفلسفة وكل العلوم الإنسانية المنبثقة عنها كعلم الأجتماع وعلم النفس ونظرية المعرفة عن الساحة التعليمة والتركيز المشدد على علوم الدين والكم الهائل الذي تفرع وتفرخ في ظل جو انعزالي متحسس للأثر الفكري التحريري، وعدم صياغة منهج فاعل يقود للتحولات الكبرى التي افترضت كما في المجتمعات الحداثية شروط التحول ليس حبا في الحداثة والتقدم ولكن كان استجابة ضرورية لشروط التحول ذاته وأعني به التقنية والمال والأقتصاد.
بقاء المجتمع لعراقي والعربي والإسلامي تحت واقع التخلف التقني وعدم قدرته على التزحزح خارج نظام الدولة المدينة، وأعتمده على القطبية الثنائية المكون من مؤسسة دينية تعاضد مؤسسة سياسية مع تحالف أقطاعي رجعي ربط بين وجوده المهزوز والذي يسير نحو الزوال الحتمي وبين المؤسستين السابقتين، ليمارس هذا الحلف سطوته بكل قسوة ضد أي أتجاه تجديدي أو حداثي وهو يعلم أن الزمن ليس بصالحه ولا يمكن أن يترك الأمور راكدة على النحو الذي يؤمن له دوام هذه السطوة وأستمراريتها، وهذا ما عزز أيضا من تقوقع لشخصية تحت شروط هذه القوى القاهرة، ولم تجد مثلا فكرة التحرر الأقتصادي والتحول الصناعي أجواء مثالية كتلك التي شهدتها أوربا والمجتمعات المتحولة، وبقيت حركة لمجتمع عموما تحت رحمة القوى المحافظة والأصولية.