الكتابة في زمن العولمة والحداثة


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6630 - 2020 / 7 / 28 - 20:56
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

لا ندع شيئا فريدا ولا نبتكر مفاهيم من خارج منظومة الواقع عندما ننادي اهل الفكر والمنظرين وصناع الرؤى والاستراتيجيات بهذا الكلام، وإنما نحاول أن نذكر بعض العقول والأقلام التي ما زالت لحد هذه اللحظة الزمنية يتعاطون مع الكتابة بنفس وروح ومنهج ما قبل النصف من القرن، ويعتبرون أن النجاح في توصيل الفكرة أهم من محاولة أستفزاز العقل وقيادته لعوالم فكرية أبعد من حدود الواقع , ويعتبرون أن تحرير العقل المبدع من إطارية الممكن والمعقول إنما هي محاولة لا تجدي نفعا، ويصفونها بأنها نوعا من التعالي أو البطر الفكري اللا منتج , وهنا ينبري أصحاب الفهم الضعيف والمتوسط ممن لا يستطيعون أن يجدوا في عالم الفكر المتجدد شيئا مما يبحثون عنه أو يفهمونه للدفاع عن فكرة التبسيط بل والتساهل الذي يصل لحد السذاجة وأحيانا الانحطاط الفكري دون تقدير لأهمية تحرير الفكر والخروج من دائرة التبسيط .
من أساسيات العمل الفكري الحر شرط تخليه عن الفكرة المسبقة التي تحكم بالبديهيات أو المسلمات أو التي تبرر للفكرة المسلم بها، الجمود والثبات والحصانة من التغيير والتحديث تحت أي علة أو فكرة أخرى , التفكير الحر يعتمد على حقيقية الديناميكية الزمنية في الحكم على أية حاله مادية أو معنوية لأن الحرية أساسا تعني أحترام الزمن وقوانينه , من جهة أخرى هناك حقيقية نسبية أخرى كثيرا من المفكرين لا يؤمنون بها ضرورة حتمية أو حتى تكتيكيا وإن تكاد تكون قاعدة عامة وهي تخلي الفكر عموما وخاصة شديد التأثر بالتوجهات العلمية الصارمة والفلسفية المعاصرة من مفاهيم الثبوتية والإطلاق والتماميه والكمال، التي أصبحت عبء فكري ووجودي يجب التخلص منه أو على الأقل عدم الركون له في المجالات العملية والنظرية التي يراد لها أن تكون أصيلة وقابلة للتطور .
الكتابة في زمن العولمة والحداثة لم تعد كما كانت تبحث عن تسطير بناءات فكرية ومعرفية على مجموعة حقائق أو مجموعة مسلمات، بل صار المنهج اليوم أن نبني العمارة الفكرية مرتبطة بمفهوم الأفتراض أولا والعمل على تقديم مفاهيم متحركة تقود الفكر للحركة وتسمو به وليس الاستقرار في العقول والكتب ,أي بمعنى أدق أصبحت الكتابة والبحث الفكري أكثر ثورية وأشد في قلقها النابع من كون جوهر الفكرة يمتلك طاقة حركية لا تثبت على نقاط محددة تعتبرها نهايات بل كل نقطة هي مشروع لحركة جديدة وكل نقطة تقودنا غلى سلسلة من النقاط اللاحقة، وبذلك نتغلب على قولبة الفكر ونخرج العقل البشري من فكرة سكونية الوجود إلى قاعدة أن لا شيء ثابت وكل مطلق هو وهم بقدر ما يمنح العقل سلطة كشف ونقد واستشراف مع حد الزمن .
الذين يتوهمون أنهم قادرون على إعادة أنتاج الفكر الساكن في قبور التاريخ وتسخيره لخدمة الإنسانية لا يمكن أن يطرحوا نموذجا خارج تلك المقابر بكل ما فيها من أمراض ومن جمود وتحجر، وبالتالي أرى من المحال أن يتخلصوا من أزمتهم الفكرية المغلقة بالثوابت، حتى لو أنتجوا كم هائل من الفكر والرؤى التي تراوح مكانها، وسط عالم لا يقبلوا أن يبحثوا له عن عنوان جديد أو ممر جديد، وطالما أنهم يؤمنون بما قيل وما وصل وما أستقر الذهن عليه وينصاعون له ,إن مهمة تجديد الفكر تقوم على قاعدتين مهمتين الأولى أعترافنا أن الزمن حاكم مطلق في إستيلاد الفكر وتجديد مقوماته ونظرياته ومناهجه، وبالتالي لا يمكن ان ننكر الحركية الذاتية له , وثانيا أن الجديد ليس دائما يعني هدم مفاهيم وأفكار ثبت الواقع على أنها قادرة على الملائمة والمطاوعة مع الزمن وبالتالي المعيار ليس خارجيا فقط في الحكم بل للذات الفكرية والمفكرة دور في التمييز والانتخاب .
من المهم جدا الان تحرير المنظومة الفكرية والمعرفية من المفاهيم التقليدية ومحاولة فتح الباب امام الأشكال والأنماط الفكرية التي تغزو العقل الإنساني خارج حدود الزمان والمكان، تبعا لحقيقة أن العقل الإنساني واحد وبإمكانه أن يتتبع الخطوات الأساسية التي يخطوها العقل الآخر بذات الأتجاه مع ملاحظة أن التطور والتحديث، ليس قصوريا ولا محددا بعالم دون أخر ,أنه يعيش أساسيا داخل منحنيات التفكير ذاته حين يمنح الظرف المناسب، وأوله الحرية والتدريب والملائمة وتجنيبه شروط المكان وشروط الخصيصة الضيقة للواقع , التجربة الإنسانية واحدة في التكوين وواحدة بالهدف والغاية أما ما يشغلها ويمزق مساراتها هو فعل الأنا الفردية والجمعية والتي لا بد أن تحجم بحدود أحترام وجودها الطبيعي ليس أكثر .
مهمة الكاتب الحداثوي والمتوافق مع غايات التطور والمنسجم مع روحية وإرادة الارتقاء هنا تتحدد من خلال وعي الوعي المستجد والمتجدد ,وعي بقدرة الفكر والثقافة والمعرفة من أنها أدوات صنع الإنسان الجديد والمناهج المعبرة عن إرادة الحياة بكل ما تعني كلمة حياة من دلالات الحركة والتطور والبحث عن محالات الحرية الإنسانية في أن تكون أساس إرادة الإنسان القابل للترقي، هي ذات الإرادة التي تصنع النصر على الذات وعلى الممكن وعلى الواقع الذي يرفض مغادرة الزمن التأريخي المأسور والمأزوم بالتراث وتحت عناوين الإصالة الزائفة .
لقد أنتجت الكثير من الأمم التي سبقتنا عياراتها الخاصة ومقاسات العامة في توصيف الجديد والحداثي ونجحت في أن تتجاوز إشكالية التأريخ والتراث بوعيها، أن لا التأريخ وحده قادر أن ينفذها من براثن التخلف والجمود ولا التراث بكل ما فيه من قوة أستطاع أن يقدم نموذج جديد للحداثة الفكرية أو يؤسس لما بعد التأصيل الفكري المرتبط بالتاريخ فقط وليس بالوعي الوجودي , الوعي هو من ساهم وجدد ركائز ومفاهيم الرؤى مستفيدا من كل الإرث الإنساني ومتفاعلا مع إرادة الحياة الحرة للمجتمعات، وبدون هذه الوقائع لم يكن بالإمكان لا للمجتمع الأوربي خاصة ولا الغربي عموما أن يلتقط النقاط الأهم والضرورية في متابعة عصر التنوير وما تلاه من أزمنة وعصور الحداثة وما بعد بعد الحداثة، والتي نحن اليوم نقف على أعتاب عصر الأفتراضية الحر , عصر تتداخل فيه الحقائق مع الخيال واليقين مع الشك وصولا لفكرة أن الوجود محض إحساس وليس كما كان يتصوره البعض أنه المادة الفاعلة التي لا تفنى ولا تستحدث , بل عصر الوقائع اللا نهائية في كل شيء في التصور والتحول والتطور .
السؤال الذي يتبادر للذهن دوما ما هي الأدوات والمناهج التي تمكننا من تجاوز حالة الواقع والممكن نحو الإبداع التجديدي والحداثة الفكرية ؟, والسؤال الأخر من هي الجهة أو الوجهة التي لها حق التوصيف والتقرير والفرز ما بين الأفكار وتصنيفها طبقا للمعايير المقترحة ؟, الأكيد أن المؤسسة الثقافية بشقيها الإبداعية الخلاقة والنقدية العملية هما من يمكنهم وعبر طرح تصورات ورؤى ومفاهيم تتميز بقدرتها على تحريك الفكر والخروج به من دائرة المغلق الواقعي عبر سلسلة من الأفتراضات والتصورات النظرية , والتي هي بدورها تدخل في صراع من أجل البقاء صراع متعادل وتنافسي ومجرد تنتصر فيه فقط الرؤى والنظريات التي تقوى على مسايرة قوانين أستحقاقات الزمن .
أما السؤال الأخر الفكر هو من يقرر وهو الذي يؤسس لمعايير التنافس الإبداعي كما في الحالة التي سبقت لا وصاية على الفكر وإحدى أم إشكاليات التطور هو حصر المعرفة والأفكار في سجون الجهات والتخصصات والأطر المحددة بقوالب , الفكر الحر الذي ينطلق في سماء الإبداع المتجدد ليس رهين قوانين وقواعد تحكمها وتطبقها مؤسسات أو هيئات , الفكر الحداثي فكر للإنسان وهو الذي يقود حاله من خلال وعيه لا وعي خارجي عنه , لذا قيل أن الحداثة وما بعدها خارجة عن الذات العاقلة وقوانين الإنتساب لأنها تنتمي لمفهومها الخاص وتتحرر دوما من الخارج الذي يعني لها الأسر في مفاهيم معدة سلفا , الفكر الحداثي متحرر لأن خياره الأوحد حرية الإنسان في أن يكون منتج للمعرفة بدون تصنيف أي حر في أنتاجه كما هو في ما يتلقى أو يستقبل .
في ظل تنامي الإبداع في التفكير والإبداع في النتاج المعرفي وخاصة المجسد منه بالكتابة أو اللون إلى حد ما وعموم الفنون سنشهد في المستقبل القريب ظاهرة قد لا تكون جديدة بمعنى أنها غير موجوده ولكن نشير إلى تعاظمها من كونها ظاهرة إلى أن تتحول إلى نسق ونمط عام لكل النتاج الفكري والمعرفي وهي حالة إنعدام الحدود بين الأنماط الفكرية والأدبية والفنية , وأول ما ستظهر بشكل حاد وظاهر في النصوص الأدبية بعدما وجدت لها مكانا مهما في الإبداع الفني التشكيلي في الكثير من النتاجات الحالية والتي تعمق هذا الحدس, إن قيام فكرة تحرير العقل من حدود الواقع والممكن سيعني أيضا تخليص النمط الإبداعي من القياسات الجاهزة والمدارس النمطية , وهذا ما يمنح الفكر الجديد صفة التنوع والخروج من ثياب الأزياء الرسمية الملازمة إلى موديلات حرة ومتحررة همها ما تقدم للناس وليس ما يشتهي الناس أن يروه أو تعودوا عليه .
المشكلة التي تواجهنا كشرقيين تحديدا وعرب تخصيصا أننا لا نهضم فكرة التحرر ولا نرحب بالخروج من القيم الأدبية والتقاليد الفكرية لأننا لا ننتمي لتيار التحرر ونخاف الضياع وسط موجة تحتاج لجهود عقول جبارة قادرة على التفكير السريع في خيارات الفرز والتقرير والمبادرة , لذا لا يمكن أن نقبل بأي نتاج فكري أدبي فني خارج إطار ما هو مؤسساتي أو مصنف ونعتبره بدعة لا تستحق المتابعة , مع أن البدعة في الفهم الصحيح هو الخروج عن المألوف والواقعي والمصنم في العقول , مشكلتنا أيضا أننا مجرد أن نشعر أن الأخر البعيد قبل ورحب ونظر للبدعة نتحول وبدرجة مئة وثمانون درجة للجهة المعاكسة ونبدأ بإعادة صب الأفكار ولوكها وتضمينها وتخميسها وتشطيرها وكأننا نحن من أكتشف النجوم البعيدة .
واحدة من معوقات العمل الإبداعي العربي فكرة الخوف المتأصلة بالذات العقلية العربية خاصة عقدة الحلاج التي تركت وغيرها خطوط حافظت على وجودها ببقاء الفكر المحافظ سيد الواقع الحضاري وبدون منافسة , حتى الأفكار التحررية التي قادها البعض لم تنجح في تخليص أو فسح المجال للعقل العربي أن يتحرر من الموروث الدموي والقهري الذي مورس ضد العقل مرة باسم الدين ومرة باسم الاخلاق ولا الدين ولا الاخلاق كانت مرعية حين مورس التغييب والتجهيل النوعي بحق الثقافة والفكر والمعرفة , لذا لا يمكننا ابدا أن نتحرى عن أفكار حرة أصيلة أو نبتدعها دون أن تشخص أمامنا المشانق والسيوف والدماء ورائحة السجون المرة .
مشكلة الحاكم العربي والسلطة مع الثقافة والفكر إشكالية متعدد الجوانب، ويشكل عنده هاجس بقاء ومواجهة دون أن يعرف حقيقة وقيمة الثقافة لأنه غير مؤهل ثقافيا، ولا مستعد لسماع الحوار بحكم نشأته الإعرابية وانصياعا للمقدمات الثقافية التي أسست له المجال ومنحته الشرعية , وقواعد التدين التي لا يخاف منها لأنه ضامن أنها في صفه بكل الأحوال , الحاكم والسلطة لا تخشى مخالفة القانون من شعبها أو التعدي على الحقوق بقدر ما تخشى أستنهاض الوعي وممارسة الحرية بها أي بالوعي ,يدعون كل شيء حينما تكون مصالحهم مع الدعوة ولكن حين تتضايق مصالحهم ووجودهم مع الفكر يصبح التضحية به أسهل القرارات وأبسطها .