شعب بين المطرقة والسندان 5/2


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6610 - 2020 / 7 / 5 - 01:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

2 - أنور السادات الرئيس (المؤمن)
رأينا في المقال سابق كيف أن عبد الناصر من جهته كديكتاتور مستبد، وواحد أحد لا شريك له في الحكم، لم يخضع لهيمنة الإخوان المتأسلمين، وتصدى بعنف لنهجهم السياسي، ولكنه في المقابل لجأ إلى الدين ليُكسِب سياسته الهوجاء شعبية وشرعية من نوع ما، أمَّا السادات فقد فضَّل الانحناء أمام الصحوة الإسلاموية المتنامية لدي الجماعات جميعها، فقلل من القيود على الإخوان المتأسلمين، وسمح لهم بنشر مجلة ”الدعوة“ الإسلاموية الشهرية التي ظلت تظهر بانتظام حتى سبتمبر 1981، رغم أنه لم يسمح بإعادة تأسيس الجماعة رسميًا، وبدأ يغازلهم ويتغزَّل في ديانتهم تدريجيًّا بإطلاق سراح المعتقلين منهم، وإغلاق معسكرات اعتقالهم، ومن ظل منهم خلف القضبان حصل على حريته في العفو الرئاسي العام في 1975.
لم يكن هذا وليد الصدفة ولكنه كان بتدبير مسبق ونيَّة مبيتة منذ زمن، فالكاتب البريطاني إدوارد مورتيمر يقول في كتابه ”الإيمان والقوة، سياسة الإسلام“: « في أول خطاب علني لعبد الناصر بعد هزيمته الساحقة على يد الإسرائيليين، طالبه السادات بأن يلعب الدين دورًا أكثر أهمية في المجتمع، وأن تلك الجملة جذبت (أزيرًا استنثنائيّا من التصفيق الحماسي من الجمهور المصري)»، أنظر:
Edward Mortimer: Faith and Power, the politics of Islam. New York : Random House, 1982, (p.64(
أمَّا الإخواني المتأسلم أستاذ الأمراض الجلدية الدكتور محمود جامع الذي انضم إلى الجماعة وعمره 16 سنة، وعمل في تنظيمها السري، وكان صديقًا للسادات، فقد روى في كتابه ”عرفت السادات“، قائلًا :« شعر السادات بأنّ صحة الرئيس عبد الناصر قد بدأت في التدهور، فحاول مبكراً، تحقيق مصالحة تاريخية مع الإخوان الذين كانوا في خصام وقطيعة كاملة مع الدولة، لكن هذه المصالحة لم تكتمل؛ لأن أمرها قد انكشف في وقت مبكر».
بينما الصحفي الشهير المنظِّر والمبرِّر لسياسة عبد الناصر الحمقاء محمد حسنين هيكل فقد رصد في كتاب «خريف الغضب»، الذي يعكس غضبه هو، كيفية ارتباط الإخوان بنظام السادات، قائلًا : «عندما رحل جمال عبدالناصر عن هذه الدنيا، وجاء أنور السادات إلى رئاسة الجمهورية، كان هناك جيل جديد تحت الأرض من الجماعات الدينية، كانت السجون قد صهرتهم وقوت استعدادهم للتضحية، ولم يكن إلهامهم هذه المرة من أفكار حسن البنا، الذي بدا لهم تاريخاً مضت أيامه، وإنما كان الأساتذة الجدد هم أبوالأعلى المودودي، الذي أصبح لهم إماماً، وسيد قطب الذي أصبح بالنسبة إليهم شهيداً، لقد دخلوا إلى إطار الفكر المطلق حيث لا مساومة ولا تعايش بين مجتمعين وعقيدتين، لم يعد أمامهم إلا الجاهلية أو الإسلام، وإلا حاكمية البشر تعترض الطريق أمام حاكمية الله».
واستطرد هيكل في خريف غضبه قائلا:« ومضت السنوات، والآن أصبح الإخوان المسلمون شأنهم شأن غيرهم من القوى في مصر، يدركون رغبة نظام السادات في التعاون مع العناصر الدينية، ووجد بعضهم رعاية خاصة من أحد الأصدقاء المقربين للرئيس، وهو المهندس عثمان أحمد عثمان... وبعد محاولة لاغتيال جمال عبدالناصر قام بها أحد أعضاء الجماعة، واجهت الجماعة أصعب ظروفها، وحكم بالإعدام على بعض قادتها، كما وضع في السجون عدد آخر منهم، وفر من استطاع إلى الخارج، ووجد بعضهم مجالاً فسيحاً في مشروعات عثمان أحمد عثمان الذي كانت ظروف التحول الاشتراكي في مصر قد جعلته يتوسع في نشاطه خارجها».
ويقول اللواء فؤاد علام الذي شغل مرتبة عالية في جهاز المباحث السياسية، وكان مسؤولاً عن ملف الجماعات الإسلاموية في كتابه ”الإخوان وأنا“:« إنهم (أي رجال المباحث) رصدوا زيارات نائب الرئيس عبد الناصر، السادات، وهو يذهب لمنزل الإخواني محمود جامع، ليلتقي بعدد من قادة الجماعة والرموز الإسلامية الآخر، بيد أنّ السادات كان يستقل سيارات مؤسسة الرئاسة».
عندما مات عبد الناصر في سبتمبر 1970، نعاه السادات واصفاً إياه بأنّه: ”رجل من أغلى الرجال، رجل من أشجع الرجال، رجل من أخلص الرجال“، وفي الوقت ذاته كان يعد العدة لبناء مجده على أنقاض هذا الأغلى والأشجع والأخلص الرجال، فما أن انتهى من نعيه حتى جلس على عرش مصر، وبدأ في إظهار نواياه التي دفنها في عقله طيلة ما يقرب من 10 سنوات. كانت هناك الكثير من العقبات الكأداء التي تعترض طريقه، فاعتزم أن يمهده بالتخلص من مراكز قوى نظام سلفه المتحالفة مع السوفييت، كي يخط بعدها مساره الجديد على أرض حرثها هو بيديه. بدأ العمل على الفور في البحث عن حلفاء جدد، يستطيع من خلالهم العمل على تثبيت سلطته في مواجهة الناصريين والاشتراكيين وغيرهم، وإيجاد مجال من السلطة لا يقل عن سلفه، بحيث يمكنه تنفيذ أجندته السياسية، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، وكانت جماعة «الإخوان المتأسلمين» أنذاك منهكة وممزقة ومهيضة الجناح، بل وعلى وشك إعلان الوفاة، نتيجة لما تعرضت له من ضربات قوية من قبل النظام الناصري، ولم يجدوا سوقاً رائجة لأفكارهم في مصر، مما أضطر معظم قياداتهم للهروب إلى الخارج، خاصة إلى مملكة آل سعود وإمارات الخليج، فيما أُلقِيَ بمن بقي منهم في السجون. إلَّا أن السادات بعدما تخلص من القيادات الناصرية فيما عرف بـ« ثورة التصحيح » في 15 مايو 1971، بدأ الاستعانة بهم، وأعطى لهم قبلة الحياة من جديد.
يقول جامع في كتابه: « بعد القضاء على مراكز القوى، فكر السادات في دعوة قيادات الإخوان الهاربة بالخارج، إلى العودة لمصر، وكانوا هم أيضاً على استعداد للتعاون معه، ذهبت أنا والتقيت ببعضهم في الخارج، بتكليف من السادات كان منهم: يوسف القرضاوي، وأحمد العسال، وسالم نجم، ...».
لقد كان السادات واعياً تماماً لحقيقة أن الإسلاموية هي التي يمكنها أن تشغل الفراغ الأيديولوجي الذي خلفته الاشتراكية الفاشلة لعبد الناصر. فشرع في تسخير تعاليم ونهج نبي الأسلمة لخدمة غاياته وأغراضه الخاصة، مضفياً بذلك الطابع الإسلاموي على المجتمع المصري والدولة بالتدريج. وكان شخصيًا في وضع جيد لتحقيق هذا الهدف نظرًا إلى أنه كأبناء الريف المصري، تعلم القراءة والكتابة في كُتَّاب القرية، وحفظ القرآن عن ظهر قلب. وكان قد حج إلى مكة مرات عديدة، ونُشِرت له صورٌ عديدة بلباس الإحرام، وكان يرتاد المساجد بدأب وانتظام، حيث تعمَّد وضع نفسه أمام الكاميرات وهو يصلي إلى جانب المصريين العاديين، لإظهار صوَرِه في الصحافة ووسائل الإعلام بأفضل رخصة دينية لدي المصريين حصريًا، هي “الزبيبة” التي تظهر على جبهته، وهي - لمن لا يعرف - عبارة عن مرض جلدي ناجم عن الاحتكاك الحادث بين مقدم الرأس وموضع السجود على الأرض.
بعد انتصاره الجزئي في حرب اكتوبر 1972 المتفق عليها سلفًا بينه وبين الأمريكان والإسرائيليين، تبنى السادات ما يسمَّى بسياسة الانفتاح، وتم بموجبها تغيير التوجه المالي للدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية والاقتصاد الحر، ولكن دون ضوابط، مما أدَّى إلى نمو رؤوس الأموال الصغيرة التي كانت موجودة في ظل النظام الاشتراكي الناصري، وتحولها لرؤوس أموال كبيرة، وظهور طبقة ثرية جديدة لم تكن موجودة قبل عام 1952، وحدوث تغيير في أنشطة العديد من المحلات التجارية، وانتشار مراكز التسوق الخاصة وبرزت أنشطة اقتصادية ومضاربات متعددة كانت محظورة في النظام الاشتراكي، إذ بدأت البلاد ما بين عامي 1974 و1985 في تلقي مزيدًا من دخل المصريين في الخارج، فقد هاجر في الحقبة الناصرية أكثر من 3 مليون مصري إلى منطقة الخليج ــ عمال بناء وفواعلية ومزارعون وميكانيكيون وسباكون وكهربائيون بالإضافة إلى المدرسين والمحاسبين ــ، ممَّا سمح لعائلاتهم بشراء السلع الكمالية وغيرها كالثلاجات وأجهزة التلفزيون وأجهزة تسجيل الصوت والفيديو والشقق والسيارات وغيرها. في ذلك الوقت قال السادات جملة شديدة الغباء هي:« اللي ما يغتنيش في عهدي مِش حيغتني أبدًا»، هذا الجملة اندلعت في نفوس المصريين كالنار في الهشيم، وأجَّجت فيها النهم الاستهلاكي ودفعت بهم إلى عمليات الغش والاحتيال والخديعة التي لم تسلم منها حتى الجماعات الإسلاموية نفسها بتواطؤ من الدولة ومشاهير رجال الدين (مثل شركات توظيف الأموال المدعومة من قبل الشيخ محمد متولي الشعراوي وغيره).
وفي خطوة منه لتهدئة الخواطر أعاد التعددية الحزبية التي ألغاها عبد الناصر (سميت: محاور) إلى البلاد مرة أخرى، إلَّا أنها عادت بصورة شكلية، وعديمة الفاعلية، حيث ظلت ضعيفة وواهية في ظل خضوع البلاد بكاملها لنظام الحزب الوحد بسبب هيمنة الحزب الوطني الديموقراطي على الحكم.
وكما دسَّ عبد الناصر (خوازيق) في صلب الحياة المصرية، قرر السادات في عام 1980 أن يضع أكبر خازوق لا يمكن إزالته بسهولة، وهو نص في الدستور الجديد، يقول: [إنّ الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأنّ الشريعة الإسلاموية مصدر رئيس من مصادر التشريع]، وتبنّى شعار: [دولة العلم والإيمان]، وأطلق على نفسه [الرئيس المؤمن]، وأضاف [محمد] إلى إسمه فاصبح [محمد أنور السادات]. في ذلك الوقت كان التدين الإجرامي قد بدأ يتاصاعد في مصر (كما في كثير من العالم الإسلاموي) برعاية ”الحماس التبشيري“ للوهابية القميئة التي تغذيها مملكة آل سعود وإمارات الخليج المتخلفة بفائض البترودولارت المتدفق علها بغزارة، نتيجة لصحوة حظر النفط في 1975 - 1974، فشاعت في مصر الذقون وزبيبات الصلاة بين الرجال وانتشر الحجاب بين النساء، وظهرت بكثرة البرامج الدينية على تليفزيون وراديو الدولة، وبدأ الدعاة الإسلامويون، من أمثال الشيخ محمد متولي الشعراوي، في البروز كرموز لثقافة التخدير المصرية الجديدة، وظهرت روايات ومسرحيات وكتب وبرامج خيال علمي شديدة الهذيان تتغنى بتسابيح الإسلاموية من قبل علمانيين سابقين، لا صلة لهم بالدين مثل د. مصطفى محمود، وخالد محمد خالد وغيرهما.
وعندما قرر الرئيس المؤمن إعفاء البنايات من الضريبة العقارية في حال تخصيص أحد أدوارها كمسجد للصلاة، انتعش نمو المساجد غير الخاضعة لسيطرة الدولة في الأحياء الشعبية والعشوائية، التي أصبحت معقلا للعمل الدعوي للجماعات الإسلاموية، فشهدت تلك المساجد حضورًا أكبر من المصلين والمتدينين، واعتلت أسطح العمارات القبيحة والمآذن الباسقة مكبرات الصوت النشاذ في جميع الاتجاهات لرفع الآذان والصلاة والتسابيح وقراءة القران، كما أمر السادات تليفزيون الدولة بقطع البرامح لنفس الشيء 5 مرات في اليوم، وبزيادة البرامج الدينية، والتسابيح وقراءة القرآن طوال اليوم.
وبذلك أصبحت الوسيلة الناجعة للاستيلاء على أراضي الدولة وأراضي الغير بدون وجه حق هي بناء مسجد في تلك الأرض، أو بناء عليها عمارة بها مسجد أو بناء مسجد على سطح عمارة تقام عليها خلسة!، دون أن تفتح الدولة فمها بكلمة واحدة. كذلك منع الرئيس المؤمن حكام الأقاليم من بيع الخمور إلا في الأماكن التي تقدمها للسياح الأجانب. وراح الفن السينمائي يتجه إلى محاولة تجميل صورة الإسلامويين عبر أفلام أظهرت تنكيل الشرطة بهم في عهد البكباشي عبد الناصر مثل فيلم ”الكرنك“ و”إحنا بتوع الأتوبيس“ وغيرهما.
ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث بدأت تتزايد الصراعات والاعتداءات الطائفية بالقول والفعل على سكان مصر الأصليين من الأقلية القبطية، وسمعنا لأول مرة كذلك انتقاد الإسلامويين لمشاركة المصريين بشتى عقائدهم في عيد الربيع المصري ”شم النسيم“ الذي تعود أصوله إلى أجدادهم القدامى، قبل التأسلم، على اعتبار أنه "وسيلة لتدمير الإسلام في مصر." [راجع: جريدة الأهرام في 8 سبتمبر 1981].
اعتبر السادات الإسلاموية، وجماعاتهما التي كانت تتكاثر كالذباب في حضانة البترودولارات المتسعودة والخليجية، على أنها ثقل اجتماعي موازن ومفيد لدفع التنظيمات اليسارية إلى الأرض، وكبت معارضيه من الماركسيين واليساريين الاشتراكيين! ورغم ذلك، تصادم الإسلامويون معه بسبب دعمه لحقوق المرأة ومعارضته للحجاب الإلزامي، كما عارضوه بوجه خاص على ما أسموه "السلام المخزي مع اليهود" المعروف بمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل.
وبحلول بداية الثمانينيّات إضطر النظام الساداتي المتدين للانقلاب على الإسلامويين، ففي فبراير 1981، اكتشفت المخابرات خطة لاغتيال السادات من قبل جماعة الجهاد التي تعتمد على العمل السري والانتقائي، وفي يونيو 1981 حدث قتال طائفي عنيف بينهم وبين الأقباط في حي الزاوية الحمراء الفقير في القاهرة، فأسرعت الدولة إلى حل الجماعات الإسلاموية واعتقال قادتها، ومحاولة تدمير بنيتها التحتية. وفي سبتمبر من نفس العام أمر السادات بالقبض على 1531 من أعضاء الجماعة البارزين، الذين لم يتمكنوا من الهرب خارج البلاد، ومن الشخصيات العامة المعارضة، والمثقفين والناشطين من جميع الإتجاهات الفكرية. وقام بتحديد إقامة البابا ”شنودة“ في الدير بوادي النطرون. وكان البابا قد سجل من قبل رفضه لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وأكد ذلك بأن قرر عدم الذهاب مع السادات في زيارته إلى إسرائيل عام 1977.
لقد غاب عن السادات وهو يستدعي ذكريات صداقته القديمة مع حسن البنا وإخوانه المتأسلمين، عمق التغيرات التي جرت في تيار الإسلاموية السياسي المدعوم بأموال النفط وعمليات الخداع الديني، التي جعلت أتباعه أكثر عنفاً ورغبة في سفك الدماء، بعدما سيطرت عليهم أفكار التكفير ودوافع التجهيل للمجتمع والحاكمية بكتاب الله وسنة رسوله. ومن ناحيتها زادت من دواعي التكفير والتجهيل سياسات الانفتاح الساداتية بكل آثارها الاقتصادية والاجتماعية، وظهور النفوذ الأجنبي بما يمثله من كفر، وسيادة قيم المجتمع الاستهلاكي وتمادي ظواهر الانحلال الأخلاقي والسلوكي فيه. كل هذا وغيره كان من أهم العوامل المستجدة والقوية التي ألهبت المشاعر الدينية للجماعات الاسلاموية وأقنعتهم بعدالة أهدافهم التدميرية.
وخلال عرض عسكري أقيم بمدينة نصر بالقاهرة في 6 أكتوبر 1981 وأثناء احتفال السادات بانتصاره في حرب أكتوبر 1973، إختلطت صرخاته: « مش معقول... مش معقول... مش معقول» مع صوت رصاصات أطلقها عليه الملازم أول خالد الإسلامبولي الذي تم إعدامه رمياً بالرصاص لاحقاً في أبريل 1982.
كانت هذه آخر كلمتين قالهما السادات في حياته، كلمتان تعكسان حجم الصدمة التي تلقاها مع الرصاصات التي سكنت في جسده. لم يكن يتصور أن الرصاص قادر على الوصول إليه في يوم عرسه، ولا شك أن صدمته كانت ستتضاعف لو امتد عمره قليلا ليعرف أن من مد يد القتل إليه كان من الجماعات الإسلاموية التي تحالف معها، وفسح لها المجال كي تعيث فسادًا وانحطاطًا وتخلفًا في ربوع الوطن. إنَّهم أبناؤه الذين أطلق سراحهم من السجون وأواهم وفتح لهم شارع السياسة والمساجد ووسائل الإعلام المختلفة وأماكن العمل والجامعات، سمح لهم بتجهيل المجتمع وتلويث الفكر وإمراض القلوب والنفوس، وحماهم من الملاحقات الأمنية، لم يكن يعرف أنَّ من يأمن للأفاعي فلن ينجو من لدغة قاتلة.
مؤخرًا ظهرت وثائق سرية بريطانية، تكشف النقاب عن أن السادات كان ينوي فعلا التخلي بإرادته عن الرئاسة عقب هذا الاحتفال، غير أن اغتياله عجل بالنهاية الدرامية له ولحكمه. كما كشفت الوثائق، التي حصلت BBC عليها، عن أن المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع حينها، قد ضلل الأمريكيين بشأن مصير السادات بعد حادث المنصة الشهير. حيث قُتل السادات وسط وزرائه وقادة الجيش، خلال عرض عسكري سنوي. وحكم بالإعدام بعدها على عدد من المتشددين الإسلاميين بينهم عسكريون شاركوا في التخطيط لعملية الاغتيال وتنفيذها!.
وتعلق الـBBC قائلة: «إن بعض أفراد أسرة الرئيس الراحل لايزالون يحمِّلون الجيش وحسني مبارك، نائبه الذي أصبح لاحقا رئيسا، المسؤولية عن مقتله. فقد حكم على طلعت السادات، ابن شقيق الرئيس الراحل، في عام 2006 بالسجن لمدة سنة لوصفه اغتيال السادات بأنه كان مؤامرة دولية شارك فيها حرسه الخاص وبعض قادة القوات المسلحة، فحوكم طلعت، الذي توفي أواخر عام 2011، أمام محكمة عسكرية بتهمة ترويج شائعات كاذبة وإهانة القوات المسلحة المصرية. وبعد الانتفاضة الشعبية في 25 يناير 2011، التي أطاحت بالرئيس مبارك، اتهمت السيدة رقية، ابنة السادات، الرئيس المخلوع بالمسؤولية عن اغتيال أبيها، قائلة: « إنه كان نائبه والمسؤول عن أمنه»». أنظر:
وثائق سرية بريطانية: لولا الاغتيال لتخلى السادات بإرادته عن رئاسة مصر
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast-43833019
ولأن العسكر مازالوا يمسكون الحكم بأيديهم وأسلحتهم في مصر، فسوف تظل حقيقة اغتيال السادات طي الكتمان حتى يرغمون في يوم ما على ترك الحكم والعودة إلى ثكناتهم لممارسة عملهم الحقيقي.
يقول المثل (لكل حصان كبوة)، ولكن قد تكون الكبوة قاتلة، فالسادات ساعدته جرأته لينقل البلاد من اشتراكية عبد الناصر الهزيلة إلى رأسمالية سائبة وسائلة وغير منضبطة، ويحاول إعادة جزء من كرامة المصريين المهدورة جراء أفعال الناصرية الحمقاء، والتي ازدادت هدرا بعد هزيمته الساحقة، إلَّا أن تحالفه مع الفاشية الإسلاموية من أجل توسيع سيطرته وبسط نفوذه على المواطنين السذج والمتديين بالطبع والفاسدين بالفعل، أدَّى به إلى أن تلقَّى ضربة قاتلة في صدره.
لا شك في أن السادات برعونته وسوء تقديره وتحالفه الأهوج مع المتأسلمين أضاف إلى البلاد مزيدًا من الانحطاط والفساد والتخلف.
وترك لخليفته محمد حسني مبارك كمًّا هائلًا من المشاكل، كي ”يتسلي“ بها، دون العمل على حلها.