العنصر الجديد


عصام شكري
الحوار المتمدن - العدد: 6608 - 2020 / 7 / 2 - 19:34
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     

في مقالة سابقة اشرت الى ان مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي الجديد قد تم التوافق على تنصيبه للاجابة على ثلاثة ازمات خانقة تعصف بالطبقة البرجوازية في العراق؛ الوضع الاقتصادي الكارثي، انهيار الدولة، وضغط الحركة الثورية.

البرجوازية العالمية

منذ 17 سنة والبرجوازية العالمية تحاول مساعدة البرجوازية العراقية التي نصبتها ودبجت لها موديل للحكم ان تشكل دولة متعارفة وطبيعية لتتمكن من الاسهام في تطوير نظام السوق الحرة ونيل حصة منه وربطها بالسوق العالمي. وكان من شروط ذلك هو قدرة النظام الذي شكلوه على خلق استقرار وعدم التحول الى بؤرة معادية للغرب. منذ 17 سنة، دون جدوى. فما قامت به امريكا في العراق ادى الى دوامة هائلة بلعت الاخضر واليابس وما تزال.

اليوم يعرف الجميع ان النظام الذي نصبته امريكا في العراق هو نظام كيانات وقبائل وميليشيات ومجاميع متصارعة ومتنافسة على النهب والسلب والنفوذ والبلطجة وعلى الكراسي والحصص. كما ان كل برجوازي يدرك ان هذا لا يمكن ان يجيب على اي شئ وان ما حدث "كان خطأ" كما قالوا ويريدون تصليحه. وقد قاموا بعد انسحاب الجيش الامريكي من العراق بتهديد السلطة بضرورة تغيير مسارها والابتعاد عن ايران ولكن من بعيد ودون تدخل مباشر. التدهور الذي سببته الحرب على العراق وسياسات المحافظين الجدد قد ادت الى تغيير في التوازن الجيو سياسي في المنطقة لغير صالح الغرب. ادى هذا الى تصاعد في القومية الى حد الفاشية واصبح كل رئيس دولة في هذه المنطقة المنكوبة، فاشستي صغير يهدد البلدان الاخرى ويقصف القرى والمدن ويتصرف وهو يعرف ان امريكا قد كسرت ارجلها في المنطقة. وفي خضم ذلك ما تزال مسألة ايجاد دولة طبيعية في العراق لم تجد جوابا. العراق في قلب الدوامة. وعدا عن الدوامة التي تسحب المجتمع الى الاسفل، فان فاشست تركيا من جهة وايران من جهة اخرى لا يكفون عن التنافس الاقليمي بظل غياب "الهر" الامريكي.

ولكن الهر البرتقالي الامريكي غارق هو الاخر في مشاكله العويصة؛ فشل داخلي وازمة خانقة وانهيار للمكانة الدولية لامريكا وبدأ احتجاجات لم يسبق لها مثيل في تأريخ امريكا الحديث بعد قتل الشاب الاسود من قبل احد افراد الشرطة الفاشست. ولكن امريكا تعرف انها لا تستطيع ان "تكون عظيمة" دون ان تثبت مواقعها الاقتصادية ونفوذها السياسي في كل مكان وخاصة الشرق الاوسط وتسعى الى ابعاد نفوذ الجمهورية الاسلامية الايرانية وقطع ايدي الميليشيات التي تجر الاوضاع في العراق نحو المزيد من التشرذم والتفتت.

ان قيام مجموعة من داخل النظام بمهمة تصحيح الاوضاع وتشكيل دولة في العراق بحدود دنيا من الطبيعية normalcy قد اصبحت مهمة ملحة في الوقت الراهن بظل تدهور وضع الطبقة البرجوازية في العراق وسقوط مهول لمكانة الاسلام السياسي. ان امريكا تدرك ذلك جيدا ولكن فقط على ايدي اشخاص من داخل النظام. ولكن من هؤلاء؟

ان القوميين العرب من رجال المخابرات والامن ليس لديهم شعبية في العراق. لديهم تأريخ ملطخ بالدم. اصبحوا مكروهين ولا يمكن تلميعهم. دورة ذلك الصنف من القوميين العرب و "من المحيط للخليج" و"الفرس المجوس" و"تحرير فلسطين من النهر الى البحر.." لم تعد تجذب احد بل تثير السخرية. اذن من اين يأتى بقوميين اخرين موالين للغرب، اياديهم غير ملطخة بدماء الميليشيات، غير بعثيين، ولديهم قدرة على استقطاب الجماهير شعبويا (وهي الفقاعة الصابونية الجديدة في كل العالم – اقرأوا بوليسارو واردوكان...)؟. المؤسسة العسكرية واجهزة القمع والمخابرات هي الرافد لهذه الكوادر. ولكن مع قليلا من البولش polish يمكن تقديم طاقم قومي يستطيع ان يقوم بمهمة تشكيل دولة بعد 17 سنة. ممكن؟. انقلاب داخلي ناعم، ليس ببدلات المخابرات الزيتونية الكريهة، ليس بالشوارب الكثة والوجوه المتجهمة المخيفة، ليس بشعارات تسقط الصهيونية والامبريالية، ليس بانقلابات دبابات تموزية بل بقفازات ناعمة. (coup d état) ضد نموذج امريكا نفسه ممكن؟.

البرجوازية العراقية

ان تلاقي مصلحة البرجوازية الامريكية في تشكيل دولة في العراق يستطيع ان يقاوم المد الايراني الاسلامي يلتقي مع مصلحة البرجوازية في العراق في انقاذ نفسها من الهلاك؛ ليس بسبب كورونا بل بسبب النقمة الجماهيرية العارمة؛ نقمة واسعة واحتقان وثورة كامنة متحفزة للانقضاض. فلم ينس احد للحظة دماء شهداء التحرير بعد واستبعد ان ينسوا. الجرح عميق وغائر وان قرار الاقتصاص من القتلة قد اتخذ. الجماهير لا تنسى ضحاياها بسهولة.

ان من يظن ان الكاظمي ومعه "الجنرال" الساعدي مجرد بيدق للبرجوازية الامريكية هدفه تحدي النفوذ الايراني في العراق خاطئ. ان هذا التصور يتناسى ان البرجوازية العراقية نفسها تحت طائلة السؤال اليوم وبحاجة الى منقذ. انها ترى تهاوي الاسلام السياسي امام ناظريها وهي تواجه مسألة وجود بعد ان طرق المتظاهرون بوابات المنطقة الخضراء في اكثر من منعطف في الثورة. الكاظمي اذن حصان طروادة لكامل الطبقة البرجوازية العراقية (بما فيهم الاسلام السياسي الشيعي الذي سيخلع عماماته فورا ان كان هناك امل بالبقاء...كما يفعل ببراعة اليوم عمار الحكيم ومقتدى الصدر وغيرهم من "الوطنيين"...). هيروكيولس العراق سينقذ لا الجماهير الثائرة من بطش الميليشيات، ولا نظام امريكا الفاشل والعفن، بل نفس البرجوازية التي يمثلها. ان عدم رؤية ان البرجوازية نفسها تريد ان تبعد نفسها عن نموذج امريكا الميليشياتي التفصيصي هو عجز في رؤية تأثير ثورة اكتوبر على مسار الاحداث في العراق.

ومن منطلق ادراك اهمية احداث التغيير السياسي من اجل انقاذ كامل الطبقة البرجوازية من الغرق وتشكيل دولة متعارفة، يصبح فهم الموضوع ادق واسهل. ان عدم فهم ان الكاظمي يمثل المصالح العمومية للطبقة البرجوازية ويؤشر الى طود انقاذها هو فهم لا ماركسي. وفي نفس السياق فان الظن بان الكاظمي يقوم بمسرحيات لخداع الجماهير هو فهم غرير لانه يعجز عن رؤية ان الكاظمي قد اتى باجماع حتى ميليشياتي تحديدا لتنفيذ هذه الاجندة واحداث هذ التغيير واعادة ما يسمى "هيبة الدولة". ان شعار الكاظمي غير المعلن هو "اخرسوا ايها الاوباش – ستغرقوننا جميعا" هو تعبير عن المهمة التي اتى لينفذها بكل صرامة. صرامة من على وشك ان يغرق.

لقد قالت جماهير العراق كلمتها بشكل واضح وعبرت عن ارادتها بازالة هذه الطبقة المتعفنة وطالبت بدولة بديلة علمانية - مدنية لا دينية ولا قومية وبرحيل الميليشيات والعصابات والمافيات وبتغيير كامل التوجه نحو المساواة والحرية والرفاه والمواطنة. الجماهير (لا اليسار العراقي) تعرف ان البرجوازية جلبت الكاظمي لاحداث تغيير لادامة مشروعية بقاءها وتعرف ان البرجوازية متخصصة في الخداع والمناورة واللعب ولديها الوسائل لذلك تماما كما ان لديها الوسائل للقتل والاغتيالات وغسل الادمغة بالجوامع وهراء رجال الدين والشيوخ وابواق الاعلام المأجور. ولكن الجماهير تتطلع وترى لتحدد موقفها. وان خرجت بشكل محدود لتأييد هذا الجناح البرجوازي الانقاذي فهي تريد ان تعبر عن نقمتها من دولة الميليشيات والاسلام السياسي والموديل الامريكي الموزاييكي وليس تعبيرا عن حب الكاظمي الذي لم تر منه اي شئ.

العنصر الجديد

وبنظري فان العنصر الجديد الذي دخل المعادلة والذي علينا ان ندركه بعمق هو مكانة ونفوذ قوى الثورة العراقية الشبابية الحداثية الانسانية والعلمانية – المساواتية ودورها المفصلي الذي لعبته لا على مدار الاشهر القليلة الماضية بل منذ اندلاعها في شباط 2011 في ادامة الضغط على الطبقة البرجوازية ونظامها المتعفن، وصولا الى ادراك ان لا حل سوى الانقلاب على النظام وتشكيل اخر لا يقوم على التكتلات والمحاصصات والميليشيات والاسلام والاديان والطوائف بل الى المواطنة والمساواة والحرية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة والحداثة وضرب الدين وارجاعه الى الكهوف والتوجه نحو بناء مجتمع مدني يعيد للفرد انسانيته السليبة.

ادراك الجماهير الثائرة لدورها اليوم (حتى بظل الوضع الصحي الحالي) في خلق توازن اجتماعي جديد خارج اطار الثنائية المزيفة التي تحاول البرجوازية واحزابها ترسيخها (ومنها بعض قوى اليسار) اي ثنائية الكاظمي المنقذ- الميليشيات المجرمة، هو ما يجب ان يشكل بوصلتها لفهم محاولة الطبقة البرجوازية انقاذ نفسها من الانهيار واعادة اصطفاف قواها لكي تستطيع ان تمنح نفسها مشروعية جديدة ولحظة وجود جديدة. انها بالنسبة للبرجوازية معركة مصير. قد تكون المحاولة الاخيرة للبقاء، او لا تكون.

القرار يبقى بيد العنصر الجديد؛ بيد اكتوبر التحرير.