القراءة في زمن الكورونا


كاظم الموسوي
الحوار المتمدن - العدد: 6588 - 2020 / 6 / 9 - 01:53
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات     

حجرت جائحة الكورونا الناس صحيا في بيوتهم، رغبة او اكراها، وقاية او تحسبا، خوفا او رعبا من مكروه غير محسوب. وفي اجواء الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي ومنع الاختلاط والتجمع والزيارات وممارسة العادات المعروفة في اللقاءات والاجتماعات والسفر والتجوال والسياحة والانتقال، واستراتيجية الغلق التام لكل المؤسسات العامة والخاصة، لم يعد امام الناس الا الركون والاستماع الى قرارات الحكومات وبيانات السلطات، واستقبال اخبار الموت والوفيات. فالفاجعة كبيرة والمصيبة عظيمة. ولم يبق للناس عموما الا البقاء في البيوت ومشاهدة التلفزيون وقراءة الكتب. فضلا عن واجبات المنزل اليومية، مشاركة ومنازلة ، تلهية وتزجية وقت، قضاء او برغبة او لامر لا بديل عنه. ومن لديه حديقة ملحقة بداره فله متنفس اخر يقضي بعض وقت فيه، او ورش اعمال، وفرص انجاز لهوايات او رغبات او ابداعات تعوضه عن ما تتركه الالتزامات وتتطلبه المحذورات. وفي كل الاحوال هذه عموميات، تشمل الناس جميعا وقد لا تعجب البعض او لا تسره او لا تنطبق عليه، فلكل قاعدة شواذ، اينما كنت او ذهبت او اتجهت.
قبيل ان تبدا هذه الاجراءات وتغزو الكورونا العالم توقف عندي صحن الستلايت دون اسباب، تعطل وتماهلت في البحث عن من يصلحه حتى بدات الموانع والاغلاقات، ورغم ذلك حمدت الله اني تخلصت من شاشات الفضائيات العربية وبرامجها التي تنشر الفايروسات الاخرى برضاها او بدفع من يقرر لها، وهو امر معروف قبل الوصول الى الكوفيد 19، او بمعنى ما قبل الوصول الى هذا الرقم، نشرت كل الارقام السابقة واحدثت ما احدثت من فتن وضحايا وحروب ونزاعات وهدرت مليارات الدولارات الامريكية في الوطن العربي ولم تتمكن من القبض على "الصيدة"!، واستمرت تحشد راياتها وتحرض اتباعها وتتخادم مع الاعداء علانية دون وخزة ضمير او هزة شارب لها. وفي حكم التاريخ انتدب الطغاة الغزاة، وتركوهم يجتاحون ارض العرب من المحيط الى الخليج، وكما استعان الطغاة بالغزاة، فتح الغزاة الارض للبغاة ليكفوا لهم ما سعوا اليه ويستبيحوا الارض والعرض والحجر والشجر. وهكذا وصلنا الى الكوفيد 19 والله اعلم ماذا بعده.
في هذه الاجواء والحظر والتوقي والحرص الزائد عن حده استعين بالقراءة، طبا ودواء، عونا وشفاء، فهي السلوى والمعرفة والراحة والانسجام، وهي فرصة العمل او الطريق اليه، وهي العادة والتقليد.. فرفوف الكتب حولي، وكتل الكتب مصففة امامي، تحت كل طاولة، وتحت الدرج، ومحيط التلفاز والمكتب وعلى طاولة الغداء وفي غرفة الجلوس. وليس هذا وحسب، بل امتلا جهاز الحاسوب والتابلويد من كتب إلكترونية يسهل الان تحميلها وخزنها وجعلها ميسرة استطيع الاطلاع عليها في اي مكان وزمان. وتلك من نعم التقدم الالكتروني والتقني والانترنت.
وحين تتوفر كل هذه الامور، مكتبات جيدة موزعة على رفوف او محمولة في اجهزة متقدمة، وتختار ما ترغب وتشاء وتتسابق معك العناوين والاسماء، فانت بخير في هذا الشأن على الاقل. وتحتاج اليها حين لا تكون في حجز وحظر وابتعاد، فكيف إذا ابتليت ولا سبيل اخر امامك. ويحاصرك مع ما سبق جهاز الهاتف الذكي وبرامج التواصل الالكتروني والاجتماعي ويشاركونك في مجموعات وروابط ويتنفس بعض فيها اناء الليل والنهار؟!.
رغم كل ما يتيسر فهناك ما يقف أمامك حائلا ويضعك في موضع الحرج والشكوى والحسرة على الايام والعمر ورسائله التي لا مفر منها.. وسنوات العمر في سباق دائم تخطو دون توقف وانتظار، او تفرج واستفسار.. وكل يوم ولا اقول دقيقة او ساعة يمر ويزيد في العمر رقمه وتاريخه في التقويم الجاري ياخذ معه ما تمتعت به قبله او تمكنت فيه فتغدو الامور ليست كما كانت او لن تكون كما تريد ان تكون، فلها حساباتها ولها ميزانها وقدراتها، ومهما تغالب المرء او تجاوز او تمادى فثمة ما يردعه ويعيده الى مستقره راضيا مرضيا.
وفي موضوعنا تاخذ العيون موقعها، والبصر مركزه، ومثل غيرها من الحواس واجزاء الجسم البشري، تكل وتتعب وترافق الطبيب والعلاج والعمليات والمنع والمراقبة، فكيف يحصل ما ترغب والاوضاع تسير خلافه؟، وهي ادوات ووسائل انتاجنا نحن معشر القراء والكتاب في هذه الحالة.. النظارات الطبية تغيرت كل فترة وتغيرت قياساتها وانواعها، والقطرات تعددت واختلفت اوقاتها، والكتب تنتظر وتصبر وما عليك الا ان تركن كما ركنت للكوفيد والكورونا وما سياتي. وبعد كل هذا فلا الكوفيد 19 ولا غيره يحسم الأمر في القراءة، أو يقرر لك ما تفكر به، بل العيون والنظر والعمر وما حمل من تعب السنوات ونصب الايام وجهد الليالي. وتلك لعمري حاجة ونعمة لا تعرف إلا في وقت حاجتها وصعوبة ظروفها وقسوة الزمن عليها. في فيلم قصير فاز بجائزة أحسن فلم قصير في العالم، عرض لقصة مثيرة، وذات عبرة إنسانية ودرس للحياة، هذا الفيلم عرض اول ثلاث دقائق مشهدا مركزا الكاميرا على سقف غرفة ابيض خاليا من اي شيء، دون أية حركة اخرى، فمل بعض المشاهدين وتذمر اخرون، ومن ثم استمر ثلاث دقائق أخرى في اللقطة نفسها، فزاد في الملل والتذمر والانزعاج، وهياج الخروج وترك متابعة المشاهدة، وفجأة وقبل أن يهمّ الأغلبية بالانصراف، تحركت عدسة الكاميرا رويدا رويدا على حائط خالٍ من أي تفاصيل أيضا، حتى وصلت للأسفل نحو الأرض، هناك ظهر طفل ملقى على سرير. يبدو أنه معاق كليا بسبب انقطاع الحبل الشوكي في جسده الصغير. وانتقلت الكاميرا شيئا فشيئا إلى جانب سرير المعاق، ليظهر كرسي متحرك بدون ظهر .ثم انتقلت الكاميرا إلى موقع الملل والضجر إلى السقف مرة أخرى، لتظهر جملة: «لقد عرضنا عليكم 8 دقائق فقط من النشاط اليومي لهذا الطفل، فقط 8 دقائق من المنظر الذي يشاهده هذا الطفل المعاق في جميع ساعات حياته، وأنتم تذمرتم ولم تصبروا لست دقائق، ولم تتحملوا مشاهدته!!».. هذا الفيلم القصير استحق الجائزة واكثر لأنه ذكّر مشاهده والان القاريء بنعم يغفل المرء عنها ولا يحمد عليها، ولأنه بليغ المعنى والقصد، ولأنه واقع لا يمكن نكرانه أو التهرب منه، حين يحدث أو يكون. كم تذكرنا مثل هذه القصة بالقراءة في زمن الكورونا، أو بالعكس كم اعطتنا الكورونا زمنا للتفكير بمثل هذه القصة والفرصة للتأمل والتفكير والإبداع والسباق مع الزمن، فدورته مرة واحدة الى الامام ولا تعود ابدا الى الوراء.