عن الحريات الأكاديمية في - سورية الأسد -


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 6586 - 2020 / 6 / 7 - 14:40
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي     

الحديث عن الحريات الأكاديمية في النسق السياسي السوري ذو شجون كثيرة، حيث تتعرض مؤسسات التعليم العالي إلى التوظيف السياسي والتأطير الأيديولوجي، منذ انقلاب البعث في العام 1963. وقد جاء العقاب المسلط مؤخرًا على أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، زياد زنبوعة، ليذكّر بغياب هذه الحريات، حيث كانت "جمعية العلوم الاقتصادية" قد دعته، في 17 كانون الثاني/يناير 2017، لإلقاء محاضرة عن تداعيات الأزمة على الطبقة الوسطى، فأدلى برأيه العلمي الذي انطوى على نقد السياسات الاقتصادية للنظام، التي ألحقت الضرر بهذه الطبقة. وحينها تم تحويله إلى مجلس تأديب، ومن ثم أحيل إلى القضاء الجزائي، بناء على طلب رئاسة الجامعة، لارتكابه "جريمة إضعاف الشعور القومي" والمساس بـ "هيبة الدولة"، وحين شمله العفو الأخير في العام 2019 حرَّكت دعوى الحق العام بحقه، باعتباره "أخلَّ بواجباته الوظيفية"، فقرر مجلس التأديب العقوبة السابقة "النقل التأديبي خارج الجامعة".
وفي السابق كان عميد كلية الاقتصاد عارف دليلة قد اعتقل في 9 أيلول/سبتمبر 2001، بعد محاضرة له تحت عنوان "الاقتصاد السوري: مشكلات وحلول"، في منتدى جمال الأتاسي بدمشق. وحوكم أمام محكمة أمن الدولة بتهم: إثارة النعرات الطائفية، والدعوة إلى عصيان مسلح، ومنع السلطات من ممارسة مهامها، ونشر معلومات كاذبة، والسعي إلى تغيير الدستور بطرق غير قانونية. فتمت إدانته، وحكمت عليه المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات.
إنّ المثالين السابقين يدلان على غياب الحريات الأكاديمية في "سورية الأسد"، وإنّ صنّاع القرار في سورية لا يعتمدون الدراسات والمعطيات العلمية لرسم سياساتهم، مما يدل على غياب العلاقة لديهم بين البحث العلمي والرشادة السياسية. ويظهر ذلك جليًّا في علاقة إدارة الجامعات مع أساتذتها وطلابها، مما يجعل العنصرين الأساسيين في الجامعة، فاقدين للحرية الأكاديمية، وعاجزين عن المساهمة في التغيير والتقدم. مما يعكس نفسه على ضعف دور الحوار الأكاديمي الخلاّق في الجامعات السورية، ويبين أسباب تخلّف التعليم الجامعي عن تلبية حاجات التقدم، بما فيها حاجات سوق العمل.
إنّ تحوّل الجامعات السورية إلى قلاع من الاستبداد يعود – أساسًا – إلى تربّع أهل الولاء كراسي المناصب الإدارية لرؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، بل أحيانًا الكراسي التدريسية، بقرارات عليا يصوغها مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية لحزب البعث، وفي أغلب الأحيان الأجهزة الأمنية. وهذه التعيينات، الخارجة عن إطار العاملين في الجامعات، لا تقدم الأكفاء من الأساتذة، حكمة ومعرفة وبحوثًا جادة، وإنما أولئك الأشخاص غير الموهوبين من أهل الولاء.
إن الأستاذ زنبوعة لم يخرج عن واجبه العلمي، وكل ما فعله أنه حاضر في أمسية، نُظِّمت بدعوة من ثلاث جهات رسمية: كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، وغرفة تجارة دمشق، وجمعية العلوم الاقتصادية. ويبدو أنّ المشكلة الأساسية في محاضرته، من قبل الأجهزة الأمنية، تكمن في رؤيته للأسباب التي أدت إلى تفاقم الكارثة السورية، ففي الجزء المعنون "تآكل وتحول الطبقة الوسطى"، يرى الأستاذ الموقوف عن العمل، أنّ التوجّه الاقتصادي التحرري الذي كان سائدًا في سورية "بلغ عنق الزجاجة عندما لُجم بالتوجه السياسي للدولة فخنقت السياسة الاقتصاد، وهنا كان مربط الأزمة التي تفجرت في البلاد. حيث أصبحت في سورية قوى منتجة متنامية، تقابلها علاقات إنتاج وبُنية سياسية متخلفة تتمثل في غياب منظمات المجتمع المدني وغياب الأحزاب الحقيقية".
زياد زنبوعة عاقبته جامعة دمشق بنقله تأديبيًا خارج الجامعة لأنه "تطرق باستهزاء الى ما تقوم به الدولة في مجال الإصلاح السياسي والاقتصادي خلال الأزمة التي تمر بها البلاد"، ولأنّ ما أُسند إليه "من شأنه المساس بهيبة الدولة وإضعاف الشعور الوطني للمواطنين ويبث فيهم روح الانهزام ويشكل بالتالي إخلالًا بواجباته الوظيفية مما يستوجب مساءلته مسلكيًا عن تلك المخالفة المسلكية".
لقد ذكر السيد زنبوعة أنّ إحدى الفواحش التي أدت إلى معاقبته هي "أني حذرت من تلاشي الطبقة الوسطى، وأنّ ثلاثة أرباع الشعب السوري صار تحت خط الفقر، ولا بدَّ من التصدي لذلك كأولوية على غيرها، فالفقر هو أخصب تربة لإنبات المجرمين وكل شرور الأرض كما أني حذرت من نشوء أمراء الحرب وتفشّي ظاهرة النهب والسلب والتعفيش".
وهكذا فإنّ معاناة أساتذة الجامعات السورية تظهر الأسباب الرئيسية، التي دفعت الأكاديميين السوريين إلى الهجرة، منذ سنوات بعيدة، ومن مظاهر تلك المعاناة: غياب الحريات الأكاديمية على صعيد البحث العلمي، وهيمنة الأجهزة الأمنية على الطلاب والأساتذة، ولجم الأفواه وامتهان كرامات الأساتذة في كثير من الحالات.
وإزاء هذا الواقع، المتميز بغياب الحريات الأكاديمية عن الجامعات السورية، يمكن تفسير ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من سورية إلى الخارج، منذ أكثر من أربعة عقود، مما كان له تأثيره على هيكلية القوى البشرية السورية.
إنّ صيانة الحريات الأكاديمية، وعدم تسييس التعليم، أو عسكرته، واحترام حقوق الإنسان، وخضوع الحكام والمحكومين لمقتضيات العقد الاجتماعي ودولة الحق والقانون، وحرية وصول الطلاب والأساتذة إلى المعلومات، وتبادل الأفكار والدراسات من دون أية حواجز أمنية، هو من أقوم المسالك لتقدم الشعب السوري.
إنّ الجامعات لا يمكن أن تنتج معرفة بدون حريات أكاديمية، ومراكز الدراسات والبحوث لا يمكن أن تعمل وتنتج معرفة جديدة في ظل تدخلات وممنوعات تفرضها السلطات.