احترام فيروس كورونا!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6586 - 2020 / 6 / 7 - 10:10
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية     

Facebook: @NaootOfficial
Twitter: @FatimaNaoot
Instagram: @FatimaNaoot
TickTock: @fatimanaoot


السرطان، أكثرُ الأمراض شراسةً وفتكًا بالإنسان. يهابه البشرُ لدرجة أن بعض المجتمعات مثلنا، تخاف أن تنطق اسمه بشكل مباشر، فتُكنِّي عنه، ويُخفِضُ الناسُ نبرة صوتِهم وهم يقولون همسًا: “المرض الخبيث، المرض الوِحِش" متبوعًا بالتعوّذ بالله من شرّه. وقد يُدَلَّلُ بالإنجليزية: “كانسر". الناسُ لا تنطقُ اسمَه بنبرة الصوت الطبيعية، ولا يُصرّحون باسمه الحقيقي أبدًا، كأنما يخافون أن يسمعَ السرطانُ اسمَه فيُلبّي النداء. ولم تتوقف رهبةُ المرض لدى الناس عند إضافة لقب إلى الاسم والهمس به، تمامًا كما تفعل الشعوب المقموعة حين تتحدث عن ملك طاغية فاشيستي، بل يتجلّى الخوفُ من السرطان عمليًّا كذلك، فتجد الناسَ تتحدث باهتمام عن المبيدات المسرطنة، والأطعمة التي قد تسبب بالسرطان، والفيتامينات والكريمات والتمارين والأطعمة التي تمنح الجسم القدرة على الوقاية من السرطان، إلى آخر مظاهر "احترام" السرطان، والنظر إليه والتعامل معه بقدر وافر من الاهتمام والتوقير والرعب.
ولكن للسرطان جانبًا جميلا لطيفًا رحيمًا، لم نعرفه إلا اليوم حين تعرّفنا على فيروس "كوفيد 19"، أو كورونا. فمريضُ السرطان بمجرد إصابته وإعلان ذلك، يعتمر هالةً من النُبل ويبدأ الناسُ في التعامل معه باحترام وحب وتوقير وإعلاء تقترب من التقديس. فهذا الإنسانُ يُخبئ في خلاياه أشرسَ عدو للبشر، سيّد الأمراض وأخطرها، ذاك الذي نخافُ نطق اسمه دون ألقاب، ولا نجرؤ على الحديث عنه جهرًا فتنخفضُ أصواتُنا تلقائيًّا في حضرته. نعاملُ مريضَ السرطان بقدر عال من التوقير، ونزوره حاملين باقات الزهور والكتب واسطوانات الموسيقى ليؤنس وقتَه في المستشفى. والأهم من كل ما سبق هو أننا نغمر مرض السرطان بالقبلات والأحضان ونُطيل لحظات المكوث معه بقدر ما نستطيع.
كلُّ ما سبق من امتيازات يحصل عليها مريضُ السرطان، يُحرَمُ منها مريضُ كورونا. يُهرَبُ من مصاب كورونا، كما يُهرَبُ من مُصابٍ بالجُذام. لا ينالُ زهورًا ولا قبلاتٍ ولا أحضانًا ولا زيارات، حتى من أقرب البشر إليه، الأم، الأب، الابن، الابنة، الزوج، الزوجة، والأصدقاء. ولا يـحدَث عنه بتوقيرٍ وتقدير ونبالة، كما يحدث مع مرض السرطان، بل على النقيض، نتحدث عنه كأنما نهشُّ عن أنفسنا غبارًا نخشى أن يصيب ملابسنا.
ورغم أن فيروس كورونا قد يفعل بالإنسان في أيام قليلة ما يفعله السرطانُ في بضعة سنوات، إلا أننا نهابُ السرطانَ، ونستخفُّ بفيروس كورونا. ورغم أن فيروس كورونا، أو "كوفيد19"، إن تمكّن من خلية رئة بشرية، يُهِلكُ الإنسانَ في ساعات، بينما قد يتعايش الإنسانُ مع سرطان الرئة شهورًا أو سنواتٍ، وربما ينجو لو تم استئصال الجزء المصاب من الرئة، لكننا نحترمُ السرطان ونقيم له ألف حساب، ونضحك من فيروس كورونا ونكره الحكومة حين تُصدر قرارات حاسمة لتقليل فرص العدوى والإصابة.
لم أسمع طيلة حياتي نكتةً واحدة عن السرطان، فهو كما أسلفتُ الطاغيةُ مُهابُ الركن. لكننا سمعنا في شهرين آلاف النكت عن كورونا. وهذا بالمناسبة جيدٌ لأن السخريةَ لونٌ من المقاومة، كما فصَّلتُ في مقالٍ سابق: “لا تسخروا من السخرية … في السخرية حياة". ولكن الاكتفاء بالسخرية من كورونا دون الحذر منه يجلبُ الكوارث.
خلال الشهور الثلاثة الماضية، سمعتُ عشرات الخزعبلات عن كورونا: مؤامرة صينية لضرب اقتصاد العالم، مؤامرة أمريكية لضرب الاستثمار في الصين، اختراع بشري للاستحواذ على الكوكب ورزع ميكروتشيب في أجسامنا، خدعة إعلامية لأغراض سياسية، مؤامرة ماسونية لإغلاق دور العبادة ودفع العالم للإلحاد، وغيرها وغيرها من محاولات "الهروب" من الواقع، لرفضنا تصديقه. هذا لونٌ من "الحِيَل الدفاعية" التي يلجأ إليها الإنسانُ غريزيًّا لتجنّب صدمات الواقع المؤلم، تُسمى: النكران، Denial. أي رفض تصديق المصيبة لفترة وجيزة من الوقت، وهذا طبيعي وصحي، لأنه يمنحُ الإنسانَ برهةً من الزمن، حتى يستعدَّ ويتكيّفَ ويُؤهَّلَ لمواجهة الأزمة. لكن تلك الحيلة الدفاعية إن طالت عن زمنها الطبيعي يتحولُ الأمرُ إلى ملهاة سرعات ما تتحول إلى مأساة. وهذا يحدث الآن تقريبًا في مصر. الدولة تبذل قصارى جهدها في علاج المصابين، وكذلك في التوعية للوقاية من كورونا، لكن الشعب مازال مُستخفًّا ولا يضيعُ فرصة للتحايل على الحظر وعدم اتباع إرشادات السلامة بالتباعد ووضع الكمامات الخ. وحين يُصاب قريبٌ لنا ونراه منبوذًا في العزل أو مُعذَّبًا، تتبدّل الموازينُ ونصدّق أن ثمة خطرًا داهمًا اسمه وباء كورونا يحيط بينا من كل صوب. أرجو أن ينالَ فيروس كورونا بعض الاحترام والتوقير الذي يناله السرطان، فهو دون شكّ أشرسُ وأسرع فتكًا. اللهم مدّ يدَ الرحمة لعبادك. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

***