البابا تواضروس … في شهر رمضان


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6582 - 2020 / 6 / 3 - 12:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

المتحضِّرون الأذكياءُ ذوو الفطرة السليمة غير المشوّهة، يعرفون أن لحظات الكوارث تُجمِّع البشرَ على الشعور بوحدة المصير وحتمية الاتحاد ونبذ الشقاقات التي تُضعِف التكتل الصلد، حتى يتسنى للإنسانية مواجهة العدو المشترك الذي اجتاح الكوكب لإهلاك الجنس البشري.
المصريون (الحقيقيون)، أبناءُ الأصول، هم الدلالةُ الأولى، والدائمة، على عراقة مصر ووحدتها، واتحاد شعبها على قلبٍ واحد، وتشبُّثهم بخيوط عُروةٍ وثقى، لا تنفصم؛ مهما قستِ الحياةُ وتواتر على أرضها الطيّبة أدعياءُ دخلاءُ يجهدون في تشتيت صفِّ الشعب المصري العظيم. في عيد القيامة المجيد 2020، تقدّم فضيلةُ الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر الشريف، لأقباط مصر المسيحيين بالتهنئة وأطيب المنى. واشتعلت قلوبُ الأدعياء هادمي الأوطان غيظًا وكمدًا، لأن غذاء تلك الطفيليات البشرية هو البغضاء والشتات والتكفير وزرع الفتن وإشعال الأرض بنيران الخصومة. لكن صراخهم لم يُزِد الطيبين إلا تمسّكًا برباط الحب المقدس الذي سربَّل اللهُ به أرضَنا الطيبة وشعبنا الطيب.
ثم جاء شهرُ رمضان المعظّم، أعاده اللهُ علينا بالخير والسلام والأمان والبركة، فقام قداسةُ البابا تواضروس الثاني، كعادته كل عام، بتقديم التهنئة لشعب مصر والأمة الإسلامية بحلول الشهر الكريم، داعيًا لمصرَ وأبنائها بالسلام والأمان والمحبة.
في حواره الجميل مع الإعلامي "عمرو عبد الحميد" على قناة "TeN"، أظهر قداسة البابا روح المحبة وخفّة الظل النقية التي يتمتع بها، والتي لمسها كلُّ من تعامل معه عن كثب؛ وأتشرَّف بكوني أحد هؤلاء الذين التقوا به أكثرَ من مرة، وكان ضيفًا شرفيًّا كريمًا واستثنائيًّا على صالوني الثقافي الذي استضافه بكرم في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، فلمستُ، كما لمس جميعُ الحضور، عمقَ وطنيته، وعشقه اللامحدود لمصر وشعبها بجميع أطيافه، وحرصه الهائل على ثبات مصر، ونهضتها، ووقوفها صخرةً شمّاءَ في وجه أعدائها، وحرصه الشديد على وحدة الشعب المصري وعدم شتاته.
إنه قداسةُ بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، الأنبا تواضروس الثاني، الرجل الوطني وبابا المصريين جميعًا.
في حواره الجميل حكى البابا عن طفولته في مدينة دمنهور، وكيف كانت أسرتُه هي الأسرة المسيحية الوحيدة في منزل مكوّن من عشرة أُسرِ مسلمة. وأن سيماءَ المحبة كانت تجول بين الشقق طوال العام، وتتجلّى في شهر رمضان. كانت والدتُه تُرسل صحونَ الطعام لجاراتِها، وتستقبلُ الكعكَ والبسكويت إذا ما حلَّ عيدُ الفطر المبارك. تحدّث قداسةُ البابا عن ذكريات شهر رمضان الذي يحملُ مذاقًا خاصًّا في مصر دونًا عن بلاد الدنيا. وتحدَّث عن مائدة "إفطار الوحدة الوطنية" التي دشّنها قداسة البابا شنودة الثالث رحمه الله عام 1986، وأنها امتداد موسّعٌ لمائدة "الأغابي": وهي كلمة يونانية قديمة تعني محبة الله للبشر، ومحبة البشر لبعضهم البعض وصولا إلى حب الله. في تلك المائدة يجتمعُ الناسُ على الطعام والمحبة بعد الصلاة والتسبيح. وأصبحت "مائدة المحبة" التي نُفطِر على شرفها نحن المسلمين مع أصدقائنا المسيحيين بدعوة كريمة منهم، أحدَ أجمل طقوس شهر رمضان كل عام. لم يقطعها إلا غزو فيروس كورونا هذا العام، وندعو اللهَ أن نعاودها في رمضان المقبل بإذنه تعالى. وتحدَّث قداسة البابا عن فرادة مصرَ على خريطة العام. وكأنها لوحةٌ تشكيلية مستطيلة أنيقة، تتوسَّط قلب العالم، يقطعها رأسيًّا نهرُ النيل كشريان حياة، ويظلِّلها من أعلى شريط البحر الأبيض المتوسط، ويؤطِّرُ شرقَها البحر الأحمر. وأرض سيناء المباركة التي بدأت منها العائلة المقدسة أولى خطواتها في زيارتها لمصر، لتُطوِّب كل شبر من أرضها. ولهذا بارك اللهُ تلك الأرض فذُكرت في الإنجيل والقرآن مئات المرات، دونًا عن سائر بلاد الدنيا. وتكلّم عن امتياز مصر بالرباط القوي بين الإنسان والأرض. وتجلّي ذلك في تشابه العادات والتقاليد بين المصريين على اختلاف منازلهم وعقائدهم. وحين سأله الإعلامي "عمرو عبد الحميد" عن أثر ما يحدثُ أحيانًا من فتن طائفية بغيضة ينتج عنها حرقُ كنائس وقتل مسيحيين، أجاب قداستُه بأن أثر تلك المحن الطائفية تقع على المصريين كافة دون استثناء، وتزرع الحزن في جنبات مصر، لكنها لا تنال مطلقًا من وحدة المصريين. فكما قال المؤرخ العظيم "جمال حمدان"، في موسوعة "وصف مصر": (مصرُ لا تنقسمُ ولا تندمج.) وتكلّم البابا عما تعلّم من دراسته الصيدلة في جامعة الإسكندرية، فقال إن أهم ما تعلّمه من التعامل مع العقاقير والمرضى هو احترام ضعف الإنسان وتقدير مشاعره وقت التعب. وختم بأن كورونا ليست عقابًا من الله، فالله رحيمٌ، لكنها رسالة تذكير وإيقاظ ليتذكّر ضعفه فيتواضع ويغتسل من الخطايا ويدخل عالم النقاء الرحب. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

***