مفاوضات السلام والمفوضية المستقلة للحريات الدينية


سعد محمد عبدالله
الحوار المتمدن - العدد: 6574 - 2020 / 5 / 26 - 02:06
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

قامت ثورة ديسمبر كنتاج طبيعي للإستنارة التراكمية لشعب السودان الذي قرر إنهاء فصل سيئ من تاريخ فساد إستبداد الأنظمة الدكتاتورية الفاشلة المهيمنة علي البلاد، وأنهت هذه الثورة أطول وأخطر حقب الحكم الدكتاتوري في السودان، فمن ترسبات سياسات ومفاهيم حقبة حكم النظام الإسلاموعسكري في المجتمع ومؤسسات الدولة إنتشار خطاب الكراهية وسلوك العنصرية الدينية والإقصاء السياسي والثقافي وربط الدولة بحزب السلطة والتسلط علي الآخرين وبالتالي تقهقر العلاقات الإنسانية وقيام حروب واسعة كردة فعل مضاد لتلك السياسات، ولسنوات عديدة خلت جلست القوى الثورية المسلحة لمفاوضة النظام الإنقاذي بغية إنهاء التهميش والقهر وبناء دولة السلام والمواطنة بلا تمييز لكن كعادته نظام مستبد لا يقبل المفاوضات كألية ديمقراطية لحل النزاعات لأن السلام يتعارض مع مشروع ومصالح الإنقاذ الرامية للسيطرة علي موارد البلاد وفرض وصاية كاذبة باسم الدين علي المجتمع وتوزيع صكوك الخدمة المدنية بمعايير الإنتماء الحزبي وطاعة الحاكم وإن كان ظالم، وقد سقط هذا النظام الإنقاذوي وتحررت إرادة السودانيين الذين دكوا حصن الإستبداد بجسارة وقالوا جهرا الشعب يريد بناء سودان جديد.

السودان الجديد هو موطن المواطنة المتساوية والديمقراطية وحرية الرأي والفكر والإيمان ومهنية أجهزة الحكم والإدارة والإهتمام بمواقع الإنتاج والتصنيع بنقل المدينة إلي الريف والقضاء علي ظاهرة المدن المريفة طبقا لسياسات إقتصادية جديدة، والسودان الجديد هو إعتراف الدولة بالتنوع التاريخي والمعاصر بمشروع وطني يطوع كافة الثقافات والأديان والأجناس لصالح بناء السلام وتعزيز التسامح والعيش السلمي المشترك بين مكونات الشعب كحق إنساني، وقد وضعت الحركة الشعبية هذه القضايا ضمن أجندتها علي منضدة مفاوضات السلام الشامل بينها وحكومة السودان الإنتقالية بوساطة مقدرة لدولة جنوب السودان، ونجحت الحركة الشعبية في حسم عدد من الملفات الشائكة حتى وصلت مرحلة الإتفاق مع الحكومة علي تشكيل مفوضية مستقلة للحريات الدينية بعد توقيع إتفاق السلام الشامل لتكون هذه إحدى آليات تنفيذ ما تم الإتفاق عليه، وتعتبر هذه الخطوة من أهم الإنجازات الإستراتيجية لتصحيح أخطاء الحكم الدكتاتوري العنصري الذي حول السودان إلي مستنقع للإرهاب والإستبداد السياسي والأمني وقهر المجتمعات، فالسودان اليوم يحتاج لأفكار جديدة تمكنه من معالجة تشوهات التاريخ، وتمثل مفوضية الحريات الدينية ركيزة مهمة جدا لبناء سودان جديد ديمقراطي موحد.

نحن جميعا نتطلع لسلام شامل وعادل يحقق آمال شعبنا ويؤسس لمستقبل أنضر للأجيال القادمة، والجميع يدرك حجم الأزمات السودانية الحالية، وهذا يجعلنا نتمسك بالحلم الذي قاومنا من أجل تحقيقه، ويجب أخذ المتغيرات في الفضاءات السياسية وتحليل المشهد العام بما يساعد علي توفير بيانات عن المشكلات الكبرى المطروحة علي الساحة لتحاشي تكرار الأخطاء، فما زالت الدولة العميقة نشطة وتهدد الثورة بالتخريب المقصود والممنهج وهنالك مشاهد تثبت ذلك، كما اننا ما زلنا نتابع تصاعد الأصوات المتعنصرة من وقت لآخر كجزء من ترسبات تلك السياسات القديمة وتحتاج لخطابات وآليات جديدة تعالج الخلل القديم في تركيبة الدولة والعقلية المتحجرة التي لا تشبه العصر الجديد وثورة السلام والعدالة والديمقراطية والحريات، فمن هنا تأتي أهمية تأسيس مفوضية الحريات الدينية وإعادة هيكلة الدولة علي أسس جديد، وقد فتحت ثورة ديسمبر فرص كبيرة للسودانيين لربط الديمقراطية بالسلام الشامل والعدالة كأهم عناصر بناء السودان الجديد وهي لا تنفصل بعضها البعض، فلا يمكن البتة أن نؤسس ممارسة ديمقراطية نزيهة دون تحقيق سلام شامل وكلاهما يدعم تحقق العدالة الإجتماعية للجميع، والأجواء العامة تبشر باقتراب إستكمال أهداف الثورة، وعليه يجب أن نتأهب جميعا للمرحلة القادمة التي يعتمد نجاحها علي مدى الصدق والشفافية وقوة الإرادة عند الجميع، والسودانيين الذين أنجزوا هذه الثورة العظيمة يتذكرون تضحيات وبطولات الشهداء سيما وذكراهم قد هبت علينا تحمل آمالهم التي ضحوا من أجل أن تكون نورا لسودان الغد، وسيولد من رحم الغد الآتي سودان جديد بملامح ثورة ديسمبر المجيدة وبطعم الحرية ورائحة السلام لنكتب معا ميلاد جديد للدولة السودانية، ونحن نستطيع أن نبني تلك الدولة بالتعاون الرسمي والشعبي ومساهمات كافة عقول السودانيين المتحررة والمستنيرة في مساعي ومسارات الوصول للمستقبل المنشود، ونحن أيضا اليوم نقف عند بوابة التاريخ نستبشر عهد السلام في السودان نأمل أن يكون فجرا جديدا لا عودة بعد إنبلاج نوره لغياهب الظلام، فالسودان يحتاج لتغيير شامل يضمن حقوق كافة الناس دون فرز او تمييز.

25 مايو 2020م