أمريكا اللاتينيّة : حصيلة ثقيلة للهيمنة الإمبرياليّة و لفكر إنكار فيروس كورونا


شادي الشماوي
الحوار المتمدن - العدد: 6573 - 2020 / 5 / 25 - 17:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

جريدة " الثورة " عدد 648 ، 18 ماي 2020
https://revcom.us/a/648/latin-america-gruesome-toll-of-imperialist-domination-and-coronavirus-denialism-en.html

بلغ كوفيد -19 أمريكا اللاتينيّة بصفة متأخّرة ، فأوّل إصابة مؤكّدة سُجّلت في 5 مارس 2020. لكن في الشهرين الأخيرين، إنتشر الفيروس مثل النار في الهشيم في منطقة يقطنها 700 مليون نسمة . و قد تغذّت العدوى من الفقر المدقع و الديون و الإختلال الوظيفي لأنظمة الرعاية الصحّية نتيجة 500 سنة من النهب من قبل الإستعمار الأوروبي و الهيمنة الإمبرياليّة الحاليّة ، خاصة الهيمنة الإمبريالية للولايات المتحدة. و قد فسح المجال للعدوى بوضوح " فكر إنكار فيروس كورونا " الذى عبّر عنه عدّة قادة سياسيّين برجوازيين كبار ، " قادة " كانوا في البداية يستهزئون بالمرض ثمّ قاوموا إتّخاذ إجراءات لمحاصرته و تقليص إنتشاره ، و تاليا ، طفقوا يكذبون بصفة منتظمة حول حصيلة الوفايات حتّى و المسشتفيات قد إنهارت أمام عدد طالبي الإسعافات و تكدّست الجثث في غرف الموتى .
كافة هذه الأسباب متشابكة قد حوّلت المستشفيات و غرف الموتى و الأحياء و حتّى مدن بأكملها إلى جحيم تام جعل مداعات ستيفان كينغ تبدو مثل قصص الأطفال .
فقر مدقع و مديونيّة و رعاية صحّة محدودة
يحلو للمدافعين عن الإمبريالية التشدّق ب " تحديث " أمريكا اللاتينيّة فى العقود القليلة الماضية ، و الإشارة إلى نموّ الطبقة الوسطى المتواضعة ، و المصانع الحديثة و المناطق المزدهرة في المدن الكبرى . و بوجه خاص يشار إلى البرازيل على أنّها " على الطريق " نحو التحوّل إلى أمّة " متقدّمة ". لكن تحت البريق الخارجي توجد الوقائع العنيدة التي تفيد بانّ الثروة المنتجة في هذه البلدان تُنتج على أساس إستغلال وحشيّ و ساحق لعمّال المناجم و المتاجر و المصانع و للفلاّحين في المزارع الصغرى و الكبرى ، و لأناس يسعون إلى الفرار من الفقر المدقع الذى يحاصر مئات الملايين . و معظم تلك الثروة تتدفّق إلى البلدان الإمبرياليّة و بنوك الإستثمار التي تملك أو هي تستثمر بشكل كبير في الكثير من قدرات الإنتاج ، مبقين قدرا ضئيلا من " الإزدهار " خلفهم .
في البرازيل ، " تقريبا نصف السكّان لا يتمتّعون بالصرف الصحّي و ربعهم يعيشون في فقر ... و في الأحياء الفقيرة قد نعثر على 8 إلى 10 انفار يتقاسمون مسكنا بغرفتين ، بلا أفق للتباعد الاجتماعي " . و الأمراض القابلة للوقاية منها و للعلاج – حرارة الضنك والحرارة الصفراء و المالاريا – ما إنفكّت تتفشّى و ترهق الملايين . في أمريكا اللاتينيّة ككلّ، 45 بالمائة من الناس يعملون في " الاقتصاد غير الرسمي " [ الموازي – المرتجم ] بلا فوائد و لا أمن ،و النفقات العمومية على الرعاية الصحّية أقلّ من ربع ما ينفق على الفرد بعديد الدول الأوروبيّة .(1)
و في قمّة هذا ، على حكومات أمريكا اللاتينيّة أن تقيّم كيف تعالج أزمة صحّة عامة آخذة بعين النظر الحكومات الإمبرياليّة و المستثمرين الذين يمارسون نفوذا ماليّا ضخما . لذا هناك ضغط هائل للإبقاء على السير العادي للإقتصاد و على إنتاج المصانع لسلع تتناسب و ما تطلبه سلاسل التزويد / التموين العالميّة ، و على مداخيل الأداءات لسداد الديون.
و الحكومات التي لم تذعن لهذا الضغط قد أبلت بلاءا أفضل في مواجهة الجائحة لكنّها تدفع ثمنا باهضا . حسب الأن بى أر (NPR)، في أواخر مارس ، إعترفت الحكومة الأرجنتينيّة بأنّ " نظامها الصحّي الذى يشكو من نقص في
التمويل سينهار بسرعة " و بأنّه " يمكن أن يموت 250 ألف إنسان إذا لم نفعل شيئا ". لذلك في 20 مارس ، فرضوا حجرا صحّيا عاما و منعا للسفر لمدّة ثمانية أسابيع . و بالنتيجة ، لم تسجّل الأرجنتين التي تعدّ 45 مليون نسمة سوى 363 حالة وفاة بسبب الكوفيد-19 إلى حدّ الآن .
لكن نسور الإمبرياليّة تسقط على رؤوسهم – فقد جعل الحجر الصحّي العام من غير الممكن للأرجنتين أن تفي بسداد دينها ب 500 مليون دولار ما يعنى أنّهم سيصطدمون ب تخلّف في الدفع . و وفق جريدة " النيويورك تايمز " ، " سخر الدائنون العالميّون " من مخطّط الأرجنتين لإعادة جدولة الديون لتأخذ بعين الإعتبار تأثير الوباء ، لذلك التخلّف في الدفع يكاد يكون أكيدا . يريدون مالهم و يريدونه الآن !
و تسلّط هذه التجربة بعض الضوء على " وباء " فكر إنكار فيروس كورونا في صفوف قادة آخرين بأمريكا اللاتينيّة الذين يخشون الإنقطاع في الاقتصاد بفعل المواجهة الجدّية للوباء أكثر من خشيتهم من ارتفاع عدد الوفايات التي ستنجم عن الوباء. فرئيس البرازيل الفاشي ، جايير بلسونارو ، نسج على منوال صديقه دونالد ترامب في إدّعاء أن كوفيد كان مجرّد " إنفلونزا صغيرة " و أنّ " البرازيليين لا يصيبهم أي شيء ... لديهم بعدُ الأجسام المضادة التي تمنعه من الإنتشار ". و قد إصطدم بلسونارو إصطداما شديدا بحكّام ولايات بشأن أوامر طلب المآوى .
و كذلك ، وفق " معهد بروكنكس" ، رئيس المكسيك " الشعبوي " أندرياس مانوال لوباز أوبرادور ( أملو ) شدّد على التجوّل في الشوارع ، ناشرا على تويتر صور له وهو يتجوّل و مقبّلا طفلا ، في 21 مارس . لقد شجّع الناس على الإسترخاء و قراءة الرواية الشهيرة لغارسيا ماركاز ، " الحبّ في زمن الكوليرا " . و صدر أمر من المحاكم الفيدراليّة يجبر أملو على إتّخاذ إجراءات لحماية الناس من الوباء. و الأنصاري اليساري سابقا ، و هو الآن رئيس نيكاراغوا ، دانيال أورتيغا ، قدا مسيرة " الحبّ في زمن كوفيد-19" في 14 مارس 2020.
إطلاق العنان للجحيم
غواياكيل – الأكوادور
المدينة الميناء غواياكيل ذات الثلاثة ملايين ساكن أصيبت إصابة شديدة بالعدوى و إنهارت تماما مستشفياتها . و قد صرّح طبيب ل " النيويورك تايمز " : " كان هناك أناس يموتون على أبواب المصحّات و ما كانت لدينا أيّة وسائل لمساعدتهم . الأمّهات و الأزواج كانوا يطالبون و الدموع تسيل على خدودهم بسرير ف " أنت طبيب و يجب عليك أن تساعدنا ". و في مستشفى آخر ن أعرب طبيب في تقرير عن التالى : " وُجدت جثث على كراسى المقعدين و في النقّالات و على الأرض ، في قسم الإستعجالي ... و كانت الرائحة قويّة إلى درجة أنّ الفريق الطبّي العامل هناك رفض دخول القسم . و قد مرض العديد من زملائه و ظلّوا يترقّبون على كراسى المقعدين أن يموت المرضى ،آملين أن يحصلوا على فرصة إستخدام جهاز تنفّس " .
و ورد في تقرير للسى أن أن أنّ امرأة إنتظت 24 ساعة في المستشفى للحصول على سرير لأمّها – و في النهاية صحبتها ممرّضة إلى زاوية و قالت لها ، " إن كانت لديك إمكانيّات ماليّة لمعالجة أمّك في المنزل ، فإفعلى ذلك ، لأنّه إن بقيت هنا فستموت ". و قال رجل آخر للسى أن أن إنّه عندما مرض والده نقله بسيّأرة في سفرة طالت أربعة ساعات و رُفض قبوله في عشر مستشفيات ، قبل أن يُقبل في النهاية في المستشفى الحادى عشر. و عندما توفّرت غرفة لوالده ، كان يتقاسمها مع جثّتين !
لكن المستشفيات لم تغرق فحسب بل غرقت أيضا غرف الموتى و بيوت الجنازة . و حينما توفّي والد ذلك الرجل ، فقد المستشفى أثر جثّته وسط مئات الموتى ، لذلك أرسل الرجل إلى غرفة الموتى للبحث عنه :" لقد وجدت الجثث مكدّسة الواحدة فوق الأخرى . دخول تلك الغرفة كان بمثابة دخول الجحيم ". و غير قادر على إيجاده يومه ، عاد بعد أربعة أيّام ليقف في صفّ طويل و فتّش ضمن 250 جثّة ، العديد منها كانت متحلّلة في فضاءات غير مبرّدة ".
و بيوت الجنازة ن بدورها ، شهدت إنهيارا . ففي البداية كان الناس يدفنون موتاهم في صندوق من الورق المقوّى ثمّ حتّى ذلك بات غير ممكن و ببساطة كان يلقى بالجثث في الشوارع ليتمّ إلتقاطها . و حسب جريدة " النيويورك تايمز " ، " في الحياء الأفقر من المدينة ، بعض السكّان قالوا إنّه كان عليهم الإنتظار إلى حدود ستّة أيّام في حرارة تقدّر ب 90 درجة [ فارنهايت و ليس سلسوس – المترجم ] للحصول على الخدمات الإستعجاليّة التي تتولّى نقل جثث الأقرباء و الجيران الموتى ".
و نحن نخطّ هذا المقال ، حصيلة وفايات كوفيد-19 الرسميّة بالنسبة لعموم سكّان الأكوادور هي 20688. لكن مثلما أعرب عن ذلك والى غواياكيل : " لن نعرف العدد الحقيقي لأنّه لم تجرى تحاليل ".
ماناوس – البرازيل
مااوس مدينة تعدّ أكثر من مليوني ساكن وهي معتبرة " بوّابة " منطقة الأمازون الممتدّة . في أفريل 2020 ، ظهرت صور صادمة عن دفن جماعي . و جاء في تقرير لجريدة " الغوارديان " ، يوم الأحد ووريت التراب 140 جثّة في ماناوس ، عاصمة ولاية الأمازون المحاذية للغابات . و يوم السبت ، 98 .عادة ما يكون العدد أقرب على 30 لكن هذه ليست أوقات عاديّة .
هذا جنون – مجرّد جنون " ، قال جلسون دى فريتاس ،رجل صيانة عمره 30 سنة كانت أمّه روزمايرا رودريغاس سلفا واحدة من ال136 شخصا المدفونين هناك يوم الثلاثاء الماضي ... و قد ذكر أنّه شاهد بيأس كيف أنّ بقاياها أنزلت إلى حفرة موحلة إلى جانب ربّما 20 جثّة أخرى .
لقد دفنوا هناك مثلما تدفن الكلاب " ، قال و أضاف " ما قيمة حياتنا الآن ؟ لا شيء ."
و طلب حاكم الولايات ، أرتورفرجيليو ، بمساعدة إستعجاليّة عالميّة : " لسنا في حالة حرجة – نحن في حالة أتعس من ذلك . نحن في حالة كارثة بأتمّ معنى الكلمة ... مثل بلد في حرب – و قد خسر هذه الحرب " ، قال .
و مجدّدا ، إنهارت المستشفيات . و ورد في تقرير السى أن أن أنّ الناس الذين قدموا للمستشفيات لعلاج أمراض أخرى ، غير الكوفيد أو جروح ، كانوا يوضعون جنبا إلى جنب في غرف إنتظار مع المرضى بالكوفيد ، فإصيبوا بالعدوى و ماتوا. و صرّح طبيب بأنّ " أجنحة الأمومة " صارت من الأماكن الأساسيّة للعدوى لأنّه لم يوجد مخطّط عزل " ، و لأنّ الأطبّاء كانوا عرضة للفيروس إعتبارا لمستويات التوظيف المنخفضة و لنقص أجهزة الحماية الشخصيّة .
و في الخامس من ماي ، أعلن بلسونارو أنّ " السوء قد مرّ " في البرازيل . و يومها بالذات حصيلة الوفايات في البلاد تجاوزت الرقم المسجّل قبلا . ثمّ في اليوم الموالى تمّ تجاوز كلّ الأرقام السابقة . ونحن نخطّ هذا المقال ، حسب الإحصائيّات الرسميّة ، تعدّ البرازيل خامس أعلى حالات الوفايات في العالم ، حوالي 16 ألف وفاة . أمّا الأعداد الحقيقيّة فهي بالتأكيد أعلى من ذلك بكثير .
مدينة مكسيكو – المكسيك
يبدو أنّ الرئيس أوبرادور (أملو ) قد قام بعمل فعّال ... للتوفيق بين الدمار الناجم عن فيروس كورونا لعدد كبير من السكّان و الإبقاء تقريبا على المصانع تشتغل إرضاءا للولايات المتحدة . فالحكومة قد حجبت حقيقة عدد الوفايات – حسب جريدة " النيويورك تايمز " الأعداد التي تنشرها الحكومة الوطنيّة للعلن بخصوص الوفايات في مدينة مكسيكو تساوى ثلث عدد الوفايات التي تبلغ الحكومة الفدراليّة ( وهي بالتأكيد كذلك أقلّ ممّا هي في الواقع ). وزير صحّة أملو زعم " إنّنا خفّفنا من تصاعد " العدوى و قال أملو نفسه في المدّة الأخيرة ، ما يعلمه العالم حول المكسيك هو أنّنا سيطرنا على الوباء و نحن نقوم بذلك في الأساس بفضل بذل الشعب المكسيكي لجهود واعية ".
و كان هذا قاتلا . ففي بدايات شهر ماي قال طبيب من مدينة مكسيكو لجريدة " النيويورك تايمز " : " كما لو أنّنا نحن الأطبّاء نعيش في عالمين مختلفين . عالم هو داخل المستشفى مع مرضى يموتون طوال الوقت . و عالم آخر حينما نخرج إلى الشارع و نشاهد الناس يتجوّلون ، غير عابئين بما يجرى و بمدى الخطورة الفعليّة للوضع ". و صاحبت المقال عينه صورة لمحطّة قطار مكتظّة للغاية في مدينة مكسيكو والقليل من الناس كانوا يضعون الكمّامات . و تقتبس " سكاي نيوز " كلام رجل كان دفن أمّه للتوّ : " لا يفهم الناس ما يجرى ذلك أنّ الكثيرين يواصلون الخروج إلى الشارع دون وضع كمّامات، و يواصلون اللعب في الحدائق العموميّة . و الحكومة تتحمّل مسؤوليّة تقديم أعداد حقيقيّة ، إحصائيّات حقيقيّة ، كي يعلم الناس ما يحدث ، حالات الوفايات عديدة ".
و جاء في ذاك التقرير أنّ " فى آخر المطاف ، لا وجود للتباعد الاجتماعي ، و الأسواق في الهواء الطلق و بعض المتاجر تسير بشكل عادي ".
لكن مجدّدا ، ما الذى يجرى على أرض الواقع ؟ حسب تقرير " سكاي نيوز " : " هناك عادة مراكمة أيّام ثلاثة لحرق الجثث في كلّ محرقة جثث عموميّة في المدينة و قد أشار عمّال حرق الجثث في الأيّام الأخيرة إلى أنّ ثمّة حاجة لمزيد الدفن لأنّ قدرات حرق الجثث تمّ تجاوزها . و الدخان الأسود يتصاعد من محارق الجثث بما أنّنا تشتغل بمستوى صناعي فى المدينة غير أنّ ورود الجثث لا يتوقّف... في بدلات كاملة حازمة الفريق الساهر على تسيير محارق الجثث يشتغل على مدار الساعة جالبا الجثث إلى محارق ضخمة في متناولهم .
و زارت "سكاي نيوز " أو تحدّثت إلى 30 محرقة جثث و أحصت أنّهم يحرقون يوميّا معدّل 600 شخص ،و حوالي 90 بالمائة منهم ضحايا كوفيد-19 ،و لا تشمل هذه الإحصائيّات الذين وقع دفنهم . و تعمّقوا في الإحصائيّات ليتوصّلوا إلى كون حصيلة الوفايات الحكوميّة المعلنة رسميّا بالنسبة للعاصمة تساوى خُمُس الوفايات الفعليّة .
و تختم " سكاي نيوز " تقريرها حول المكسيك بهذه الكلمات :
" في غياب تلقيح أو معجزة ، يمكن أن تكون تداعيات كوفيد-19 على هذا المجتمع و على هذه المدينة كارثيّة تماما ".
و هذا صحيح تمام الصحّة ! لكن النقطة الأكثر أهمّية هي أنّه في غياب ثورة تتخلّص من النظام الإمبريالي و تُنشأ مجتمعا إشتراكيّا يضع من أولويّاته تلبية حاجيات الإنسانيّة ، ستكون التداعيات على الإنسانيّة " كارثيّة تماما ".
-----------------------------------
هوامش المقال :
1. See The Lancet, South America prepares for the impact of COVID-19, April 29, 2020, and Brookings Institution, Order from Chaos: As coronavirus hits Latin America, expect serious and enduring effects, March 26, 2020.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------