سراب الديمقراطية البرجوزاية-2


سعيد مضيه
الحوار المتمدن - العدد: 6571 - 2020 / 5 / 22 - 20:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

سراب الديمقراطية البرجوازية_2
في الحلقة السابقة شرح خبير الاقتصاد السياسي، روب اوري أسلوب الشركات الاقتصادية الكبري في السيطرة على السياسة، حتى أنها تبت قسي القضايا السياسية قيل إجراء الانتخابات وتحصر الصراع على المقاعد المنتخبة بين ممثليها من السياسيين.
ثم بين الأكاديمي هنري غيروكس: مثقف ماركسي كبير، مختص بقضايا التربية والثقافة النقديتين، واحدث كتبه التعليم المختل في أميركا: الحرب ضد الشباب؛ وأصدر في الآونة الأخيرة عدة مؤلفات منها حرب الليبرالية الجديدة على التعليم العالي ، الجمهور في ضائقة: ترمب وخطر السلطوية الأميركية؛ الكابوس الأميركي : مواجهة تحدي الفاشية .
في الحلقة السابقة اتهم إدارة ترمب باستعمال لغة الذم والقدح التي يوجهها ترمب تقترن بجهله المريع وعدم كفاءته فتبدوان عنصرا ملائما للميديا التي جعل منها السمة المركزية لإدارته. بات معروفا بالولايات المتحدة كراهية ترمب للمثقفين وغدت حاليا مادة دسمة للميديا اليمينية و‘اداة ناجحة للسيطرة المهيمنة والتلاعب والضمير الزائف’. تتواطأ الميديا اليمينية ، مثل فوكس نيوز لتبرير دعوة ترمب وزارة العدلية تلطيخ خصومه السياسيين بالقاذورات.
استخدم ترمب سلطة البوليس، خاصة حرس الحدود لاعتقال الأطفال على الحدود وفصلهم عن ذويهم. ترمب يقدم الولاء على الخبرة، ويحيط نفسه بمرضى نفسيين بلا كفاءة، فيتخذ سياسات يخالف يها خبراء الصحة العامة. وكل ذلك يحظى بدعم صحف يمينية ، مثل فوكس نيوز وبريثبات نيوز. نشرت اخبارا مغلوطة عن فيروس كورونا وقدمت ما اعتبره 74 من أساتذة الصحافة وكبار الصحفيين مخاطر على الصحة العامة. وشان معظم المستبدين يمارس ترمب كل ما من شانه ان يحجب الحقيقة عن طريق فيض من الأكاذيب يزود بها الميديا، يستنكر البينات العلمية وأحكام القضاء كأخبار ملفقة. وباعتبارها آلة ثلم الخيال وتشكل بيداغوجيا وبائية فإنها تقوض مركب المشاكل الاجتماعية وتقمع ثقافة المعارضة والأحكام القضائية المبنية على الاطلاع. تعمل هذه البيداغوجيا الوبائية لكي تشكل الرغبات البشرية وأنماط هوية كل من منطق الاستهلاكية ، بينما تمنح الامتيازات لشكل رفيع من الذكورية وتشرعن تمييز العدو من الصديق. نحن نعيش في عصر مسرحه وأداء الممثلين سياسات فارغة من أي جوهر أخلاقي وتسهم في إنعاش نسخة محدثة من السياسات الفاشية.
بات انعدام الفكرمن المثل الوطنية، حين تعكس الميديا الخاضعة مطلب إدارة ترمب بأن نسمع صدى الواقع وليس تحليله، نتحراه ونتفهمه نقديا. بلا حياء يعزز تلك السياسات عن طريق عرض فيديوهات دعاية في المؤتمرات الصحفية التي يعقدها .فضائية فوكس نيوز بشكل خاص صارخة في ازدرائها للحقيقة وشغلها الشاغل كل ليلة في‘ طقوس دفن الحقيقة’ في ‘حفر الذاكرة’، ثم نسج أنماط جديدة من الوقائع( الحافظة) لروح 1984(رواية جورج أورويل) حية، بما يلائم نهج ترمب. لم تكن سياسات ترمب الفاشية والفانتازية حول النقاء العنصري لتنجح بدون عمل آلة شطب الذاكرة وأجهزة بيداغوجيا وأناس يعملون بجد كي يحيلوا "نظراته ليس واقعية وحسب، بل وعادية". ما يوضحه ترمب ان تسخير اللغة سلاحا في خطاب العنصرية والكراهية مدين لسياسات النسيان وأداة لا غنى عنها في المعركة من أجل تقويض الوعي التاريخي حتى الذاكرة.
غالبية نشاط آلة شطب الذاكرة، او الميديا الليبرالية الرئيسة، مثل إن بي سي نايتلي نيوز، إم إس إن بي سي والصحافة المعروفة يتركز في حشد الدعم لترمب ونشر ثقافته ، وفي هذه الأثناء تعزل القضايا الاجتماعية وتمسخ المشاكل الاجتماعية قضايا فردية وتجعل أشغال السلطة مرئية بوضوح.
• * * *
وحول الديمقراطية في بريطانيا كتب صحفي التقصي جوناثان كوك الذي يعيش في الناصرة عن تزوير الإعلام البريطاني وتلفيقاته ضد المثقفين ممن يبدون مواقف مناهضة للعنصرية ويتضامنون، بناء عليه، مع الشعب الفلسطيني. ناقش كوك قضية المخرج السينمائي البريطاني كين لوتش كيف القيت عليه قاذورات الإعلام وشنعت عليه، اتهم بالعداء لليهود لمجرد أنه صرح ان حزب العمال البريطاني وزعيمه كوربين لسوا لاساميين. امر عجيب يذكرنا بالأنظمة المتخلفة تدين السياسيين بالشيوعية وتزجهم داخل السجون لنه يرفضون استنكار الشيوعية!! كتب جوناثان كوك:
كين لوتش احد أعظم العاملين في الإخراج السينمائي، أمضى أكثر من نصف قرن في إخراج أفلام حول حياة الشرائح البائسة في العالم ، وفي بريطانيا على وجه الخصوص. رصدت أفلامه في أغلبيتها لامبالاة الدولة أو مواقفها العدائية ، وهي تمارس سلطة بلا حساب على الناس العاديين.
في آذار الماضي وحد لوتش نفسه متورطا في قلب دراما بلا رحمة داهمته مباشرة كأنها خرجت من أحد أفلامه؛ فقد اتهم باللاسامية . ينبغي ان لا تحوم شكوك بصدد عنصرية لوتش ، وهو المساند الأقوي للضعفاء والمحرومين. في أفلامه حدق في بعض أبشع فصول اضطهاد الدولة البريطانية وقسوتها في إيرلندا ، وكذلك في النضالات ضد الفاشية في مناطق أخرى من العالم ، من اسبانيا ونيكاراغوا. غير انه ركز اهتمامه بصورة رئيسة في نقد المعاملة البريطانية المخزية مع الفقراء والأقٌليات واللاجئين.
قاد الحملة ضد لوتش وروزن هيئة النواب اليهود البريطانيين والحركة العمالية اليهودية، منظمتان يعرفهما جيدا الكثيرون من اليسار. عملتا في السابق من داخل حزب العمال ومن خارجه للمساعدة في الإطاحة بجيريمي كوربين ، زعيم جزب العالم المنتخب.
الحركة العمالية اليهودية منظمة ضغط صغيرة تعمل داخل حزب العمال البريطاني ، موالية لإسرائيل، اما هيئة النواب فتدعي كذبا تمثيل المجتمع اليهودي في بريطانيا، وفي الحقيقة تعمل قوة ضغط لصالح العناصر المحافظة . والمنظمتان وجهتا بانتظام تهم اللاسامية لكوربين، ووقفتا على رأس ما يدعوانه حزب العمال "مؤسسة لاسامية". ورغم ان الموجهة اجتبت اهتمام الميديا غير النقدية فلم تقدم أي منهما بينات تثبت الاتهامات. لم يخف السبب الكامن خلف حملات الشيطنة. لوتش وكوربين شاركا تاريخا مديدا في الدفاع الحار عن حقوق شعب فلسطين في زمن تشديد إسرائيل جهودها لإطفاء كل أمل للفلسطينيين لفوز بدولة أو بحق تقرير المصير.
في السنوات الأخيرة طبقت المنظمتان –هيئة الممثلين والحركة العمالية اليهودية تكتيكات من النمط الأميركي موجه خصيصا لشطب انتقاد دولة إسرائيل من المجال العام. وليس مصادفة ان هاتين المنظمتين تزيدان صعوبة الحديث حول العدالة للفلسطينيين مع تزايد إجحاف إسرائيل بالفلسطينيين.
أما ستارمر ، خليفة كوربين فقد اختصر المشوار وجامل اللوبي أثناء حملة انتخاب قيادة حزب العمال في الشهر الماضي ، واعلن بسرور مرادفة انتقاد إسرائيل باللاسامية، كي يتجنب مواجهة كتلك التي واجهها كوربين. ورحبت المنظمتان بانتصاره.
غير أن معاملة كين لوتش تظهر أن استخدام سلاح اللاسامية لم ينته، وسوف يتواصل كي يستخدم ضد منتقدين بارزين لإسرائيل. اللاسامية سيف مصلت فوق زعماء قادمين لحزب العمال تضطرهم لاستئصال أعضاء الحزب ممن يصرون على إبراز إجحاف إسرائيل بالشعب الفلسطيني.
إن أسس اتهام لوتش تافهة تتجذر في منطق دائري بات عادة مالوفة لدى الحكم على ما يفترض عداء لليهود. خطأ لوتش، كما ادعت المنظمتان ، رفضه – بالانسجام مع كل المعطيات-ان حزب العمال مؤسسة لاسامية. كان لوتش من بين مناصري كوربين في محاولته التصدي لتعريف اللاسامية اقترحته منظمة صهيونية. لوتش شخصية عامة يرى من واجبه التعامل مع الناس العاديين المحتاجين الى مساعدة، وبدون ذلك يكون منافقا في ضوء وجهة نظره السياسي. موقف المنظمتين من لوتش يعود الى قضية ما يمكن وما لا يمكن أن يقال عن إسرائيل.
منح لوتش جوائز عدة ، إحداها من منظمة "أرفعوا البطاقة الحمراء بوجه العنصرية"؛ وقد رفضت المنظمة في البداية التحديات والتهديدات من جانب عناصر يهودية، وهي تبذل جهودا لاستئصال العنصري من كرة القدم البريطانية. في بيان صدر عن شركة الإنتاج التي يديرها لوتش ان ستة عشر فيلما سينمائيا حول منظمة "ارفعوا البطاقة الحمراء بوجه العنصرية" باتت "عرضة لحملة عدوانية ترمي إقناع النقابات ودوائر وفرق كرة القدم والسياسيين بوقف التمويل والأعمال الخيرية وأنشطتها. وأكثر من مائتي شخصية بارزة في مجالات الرياضة والأكاديميا والفنون هبوا للدفاع عن لوتش. ونظرا لما يتهدد العمل الخيري، وتحت ضغوط هجوم لم يتوقف خضع لوتش للايتزاز يوم 18 آذار..
.