تحت المجهر مرة أخرى- هدر الثقافة ..هدر الإنسان


سعيد مضيه
الحوار المتمدن - العدد: 6561 - 2020 / 5 / 11 - 17:49
المحور: ملف 1 ايار-ماي يوم العمال العالمي: العمال والكادحين بين وباء -الكورونا- و وباء -الرأسمالية- ودور الحركة العمالية والنقابية     

مرة ثانية تحت المجهر -هدر الثقافة ..هدر الإنسان
كورونا ذكر البشرية بقيمة الوعي العلمي -8
ونصل المعْلم الثالث للثقافة الأبوية المستحدثة في تبعيتها للامبريالية، لكن في البداية نلقي الضوء على ما تنفر منه الثقافة الأبوية، ثم نقارب ما تهفو اليه من فكر مستورد .
ترجمت الدكتورة سحر الهندي من خارج الثقافة الامبريالية كتابا نقض الرواية الصهيونية الامبريالية من أساسها وفضح مفهومي "وطن الآباء" و"أرض الميعاد" زيوفا استشراقية مهدت لتواطؤ الامبريالي الصهيوني مع الأبوية العربية على فلسطين وشعب فلسطين. صدرت ترجمة الكتاب الى العربية ضمن سلسلة " عالم المعرفة" (عدد249 عام1999)، ولكن ضرب حوله سور النسيان ، أسوة بمؤلف شرابي "البنية الأبوية...". أنه كتاب"اختلاق إسرائيل القديمة شطب التاريخ الفلسطيني"، يشع عنوانه بأضواء الحقيقة، وضعه عام 1996 الأكاديمي كيث وايتلام، عرض الكتاب منجزات الأبحاث الأثرية في فلسطين، نفت مزاعم قيام دولة يهودية بفلسطين في العصور القديمة. فعلى إثر اكتشافات الباحثة الأثرية كاثلين مينون في أريحا-حيث بينت بطلان الرواية التوراتية حول احتلال أريحا وإبادة سكانها وحرقها، والتي بني عليها بن غوريون حق تهجير الفلسطينيين " بالإكراه الوحشي"، أي بالمجازر ، شرع آثاريون ملتزمون بالعلم ويعتكفون في محرابه، التنقيب عن الآثار بطريقة علمية. قدم كيث وايتلام عام 1996 عرضا لمنجزات الآثاريين في كتابه ، قيم عاليا إنجاز البروفيسور الفرنسي توماس تومسون أول من قدم رؤية متكاملة استحوذت على انتباه علماء الآثار؛ تميز بقدر من الشجاعة، فقد نتيجتها وظيفته الأكاديمية. نشر كتابه "التاريخ المبكر لشعب إسرائيل من المصادر الآركيولوجية المدونة) عام 1992 وفيه كشف تواطؤ علماء الآثار التوراتيين على التزييف. ظهر توماس تومسون في ميدان الآثار ليفسد الزفة المقامة بمناسبة توحيد القدس. عارض التوراتيين التقليديين، وأورد في كتابه " إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تقوم على الخيال" . فُصِل هذا العالم المتميز من منصبه كأستاذ علم الآثار في جامعة ماركويث في ميلووكي. ولم يستطع نائب رئيس الجامعة إلا أن يشيد بالمكانة العلمية للبروفيسور، إذ برر قرار طرده، بأن "الجامعة تحصل على المساعدات المالية من الكنيسة الكاثوليكية"، و قال إنه " من أبرز علماء الآثار وفي طليعة المختصين بالتاريخ القديم لمنطقة الشرق الأوسط" .كما أقر جوناثان تاب ، وهو يعد بين أعظم علماء تاريخ المنطقة العربية القديم في المتحف البريطاني ان "ثومسون دقيق جدا في بحثه العلمي الكبير وشجاع في التعبير عما كان كثير منا يفكر فيه حدسا منذ زمن طويل ، وكانوا قد فضلوا كتمانه".
البروفيسور كيث وايتلام، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة "ستيرلينغ" في سكوتلاندا، كشف تلفيق تاريخ قديم مزعوم لإسرائيل، وسجل على الثقافة الأبوية المستحدثة التقصير في الاستفادة من بحوث ريادية ، مثل استشراق إدوارد سعيد والاهتمام بالتاريخ الفلسطيني القديم. فضح كيث وايتلام بجرأة كل زيوف الآثاريين التلموديين، مساعرضا تلك البحوث التي تمردت على حكايات التوراة منذ سبعينات القرن الماضي، وكشفت اختلالات التاريخ الفلسطيني وارتباكاتها، ليخلص الى أن " من الواضح أن رؤيتنا للماضي هي شيء سياسي بالدرجة الأولى [ وايتلام : 36]. ادان وايتلام مرارا الزيوف المتعمدة المغرضة ، خدمة لأهداف كولنيالية . وبناء على تزييف التاريخ القديم جاء إعلان قيام دولة إسرائيل بصيغة "إعادة بناء الدولة اليهودية".
ترجع أصول علم الآثار الحديثة إلى فترة تدخل نابليون في مصر، وتواصلت مؤامرات دولية؛ من خلالها سخرت القوى الامبريالية "التاريخ التوراتي والكشف عن الكنوز الأثرية في المنطقة لمصالحها في صراعاتها للهيمنة وإضفاء الشرعية على طموحاتها الاستعمارية. استملاك الماضي هو جزء من سياسة الحاضر. ويمكن تطبيق هذا المبدأ على جميع دول المعمورة[ وايتلام : 39]. تجسيد الحكايات التوراتية تم على شكل تخمينات من نموذج ما طلع به أحد المؤرخين التوراتيين، " لا يمكن للمرء إلا أن يعتقد أن قوما آخرين( غير الكنعانيين) هم الذين أقاموها ، قوما كان من المؤكد أنهم إسرائيليون " [وايتلام : 163].
عمليا تماهى تصور إسرائيل القديمة مع الوقائع العيانية على ارض فلسطين في العقد الثالث من القرن الفائت ، حيث المجتمع الفلسطيني المكون من عشائر، لم يتوحد بعد في كيان متماسك فتصورت التخيلات التوراتية القبائل الكنعانية على هذه الشاكلة. وحيث أن المستوطنين القادمين من مجتمعات متقدمة وجدوا أنفسهم متفوقين على الفلاحين العرب آنذاك ، فلا بد للمتخيَل التوراتي إلا أن يضع الكنعانيين في موقع دوني. مضى اولبرايت، الآثاري التوراتي من المدرسة الآركيولوجية الأميركية شوطا بعيدا في مفارقة العقلانية والتفكير السليم؛ فقرر بناءً على قناعة لاهوتية بدون سند أثري، أن"المجتمع الغربي يعود إلى جذوره. ليس ذلك مصادفة عشوائية؛ لأن التاريخ يقع في مضمار الوحي الإلهي. التاريخ برمته ملك لعلم اللاهوت، وليس التاريخ الإسرائيلي فقط". [ وايتلام : 126]. لتبرير جرائم إسرائيل المخطط لها زعم اولبرايت ان إسرائيل (القديمة المزعومة) كانت الواسطة الإلهية في تدمير حضارة فاسقة، إذ أنه ضمن النظام الأخلاقي للحضارات السماوية يجب تدمير مثل هذا الفجور الفظيع. ومن ناحية أخرى فإن هناك عناية إلهية من وراء اختيار إسرائيل للقيام بهذه المهمة وبإعطائها تلك الأرض. [ وايتلام : 139]. يمعن في تبرير العنف المعد لطرد الشعب الفلسطيني من دياره : لا يمكننا الارتقاء روحيا إلا من خلال الكوارث والمعاناة ، بعد التخلص من العقد النفسية ، وذلك عن طريق التطهر. وهذا التنفيس والتطهر العميق هما اللذان يرافقان التحولات الرئيسة. كل فترات المعاناة الذهنية والمادية هذه ، والتي يتم فيها إعادة القضاء على القديم قبل ولادة الجديد تثمر نماذج اجتماعية مختلفة عقيدة روحانية أعمق [ وايتلام : 131]. وتأييدا لمزاعمه، تباهى بماثرة إبادة السكان الأصليين في أميركا. ربط وايتلام طروحات أولبرايت بوثاق الفكر الاستشراقي السائد حينئذ: " لا يمكن اعتبار هذه الأفكار نتيجة لأفكار شخص ما في فترة زمنية معينة . دراسته وكتاباته شكلت ولا تزال تشكل إدراك أجيال من دارسي التوراة والباحثين في هذا المجال ، خاصة الأميركيين والبريطانيين منهم". ونفس الوثاق رصدها البروفيسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ القديم بجامعة تل أبيب، "مركزية الخرافة التاريخية التوراتية كامنة في الهندسة الإيديولوجية الصهيونية، وفي اللاهوت المتمسك بصنمية النصوص، وكذلك في اعتبارات الاستراتيجية الامبريالية، وفي التعبئة الإيديولوجية المكثفة لأجيال من المسيحيين المخدوعين بسياسات الامبريالية والمتحمسين لحروبها العدوانية".
لدى استعراض كم كبير من معطيات قدمها من سبقوه أو جايلوه ، أكد وايتلام " إذا تمكنا من تغيير المنظور الذي تنبع منه التصورات لنبين أن خطاب الدراسات التوراتية قد اختلق تاريخا كثيرا ما يعكس حاضرها في كثير من جوانبه ، عندئذ فقط يمكن أن نحرر التاريخ الفلسطيني[وايتلام : 321].
لم تدخل معطيات كتاب وايتلام، ومن ثم إنجازات التنقيب الأثري في فلسطين الثقافة الأبوية، ولم تفطن لها قوى التغيير؛ فبقيت مجهولة حتى الزمن الراهن. ظهر الكتاب عام 1996، وهو نفس العام الذي تلقى فيه نتنياهو تقرير المحافظين الجدد المتضمن توصية بعدم الانسحاب من الضفة الغربية. مضى مخطط المحافظين الجدد في التنفيذ العملي حتى بات واقعا على الأرض، مستعمرات يهودية تحاصر التجمعات العربية، بينما لم ترتفع من الجانب الفلسطيني الرسمي او الشعبي ، لافتة حتى ولا شارة تقرن الاستيطان اليهودي باستيطان للمستعمرين الأوروبيين في الجزائر وموزمبيق وجنوب إفريقيا وغيرها من المناطق. القصور العربي في هذا المجال يحيل فلسطين أستراليا أو كندا.
الكتاب والمثقفون وكذلك السياسيون العرب والفلسطينيين، أنصار التغيير الديمقراطي فصمتهم يعتبر تقصيرا مريعا ومشينا؛ بيما استنكاف مثقفي الأبوية المستحدثة عن الاهتمام بالكتاب أمر طبيعي.
الاستيراد الفكري لا يتم بتوجهات التغيير، بل من اجل تدعيم النظام الأبوي. " لم ننتج علما بل علماء، ولا علوما طبية بل أطباء، ولا علم اجتماع بل علماء وهكذا دواليك. ومع أن خريجي هذه المراكز والمؤسسات التعليمية المحلية كانوا في معظمهم وطنيين في اتجاهاتهم السياسية ، إلا أنهم كانوا ثقافيا ونفسيا تحت تأثير الغرب والأكثر تبعية للثقافة الغربية[1/100].
في بدايات القرن العشرين جرى التنبيه من ان استيراد العلوم والآلات لا يحقق تنمية مستقلة ومستدامة، إذ يبقي على التبعية للغرب. الآلات المستوردة تعتبر قديمة بالنسبة لما تحويه مصانع الغرب، وإنتاجيتها لا تنافس مثيلاتها في الغرب. كما أن استعمال المعدات والآلات لا ينعكس في الوعي ثقافة علمية. "القصور موازي في نقل المعرفة العلمية والتقنية ؛ فعلى الرغم من الاحتكاك بالمعارف الأوروبية بدءًا من عشرينات القرن الماضي(يقصد القرن التاسع عشر) ، حين وصلت البعثات الطلابية الى باريس، وبعد قرن ونصف القرن ما زال الطلاب يتوجهون الى الغرب بحجة علمية للوقوف على طرائق العلوم والمعارف[1/111]. طوال قرن ونصف القرن لم يتحول العالم العربي إلى إنتاج المعرفة بنواميس الطبيعة، استهلاك بدون استيعاب واستهلاك بدون إبداع؛ علاوة على ان التطوير المضطرد للتقاني هو الذي يوفر مجالات استيعاب الأيدي العاملة التي تدخل السوق بلا توقف. والأهم من ذلك "ان التقانة ليست مجرد مجموعة من المهارات الفردية والأجهزة الصماء، وإنما هي بنية علاقات اجتماعية معقدة تفرض تقسيما متطورا ومتناسقا للعمل. وهذا ما لا نجده في الوطن العربي"[2/ 186].
وبصدد استيراد الأفكار عن طريق الترجمة لاحظ شرابي افتقار المترجمين الى "الفهم العميق للسياق الحضاري للغة" ، أي استيعاب بنياتها الموحدة للتصورات والمقولات والرموز اللغوية. وقدم أبو زيد تفسيرا لما أورده الشرابي:
صاغ المفكرون المسلمون مفهوم "اللغة" بوصفها نظاما من العلامات الاصطلاحية، وجاء العالم السويسري ألفريد دي سوسير في كتابه الهام ‘محاضرات في علم اللغة’، فعمق العلاقة بين ‘اللفظ او الدال’ و‘المعنى او المدلول’. النتيجة التي توصل إليها دي سوسير أن ‘العلاقة’ اللغوية عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران (المفهوم والصورة السمعية- الإدراك الحسي ) ارتباطا وثيقا بحيث يتطلب وجود أحدهما وجود الآخر. لقد صارت العلاقة بين اللغة والعالم محكومة بأفق المفاهيم والتصورات الذهنية الثقافية. أحدث هذا التصور ثورة في علاقات الفكر باللغة وفي طبيعة النظام الرمزي للغة، والفرق بينه وبين الأنظمة الرمزية الأخرى داخل النظام الثقافي نفسه. هذه الثورة الفكرية غائبة تماما عن وعي كل الذين يتوهمون اللغة نظاما ساكنا بسيطا يدل على الأشياء ، أو يستدعيها، ويتصورون بالتالي أنها نظام إشاري... اللغة في قلب ‘الثقافي’ والثقافي، وإن كان يتجلى في أكثر من مظهر – كالأعراف والتقاليد وأنماط السلوك والاحتفالات والشعائر الدينية والفنون- فاللغة تمثل النظام المركزي الذي يعبر عن كل المظاهر الثقافية... الثقافة ليست قيمة مضافة يمكن تصور الوجود الإنساني بدونها، ليست مرتبطة بالتعليم ، والثقافة ليست نقيضا للجهل ؛ إنما الثقافة تعني تحول الكائن من مجرد الوجود الطبيعي الى ‘الوعي ’ بهذا الوجود. وهو وعي يفصله عن الموجودات الطبيعية الأخرى غير الواعية، ويسمح له بالسيطرة عليها[2/78،79].
الترجمة عن اللغات الأجنبية لا تنفذ الى جوهر الفكر المترجم. مقاربة الفكر الأبوي المستحدث ، وكذلك الفكر القومي واليساري للفكر الأوروبي "تقليد غير محكم / وعي صنمي يحول النماذج الثقافية الى أصنام - ترجمات طبق الأصل عن النماذج الأوروبية ، بدون نقد او وعي ذاتي. لا يصدق على الأفكار والمؤسسات " المستوردة" فحسب ، بل ينسحب على الأفكار والمؤسسات التي تبدو أنها محلية او ناشئة ذاتيا. "[1/41].
ننقل مثالا على ما تقدم عن مهدي عامل. لدى مناقشة تحريف فكرة ماركس حول دور انكلترا في تقويض المجتمع الهندي، فالنص الإنجليزي لا يتحدث عن "إنجاز" التغيير الوارد في إحدى الترجمات، بل حرفيا على ‘الإتيان به ’، وبالفرنسية ‘استثارة " التغيير. يخلص الى القول " ثمة فارق كبير بين ان تكون انكلترا، كما هي في النص الماركسي ‘ أداة غير واعية للتاريخ’ في حركة موضوعية يجري فيها التاريخ بحسب منطقه المادي الديالكتيكي ، ومن خارج الوعي والإرادة الإنسانيين ، بل ضدهما، وبين ان تكون ، كما في هذا التأويل سيدة التاريخ في حركة قاصدة يجري فيها التاريخ حسب منطقها الأيديولوجي ..."[3 /114]. المؤسسات العلمية الغربية عززت أنمطها التربوية ودرجت على استخدام الانجليزية على انها لغة الاتصال العلمي ، إضافة الى إعطاء الأولوية لسبل العلم الاجتماعي التجريبي ونماذج التفكير والممارسة الأميركية لعبت أموال تلك المؤسسات دورا هاما في توجيه الطاقات والموارد المحلية لدعم الوضع السائد لمنفعة السياسة الأميركية [1/101].
انصرفت الأبوية المستحدثة الى التقليد وأقلعت عن النقد، "فحرمت نفسها ومنذ البدء من ابرز فرصة للتطور باتجاه موقف مستقل وواع كان ليمكنها بعد استيعاب صدمة أوروبا من تمهيد السبيل أمام الفهم العلمي[1/119].. بقي الوعي العربي خاملا أو جامدا وقابعا في مصاف موقف سابق على التفكير العلمي ومنصرفا الى التمحيص الأدبي العقائدي وقادرا على صياغة النقد الساذج فحسب[1/120].
ضمن السياق الحضاري استمر الفكر في نظر المثقف المحدّث أصناما ، محاكاة ، وامتثالا. تنقل عن الحضارة الرأسمالية قشورها المهترئة، ولا تنفذ الى اللب. "لا يؤخذ بالأفكار والممارسات والمؤسسات عبر النقد؛ ولكن بالإشارة الى نموذج القومية العربية مرجعيتها أوروبية، وكذلك السياسة ببعديها العقائدي والعملي انعكاس للنماذج الأوروبية. والحداثوية في ظل الأبوية ممارسة صنمية ثابتة غير نقدية. هنا تبرز بشكل واضح الخاصية المشوهة والزائفة للحداثوية العربية" [1/42]. المثقف الأبوي المستحدث وظيفته الولاء ودعم النظام ، ولا يحفل بمهمة التغيير المتطلبة ثقافة عملية وقدرة تخطيط وتنظيم. الثقافة لدى المثقف الأبوي وسيلة نفوذ وهيمنة، خاصة وأن اللغة العربية الكلاسيكية تقوم بإنتاج صنف من الخطاب يعبر عن "إيديولوجيا مزدوجة : كامنة في سحر اللغة، ناجمة عن استخدام الألفاظ الرنانة والمفردات الخطابية والأساليب البيانية والإحالات الداخلية، ومستمدة من سلطوية اللغة الناتجة عن والمنتشرة في ظل حماية السلطة السياسية الحاكمة أو التيار الديني السائد، يقدم البلاغة على المضمون ، مجالها الخطابة وليس العلم، الغيبي وليس المرئي، وأولوية القول على الكتابة[1/107].
تقوم الأنظمة الأبوية على قمع المعارضة وتعتبرها خصوما؛ ولم تعد تخفي استنادها الى حماية الولايات المتحدة ، التي أوهمتهم أن العدو المشترك يتهددهم مثلما يتهدد إسرائيل، ولا بد من تنسيق الجهود وتكاملها.
والهدف هنا هو إبقاء العالم العربي في حالة من الهشاشة والتعرض القصوى.يؤدي الى ذلك رفض الوحدة العربية التي لا يستوعبها الغرب إلا بوصفها كابوسا مزعجا ويؤدي الى ذلك أيضا، الإبقاء على الأنظمة الخليجية المتخلفة والإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي المطلق، ورفض حق الفلسطينيين في الوجود. الخ [4/ 21].
فرغ هشام شرابي من مؤلفه عام 1988؛حينذاك لم تكن قد برزت آثار الخطى الهمجية لليبرالية الجديدة في مجالي الاقتصاد والثقافة. أدخلت الليبرالية الجديدة العالم في عولمة جديدة شهدت سعار الاحتكارات عابرة الجنسية لتحصل أقصى الأرباح وتجريف الثقافات الوطنية. أشاعت ثقافة الليبرالية في العالم العنف والكراهية العرقية والقسوة ؛سفهت التضامن مع المستضعفين ضحايا عمليات الخصخصة والتكيف الاقتصادي مع السوق. ركزت على إنتاج ثقافتها ودفعها لتتدفق عبر القنوات الإعلامية المتضخمة بتأثير ثورة التقاني؛ و توجهت بثقافتها لسحق إنسانية البشر كي تنسى عقولهم ونفوسهم مفهوم التحرر والرفاه أو الديمقراطية.
قارب العلامة هنري غيروكس بؤس رأسمالية الليبرالية الجديدة من مدخل العسكرة في زمن أزمة الوباء، في مقال نشره يوم 24 ابريل: غدت "الحرب" المجاز الملح لهدف، ولها تاريخ طويل في السجالات أثناء الأزمات. العسكرة باتت الملمح المركزي لعصر الوباء المستفحل وتشير الى هيمنة القيم الحربية في المجتمع. وبتحدي أدق يعرّف ميشيل غيير الحرب بأنها " العملية الاجتماعية التناقضية والمتوترة حيث المجتمع المدني ينظم نفسه من أجل إنتاج العنف".(يشكل هذا التعامل الإجباري مع الموت رأسمالية الكازينو): حكايات المستشفيات المكتظة بالولايات المتحدة ، الممرضات مرهقات وبلا أجور مضطرات لعمل أقنعة من واقيات المطر القديمة ومن الشرائط ، يغامرن بكل شيء لكي يقدمن الشوربا للمرضى، ولايات تستجدي الواحدة من الأخرى أجهزة تنفس اصطناعي، أطباء في حيرة أي المرضى يعالج وأيهم يترك ليموت
اطلق غيروكس صفة رأسمالية الكازينو على الليبرالية الجديدة، تعريضا بالقسوة الهمجية ، ضحاياها ممن تسحقهم آلة الليبرالية الجديدة وتستنزفهم حتى الثمالة تتركهم للموت البطيء .
المراجع- 1؛ هشام شرابي: البنية الأبوية إشكالية التخلف الاجتماعي في المجتمع العربي
2- نصر حامد ابوزيد: النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة
4- سمير أمين: امبراطورية الفوضى، ترجمة سناء أبوشقرا-دار الفارابي، بيروت1991
يتبع الحلقة الأخيرة