مشاهدة للحب في زمن الكوليرا (من أمام شاشة الحجر المنزلي ، في زمن الكورونا) ..


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 6559 - 2020 / 5 / 9 - 14:41
المحور: الادب والفن     

انتهيت من مشاهدة فيلم (الحب في زمن الكوليرا) المأخوذ عن الرواية الشهيرة الكاتب العالمي الإستثنائي حابرييل جارسيا ماركيز ..
، ولاأدعي بلوغي أي مبلغ من العلم في فن السينما ، وإن كنت فقط أسجل انطباعاتي كمشاهد مولع بهذا الفن وبكل الفنون البصرية ..
، ومن هذا التموضع المفتقر للكثير من الأدوات المعرفية اللازمة أعتقد أن الفيلم رغم رحابة إمكانات وقدرات فن السينما لم يرتقي إلي مستوي الرواية لإسباب ربما تتعلق بالطبيعة البنيوية لعالم ماركيز السردي الجميل ..
فبالرغم من أن السيناريو قد ألتزم تماماً بالمسار السردي الذي اتخذته الرواية ، من حيث التقاطع الهندسي التي جرت عليها مسارات هذا السرد لنكون أمام زمنين للسرد ..
زمن شكلي يبدأ من حيث لحظة وفاة السيد (جوفينال أوربينو) ثم استقبال العجوز (فيرمينا دازا) لعزاء الرجل المسن (فلورنتينو آريثا) ويدور بنا إلي أن ينتهي عند هذه اللحظة ليس عبر تقاطع الفلاش باك وإنما عبر تدفق أحداث جديدة تولد مشاهد قديمة وهكذا ..
ثم زمن حقيقي للسرد يبدأ من نهايات القرن التاسع عشر في عالم المدينة الساحلية الكولومبية (كارتخينا) وهي منطقة ينتسب أسمها إلي مينائها (قرطاجنة) الذي يطل علي البحر الكاريبي من أقصي شمال كولومبيا .. ذلك الميناء الذي ظل لزمن طويل هو مركز لحركة التجارة الأسبانية مع مستوطناتها في أمريكا الجنوبية وأصبح في القرن العشرين أحد مراكز التجارة والهيمنة للشركات الإمبريالية الكبري (احتكارات الموز والتلغراف والنحاس والبترول والإحتكارات الأخري) ، ومدينة (كارتخينا) أو (قرطاجنة) تقع في نفس الوقت علي نهر ماجدولينا الكولومبي التي يمثل ميناؤها نقطة إلتقاءه ومصبه بالبحر الكاريبي ، ولذلك كانت المدينة هي أيضاً هي أحد محطات النقل والمواصلات والتجارة النهرية ، ومع ذلك ظلت غالبية سكانها فقراء شأنها شأن كل مدن وقري كولومبيا التي تظهر في روايات جابرييل جارسيا ماركيز نتيجة هيمنة الحروب الأهلية عليها طوال الوقت ، وسطوة أغنيائها المدعومين من قبل المستعمر الكلونيالي أو الذين أصبحوا فيمابعد وكلاء وعملاء للشركات الإحتكارية يحققون مصالحها في النهب الإستعماري ..
وتبدأ زمنية السرد الحقيقي مسارها هنا مع تولد قصة حب الشاب الصغير الفقير (فلورنتينو أريثا) للفتاة الجميلة أبنة تاجر البغال الميسور (فيرمينا دازا) ، بالتزامن المتقاطع والتصارع مع تصاعد الحروب الأهلية العبثية المهدرة لأنهار من الدماء والأرواح الآدمية من جهة ، وتفشي وباء الكوليرا المميت من جهة أخري ..
.. هذا الحب المتأجج مابين الفتي فلورنتينو والفتاة العذراء فيرمينا يتخذ طابعاً رومانسياً عذرياً حالماً وشديد السرية عبر تبادل الرسائل يدوياً بواسطة شغالات بيت السيد جيوفينال والد فيرمينا (نتيحة للفارق الطبقي مابين الحبيب والمحبوبة ، ومن ثم المحبوبة والحبيب) ..
يمر الحب الذي جري في دماء وحبائل فلونتينو العصبية بصدمة وهزيمة كبري مفاجئة علي أثر أول لقاء مباشر تعرفت فيه فيرمينا عن قرب ووجهاً لوجه في قلب سوق المدينة علي فلورنتينو الذي بدا عليةغير هيئته التي حلمت بها ورسمتها في مخيلتها ، ومصارحتها له بأنها لم تحب إلا وهماً وأن عليه ألايراها ثانية ..
ويعيش فلورنتينو حياته محتفظاً بنيران هذا الحب داخله مكتوياً بها إلي أن ينتهي هذا المسار بانتصار هذا الحب علي الشيخوخة والموت والحروب والكوليرا ، وتلتحم كل مكونات فيرمينا وفولنتيرو الجسدية والروحية والوجدانية علي علي ظهر سفينة في مسار لانهائي يمنح لزمنية الحب الخلود والبقاء الأبدي ..
ذلك ماالتزم به سيناريو الفيلم السينمائي الذي أخرجه المخرج البريطاني (مايك نيويل)
إلا أنه فشل في أن يجسد تلك الحرارة المتولدة عن الطاقة التي تفجرها عوالم ماركيز السردية في هذه الرواية ، بما يجعله قد جاء خالياً من ذلك الحس الذي فجرته طاقات السرد لدي قارئ الرواية ..
ربما كانت تلك ضريبة سيدفعها كل من يقدم علي تقديم أعمال ماركيز للسينما .. ذلك لإن عالم ماركيز السردي عالم له خيال من طراز خاص .. مفعم بالطاقة الروحية والحسية التي تتفجر مع قراءة كل سطر سردي ، وتتجدد مع كل قراءة جديدة له علي نحو متباين ومتنوع .. بحيث يصعب الإمساك بنمطية ما قد تتحكم في طاقتة ، ومن ثم يصعب تجسيد هذه الطاقة كرؤية بصرية بنفس حرارتها ، وبنفس اندفاعاتها الإنفجارية المشعة بالدلالات والمفعمة بالذبذبات والاختلاجات الداخلية الموحية ..
ولهذا اعتقد أن ماوصلت إليه السينما من براعة لن يلبي - بعد وعلي نحو يحقق مايتلائم من ترضية مرجوة - تلك المقتضيات البصرية الإبداعية التي تعج بها سرديات جابرييل جارسيا ماركيز المخصبة بالإشعاع السحري ، وربما في ذلك تكمن أسرار عبقريات روايات ماركيز ذاتها ..
وربما كان الحل الوحيد في ذلك هو أن نجد لدينا مايماثل عبقرية ماركيز نفسه في كتابة السيناريو ، ومايماثلها في الإخراج ، ثم مجموعة من الممثلين تتلبسهم أرواح المخلوقات والكائنات المركيزية ، وهذا في الحقيقة أمر يصعب تحقيقه إلي مدي بعيد ..
جسد الممثل الأسباني الرائع (خافيير باردم) الذي ربما لاتشفع له براعته تجسيده لدور (فلورنتينو آريثا) بطل رواية ماركيز العاشق الذي يدرك منذ صباه أن يتعرض للدغة الحب الأولي أن جوهر الحياة ، وعلة استمرارها يكمن في الحب ، فيكرس حياته لمطاردة هذا الحب الذي مرض هو به في وقت تفشي فيه وباء الكوليرا في بلد تعاني من الفقر والحروب الدموية الأهلية ، فيكون الحب هو بذرة أمله الأولي ، حصنه وملاذه وأمله الوحيد في النجاة من الموت ومواجهة وطأة عالمه البائس ، وهو يتحول منذ أن يتسبب أيضاً في جرحه الذاتي الأول وألمه وصدمة حياته الأولي بعد أن تخبره حبيبته الأبدية (فيرمينتا دازا) التي كانت تحلم به وتهيم برسائله ، في وسط السوق حيث أول لقاء لهما أنها بعد النظر إلي هيئته اكتشفت أنه محض وهم وعليه أن يبتعد نهائياً عن طريقها وتتزوج من طبيبها المرموق ويعيش ذروة لحظات حزنه ونزيفه الداخلي عندما يعلم أنها سافرت مع عريسها إلي باريس لقضاء شهر العسل فتصبح فيرمينا (التي جسدت شخصيتها في الفيلم الممثلة الإيطالية التي كانت تجاهد في آن واحد ثقل عمل الماكيير علي وجهها من جهة ومن جهة أخري محدودية قدراتها التمثيلية في هذا الفيلم "جيوفانا ميزوجورنو") ..
فرمينا إذن هي صانعة ألم فلورنتينو الأبدي ، وفي نفس الوقت أمله الأبدي ، وهما (الأمل والألم) سقمه الذي لن يبرحه إلا بتحقق إرادة إلتصاق أبدي في يوم سيأتي وإن طال زمنه مع طول زمن تفشي وباء الكوليرا بين أبناء جلدته ..
ويكون نجاح فلورنتينو في تسكين آلامه النفسية والروحية الرهيبة وجراح أمله لابنسيان هذا الحب عبر الأفيون الذي لجأ إليه في البداية ولاالتخلص من مرضه الذي تمكن نهائياً منه كمقابل لتمكن مرض الكوليرا من عالم مدينته البائسة
.. بل يتم ذلك عبر الاستسلام الكامل لطاقة الحب الهادرة (بعد أن يتعرض كإنسان بائس لحادثة اغتصاب عاصفة في لحظة غامضة من إمرأة مجهولة تختطفه في عمق مظلم ثم تركله إلي الخارج مشدوها بعد أن تفرغ من إشباع رغبتها محذرة أياه من تذكر هذا الأمر ثانية) ، إلي أن يتحول فلورتينو ذاته فيصبح طاقة هائلة فياضة وغامرة وجامحة في نفس الوقت من الحب الجنسي للنساء حتي يقوي علي حراسة ذلك الأمل الذي يرقد في روحه ويستبد بها ليسهر عليه وينميه ويربيه داخله ليكبر يوما بعد يوم .. إنه حب فيرمينيا ذلك الأمل في التحقق النهائي لحب حياته ومرضه وهيامه المزمن ..
ليظل تمسكه بهذا الأمل هو شراعه الوحيد الذي يقوده عبر عواصف بحر الحياة ويعينه للتغلب عليها والوصول إلي قدر هائل من الإستطاعة نحو صنعه لعالم ذاتي يهرب به نحو عمق أعماق تحقق عنفوان الحياة ومستقر بهجتها اللانهائية والتي تتمثل في إستقرار حافلته النهرية في رحلة لانهاية لها في حين يرقد هو ومحبوبته الأبدية (فيرمينا) بعد المشهد الافتتاحي للفيلم الذي إلتزم تماماً بالمسار السردي الذي خطه ماركيز في روايته ... حيث تفرغ فيرمينا من تلقي التعازي من الأهل والأقرباء والأصدقاء والجيران في زوجها المتوفي فتفاجئ بكلمات فيلونتيرو الذي تأخر ليقف منفرداً أمامها كآخر من يقدموا العزاء وآخر من في الغرفة وجها لوجه ..
لم تكن كلمات فلورنتينو علي عكس المتوقع كلمات عزاء تقليدية متضامنة مع حزن اللحظة ، ولم تكن في نفس الوقت تلك الكلمات الحارة التي تشد من أزر الشخص ..
، وإنما جاءت ككلمات متمردة كل التمرد علي السياق الجنائزي وآدابه الراسخة رسوخ المراسم ذاتها ، بل جاءت علي نحو مغاير ومنافر جدد فيها فلورنتينو الوعد القديم بالحب والإخلاص لهذا الحب مهما كانت الأحوال ، علي نحو لم تستطع فيرمينا سيدة المجتمع المسنة الوقورة في أول أيام ترملها إلا أن تطرده خارج المنزل بعنف وغضب شديدين طالبة منه ألا يطلعها هذا العجوز الغريب غير المهذب علي سحنته مرة ثانية ، وهذا مالم يتحقق بالفعل .. إذ توالت رسائله عليها كعاشق بشكل لم تستطع - مع تقادم أيام ترملها ووحدتها - أن تقاومه داخلها ..
، ومع توالي الرسائل قبلت أن يزورها كصديق للعائلة .. إلا أن شياطين الحب وملائكته النبيلة المخلصة تحالفا عليها ، وبدأت رويداً رويداً تستعيد ذكرياتها القديمة مع بدايات هذا الحب إلي أن استسلمت هي نفسها لهذا الحب بعد أن أصبحت عجوز بولع أعاد لها شغفها الداخلي بالحياة ، لينتهي الأمر (والزمن السردي الحقيقي) بالعاشقين العجوزين عاريين تماماً إلا من مشاعر الحب الداخلي والعشق الأبدي علي سريرهما في جناح أعده خصيصاً العاشق فلورنتينو علي ظهر حافلة النقل النهرية المملوكة له والتي رفعت الراية التي يتقاسمها اللونان الأسود والأصفر (بأمر مكتوب من فلنتيرو لقبطانها) وهي الراية التي كان متعارفاً عليها بحيث لاتكون السفن التي ترفعها ملزمة بالحصول علي أي ترخيص أو ضرورة الرسو علي أي نقطة رسو أو تفتيش أو ميناء من موانئ النهر ، لتبقي في سيرها اللانهائي في نهر ماجدولينا ، علي صوت أغنية المغنية الكولومبية شاكيرا المفعم بعنفوان الحب وسحره والمصاحب لذلك المشهد الذي تمضي فيه السفينة الخالية إلا من الحبيبين ، باعتبارها سفينة تحمل بين ركابها موبوئين بالكوليرا ،
، وهي كانت في حقيقة الأمر لاتحمل إلا عاشقين موبوئين بوباء الحياة الخالد الأبدي اللذيذ ، وسر بقاءها الأول ..
إنه وباء الحب
الذي ينتصر دائماً بالإنسان والكائنات علي كل مظاهر وقوي الموت ..