حوار مع كوفيد-19


محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن - العدد: 6538 - 2020 / 4 / 15 - 20:42
المحور: الادب والفن     

مضى حتى الآن شهر تقريبا وأنا وأسرتي في معتقل كورونا. محددة إقامتي في بيتي. ممنوع من السفر، ومن الاقتراب والاشتياق والابتسام، بسبب ضيفنا العتيد المدعو كوفيد. وحتى نستطيع التمييز بينه وبين باقي الكوافيد، أعطيناه الرقم 19.

ضيف ثقيل رزل، عامل زي حكامنا الأشاوس. نازل قتل في الناس وتدمير في اقتصاديات الدول، وموش عاوز يغور في ستين داهية. لسان حاله يقول: "لن أبرح هذا المكان إلا على أسنة الرماح". طيب يا سيد كوفيد، والله اسمك حلو وجميل، يصلح لأبناء الملوك والأمراء ومواليد الأحياء الراقية.

يا سيد كوفيد، أنت واخد الرجال، عمال على بطال، وكذلك النسوان والأطفال. متوصي شوية بالعواجيز كبار السن، طيب فين الرحمة؟ وأين شهامة الأقوياء والأكابر وأخلاق الفرسان؟

أنت لا تفرق بين طيب وخبيث، وغث وثمين. عامل كالو في دماغ ترامب وباقي حكام الدول المفترية وغير المفترية. لا تأخذ الناس بأعمالها، زي ما بتقول كتبنا المقدسة، ويردده مشايخنا وكهنتنا الكرام.

ألا تخف من سخطهم ودعائهم وكنسهم الجوامع عليك؟ وكيف تواجه الثعبان الأقرع في القبر؟ وماذا تفعل يوم الحشر؟ ألا تخشى عذاب النار وانتقام الواحد القهار؟

فيجيبني المدعو كوفيد-19 من وراء زجاج النافذة قائلا: ها أو أو. أنا يا حبيبي ماليش روح تتعذب في القبر أو في الآخرة. أنا حاجة كده زي بلورة ملح الطعام. مجرد تركيبة ذرات على بعضها تحمل رسالة معينة.

طيب جيت لينا من أي داهية؟ من الفضاء الخارجي مع الشهب، والا من معامل الحروب الكيماوية للدول المفترية، والا من الوطاويط زي ما بيقولوا في الأخبار؟ ومين اللي حدفك علينا دلوقتي؟

موش مهم أنا جيت منين. المهم أنا جيت دلوقتي، لأنني وجدت الجنس البشري يزداد إجراما وافتراء يوما بعد يوم. فقلت نوقفه عند حده، ونديله درس لن ينساه.

القوي فيكم ينهب ويقتل الضعيف، عندما يجد فرصة. الرجل يستبد بالمرأة ويعاملها كجارية له ولأولاده. الأمم القوية تسلب الضعيفة ثرواتها وخيرات بلادها.

الحكام تكذب وتفتري وتستبد بشعوبها. هذا يعتقل ويقتل، وذاك يسجن وينشر، والكل يسرق وينهب ويكذب، حتى يبقوا في السلطة لمواصلة النهب والسرقة.

الشعوب تنافق الحكام، ويكره الجار جاره، يحسده ويحقد عليه. كما أنكم تلوثون البيئة وتقطعون الأشجار، وتلقون السموم في البحار والأنهار، والقاذورات في الشوارع والحارات. فهل تأسف على فناء مثل هؤلاء؟

قل لي بالله عليك، كم مرة تأملت فيها قطرات الندى على الأغصان، ونظرت إليها وهي عالقة بخيوط بيت العنكبوت، مثل فصوص الماس، تضوي تحت شمس الصباح؟ وكم مرة شاهدت فيها البدر أو النجوم؟

كم مرة راقبت فيها الشمس وهي تشرق أو تغرب، ولاحظت كيف يتغير لونها من الأصفر الذهبي إلى الأرجواني القاتم؟ ومتى جلست وقت العصاري تستمتع بشدو الطيور، أو تنصت إلى حفيف أوراق الدر والحور؟ أنتم لا تستحقون الحياة. لقد أعماكم الجشع وغررت بكم التكنولوجيا.

طيب يا سيد كوفيد، أمهلنا من الزمن شوية حتى نصنع سفينة مثل سفينة نوح. نضع فيها الناس الطيبين، ومن الحيوانات والبهائم والحشرات كل زوج إثنين. وحتى ننقذ مكتبة الكنجرس وباقي المكتبات، وكل ما أنتجه العقل البشري من تكنولوجيا ومعلومات.

ها أو أو. علشان نعيد الحكاية من جديد ونرجع تاني زي ما كنا. لا يا حضرت، أنا عاوز ناس تانية، ناس سعيدة على الفطرة. تعيش في أحضان الطبيعة. تأخذ منها فقط ما يكفيها. تزرع وتحصد وتغرس الأشجار. تغرس منها أكثر مما يسقطه الريح، أو يتلفه الحريق. وتنبت منها زهورا على شاطئي الأنهار وجانبي الطريق.

عاوز ناس تعمل بالنهار وتنام بالليل. تتزاور وتتحدث إلى بعضها البعض. تتزوج منهم الفتاة من تحب، وكذلك الفتى. يعمل كل منهم في المهنة التي يعشقها. ناس أحرار. تتأمل وتفكر وتبتكر بدون قيد أو شرط. يتعاونون على السراء والضراء. يتعاملون مع بعضهم كما يودون أن تعاملهم الناس.

عاوز ناس تذهب للمسارح لكي ترى الممثل بشحمه ولحمه، لا ناس تشاهد خيالات وهمية على الشاشة والتليفزيون فيبتعدون عن الواقع. عاوز ناس تعشق الموسيقى الجيدة وترفض أعاني مثل "مبلاش من تحت يا حودة".

عاوزكم تطلقوا الحريات، وتلغوا أحكام الإعدامات، وتغلقوا السجون والمعتقلات. وتحولوها إلى عيادات نفسية وطبية ومدارس ومراكز تأهيل مهني. إلغوا المؤسسات الدينية وأولها الأزهر، واتروا الناس كلها تؤمن كما تشاء، فالدين علاقة بين العبد وربه، لا شأن للآخرين به.

إلغوا الجيوش، وبأموالها وأموال المؤسسات الدينية، انفقوا على التعليم والبحث العلمي وعلاج المرضى ومحاربة السرطان والميكروبات والجراثيم والأمراض الفتاكة. ها هاي، ميكروبات فتاكة مثلي.

عندها سوف أختفي من الوجود. و أعدكم لن تروني مرة أخرى. فأنا مجرد فكرة. تعليمات مكتوبة بحروف أربعة، ومحاطة بجزيئات بروتين. أيتكم من المجهول، لا أكثر ولا أقل. هذه هي الطريقة الوحيدة للخلاص مني. ولن يجدي معي غير ذلك.