نتيجة التخبُّط بين ثقافتين


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6535 - 2020 / 4 / 11 - 23:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لا يوجد شعب واحد في العالم يعاني من الضلال الثقافي، مثلما تعاني شعوب العربان والمتأسلمين، فمنذ زمن بعيد وهم يعيشون في تخبط وحيرة وانفصام سلوكي حاد بين ثقافتين على طرفي نقيض، ثقافة ظلامية تطغى على أخرى متنورة، ثقافة الجهل على ثقافة العلم، ثقافة البداوة على ثقافة الحضارة، ثقافة النقل على ثقافة العقل، ثقافة قال الله وقال الرسول وابن باز وأمثاله على ثقافة العقل والعلم وتحقيق التقدم والرقي الإنساني. ولم يتوقف الأمر عند طغيان الأولى على الثانية فحسب، بل يتعداه غالبًا إلى تقزيمها، ومحاولة تسفِّيه المطالبين بها، أنظر المقال التالي:
https://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/9/25/التنويريون-آفة-العصر
فشعوب كثيرة في العالم حسمت أمرها واستقرت على استعمال العقل وتنقية تاريخها وثقافتها من الشوائب الخرافية، وفضلت التصالح مع نفسها، فاعترفت بما ارتكبه أسلافها من مخازي وجرائم في حق الإنسانية، بل وقدمت اعتذارًا عنها. لم تكابر ولم تعاند كي تجد لها مكانًا مشرفًا في المنظومة الدولية، بينما العربان وأتباعهم المتأسلمون مازالوا في ضلالهم يعمهون وبجرائم أجدادهم يتباهون!
كيف حدث هذا، ولماذا؟
عندما سئل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت عام 1784 في نقاش حول التنوير: هل نحن نعيش الآن في عصر متنوِّر؟ إجاب: لا، بل نعيش في عصر التّنوير. بمعنى أن عملية الإنارة والتوضيح والفهم والانعتاق كانت مستمرة آنذاك. وكان مصطلح التنوير قد ظهر قبل ذلك لأول مرة عام 1733 في فرنسا، ثم استخدم بعد ذلك في عدد من كتابات المفكرين دون تحديد شامل لمعانيه. وقد ارتبط فلسفيًّا بحركة شملت أوروبّا، والتزمت بفكرة إعمال العقل في فهم الواقع، والوقوف ضدّ الحروب الدينيّة المذهبيّة، ولم تكن عملاً معاديًا أبدًا للدين. بل أنّ ظهورها كان نتيجة للصراعات الدّينيّة الدّمويّة التي عرفتها أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. 
وفي نوفمبر عام 1784 نشرت دورية (شهرية برلين Berlinische Monatschrift ) الألمانية مقالًا لكانت بعنوان: ما التنوير؟ Was ist Aufklarung?، وضَّح فيه الخطوط العريضة لمعنى التنوير. فعرّفه - باختصار - أنه الانعتاق أو الخلاص أو ”الخروج“ من حالة العجز أو القصور الذاتي. هذا الانعتاق هو الذي يميز الأنوار، وبدونه لن يكون هناك تنوير، وبيِّن كانط أن حالة العجز أو القصور تعني وضع معيَّن لإرادة الإنسان، يسمح له بقبول وصايا شخص آخر من أجل توجيهه في مجالات يكون من الأفضل له أن يستعمل فيها عقله، ويتصرف حيالها بفهمه وبضميره. فنحن نخضع لحالة من “العجز أو القصور” عندما يقوم كِتاب ما مقام فهمنا، أو عندما يقوم رجل دين مقام ضميرنا.
وأضاف كانت: إن التنوير لا يحدث إلَّا بتغيير العلاقة الموجودة سلفا بين الإرادة والسلطات واستخدام العقل. والفصل تمامًا بين ما يرجع إلى الطاعة والخضوع وبين ما يرجع إلى استعمال العقل، فحالة العجز أو القصور الذاتي ما هي إلَّا الرضوخ لمطلب : “لا تعملوا الفكر بل أطيعوا” وهذا هو المطلب الذي يعتمد عليه عادة النظم العسكرية والسلطات الدينية والسياسية في ممارسة أنشطتها.
وقال: « إن لم يكن السبب في ذلك العجز هو عدم النضج الذاتي أو نقص في ملكة الفهم، فيكون السبب بالأحرى في انعدام الشجاعة والإقدام أو عدم استخدامهما دون إرشاد من شخص آخر. لذلك يكون شعار التنوير هو: تحلّ بالشجاعة لإستخدام عقلك بنفسك دون الاعتماد على أحد»..
منذ ذلك الوقت إلتزمت أوروبا بالتنوير، لتنتقل من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار العلمية، ثم إلى الحداثة، ويدور الجدل العقلاني حاليًا حول ما بعد الحداثة. لقد ارتبط التّنوير بانتشار المعرفة العلميّة والاقتداء بآراء العلماء، مما مهد الطريق أمام انتشار البروتستانتيّة التي سبق أن طرحت فكرة الإيمان الفردي، و”أن كل شخص ينبغي أن يتصرف وفق تقديره هو“ ولذلك من واجب الإنسان أن يتطلع إلى طبيعة حياته بنفسه من خلال التجربة والخطأ وتصحيح الخطأ، بواسطة العلم.
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن عصر التنوير إنه: «إلتزم بتقدير النشاط العقلي، بهدف نشر النّور، بدلا من الظلام الذي يعممه من كانوا يدافعون عن النظريات الباليّة القديمة من رجال الدين والساسة المستبدين. وأصبح الإنسان التّنويري هو الذي لا يقف إلى جانب طائفة ضدّ طائفة أخرى، أو يناصر مذهبًا ما ضد مذهب آخر، بل إنه يرتفع عن جميع الطوائف والمذاهب، لإيمانه القوي بقيمة الإنسان قبل كلّ شيء» (برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة : فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد365، ط2، يوليو 2009، ج2 ص 126).
بطبيعة الحال لم يكن التّنوير واحدًا، بل أخذ أشكالا كثيرة عرفها الغرب؛ فالتنوير الفرنسي ركز على العقل وعلى مهاجمة الكنيسة بقوة، بينما التّنوير البريطاني ركز على الفضائل الاجتماعيّة دون أن يعادي الكنيسة بشكل جذري، في حين ركز التنوير الألماني على ضبط سلطة الدولة بعد نقل سيطرة الكنيسة إليها، واهتم التّنوير الأمريكي بالحريات السياسيّة والدينية، ولكنهم اشتركوا جميعًا في الهدف، وهو الإصلاح وجعل هذا العالم مكانًا صالحًا للعيش من خلال استعمال العقل والعلم والمعرفة.
ظهر الفكر التنويري العروبي في وقت سابق لظهوره في أوروبا، خاصة عندما خضعت بلاد الشرق الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا لجحافل الجهل والانحطاط في بداية القرن السابع الميلادي، وأصبح هناك ترابطًا وثيقًا بين الساسة المستبدين ورجال الدين في استعمار عقول الناس والسيطرة على أفكارهم، والعمل على صياغة وتحديد معالم ثقافة ظلامية منحطة، وفرضها بحد السيف عليهم، بهدف التأثير على حياتهم والتحكم في مصائرهم، فظهرت أصوات عديدة تنادي بالتنوير، ولكنها ذهبت جميعها أدراج الرياح، وباءت بالفشل الذريع. ومع كل فشل كانت تلك البلاد تتراجع خطوات إلى المزيد من الجهل والانحطاط! ومع ذلك، نقرأ حاليًا في مواقع كثيرة عن كتاب بعنوان: ”التنوير الإسلامي .. صراع الإيمان والمنطق “ الصادر عن مؤسسة ليفرايت، طبعة 1، أبريل 2017 باللغة الإنجليزية، للصحفي الأميركي كريستوفر دي بيلايغو، الذي عمل مراسلا في الشرق الأوسط لصحيفتيْ غارديان وإيكونومست"، يتضمن الكثير من الكذب والنفاق وأيضًا الخداع، إذْ يقول فيه إن العالم الإسلاموي كان دائما توَّاقا للمعرفة ومنفتحا على الآخر، ويفتخر بالاستفادة من تجارب الأمم الأخرى. ويدغدغ الكاتب مشاعر المتأسلمين بإلقاء اللوم على الغرب في إيجاد الهوة الحضارية والثقافية التي تفصل الغرب عن العالم الإسلاموي، وذلك بسبب النظرة الفوقية وعقلية المنتصر الذي تسيطر على عقول ونهج السياسيين والمؤرخين والكتاب الغربيين، على حد قوله. أنظر عرض للكتاب على العنوان التالي:
https://ar.qantara.de/content/كتاب-التنوير-الإسلاميصراع-الإيمان-والمنطق-قصة-التنوير-الإسلامي-المنسية?nopaging=1
وهكذا يخرج علينا من وقت لآخر في عصر النفط الأسود أحد الغربيين ليغرِّد خارج السرب، ويدعم بذلك نظرية المؤامرت المتحكمة في ثقافة المنطقة برمتها، ويساهم في ازدياد تخلفها وانحطاطها! فهذا الكلام ليس صحيحًا بالمطلق، طالما خضعت دول المنطقة لثقافة إسلاموية رديئة، ونظم استبدادية جاهلة تلعب دوارًا رئيسيًا في ترسيخ التخلف والانحطاط في مجتمعاتها.
الفكر الإسلاموي ذو طبيعة فولاذية صلبة وتزداد صلابته يومًا بعد يوم، لاحتوائه على توافق بنيوي مع سياسة الاستبداد والفساد والتخلف، ممَّا يكتب له الاستمرارية في جموده وتصلبه، ممَّا حمَل جماعات تنويرية على الظهور في وقت سبق عصر التنوير في أوروبا، أشهرها جماعة ”إخوان الصفا وخلان الوفاء“ وهم جماعة من الفلاسفة المتأسلمين، الذين ظهروا في العصر العباسي بالبصرة، وألفوا رسائل في الإلهيات والطبيعيات والأخلاق والديانات والسياسة...إلخ، وقالوا: ”لا تشغلن بذكر عيوب مذاهب النّاس، ولكن انظر هل لك مذهب بدون عيب“ [إخوان الصفاء، رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، بيروت، دار صادر، مج3، ص 501]. ومع أن المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري صنَّف هذه الجماعة ضمن تيار العقل المستقيل في الإسلاموية، إلَّا أن الأستاذ جورج طرابيشي نقد هذا الرأي وأكد على عقلانيتهم.
كذلك لا بد من أن ينتبه أي باحث في الفكر الإسلاموي إلى فرقة ”المعتزلة“ التي تبنت أول وأكبر تيار عقلاني في الإسلاموية، فقد رأت أن الله لم يخلق العقل هباءً، بل كان يرغب أن يسود في حياة البشر، لأنه أعظم شيء خلقه، لذلك طالبوا كما طالب إخوان الصفا بتحكيم العقل وتقديمه على النقل. فأتهموا لذلك كما اتهم غيرهم من الفرق الكلامية بهدم الإسلاموية من داخلها، مع أنّهم لم يظهروا إلا ليقاوموا الفكر الغنوصي الفارسي ( وهو المعرفة الروحية المبنية على العلاقة مع الله، والتي تعتبر الكون المادي عبارة عن انبثاق للرب الأعلى الذي وضع الشعلة الإلهية في صلب الجسد البشري). كما أن إخوان الصفاء لم يظهروا إلا لتقويم الشريعة و”نفي شبهة الملحدة وجحدة الأنبياء.“ فأنقذوا الإسلاموية، ولم يهدموها.
وفي مطلع القرن التاسع عشر أدرك المتنوِّرون العربان أن الأوضاع المتردية تتفاقم والضلال بازدياد في مجتمعاتهم، ومن الصعب أن تتغيَّر، بحيث تخطو خطوات ثابتة في درب الحداثة الحقيقية دون تغيير الأوضاع السياسية، فأطلق الشيخ الأزهري حسن العطار 1835 - 1766)) صيحة الاستغاثة، قائلاً: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها». ثم اكتسب العامل السياسي وأثره في التغيير بُعدًا آخر في كتاب «أقْوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك» لخير الدين التونسي (1890 - 1820)، إذْ قدَّم فيه أفكارًا متقدمة للغاية في السياسة والاقتصاد وإدارة الدول حتى الضرائب والرسوم.، ووقف خير الله في كتابه وقفة طويلة عند مفهوم الحرية، وبعْث المؤسسات الدستورية القائمة على العدل والحرية، ودورها فيما حققه المجتمع الأوربي من تقدم علمي واجتماعي، ولا غرو في ذلك، وهو قد لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة (كان وزيرًا للبحر وصدر أعظم، أنظر:https://ar.wikipedia.org/wiki/خير_الدين_التونسي ) ، مؤكدًا: «أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية»، وتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستعينًا بمقدمة ابن خلدون في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران.
وفي مطلع القرن العشرين طالب في مصر الإمام محمد عبده ( 1905 -1848) بالاستنارة والتجديد الديني، وقاد معركته في أخطر مجاليْن: الديني والسياسي، فوصف الأزهر بأوصاف قاسية، وقال: « إن بقاء الأزهر متداعياً على حاله محال، فهو إما أن يعمر، أو أن يتم خرابه». وقال: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر».
وفي نفس الفترة صدع معاصرُه ومجادلُه فرح أنطون ((1922 - 1874، ذوْدًا عن قيم الدولة المدنية بقوله: «لا مدنية حقيقية، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية». وفي نفس الوقت طرح الأديب والمفكر اللبناني شكيب ارسلان 1946 - 1869)) كتابه متسائلًا عن : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟. وتوالت المطالب والتساؤلات، ولكنها بقيت جميعها بعيدة كل البعد عن الاستجابة والتطبيق العملي، بل وأن جل حاملي لواء الفكر التنويري في المنطقة أصبحوا يركضون وراء الركب السلطاني، ويسبّحون أناء الليل وأطراف النهار بحمد « ولي النعم»، وهو اللقب الذي اعتاد رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) أن يطلقه على محمد علي 1848 - 1805)، الحاكم بأمره في مصر أنذاك. أدرك الطهطاوي أهمية العامل السياسي في تطوُّر الدول ورقيِّها، وأن إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في مجتمعات العربان المتأسلمين وثيقة الارتباط بتاريخ التيارات المتعددة والمتناقضة في الفكر الإسلاموي الذي تسيطر عليه وتوجهه النظم الاستبدادية، فجاء اعتناؤه بكتابي «العقد الاجتماعي» لروسو، و«روح الشرائع» لمونتسكيو نتيجة لهذا الإدراك.
ومن ناحيته فطن عبد الرَّحمن الكواكبي (1855 حلب - 1902 القاهرة)، قبل قرن من الآن إلى العداوة الدائمة بين النظم الاستبدادية من جهة، والعلم والمعرفة وأهلهما من جهة أخرى، ذلك أن أهل العلم وأصحاب الفكر يسعون إلى نشر المعرفة، وترسيخ أسس الفكر العقلاني التنويري، بينما المستبدون يعملون بشتى الطرق إلى إطفاء نور العلم والمعرفة، وتعميم الجهل والضلال، فقال: « والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم، وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام، والأدباء النبلاء، تقلبوا في البلاد، وماتوا غرباء».
ورغم أن نداء الدكتور طه حسين بأن : ”العلم طريق العقل، ليس لبلوغ الحقيقة وحدها، ولكن لتنظيم حياة الإنسان داخل المجتمع الذي يعيش فيه“، قد ذهب أدراج الرياح أمام استبداد الجهل السياسي والديني، إلَّا أن الحركات التنويرية استمرت إلى ما بعد جيله، واتسعت لتشمل أجيالاً متعاقبة في كل بلاد العربان والمتأسلمين واكتسبت عداءً شديدًا للجهل والخرافة والتفكير اللاعقلاني، في محاولات جادة لاستعادة العقل الذي افتقده العربان منذ فترة طويلة من الزمن.
ومع كل ذلك لم تنجح أي من الجهود التنويرية الثرية في مختلف مراحلها التاريخية في إرساء أسس الدولة المدنية، ولم يتم تحقيق أدنى قدر من الانعتاق أو الخلاص أو ”الخروج“ من حالة العجز أو القصور الذاتي. وبعد مضي عقود من الزمن إزدادت التركة ثقلًا بحيث لم تستطع تلك الجهود زحزحتها قيد أنملة... لقد قضى الاستبداد السياسي والرأسمالي والديني على كل محاولات الإصلاح، تارة بمال النفط الأسود، وتارة أخرى بقوة السلاح أو الشعارات الخادعة ببريقها.... وما زال الساسة المستبدون ورجال الدين الجهلة يفرضون سطوتهم على كافة مجالات الحياة في بلاد العربان والمتاسلمين، لذلك فإن أي مشروع للحداثة لا يتزامن معه تحديث سياسي وتحوّل الدولة من دولة استبدادية قامعة، إلى ليبرالية ديمقراطية يكون مشروعًا مشوَّهًا وفاشلًا من الأساس، ومن الطبيعي أن يسقط، طال به الزمن أو قصر. فأنصار التيار التنويري على مر التاريخ يجدون أنفسهم دائمًا بين مطرقة سلطة سياسية استبدادية متخلفة وغاشمة، وسندان شيوخ النقل الببغائي، أو بتعبير الكواكبي في كتابه « طبائع الاستبداد»: مطرقة العلماء الغُفَّل الأغبياء، وسندان الرؤساء القساة الجهلاء. وما أشبه الليلة بالبارحة، فمازال أنصار الحداثة والتقدم في أوطان العربان يجدون أنفسهم بين مطرقة هذه النظم، وهذا السندان، وكلاهما يصب في اتِّجاه واحد هو التخلف ومعاداة الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الدستورية الحقيقية، وقيمها الإنسانية.
لقد انتكس التنوير مع بداية الربع الأخير من القرن الماضي، مع ظهور النفط بوفرة في دول بدائية، وسيطرة العسكر على الحكم في دول أخرى، وانبثاق الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، فأصابت الفكر موجة من الردة والرداءة والإسفاف، وانحطت الأقوال والأفعال، فبدلا من الاستفادة من فائض أموال النفط في التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية، ومن استعمال الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، كمنابر للاستنارة والتقدم، تحولت في جل أقطار العربات والمتأسلمين إلى وسائل ومنابر لنشر الفكر السطحي الرديء والشاذ والغيبي الأسطوري في المجالات الدينية والسياسية والثقافية، وفرض الرأي الواحد، وتصنيم الحاكمين بأمرهم وبأهوائهم ومصالحهم ومصالح بطانتهم، وتبرير فسادهم، وإبعادهم عن المحاسبة، فحدث غياب للدولة بالمعنى الحديث، وأصبحت الشلل العائلية، تتحكم في مصير شعوب بأسرها، وهُمش أصحاب الكفاءات وبرزت عصابات أصحاب الثقة، وعمّ الاختناق، فصمت أصحاب الأصوات الحرة. وليس من الصدفة في شيء أن يكون التنويريون العربان في الوقت الراهن والقادرون على الإصداع بآرائهم بجرأة ودون خوف من قطع الأرزاق والرقاب هم أولئك الذين يعيشون في بلاد المهجر. فكيف يتثنى لمن يصدع بالتحديث والتقدم أن يرفع صوته أو هامته في مناخ تسيطر عليه الرداءة والبذاءة والانحطاط الفكري والسياسي، حيث يبرر أشباه المثقفين اللاهثين وراء الركب السلطاني وفقهاء الأحكام السلطانية الخلافة الوراثية، ويباركون الإقطاع العسكري، ويساندون الحكام المستبدين، ويساعدونهم على خداع شعوبهم وانحطاطها.
النخب الثقافية تقف اليوم عاجزة أمام سطوة الاستبداد السياسي والديني في العالم المتأسلم، ولم يعد في الإمكان أفضل مما كان، فاستقر الأمر على تحوّل الركود إلى استقرار، أو «الجمود على الموجود». ولكن إذا كان ضرر الجمود في الماضي محدودًا، وأمكن تجاهله، فإنه الآن يعني في عصر العولمة التقهقر والتهميش والاحتقار.
عالم العربان والمتأسلمين يعاني الآن من الجمود الفكري وسيطرة ثقافة النصوص وتراجع العقل التحليلي المنطقي، والانغماس العاطفي في الماضي السحيق حتى تقديسه، وهيمنة الخرافة والأساطير وانتشار النزعات التواكلية واللامبالاة مع تراجع الإبداع والمبادرات الفردية وشيوع الأنانية والنرجسية لدى قطاع واسع من العربان بجميع طوائفهم، وتضخم بالنفاق الفكري والسياسي وثقافة تبريرية لكل شيء وانتهازية ثقافية سياسية اجتماعية واسعة، وغياب ثقافة المواطنة، ولم يعد هناك وجود لدولة المؤسسات مع هيمنة المفاهيم الخاطئة والأعراف الاجتماعية الرديئة والقيم العشائرية والطائفية والمذهبية المدمِّرة على حساب القيم الوطنية والإنسانية والحضارية والقانونية، لم يعد هناك تقدير للكفاءات مع انتشار المحسوبيات والواسطة واحتقار، وتفشي النزعات المادية والغرائزية والأنانية المفرطة والتحلل غير المفهوم والعشوائي من منظومة القيم الإنسانية.
ومن ناحيتهم، أصبح المواطنون ينقسمون إلى قسمين: أقلية قليلة من السادة الاثرياء الذين يعيشون في عزلة عن مجتمعاتهم، في أبراج أوروبية مشيدة بكل التقنيات الحديثة، ويمتعون أنفسهم بأنوار الغرب وراء الجدران، وأغلبية من العبيد المقهورين الذين يعيشون بين جدران الضلال والجهل والتدين الكاذب، في غياب تام للأخلاق والمبادئ. تسيطر عليهم وسائل الإعلام المختلفة بما لديها من مهرجين ومشعوذين وطالبي شهرة زائفة ومعتوهين ينتحلون صفة المتخصصين فى الطب والتغذية والسياسة والدين، بأوامر من أسيادهم لغسل أدمغة البسطاء، والإساءة إلى العلماء الحقيقيين، وبينهما الحيرى الذين لم ولن يستطيعوا حسم أمرهم.