وباء كورونا بين داروين ونظرية المؤامرة


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6528 - 2020 / 4 / 3 - 17:40
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات     

وباء كورونا بين داروين ونظرية المؤامرة



أبرز لنا وباء كورونا العالمي مدى أهمية العلم بمفهومه الصحيح، فممكن جدا أن يعطى للعلم والعلماء سلطة أكبر في المستقبل، بل هناك من يتحدث عن "دكتاتورية الأطباء" الذين لهم صلاحيات الحد أو السماح بحريات الأشخاص في التنقل أو الخروج من البيت، فأصبح السياسي والعسكري يخضع لتوصياتهم حفاظا على إستمرارية الجنس البشري، كما أعاد هذا الوباء أيضا بعض التساؤلات الفلسفية بقوة، فكأننا عدنا من جديد إلى عصر التنوير الأوروبي المعروف بطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية ومحاولات الإجابة عنها، خاصة حول ماهية ومعنى الحياة وقضايا الدين وماحقيقة الإنسان وغيرها من الأسئلة التي توارت إلى الخلف في العقود الأخيرة، بل توارت الفلسفة ذاتها، خاصة في مجتمعات منطقتنا، بل أعتبرها البعض أنها تدعوا للكفر كما فعل أبي حامد الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" ردا منه على بن رشد صاحب فكرة توافق العقل والشريعة الإسلامية بالرغم من أن الغزالي أيضا فيلسوفا بإمتياز، فالفلسفة عرفتها كل الحضارات سواء الحضارة الأغريقية الرومانية أو الحضارة الإسلامية التي نقلت عن الفلاسفة الأغريق كأرسطو وأفلاطون مثلا، كما طورت رؤى فلسفية كثيرة، ولم تكتف بالنقل فقط كما يدعي بعض المؤرخين الغربيين الذين يريدون طمس مساهمة المسلمين في الحضارات الإنسانية، لكن تميزت الفلسفة عند بعض المسلمين بإبعاد كل ما طرحه الفلاسفة الإغريق في المجال الديني واللآهوتي. يبدو لنا أن الكثير من الأسئلة الفلسفية المطروحة في الماضي ستعود بقوة مع وباء كورونا العالمي، كما سيكون لهذا الوباء ولمأساته حضورا كبيرا في أغلب الأعمال الأدبية والفنية كالرواية والسنيما في المستقبل
بدأت تظهر بعض المقالات في المجال الفلسفي، لكن لم تأخذ أبعادا نقاشية كبرى لحد الآن، إلا أننا نلاحظ نقاش وإختلاف بين من يرى أن إنتشار فيروس كورونا هو طبيعي ومن يراه أنه مؤامرة عالمية في إطار الصراع بين القوى الكبرى، وأنها تدخل في إطار حرب بيولوجية، فنحن لاندخل في هذا النقاش، فنحن لانميل تماما إلى نظرية المؤامرة المنتشرة بقوة في منطقتنا، والتي لعبت دورا سلبيا في إخفاء عيوبنا وضعفنا ومسؤولياتنا وتحميل كل مأساتنا للآخرين "المتآمرين علينا".
لكن ذكرنا هذا الوباء بنظرية تشارلز داروين الشهيرة في كتابه "أصل الأنواع والإنتقاء الطبيعي" المنشور كاملا في 1859، ولانقصد بنظرية داروين ما روج عن أصل الإنسان والأنواع والقول بأن أصله قردا، مما أثار نقاشا دينيا كبيرا لازال حاضرا إلى حد اليوم، بل نقصد نظريته "البقاء للأقوى" التي تقول أن الطبيعة تنتقي وتنتخب عملية البقاء للكائنات القوية دون الضعيفة التي تموت طبيعيا، وقد أنتشرت هذه النظرية بقوة في كل المجالات، ومنها حتى مجال العلاقات الدولية، فلنشر أن داروين أرسل كتابه لكارل ماركس المهتم بالتطور التاريخي للمجتمعات، فهل كان داروين يريد من خلال ذلك نقل نظريته إلى كل المجالات؟، خاصة أن كثيرا ما كان ماركس وخاصة صديقه أنجلس يربطون بين الطبيعة والمجتمعات.
ونجد في نفس تيار نظرية "البقاء للأقوى" نظرية العرق الأرقى التي نظر لها الفرنسي آرثر جوبينو في كتابة الضخم "عدم المساواة بين الأعراق" في 1853 أين صنف المجتمع العالمي إلى أعراق، وحاول الإثبات أنها غير متساوية، فهناك أعراق أرٍقى من أخرى بالطبيعة، وهي من النظريات التي بنى عليها الإستعمار عملية إخضاع الشعوب لسيطرته ورفض إستقلالها معتبرا أياها بأنها شعوبا أدنى يجب تمدينها، خاصة الإستعمار الفرنسي الذي سعى في الجزائر مثلا إلى بناء شرعيته على هذه الفكرة، وذهب إلى نشر مئات الكتب والمقالات في فرنسا تبرز الإنسان الجزائري خاصة والأفريقي عامة بأنه عرق جد متخلف لدرجة إقامته معارض للمستعمرات تعطي هذه الصورة المتوحشة عن إنسان المستعمرات، وأبرزها معرض باريس في 1930، وكان يأتي أوروبيون إليها للتفرج على هؤلاء البشر كأنها تتفرج على حيوانات داخل اقفاص في حدائق الحيوانات، فقد وضع جوبينو أساسا فلسفيا لكل ما يعتقده بعض الغربيين بأن تخلف شعوبنا متأصل فيها مخفية دور الإستغلال الرأسمالي العالمي في ذلك التخلف، والذي فسره بإسهاب منظرو التبعية للمركز الرأسمالي في أمريكا اللاتينية بقوة أمثال إيمانويل والرستين Immanuel wallerstein وفرانك A.G Frank وأوسفالدو سنكلOsvaldo SunKel وغيرهم، ومنهم أيضا المصري سمير أمين بنظريته حول المركز الرأسمالي الذي يستغل الأطراف أو ما يسميه ب"التطور اللامتكافيء".
لكن أبرز من نقل نظرية داروين في الأنواع والكائنات إلى مجال الفلسفة هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة بحديثه عن السوبرمان اي الإنسان القوي في ا÷م كتاب له هو "هكذا قال زرادتشت"، ويقدس فيه القوة والرجل القوي الذي سيلتهم الضعيف لدرجة قوله أن الأخلاق والقانون والدين وغيرها من إختراع الضعفاء لحماية أنفسهم، فهو يدعو إلى عبادة القوة على حساب الضعفاء، لكن لحد الآن لم نتمكن من الإجابة والجزم هل أفكار نيتشة هي وليدة نجاته من وباء الكوليرا الذي انتشر في بلدته أم هي وليدة مأساته في الحرب الفرنسية-البروسية؟.
لكن ما هو مؤكد أن هتلر والنازية الألمانية قد أخذت منه ومن أفكار جوبينو العنصرية فكرة العرق الجرماني القوي الذي بنى الحضارة –حسبها- وضرورة بقاءه نقيا، ولا يختلط بالأعراق الأدنى كي لاتضعف الحضارة وحفاظا عليها، وذهبت النازية أبعد من ذلك وهي عدم السماح للضعفاء جسديا والمرضى بالزواج كي لايولد أطفال ضعفاء، وكادت أن تدعو للتخلص منهم، فإنطلاقا من ذلك كله يبقى السؤال: هل وباء كورونا الذي يقتل كثيرا الشيوخ والمرضى وضعيفي المناعة حسب مايقال هو إنتقاء طبيعي كي يبقى الأقوياء جسديا فقط كما يقول داروين أم أنها مؤامرة الرأسمالية العالمية لتخفيض عدد البشرية بالتركيز على المسنين والمرضى لأنهم عالة على الإنتاج كما يقول بعض أصحاب نظرية المؤامرة؟، نعتقد ان هذه الأخيرة مستبعدة لسببين أولهما: أن قوة الإنسان اليوم ليست بقوة الجسد، بل بقوة العقل، فكم من ضعيف جسديا، لكنه مخترع كبير، كما أنه ليس في صالح الرأسمالية التخلص من هؤلاء الذين يستهلكون الأدوية وغيرها، وهي التي تعيش من توسع السوق، ويبقى النقاش مفتوح في ذلك، لكن ما يهمنا هو أن هذا الوباء هو نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، وهو يشكل تحد كبير للإنسانية على المستوى العالمي، وسينتج إن أستمر مدة طويلة حضارة عالمية جديدة كإستجابة إيجابية لهذا التحدي، وقد حددنا بعض معالم هذه الحضارة الجديدة في مقالتنا الأخيرة "وباء الكورونا وعودة آرنولد توينبي"..