مفهوم الفرد في أعمال البير كامو


مالك ابوعليا
الحوار المتمدن - العدد: 6527 - 2020 / 4 / 2 - 17:02
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

كاتب المقالة فلاديمير الكسيفيتش كاربوشين*

ترجمة مالك ابوعليا

ان الشرح الذي يتبع المفاهيم أو التعريفات، بعد الحروف الأبجدية الموضوعة بين قوسين (أ)، (ب)، والموضوعة بعد النجمة*، هي من عمل المترجم.

يرفض العقل البرجوازي قوانين العصر الحالي. فهو لا يعتبرها صحيحة أو منطقية. لذلك تكتسب مسألة العبثية اهتماماً متزايداً في الايديولوجيا البرجوازية المُعاصرة مؤخراً، ويتم التعامل معها في أكثر الحقول تنوعاً: فلسفة التاريخ (ليس للتاريخ أي معنىً أو اتجاه)، علم الجمال (مسرح العبثية والسينما العبثية، وعبثية مدارس الرسم)، وكمبدأ للأكسيولوجيا(أ) Axiology النسبية (ليس للقيم الثقافية أي معنى)، وأخيراً، كمفهوم في الانثروبولوجيا الفلسفية (وجود الفرد البشري في العالم العبثي في الوقت الحاضر هو أمرٌ عبثي). وعلى وجه التحديد، فان التفسير الانثروبولوجي الأخير لهذه المشكلة هو الذي يكمن وراء جميع جوانبها الأُخرى، حيث يعتبر الايديولوجيين البرجوازيين كخالقٍ للقيم الثقافية، كذاتٍ فاعلة في العمليات الثقافية التاريخية، وذاتاً نشطة في كل تاريخٍ مهما كان، بحيث يعتمد فهم الشخصية وسلوكها وكل نشاطها على مفهوم (الشخصية).
لقد وجد مفهوم العبثية في فلسفة الانسان أوضح مظهرٍ له في أعمال الوجودي الفرنسي البير كامو. حدد كامو المبادئ الرئيسية لفهم الشخصية من خلال عمله الأول (الجانب الخطأ والجانب الصحيح) L’Envers et IEndroit. حتى في ذلك الحين، عندما كان في سن الثانية والعشرين، بدأ كامو يتفكّر بلا معنى وجود الفرد مأخوذاً بذاته(1). في مقدمة كتابه، يُعلق بمرارة بأننا "نعيش حقاً ساعات قليلة من حياتنا"(2). ويقول فوراً بعد ذلك، بأنه لا يشير من خلال هذا القول، بأي حالٍ من الأحوال، الى فقره، ولا الى حقيقة أنه وُلد في أوساط الطبقة العاملة، ولا الى ظروف الحياة الأخرى. تتعلق النقطة كلها بالحياة الداخلية للفرد. ان حياة الفرد نفسها، المعزولة عن الناس الاخرين بسبب ظروف وجوده وعالمه اللامادي، هي ذات طابع شخصي بحت، وبالتالي يعتقد كامو، بأنها ذات سمات فردية تفتقر للمحتوى الاجتماعي، وتبدو له كمعاناة لا تنقطع للروح، وسلسلة من الأفعال التي تخلو من الهدف، من أفعالٍ لا معنى اجتماعيٍ لها. تشكلت هذه الأفكار لاحقاً الى فلسفة العبث. من المهم، بالنسبة للنقد الماركسي، ليس فقط وصف كيفية حدوث ذلك، ولكن شرح المبادئ الابستمولوجية والقوى الاجتماعية التي ولّدتها، بقدر ما أنه من المستحيل توضيح دورها الاجتماعي بالافتقار الى هذا التحليل.
يرى البعض أن اسلوب كامو في الكتابة اللامعٌ والعبقري، هو ثمرة طبيعة غنية وكئيبة (3). لن نُجادل في هذه النقطة: يستشعر المرء في قصص كامو بشكلٍ صريح مأساة شابٍ وحيد ليس لديه ما يميل اليه ويكرس له قوته، ولا يوجد لديه شيء يلتمس فيه أهداف الحياة. من المفهوم أيضاً طابع مفكرنا الكاتب والشاب: بعد أن تعهّد رجلٌ وحيد بأن لا يفارق عزلته أبداً، يصل عاجلاً أم آجلاً الى ادراك لامعنى وجوده. يصوّر كامو ببراعة وعبقرية منطق هذا التفكير. ولكن ينهض هنا سؤال مشروع: لما يقوم بذلك التعهد بأن لا يُفارق عزلته؟ يتطلب الأمر تحليل محتويات وتطور نظرات كامو الفلسفية، من أجل الاجابة على ذلك.
تقترب كتابات كامو الشاب من روح أسلوب كافكا. يتخلل كل قصص مجموعته الأولى: (الجانب الخطأ والجانب الصحيح)، (السخرية) Irony و (الموت في الروح) Death in the Soul و(حب الحياة) Love of life، وما الى ذلك، يتخللها تشاؤومٌ ميؤوس منه والسعي ليس فقط للكشف عن الجوانب السيئة في الأوضاع الحياتية، ولكن الى قلب أرواح البشر رأساً على عقب. كامو، يشبه كافكا في رؤيته العميقة لعددٍ من الأمراض الاجتماعية التي تتغلغل روح الفرد والتي تبدو أنها تُشكل طبيعته على ما يبدو. انهما أيضاً يرتبطان بالموقف الفرداني تجاه البيئة الاجتماعية، والتي بدورها تُرهق الشخصية. وأخيراً، انهما يقتربان من بعضهما البعض في قبول انعدام الأمل المأساوي Tragic والافتقار الى اية حلول للوضع الناشئ. تُفسر كل هذه العوامل شعبية كامو بين المثقفين الرأسماليين والبرجوازيين الصغار في الغرب. يحتوي نقد كامو لوضع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية للمجتمع البرجوازي المُعاصر على الكثير من الحقيقة، هنا تكمن قوته. ولكن ما هو الحكم الذي أصدره فيما يتعلق بالحقيقة الرهيبة التي يصفها؟ بالفعل، هذا الحكم هو ايضاً جزء من حقيقة الحياة والذي يقف فوقها، كما يؤكد كامو. ألا توجد حقيقة أُخرى للحياة، أكثر ثقلاً من تلك التي رآها ووصفها كامو؟ تتطلب الاجابة عن هذه الأسئلة أن يتجاوز المرء الحدود الضيقة للمشاكل الشخصية البحتة، ليذهب الى آفاق البحث في الحياة الاجتماعية، وكذلك يجب تفسير الفردية الانسانية ليس بالاشارة الى تفرّد الحياة الداخلية لكل شخص، ولكن عن طريق الكشف عن الأشكال التي يتمثل الفرد من خلالها القيم الثقافية الانسانية ويحولها الى قدرات متقدمة للبشر.
قد يعتقد المرء أن هذا الكاتب، الذي لا يمكن الشك في اخلاصه ومواهبه والذي فكّر بجدية في مأساة الوحدة والكوارث الاجتماعية التي تُعانيها الشخصية المُنعزلة، سيتبع مسار البحث عن قوىً اجتماعية تُقاتل من أجل العدالة. لكن هذا لم يحدث للأسف. صحيح أن كامو قد بدأ يشارك في شؤون الشيوعيين الجزائريين، لكنه لم يكن قادراً أبداً على فهم نضالهم من أجل استقلال بلادهم. يبدو أن مشاعر القومية الفرنسية، والتي استوعبها بشكلٍ ذاتيٍ كوطنية، قد انتصرت على محاولات الشاب غير الماضجة حتى الآن على الدخول في صفوف المقاتلين الذين يعيدون صنع الحياة وبالتالي يتخلصون في الواقع من مشكلة الوحدة.
أخذ تطور وجهات نظر كامو وجهةً مختلفةً تماماً، بتطويره مفهوم الانسانية الفردية المبنية على قبول لامعنى جهود الانسان الفردية، والتي تُعتبر ضروريةً مع ذلك. هذا هو مفهوم النزعة الانسانية المأساوية Tragic. انها تُعبر عن تلك الدراما العظيمة للحياة التي كانت وما تزال مُميزةً لعديد من الشخصيات التقدمية التي وقفت في أيامها كأفراد ضد الفاشية الألمانية ويضطرون اليوم أحياناً الى خدمة قوى العسكرة والعدوان ولا يرون أي مخرجٍ من الوضع الاجتماعي الناشئ. يمكن تتبع هذا التدفق الفكري عند كامو في رواية (الغريب) (ب)، وخلال سنوات الحرب، تمت صياغته في المفهوم الفلسفي للعبث المنصوص عليه في (أسطورة سيزيف)(ج) 1942.
من الواضح أنه ليس من قبيل الصدفة أن يظهر بيان فلسفة العبث (اسطورة سيزيف) خلال الأعوام الأكثر دراماتيكية من الحرب العالمية الثانية، عندما استعبد الغزاة الألمان كل أوروبا ووصلوا الى ستالينغراد. يكمن بين سطور هذا العمل شعوراً مخفياً للكاتب باليأس، وافتقاره لأي ايمان بالتقدم الاجتماعي والشخصي. لقد أرهقت الانتصارات الوحشية والدموية للفاشية الهتلرية نفسية المؤلف. بدت له حياة الانسان والمجتمع بالكامل من الآن فصاعداً بانوراما لانهائية من العبثية التي لا مَخرجَ لها. لهذا يُعتبر العبث في (اسطورة سيزيف)، المُقدمة الأولى لبناء منظومةٍ كاملةٍ من وجهات النظر، بما في ذلك التصور حول الواقع وصورة الانسان المندمج فيه. لقد دخلت عبثية الحياة محتوى الحياة الانسانية وأصبحت من الآن فصاعداً الطبيعة المتكاملة للانسان. هذا الاستنتاج المتشائم من تقييمه لأحداث عام 1942، هو استنتاج مليء بالمأساة، قدّمه كامو كأساسٍ لمفهومه الفلسفي. يمكن للفشل في فهم المسار الاجتماعي-السياسي الحقيقي، وليس العسكري لأحداث الحرب العالمية الثانية، وتصوره لها من وجهة نظر مفكر منعزل كسره انهيار الثقافة وانعدام الثقة بالتقدم التاريخي والافتقار الى الثقة بجماهير الناس وأرض الاشتراكية، نقول، يمكن أن يُفسر مثل هذا النمط من الأفكار من جانب البير كامو المُعادي للفاشية. في حين قامت شخصيات مضيئة في الثقافة البرجوازية التقدمية مثل ستيفان زويغ Stephan Zweig، والذين لم يكونوا قادرين على تحمّل الواقع الكابوسي واللاانساني الذي أنشأته الفاشية المنتصرة، بانهاء حياتهم بالانتحار الجسدي، قام ألبير كامو بانهاء حياته بانتحار الروح لان الحياة عبثية، واستنتج، بالتالي أن طبيعة الانسان عبثية. من الضروري أن يقبل المرء العبثية كمعيار للحياة وتحمّل أن يتلقى التعذيب والصلب ببطولة ووحدة فخورة. وهكذا، ولّدت مأساة الثقافة الأوروبية فلسفة العبث المأساوية. كان هذا مظهراً من مظاهر العداء للفاشية عام 1942، ولكن يا للحسرة، عداءاً مُضحياً، للفاشية، وليس عداءاً مُكافحاً لها. واليوم-يقصد الكاتب في نهاية الستينيات م. أ- فقدت هذه الرؤية معانيها المُعادية للفاشية وبرزت رجعيتها على الساحة.
ان لدى فلسفة العبث جذورها الابستمولوجية. يخصص كامو الجزء الأول من (اسطورة سيزيف) لهذه المسائل. حتى في المقدمة، يؤكد بأن مبدأ العبث ليس نتاجاً لتحليل الواقع، بل هو نقطة انطلاق مفترضة يمكن من خلالها قياسه، وقياس الانسان. لذلك، من الضروري، اعتبار العبث، منذ البداية، ليس العالم فقط، بل جميع مقولات الوجود الانساني: الحياة عبثية، الانتحار عبثي، الحرية عبثية وما الى ذلك. ان (فاعلية) هذه الفرضية، منطقياً، هي على النحو التالي: العقل محدود بقوانين المنطق الشكلي التي هي قوانين مُطلقة له. ومع ذلك، يحدث الهروب من هذه القوانين، في الفكر والممارسة، وهذا يعني الهروب من حدود العقل، أي الى مجال اللاعقل. وبمجرد أن يتطلب الاعتراف بالوواقع مثل هذا المخرج، فان الواقع نفسه يحتوي على شيء لاعقلاني. وبالتالي، فان أساس الواقع نفسه يحتوي على شيء لاعقلاني وعبثي (يندرج الوجود الانساني أيضاً، في مُعالجة كامو، تحت هذا التعريف).
كل هذه المُجادلة لا توحي بصرامة استخدام كامو للمقولات الفلسفية، وهذا ليس مُفاجئاً، بقدر ما لم يكن لديه أي تعليم منهجي في الفسلفة، وعلى عكس سارتر على سبيل المثال، بقي، في مجالاتٍ متعددة، يتعلم الفلسفة بنفسه. تستند مُحاججته على اختزال خاطئ تماماً للادراك البشري الى المنطق الشكلي، والمطابقة بين العقل والذكاء. هذا يجعل من الممكن أن نفهم لماذا يعتبر كامو أي خروج عن حدود المنطق الشكلي هروباً الى المجال اللاعقلاني.، ونجد، بالتالي، أن أي مظهر من مظاهر الفكر الدياليكتيكي الذي يوضح الطبيعة المتناقضة للواقع، وكل خطوة تتجاوز حدود الفكر النظري في مجال الممارسة، يُعتبر انتقالاً الى مجال العبث. ليس من الصعب، ايجاد دائرة مُفرغة في هذا "الدليل" الذي يقدمه لنا كامو. أولاً، من المفترض أنه لأجل ادراك الواقع، من الضروري الابتعاد عن حدود العقل الى مجال اللاعقلاني، ويُفسر هذا الابتعاد كأساس لتأكيد عبثية الواقع نفسه. ان محاولة تطبيق نظرية الابستمولوجيا اللاعقلانية من أجل تقديم حلول للمشكلات الانطولوجية، التي تُميز الفلسفة الوجودية بشكلٍ عام، تقود كامو الى مفهوم عبثية الوجود. يُصبح العبث، في هذا المفهوم، المقولة المفتاحية، التي تمتلك أهميةً كُبرى في طرح وحل جميع المسائل الفلسفية الأخرى.
يمكن العثور على مُجادلة مشابهة في وقتٍ سابق، في الفلسفة البرجوازية المثالية-على سبيل المثال في كتابات كيركيغارد. وضع التمرد الفلسفي، في أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، من وجهة نظر دينية بروتستانتية وصوفية، والتي وُضعت ضد مفهوم هيغل العقلاني عن العالم مفهوماً من خلال المنطق الدياليكتيكي، الأسس، للتقاليد اللاعقلانية للوجودية اللاحقة. لقد قدّم كامو فقط، تصريحاً أكثر وضوحاً- من خلال مقولته العبث (الموجودة، في الحقيقة، عند كيركيغارد)- حول النتيجة الطبيعية التي تستتبع من توظيف اللاعقلانية الابستمولوجية في بناء الانطولوجيا. انها نظرية الابستمولوجيا التي تشوه وتزدري العقل، وتُطالب، عن طريق العواقب الحتمية، بمفهومٍ عن عبثية كل الوجود. لا يُخفي كامو ولَعَه بكيركيغارد، ويسعى الى استكمال التقليد الذي نشأ معه. وهذا يوضح مرةً أُخرى وحدة الأفكار التي يدعو اليها أنصار فروع الوجودية المتدينة والمُلحدة.
ومع ذلك، يجب ملاحظة أن الفاعلية الابستمولوجية لفلسفة العبث التي يُقدمها لنا كامو ليس لها أساس من الصحة. ان الهروب من قوانين المنطق الرسمي وانعكاس حركة تناقضات الواقع، وأكثر من ذلك، الهروب من حدود الفكر النظري البحت والانتقال الى الممارسة، كلها عمليات حقيقية للكائن الاجتماعي والمعرفة. ان كامو الفيلسوف، المحدود بادراك فرداني للواقع، هو أضعف بكثير من كامو الكاتب. في حين يُسجل كامو الكاتب عبث الوجود الفردي في الظروف الملموسة للمجتمع الرأسمالي، يتصور الفيلسوف عبث الوجود بشكلٍ عام. ان هذا وهم ينبع من الادراك البرجوازي الصغير الناجم عن الأزمة العميقة للثقافة البرجوازية المعاصرة. ما هو المكان الذي تشغله فلسفة عبث الوجود في نظرة كامو الكُلية؟ يندمج الانسان العبثي بالواقع العبثي، يبتدئ تفلسفه بالسير نحو المقدمة التي تُعتبر بالنسبة اليه السؤال الغامر: هل هناك ما يستحق العيش؟ "هنالك مشكلة فلسفية هامة وحيدة، هي الانتحار"(4). بهذه الكلمات يبدأ كامو تأملاته حول عبثية الوجود البشري.
احتجاجاً على الوضع العبثي، لا يدرك الانسان أنه هو نفسه جزء من العبث، وبالتالي فان احتجاجه نفسه عبثي. ونتيجةً لذلك، يُحرم من الوعي الذاتي أو يُمنح وعياً زائفاً. وسعياً لانقاذ نفسه من العبثية البغيضة، والتي تتكشف له في الواقع المُحيط، ويسترشد عليها بالوعي الزائف الذي يحتج على عبثية الوجود وعدم فهم عبثيته الخاصة، يحول الانسان كفاحه الى (عَدَم)، الذي يبدو له في البداية أنه حل لمشكلة العبثية. ببساطةٍ أكثر، يظهر التوجه نحو الانتحار في الانسان، لذلك، يخلص كامو الى وجود "صلة مباشرة بين الشعور بالعبثية وبين الحنين الى الموت"(5).
تحتوي محاججات كامو هذه على تخمينات لامعة حول الآلية النفسية وحركة الفكر الخاطئة التي تقود بعض الشخصيات الثقافية البارزة الى تقرير انهاء حياتهم عن طريق الانتحار في الوقت العصيب من القتال المُميت ضد الفاشية الألمانية. يُطرح مبدأ الفردية، في كل مُحاججات كامو، جنباً الى جنب مع فرضية العبثية. ان الشخص الفرداني بالتحديد، هو الذي يدخل، كجزيء، الى الواقع العبثي للمجتمع الرأسمالي، ولا يمكن للوعي الذاتي الفردي الا أن يكون زائفاً وبهذا المعنى سخيف. ان الاحتجاج الفردي، على وجه التحديد، لا يقدم أي أمل، مهما كانت الأشكال البطولية التي يتخذها. لذلك لا يسع المرء الا أن يتفق مع كامو على أن هناك علاقة داخلية عميقة بين عبثية حياة الشخص الفردي المبدأي، والانتحار. في الواقع، هل هناك أي معنىً لحياة الفرد المنعزل في واقعٍ سخيف لا يستطيع تغييره ولا يحاول أن يفعل ذلك؟ اذا أدرك المرء أن عُزلة الشخصية الفردية هي شرط ضروري لطرح هذه المشكلة وحلها، فعندئذٍ يتبين حقاً أن حياة الفرد لا معنى لها. وبهذا، فان مقولات من مثل الاختيار والحرية والمسؤولية والكرامة الفردية تفتقر ايضاً الى المعنى. فقط، تنفتح فجوة (العدم) المظلمة أمام الانسان: يصبح الانتحار مُبرراً. ماذا يمكن للمرء أن يفعل بهذه العواقب الحتمية الناجمة عن سخافة الوجود بالنسبة الى الشخص الفردي؟
ينطلق كامو من افتراض حتمية وحدة الفرد في الوجود العبثي، وعدم قدرته على احتماله، ولكنه يرفض بشكل حاسم الاستنتاجات التي تنبثق عن ذلك لأنها تتعارض مع مبادئ مفهومه عن الانسانية الفردانية. ويرى أنه يكفي الاعتراف بالعبثية كمعيارٍ لا يمكن علاجه، للواقع، وفي هذه الحالة يُحرَم الانتحار من كل معنى، بينما تكتسب حياة الفرد، من ناحيةٍ أخرى، معنى. يصبح معنى الحياة: وعي الشخص لنفسه بأنه فردٌ عبثي. والى الحد الذي يعترف فيه الفرد بذلك "تضيء باحتدامها حالماً استثنائياً تستطيع فيه اضاءة جو وجودها العبثي"(6).
لا يمكن القول أن كامو فشل في رؤية المعنى الاجتماعي لعبثية العالم. يكتب، على سبيل المثال أنه تم انشاء "جو الوجود العبثي" من خلال مختلف اشكال الاغتراب عن الثقافة (7). يصوغ كامو، لدن محاولته الكشف عن المعنى الاجتماعي لعبثية الوجود، مهمة الفرد على النحو التالي. من الضروري أن نفهم "أمام الحسابات القاسية التي تقرر ظروفنا" عبثية وجود الانسان العبثي على طريق الموت(8). وبذلك تتغلغل أنماط كيركيغارد وهايدغر حول (الوجود حتى الموت) تأملات كامو عن الوجود العبثي للفرد المنعزل. هذه شهادة على حقيقة أن كامو مقتنع بعدم امكانية حل مسألة الاغتراب ويعتقد أنه رفيقٌ أبديٌ للانسانية.
يلاحظ كامو، من خلال تعزيز حجته لدعم مبدأ عبثية الوجود، أن الفلاسفة "ياسبرز الى هايدغر، ومن كيركيغارد الى شيستوف، ومن الباحثين في الظواهرية الى شيللر... والذين بدأوا جميعاً من ذلك الكون الذي لا يوصف والذي يتحكم فيه التناقض والنسخ والعذاب أو الضعف... من خلال مهاجمتهم للعقل الذي لم يكن يوماً ما بالقسوة الذي هو عليها الآن في عصرنا"(9). بقدر ما يتعلق الأمر بكيركيغارد، فهو ليس فقط مكتشف العبث، بل هو رجلٌ عاش فيه(10). وفقاً لكامو، تم استكشاف الجذور المعرفية للعبث من قبل الفلسفة الظواهرية. ان هذا ما أظهر أن العبث ينهض لنتيجة حقيقة أن الانسان يتسائل بينما يقف العالم "اللاعقلاني" صامتاً(11). ومع ذلك، كانت كل الفلسفات السابقة غير قادرة، بقناعة كامو، أن تجعل عبثية الوجود غير القابلة للعلاج أن تكون مُحتملةً من قِبَل الانسان. لذلك، ثبت أنه لا يمكن تجاوز الاستنتاج فيما يتعلق بحتمية الانتحار. ولكن كيف يمكن للمرء أن يعيش مع مثل هذا الاستنتاج؟
يحاول كامو أن يُحدث ثورةً أساسيةً في وجهات نظر البشر فيما يتعلق بعبثية الحياة. يعتبر البشر العبث كمعاناة. هناك، في تفكير كامو يكمن خطأهم وسوء حظهم. أنه يعكس Reverses تصور وتقييم العبث: انه ليس المعاناة على الاطلاق، بل شغف الفرد. يحتاج المرء فقط لفهم هذا من أجل أن تكون عبثية الوجود مُطاقةً بالنسبة له، وهنا في هذا الفهم سيتم العثور على ما يمكن من خلاله التغلب على الانتحار. لذلك، فان حجر الأساس لانسانية كامو الفردانية هو مبدأ تطابق العبث والشغف. هذا هو السبب في أنه سيكون من الخطأ اعتبار فلسفته العبثية كوعظ بالمصالحة والخضوع والتشاؤم القُرباني. بل على العكس تماماً، انها فلسفة الشغف والتمرد، لكنها مع ذلك فلسفة مأساوية. انه يدعو الى نضالٍ شغوفٍ وعاطفي، ولكنه ينفي أية امكانية للنجاح.
من أجل أن يُصادق ابستمولوجياً على فلسفة العبث، يوجه كامو انتباهه الخاص الى حالتين مهمتين للغاية. في المقام الأول، يتم حل المشكلات الابستمولوجية من وجهة نظر الشخصية الفردية المنعزلة. هنا يمكن الجانب الابستمولوجي للنزعة الفردية، والذي يرصفها كامو، بوعي، كأحدى أسس وجهات نظره. قادته الأخلاقية الفردانية للبرجوازية الصغيرة، في السنوات الحادة من الحرب العالمية الثانية، الى محاولة لتفسير كل الواقع من خلال منظور الفرد الوحيد، وكانت نتيجة هذه المحاولة فلسفة العبث. ولكن ما الذي أشترطته هذه النتيجة؟ لم يكن كامو صاحب متجرٍ ثنائي الأبعاد، ولم يكن متواطئاً مع الفاشية، بل كان أحد المشاركين النشطين في المقاومة الفرنسية! لماذا اذاً تمسك بعناد بموقف الفردانية، حتى عندما أتضح أن هذا يؤدي الى انعدام الأمل المأساوي؟
في المقام الأول، دعونا نلاحظ أن الدفاع عن مبدأ الفردية Individualism ، كان، بالنسبة للعديد من المفكرين الغربيين، وسيلةً للتعبير عن قناعاتٍ معاديةٍ للفاشية. دعونا نذكر، على سبيل المثال، اريك فروم، الذي أقام صرح الفردية ضد الفاشية خلال سنوات الحرب. طابق كامو، مثله مثل الشخصيات الأُخرى في الثقافة البرجوازية، بين مفهوم الفردية ومفهوم شخصية الفرد، وانخرط بذلك بعملية خلط واستبدال المقولات، هذه العملية المُميّزة للفلسفة وعلم الأخلاق البرجوازي. لقد كان لديه موقفاً عدائياً من الاشتراكية، مؤكداً أن التغلب على الفردية، اي النزعة الفردية، يؤدي حتماً الى تسوية الشخصيات وفقدان الشخص لفرديته (لخصوصيته كفرد م. أ) كانت تصريحات كامو المعادية للفاشية، مصحوبةً دائماً، تقريباً بتعبيراتٍ معاديةٍ للديمقراطية. ان تطور كامو اللاحق بالكامل في اتجاه العداء للشيوعية، وتحوله النهائي الى معسكر العداء للشيوعية والسوفييت، يضعان صرامة قناعاته المعادية للفاشية في فترة ما بعد الحرب، موضع الشك. وبقدر ما يتعلق الأمر بوطنية كامو، فهي ذات طابع برجوازي صغير في مصدرها وطابعها. لا تترك التفسيرات التي قدمها د. ريليت Dr. Rillet والصحفي تاروكس Tarroux حول روايته (الطاعون)، المتعلقة بهذا الأمر، لا تترك اي شك في هذا الصدد. من أجل فهم طبيعة هذه الوطنية، من الضروري التذكير بملاحظة لينين (اعترافات قيّمة لبيتريم سوروكين): "ان البرجوازية الغصيرة، بسبب وضعها الاقتصادي، أكثر وطنيةً من أيّ من الطبقة الرأسمالية أو البروليتاريا"(12).
ان عدم وجود أي علاقة ايديولوجية بينه وبين أشد المشاركين في مقاومة الفاشية-الشيوعيين وضعف معاداته للفاشية بسبب عداءه للديمقراطية، ووطنيته البرجوازية الصغيرة، وموقفه المجرد من الانسانية الذي يشمل جميع البشر، كل هذا قاده، في أشد سنوات الحرب الى وحدته ودماره روحياً. حتى عندما شارك في النضال ضد الفاشية مع أبطال المقاومة الاخرين، ظل منعزلاً روحياً. أدى هذا الشعور بالوحدة الأخلاقية وعزل نفسه بوعي عن رفاقه في السلاح، الى ادراك عبثية وجوده وأثار بذلك فكرة عبثية كل الوجود. لقد قدّم، اثناء مشاركته في النضال ضد الفاشية، تأطيراً نظرياً لفاعلية حتمية عبثية الوجود والاغتراب والفاشية نفسها، في التحليل الأخير، وعدم امكانية اصلاح اي شيء. كان الأساس النظر لهذا التناقض، المأساوي لكامو، هو موقف الفردانية التي لا مخرج منها والتي أصبحت أساس فلسفته العبثية.
اذا فحص المرء، الأساس الأبستمولوجي لفلسفة العبث، سيرى بأنها لا تدخل ابداً في مجال الحياة العملية. هذا أمر طبيعي، لان كامو يستبعد هذه الحياة تماماً من مجال المعرفة. بالنسبة له، تكتسي صفات نفسية وكفاح ارادة الفرد المنعزل أهميةً حاسمة. لكن من الواضح أنه لا يمكن الاعتماد على مقاربة للواقع على هذا الأساس، لانها لن تكون علمية. هذا لا يُزعج كامو: لا تدّعي فلسفة العبث بأنها علمية، وهي ليست استدلالية، ولكنها أخلاقية في أهميتها. ان اهم محتوىً لها هو نظرية عبثية الانسان نفسه، حيث يُكرس كامو القسم الثاني من كتابه (اسطورة سيزيف) لهذه المسألة.
يعيش "الانسان العبثي" في عالمٍ نسبي. لا توجد في هذا العالم أية قِيَم مستقرة ولا خيارات ولا حرية. يوجد مبدأين جنباً الى جنب، في عالم العبث: كل شيء مُباح، ولكن ليس كل شيء مسموحٌ به. تعني مفارقة كامو هذه، بأن مبدأ العبثية لا يبرر الأفعال الاجرامية (ليس كل شيءٍ مسموحاً) ولكنه يجعل الضمير غير ضروري تماماً (كل شيء مباح).
في هذا المنطق، عبّر كامو عن احتجاجٍ شخصي على جرائم الفاشية. في الواقع، مكنت القوة الهتلريين من ارتكاب أي وجميع الجرائم في فرنسا، لكن الجرائم تبقى جرائم: انها مُدانة بالأخلاق، فهي تتعارض مع روح النزعة الانسانية التي يعتبرها المعيار الأعلى. ومع ذلك، لا يسع المرء الا أن يُلاحظ أن غموض صياغة كامو يترك مجالاً كاملاً لأن يتخلص الفرد من الحياة الأخلاقية، من "وهم" مثل الضمير. في هذا الصدد، فان كامو ان لم ينتقل الى مواقع الهتلريين أنفسهم فيما يتعلق بأخلاقيتهم وعلم الأخلاق، فانه على أي حال، لم يتخذ موقفاً كفاحياً صارماً بالنسبة لجرائمهم وأخلاقهم الرجعية، وبالتالي، على عكس رغباته الخاصة، يُضعف التصور الانسانوي الأطيقي لـ"الانسان العبثي" موقفه المعادي للفاشية الذي يؤكد عليه في فلسفته.
يولي كامو، في مفهومه عن الانسانوية الفردية، الكثير من الاهتمام لمشكلة الابداع. يقول، بأن الابداع هو محتوى حياة ونشاط "الانسان العبثي". ولكن ما هي الغاية التي يجب أن يُشارك من أجلها الأفراد في الجهود الابداعية؟ بعد كل شيء، كل الأشياء سريعة الزوال، ومعناها ليس أكثر من وهم. لذلك فن مبدأ ابداع "الانسان العبثي" هو العيش من أجل يومه فقط: ابدع ولا تنظر الى اليوم الذي يليه.
يُدرك كامو تماماً أنه من المستحيل أن يُبدع المرء بدون أن يُفكر. يجب أن يكون للفن العبثي الذي ابتكره "الانسان العبثي" غَرَضاً أخلاقياً: التوفيق بين الانسان والعبث كمعيار للحياة وجعله سعيداً. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يفي الفن العبثي بثلاثة مبادئ: حث الفرد على التمرد، وتمجيد الحرية، واظهار التنوع. لا فرق على الاطلاق في أن التمرد يفتقر الى أي برنامجٍ ايجابي، وأن الحرية عبثية، والتنوع وهم. يتناسب كل هذا، في كتابه كامو، مع مفهوم العبث كقاعدة. تم بناء نظرية العبث بناءاً على تلك المبادئ بالتحديد، والذي كان كامو أحد مؤسسيها. ان تنفيذ هذه المبادئ في الفن يؤدي بالضرورة الى النزعة الجمالية Estheticism (هـ)، ويؤدي الى التعالي والغطرسة الأرستقراطية في الأذواق الفنية. هذه هي عواقب النزعة الفردية عندما تتغلغل عالم الفن. ولكن ماذا يعني التوفيق بين الانسان والعبث، وتحويل العبث الى جو وجود الفرد، والذي ستكمن فيه سعادته؟
ان رد كامو متناقض، ولكنه يشير في نفس الوقت الى فكر المؤلف المُحب للاستطلاع، الذي يسعى بأي ثمن الى ايجاد مخرج من الوضع غير القابل للحل تاريخياً، هذا الوضع الذي بناه هو نفسه. انه يرى السعادة في التمرد اللامنتهي. يُسمى القسم الختامي لـ(اسطورة سيزيف) بـ(التمرد الأبدي). هذا ليس هوميروس الذي، في رأي كامو، وجد السعادة في أشغاله المرهقة والتي لا تنتهي، ولكنه انسان اليوم، كل انسان.
وهكذا فان سعادة الفرد تكمن في التمرد. ظاهرياً، تبدو هذه الفكرة منسجمة مع رد ماركس على أسئلة بناته: السعادة هي النضال. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه على الفور، يتمحور حول برنامج كامو التمردي. اتضح أن كامو قد طوّر برنامجاً سلبياً (أي نافياً- م. أ)(و): التمرد ضد كل اغتراب الفرد، والتمرد ضد الثقافة. بقدر ما يتعلق الأمر ببرنامجٍ ايجابي، ليس فقط انه غير موجود، ولكن لا شيء ممكن، حيث لا يمكن التخلص من الاغتراب. وهنا تكمن عبثية التمرد التي تُقدم للفرد كبديل عن السعادة. هذا النوع من التمرد، لا يختلف بأي شكلٍ من الأشكال عن التعصب الديني.
ان انسانوية كامو الفردية مأساوية في طبيعتها، وهو لا يُخفي هذا. انه يقول بأن (اسطورة سيزيف) مأساوية. وهذا صحيح بالطبع. ان الحياة والنشاط البطولي للفرد الذي يقاتل وحده ضد بيئة مُعادية وهو عاجزٌ في النضال هو أمرٌ تراجيدي حقاً. وصف كامو في (اسطورة سيزيف)، بطريقةٍ بارعة، موقفه الخاص، وهو موقف اتخذه بارادته الحرة في المجتمع المعاصر. انه يقدم تصويراً حقيقياً، على الرغم من أنه بالتأكيد تجريدي، لذلك المجتمع، ويُدين عالم الاغتراب الذي يضطهد البشرية. لكن كامو لا يفهم الجذور الاجتماعية للاغتراب، ولا حقيقة أنها ظاهرة تاريخية، ولا القوى الطبقية الحقيقية التي تناضل ضدها. انه يضع الشخصية البطولية المعزولة التي تُدرك أن الاغتراب لا يمكن القضاء عليه، ولكنه لا يكف عن نضاله، يضع هذه الشخصية فقط، في مواجهة الاغتراب. وهنا تكمن تراجيدية وجود هذه الشخصية.
ومع ذلك، يذهب كامو الى أبعد من ذلك. انه يحاول أن يعثر على مصدر مأساة فرد المجتمع الحديث، ليس في الظروف الاجتماعية للوجود، ولكن في الوعي الفردي، ويؤكد أن اسطورة سيزيف مأساوية فقط لأن الفرد هو بطلٌ واعي. يمكن للمرء أن يفهم ويبرر هذا الموقف الذي اتخذه كامو اذا كان يريد فقط التأكيد على حقيقة أن الانسان، غير مدركاً المعنى التاريخي لأفعاله، يظل خارج المأساة لانه لا يفهم ذلك. اذا كان الأمر كذلك، فلن تتوقف المأساة، لكنها ستتطور دون مشاركة واعية لمثل هذا الفرد. لكن اتجاه فكر كامو مختلف تماماً. عند نقطةٍ معينةٍ من تحليله، يتوقف عن تأملاته حول الانسان بشكلٍ عام، ويلجأ الى العامل ليكتب عن مأساة حياته. وعند فحصه للموضوع على المستوى العياني، فانه يرى مصدر المأساة ليس في الظروف الاجتماعية ولكن في تطور وعي العامل. يكتب كامو بأن وجود العامل مأساوي فقط في تلك اللحظات التي يكون فيها مُدركاً. بمساعدة هذه السفسطة (لا يوجد مصطلح آخر أفضل من هذا من أجل هذه الحالة) تتحول المسؤولية عن مأساة وجود البروليتاري من الرأسمالية الى البروليتاري نفسه. ان نهوض الوعي الطبقي للبروليتاريا يُفسر بطريقةٍ مشوهة. تتناقض فردانية ولاعقلانية فلسفة العبث بمفهوم الانسانية Humanism، وتتحول الى واحدة من أدوات الدفاع عن الرأسمالية.
ان ذهاب اراء كامو نحو هذا الاتجاه من التطور ليس من قبيل الصدقة. رأى ماركس في تطور أفكار برودون خطاً مشابهاً للتطور الطبيعي لوجهات نظر مفكري البرجوازية الصغيرة عموماً: فيلسوف برجوازي صغير، ومع ذلك أصبح المتحدث الرسمي باسم للاشتراكية البرجوازية. في ظل الظروف المعاصرة، يحدث مثل هذا التطور لايديولوجيي البرجوازية الصغيرة بمعدلات متسارعة. بدأ تمرده في عالم النظرية خلال الحرب العالمية الثانية ضد ظروف الحياة التي أدت الى عبث رجل مغترب، وبلغ ذروة هذا التطور بعد فترةٍ وجيزة من انتهاء الحرب من خلال انتقاله الى معسكر العداء للشيوعية. كان هذا التبدّل النظري قد توضّح في المفهوم الفرادني لـ(الانسان العبثي) في (اسطورة سيزيف).
تلك هي بعض الاستنتاجات المستندة على دراسة المفهوم الفرداني للفرد في فلسفة البير كامو العبثية. لا تشير هذه الاستنتاجات الى انكار الاتجاه المعادي للفاشية في كتاباته خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها تُظهر طبيعتها المتناقضة داخلياً. في مسرحيته (كاليغولا)(ز)، التي تم تقديمها لأول مرة عام 1945، يمكن للمرء أن يرى في صورة الامبراطور الروماني كليغولا، تلميحاً لاذعاً وصامتاً لهتلر (كلاهما يشق طريقه الى صفحات التاريخ بأي وسيلة، وكليهما يمتلك احتقاراً للبشرية). يتخذ الكاتب موقفاً عدائياً ليس فقط تجاه الفاشية، بل تجاه الاشتراكية، وضد طابع الحقبة المعاصرة. ومن خلال شفاه البطل الرئيسي في روايته (الصيف)(حـ)، يقول بعدة كلمات "أنا أكره العصر الحاضر الذي أعيش فيه"(13). يُسلط هذا الاعتراف الضوء على كل عمل كامو، ويشرح الدوافع الكامنة وراء دخوله النهائي الى معسكر العداء للشيوعية، ويوضح المسار العميقة لوحدته المأساوية وتشاؤمه اليائس، وادراكه العبثي للسعادة والحرية ومسؤولية الفرد الخ. كان الفيلسوف البرجوازي الصغير كامو خائفاً من تطور الأحداث المعاصرة، قلقاً على الرأسمالية من حقيقة أن الاشتراكية تتحول يوماً عن يوم، الى القوة الحاسمة لتطور التاريخ العالمي.

* 1920-1990 المتخصص في الفلسفة ودراسة الثقافة العالمية، تخرّج من جامعة موسكو الحكومية عام 1942. فام بتدريس الفلسفة في عدة جامعات في موسكو ومنها الجامعة التي تخرّج منها، وترأس قسم الفلسفة فيها. لدى كاربوشين عدداً من الاطروحات الأكاديمية (تشكّل نظرات كارل ماركس الفلسفية 1949)، واطروحة الدكتوراة (فردية النظرية الوجودية عن الانسان 1967). وساهم في دراسة التاريخ الثقافي مثل مقالته حول (اللغة الفنية للعصور الوسطى 1982). ومن بين المسائل التي ساهم في تطويرها مسألة تشكّل الفلسفة الماركسية، ومفهوم الشخصية، والنظرية الوجودية عن الانسان، ودرَس الثقافة والدين.

(أ) الاكسيولوجيا: هو العلم الذي يدرس القيم وعلاقتها بالعلم والفلسفة والمجالات الأُخرى
1- نُشرت هذه المجموعة من النظرات الفلسفية عام 1937، وبعض من محتوياتها نُشر عام 1935
2- L’envers et I’Endroit, Camus, Paris, 1961, P27
3- يتمسك طلبة كامو البرجوازيين بهذه النظرة. انظر
Albert Camus, Pinnoy 1961
Camus, Zeppi Stello, Milan, 1961. Albert Camus ou I’invincible ete, A. Maquet, Paris, 1955.
(ب)- الغريب، البير كامو، ترجمة محمد آيت حنّا، منشورات دار الجمل.
(ج)- أسطور سيزيف، البير كامو، ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة.
4- أسطور سيزيف، البير كامو، ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة، ص11.
5- نفس المصدر، ص14.
6- نفس المصدر ص19.
7- نفس المصدر ص20.
8- نفس المصدر ص24.
9- نفس المصدر ص32.
10- نفس المصدر ص34-35.
11- نفس المصدر ص37.
12- Collected Works, Vladimir Lenin, Vol28, P187
هـ- النزعة الجمالية في الفن، وهي التركيز على أن يكون الفن جميلاً، من الناحية الفنية وحسب، بغض النظر عن معانية السياسية والاجتماعية، ومحتواه. ان النزعة الجمالية هي احدى تنويعات تيار (الفن من أجل الفن).
و- البرنامج السلبي أو الجدل السلبي Negative Dialectics، كنفي مُطلق، هو سمة تميز مدرسة فرانكفورت، وخصوصاً هربرت ماركوز وتيودور أدورنو. لا يقتصر هذا السلب المُطلق على هؤلاء وحسب، بل ويتعداهم الى الوجوديين أمثال كامو وسارتر. ان الماركسية ليست سلبيةً بذلك المعنى الذي يُمثله الوجوديين والفرانكفورتيين-هذه السلبية تنطلق من فهم خاطئ لدياليكتيك هيغل- ولكن الماركسية، من جانب الممارسة، تهدف الى تدمير ما هو قديم ورجعي، وتُحافظ في نفس الوقت على كل ما هو قيّم وثمين من الثقافة الانسانية المادية. ومن الناحية النظرية، هي سلبية-نقدية، تناضل ضد المفاهيم الرجعية واللاعلمية في شتى مجالات المعرفة، ولكنها ايضاً ايجابية، بنّاءة Constructive، تقوم ببناء، وتركيب وتضمين كل ما هو تقدمي وانساني من الثقافة الانسانية بشكل نقدي، وتسعى الى بناء برنامج علمي، وتطوير وبناء الأدوات الماركسية خاصتها. وبهذا المعنى يمكن التفريق بين المفهومين، المختلفين تمام الاختلاف-الاختلاف الذي نشأ عن تطور الممارسة التاريخية: النضال الماركسي من جهة، والتمرد اليساري من جهةٍ أُخرى.
ز- مسرحية كاليغولا، البير كامو، ترجمة يوسف ابراهيم الجهماني، دار حوران للنشر.
حـ- الصيف، البير كامو، ترجمة علي الجندي، دار الجندي للنشر.
13- Gallimard, Camus, 1947, P116-117

هذه ترجمة لمقالة The Concept of the Individual in the works of Albert Camus, V. A. Karpushin, Soviet Studies in Philosophy, 6:3, P52-60- 1967.